تیجان الولاء فی شرح بعض فقرات زیاره عاشوراء

اشارة

تیجان الولاء فی شرح بعض فقرات زیارة عاشوراء / تألیف وسام برهان البلداوی؛ [تقدیم اللجنة العلمیة، محمد علی الحلو]. -ط 1. -کربلاء: العتبة الحسینیة المقدسة. قسم الشؤون الفکریة والثقافیة، 1433ق. = 2012م.

رقم الإیداع فی دار الکتب والوثائق ببغدادلسنة 2011: 2189

الرقم الدولی ISBN: 9789933489267

البلداوی، وسام، 1974 - م.

2ج. – (قسم الشؤون الفکریة والثقافیة؛ 95).

المصادر.

1 . زیارة عاشوراء – نقد وتفسیر. 2. الحسین بن علی (ع)، الإمام الثالث، 4 – 61 ق. الزیارة – أحادیث. 3. زیارة عاشوراء – فتاوی الشیعة. 4 . عاشوراء – فلسفة. 5. زیارة عاشوراء – فضائل – أحادیث الشیعة. 6. زیارة عاشوراء – مصادر. 7. زیارة عاشوراء – شبهات وردود. ألف. الحلو، محمد علی، 1957 - م.، مقدم. ب. محمد بن علی (ع)، الإمام الخامس، 57 – 114ق. زیارة عاشوراء. شرح. ج. العنوان. د. العنوان: زیارة عاشوراء. شرح.

9 ت  8 ب / 6 / 271 BP 

تمت الفهرسة فی مکتبة العتبة الحسینیة المقدسة قبل النشر

ص: 1

الجزء الاول

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2 

ص: 3

تیجان الولاء فی شرح بعض فقرات زیارة عاشوراء

الشیخ وسام برهان البلداوی

الجزءالأول

إصدار

وحدة الدراسات التخصصیة فی الإمام الحسین علیه السلام

فی قسم الشؤون الفکریة والثقافیة

فی العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 4

جمیع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسینیة المقدسة

الطبعة الأولی

1434ه_ __ 2013م

العراق: کربلاء المقدسة __ العتبة الحسینیة المقدسة

قسم الشؤون الفکریة والثقافیة __ هاتف: 326499

www.imamhussain-lib.com

E-mail: info@imamhussain-lib.com

ص: 5

نص زیارة عاشوراء

السَّلامُ عَلَیْکَ یَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ابْنَ أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ، وَابْنَ سَیِّدِ الْوَصِیِّینَ، السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ابْنَ فَاطِمَةَ سَیِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِینَ، السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ثَارَ اللَّهِ وَابْنَ ثَارِهِ، وَالْوِتْرَ الْمَوْتُورَ، السَّلامُ عَلَیْکَ وَعَلَی الأَرْوَاحِ الَّتِی حَلَّتْ بِفِنَائِکَ، __ وَأَنَاخَتْ بِرَحْلِک(1) __، عَلَیْکُمْ مِنِّی جَمِیعاً سَلامُ اللَّهِ أَبَداً مَا بَقِیتُ وَبَقِیَ اللَّیْلُ وَالنَّهَارُ.

یَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَقَدْ عَظُمَتِ الرَّزِیَّةُ وَجَلَّتِ الْمُصِیبَةُ بِکَ عَلَیْنَا وَعَلَی جَمِیعِ أَهْلِ الإِسْلامِ وَجَلَّتْ وَعَظُمَتْ مُصِیبَتُکَ فِی السَّمَاوَاتِ عَلَی جَمِیعِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ.

فَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً أَسَّسَتْ أَسَاسَ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ عَلَیْکُمْ أَهْلَ الْبَیْتِ وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً دَفَعَتْکُمْ عَنْ مَقَامِکُمْ وَأَزَالَتْکُمْ عَنْ مَرَاتِبِکُمُ الَّتِی رَتَّبَکُمُ اللَّهُ فِیهَا وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً قَتَلَتْکُمْ وَلَعَنَ اللَّهُ الْمُمَهِّدِینَ لَهُمْ بِالتَّمْکِینِ مِنْ قِتَالِکُمْ. بَرِئْتُ إِلَی اللَّهِ وَإِلَیْکُمْ مِنْهُمْ وَمِنْ أَشْیَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ وَأَوْلِیَائِهِمْ. 


1- وردت فی نص آخر غیر الذی إعتمدناه ولکننا أوردناها هنا وشرحناها فی محله تعمیما للفائدة فتنبه.

ص: 6

یَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنِّی سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَکُمْ وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَکُمْ إِلَی یَوْمِ الْقِیَامَةِ، وَلَعَنَ اللَّهُ آلَ زِیَادٍ وَآلَ مَرْوَانَ وَلَعَنَ اللَّهُ بَنِی أُمَیَّةَ قَاطِبَةً وَلَعَنَ اللَّهُ ابْنَ مَرْجَانَةَ وَلَعَنَ اللَّهُ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ وَلَعَنَ اللَّهُ شِمْراً وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً أَسْرَجَتْ وَأَلْجَمَتْ وَتَنَقَّبَتْ وَتَهَیَّأَتْ لِقِتَالِکَ.

بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی لَقَدْ عَظُمَ مُصَابِی بِکَ فَأَسْأَلُ اللَّهَ الَّذِی أَکْرَمَ مَقَامَکَ وَأَکْرَمَنِی بِکَ أَنْ یَرْزُقَنِی طَلَبَ ثَارِکَ مَعَ إِمَامٍ مَنْصُورٍ مِنْ أَهْلِ بَیْتِ مُحَمَّدٍ صلی الله علیه وآله وسلم اللَّهُمَّ اجْعَلْنِی عِنْدَکَ وَجِیهاً بِالْحُسَیْنِ فِی الدُّنْیَا وَالآخِرَةِ.

یَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنِّی أَتَقَرَّبُ إِلَی اللَّهِ وَإِلَی رَسُولِهِ وَإِلَی أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ وَإِلَی فَاطِمَةَ وَإِلَی الْحَسَنِ وَإِلَیْکَ بِمُوَالَاتِکَ وَبِالْبَرَاءَةِ مِمَّنْ قَاتَلَکَ وَنَصَبَ لَکَ الْحَرْبَ وَبِالْبَرَاءَةِ مِمَّنْ أَسَّسَ أَسَاسَ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ عَلَیْکُمْ وَأَبْرَأُ إِلَی اللَّهِ وَإِلَی رَسُولِهِ مِمَّنْ أَسَّسَ ذَلِکَ وَبَنَی عَلَیْهِ بُنْیَانَهُ وَجَرَی فِی ظُلَمِهِ وَجَوْرِهِ عَلَیْکُمْ وَعَلَی أَشْیَاعِکُمْ بَرِئْتُ إِلَی اللَّهِ وَاِلَیْکُمْ مِنْهُمْ وَأَتَقَرَّبُ إِلَی اللَّهِ ثُمَّ إِلَیْکُمْ بِمُوَالاتِکُمْ وَمُوَالَاةِ وَلِیِّکُمْ وَبِالْبَرَاءَةِ مِنْ أَعْدَائِکُمْ وَالنَّاصِبِینَ لَکُمُ الْحَرْبَ وَبِالْبَرَاءَةِ مِنْ أَشْیَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ.

إِنِّی سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَکُمْ وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَکُمْ وَوَلِیٌّ لِمَنْ وَالاکُمْ وَعَدُوٌّ لِمَنْ عَادَاکُمْ فَأَسْأَلُ اللَّهَ الَّذِی أَکْرَمَنِی بِمَعْرِفَتِکُمْ وَمَعْرِفَةِ أَوْلِیَائِکُمْ وَرَزَقَنِی الْبَرَاءَةَ مِنْ أَعْدَائِکُمْ أَنْ یَجْعَلَنِی مَعَکُمْ فِی الدُّنْیَا وَالآخِرَةِ وَأَنْ یُثَبِّتَ لِی عِنْدَکُمْ قَدَمَ صِدْقٍ فِی الدُّنْیَا وَالآخِرَةِ وَأَسْأَلُهُ أَنْ یُبَلِّغَنِی الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ لَکُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَأَنْ یَرْزُقَنِی طَلَبَ ثَارِی مَعَ إِمَامٍ مَهْدِیٍّ ظَاهِرٍ نَاطِقٍ

ص: 7

مِنْکُمْ وَأَسْأَلُ اللَّهَ بِحَقِّکُمْ وَبِالشَّأْنِ الَّذِی لَکُمْ عِنْدَهُ أَنْ یُعْطِیَنِی بِمُصَابِی بِکُمْ أَفْضَلَ مَا یُعْطِی مُصَاباً بِمُصِیبَتِهِ مُصِیبَةً مَا أَعْظَمَهَا وَأَعْظَمَ رَزِیَّتَهَا فِی الإِسْلامِ وَفِی جَمِیعِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنِی فِی مَقَامِی هَذَا مِمَّنْ تَنَالُهُ مِنْکَ صَلَوَاتٌ وَرَحْمَةٌ وَمَغْفِرَةٌ اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَحْیَایَ مَحْیَا مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَمَمَاتِی مَمَاتَ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ.

اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا یَوْمٌ تَبَرَّکَتْ بِهِ بَنُو أُمَیَّةَ وَابْنُ آکِلَةِ الأَکْبَادِ اللَّعِینُ بْنُ اللَّعِینِ عَلَی لِسَانِ نَبِیِّکَ صلی الله علیه وآله وسلم فِی کُلِّ مَوْطِنٍ وَمَوْقِفٍ وَقَفَ فِیهِ نَبِیُّکَ صَلَوَاتُکَ عَلَیْهِ وَآلِهِ اللَّهُمَّ الْعَنْ أَبَا سُفْیَانَ وَمُعَاوِیَةَ بْنَ أَبِی سُفْیَانَ وَیَزِیدَ بْنَ مُعَاوِیَةَ عَلَیْهِمْ مِنْکَ اللَّعْنَةُ أَبَدَ الآبِدِینَ، وَهَذَا یَوْمٌ فَرِحَتْ بِهِ آلُ زِیَادٍ وَآلُ مَرْوَانَ بِقَتْلِهِمُ الْحُسَیْنَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَیْهِ اللَّهُمَّ ضَاعِفْ عَلَیْهِمُ اللَّعْنَ مِنْکَ وَالْعَذَابَ الألیم.

 اللَّهُمَّ إِنِّی أَتَقَرَّبُ إِلَیْکَ فِی هَذَا الْیَوْمِ وَفِی مَوْقِفِی هَذَا وَأَیَّامِ حَیَاتِی بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ وَاللَّعْنَةِ عَلَیْهِمْ وَبِالْمُوَالاةِ لِنَبِیِّکَ وَآلِ نَبِیِّکَ علیهم السلام.

ثُمَّ تَقُولُ: اللَّهُمَّ الْعَنْ أَوَّلَ ظَالِمٍ ظَلَمَ حَقَّ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَآخِرَ تَابِعٍ لَهُ عَلَی ذَلِکَ اللَّهُمَّ الْعَنِ الْعِصَابَةَ الَّتِی جَاهَدَتِ الْحُسَیْنَ وَشَایَعَتْ وَبَایَعَتْ عَلَی قَتْلِهِ اللَّهُمَّ الْعَنْهُمْ جَمِیعاً. «تَقُولُ ذَلِکَ مِائَةَ مَرَّةٍ».

ثُمَّ تَقُولُ: السَّلامُ عَلَیْکَ یَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَعَلَی الأَرْوَاحِ الَّتِی حَلَّتْ بِفِنَائِکَ عَلَیْکَ مِنِّی سَلامُ اللَّهِ مَا بَقِیتُ وَبَقِیَ اللَّیْلُ وَالنَّهَارُ وَلا جَعَلَهُ اللَّهُ آخر الْعَهْدِ مِنِّی لِزِیَارَتِکَ السَّلامُ عَلَی الْحُسَیْنِ وَعَلَی عَلِیِّ بْنِ الْحُسَیْنِ وَعَلَی أَصْحَابِ الْحُسَیْنِ. «تَقُولُ ذَلِکَ مِائَةَ مَرَّةٍ». 

ص: 8

ثُمَّ تَقُولُ: اللَّهُمَّ خُصَّ أَنْتَ أَوَّلَ ظَالِمٍ بِاللَّعْنِ مِنِّی وَابْدَأْ بِهِ أَوَّلاً ثُمَّ الثَّانِیَ ثُمَّ الثَّالِثَ ثُمَّ الرَّابِعَ اللَّهُمَّ الْعَنْ یَزِیدَ بْنَ مُعَاوِیَةَ خَامِساً وَالْعَنْ عُبَیْدَ اللَّهِ بْنَ زِیَادٍ وَابْنَ مَرْجَانَةَ وَعُمَرَ بْنَ سَعْدٍ وَشِمْراً وَآلَ أَبِی سُفْیَانَ وَآلَ زِیَادٍ وَآلَ مَرْوَانَ إِلَی یَوْمِ الْقِیَامَةِ.

ثُمَّ تَسْجُدُ وَتَقُولُ: اللَّهُمَّ لَکَ الْحَمْدُ حَمْدَ الشَّاکِرِینَ لَکَ عَلَی مُصَابِهِمْ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَی عَظِیمِ رَزِیَّتِی اللَّهُمَّ ارْزُقْنِی شَفَاعَةَ الْحُسَیْنِ علیه السلام یَوْمَ الْوُرُودِ وَثَبِّتْ لِی قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَکَ مَعَ الْحُسَیْنِ وَأَصْحَابِ الْحُسَیْنِ الَّذِینَ بَذَلُوا مُهَجَهُمْ دُونَ الْحُسَیْنِ علیه السلام. 

ص: 9

مقدمة اللجنة العلمیة

من عاشوراء الطفوف .. حتی عاشوراء الظهور..

الإعلام والإعلام المضاد.. مفردتان تتناوبان علی مجمل الحرکة الفکریة التی تشهدها الساحة الإسلامیة منذ تاریخها نشوءاً بل استمراریتها حدوثاً وبقاءً، والمقصود من الساحة الإسلامیة هی الساحة التی تحکمها الحالة الشیعیة، تلک الحالة التی تُعد من أبرز متغیرات التحولات العقائدیة عند بروز المذاهب الإسلامیة، والمقصود من المتغیرات هنا: المتغیرات التی حافظت علی أساسیات الاعتقاد الإسلامی الذی معه بدت الحالة الشیعیة تأخذ صدارة الأحداث، فالقرارات السیاسیة الجائرة التی تعمل علی طمس الحقائق الإسلامیة رافقتها حالة الانکفاء والتحیز إلی النکوص والالتواء علی الثوابت العقائدیة، دون الأخذ بنظر الاعتبار مصادر التشریع وامتداداته المتمثلة بأئمة أهل البیت علیهم السلام، فی حین بقیت الحالة الشیعیة – وبالرغم من ظروف المطاردة والإقصاء – تتألّق بثقافتها الإعلامیة المصادرة، لکنها المصدّرة ضمن مشروعها الإعلامی العظیم الذی أسسه أئمة أهل البیت علیهم السلام ومن خلال قنواتها الإعلامیة – الفکریة التی تفرّد بها هذا الکیان المطارد لکنه صاحب المبادرة فی طرح الفکرة.. الحادثة.. المظلومیة.. القضیة.. وکل ما لهذا التاریخ من اعتبارات التأسیس والتأصیل ومن ثم الاستمرار، «فعاشوراء» القضیة الأبرز من بین القضایا

ص: 10

الشیعیة تأخذ علی عاتقها مظلومیة أمة تمتد من عاشوراء الطف حتی عاشوراء الظهور.. أی من کربلاء الحسین الشهید المنتصر.. حتی کربلاء المهدی القائد المنتصر، ولابد لهذه القضیة من آلیات الإعلام الحی، ومعنی «الإعلام الحی» ذلک الإعلام المنتصر بأدوات الحقیقة وتفاعلات الحدث، فإعلامنا الیوم یتابع القضیة من خلال رؤیة شخصیة، أو واقعة عامة، أو صیغة خاصة تتأرجح بین الاحتمال والیقین، أو بین الممکن وغیر الممکن، أو بین الخطأ والصواب، فی حین الإعلام العاشورائی یقدّم الحقیقة کما هی لکنها الحیة التی تعیش فی الضمائر والوجدانیات.. فزیارة عاشوراء تلک الفلسفة المختزلة بین حنایا سطور النصوص الواردة عن أئمة أهل البیت علیهم السلام، تقدّم الصیغة المعتمدة فی قراءة الحدث وبکل تفاصیله، والمختزل بکل بلاغته، والممتد بکل عنفوانه فی مطاوی النفس کما هو ممتد فی آفاق الزمن المطارِد والمطارَد بحیثیاته الحقیقیة والموضوعیة.

وزیارة عاشوراء، بما لها من مزایا الطرح الموضوعی بل والتاریخی الا انها بحاجة إلی قراءة تأخذ علی عاتقها شروحات الألفاظ کما هی شروحات الأحوال التی رافقت واقعیة هذا الطرح المعصومی الرائع.. لذا فإن کتاب تیجان الولاء فی شرح بعض فقرات زیارة عاشوراء لجناب الشیخ وسام البلداوی یوقفنا علی حقائق التاریخ بصیغها الموضوعیة، وبکل حیثیاتها العاطفیة.. لکنها الموضوعیة...

عن اللجنة العلمیة

السید محمد علی الحلو

النجف الأشرف

ص: 11

المقدمة

ان لیوم عاشوراء من عام واحد وستین للهجرة خصوصیة امتاز بها عن سائر الأیام، إذ لولاه لمحق الدین وضاعت أحکامه، ولولاه لنحر بنو أمیة الإسلام نحر الأضاحی، ولولاه لما رفع علی المآذن الیوم صوت یشهد لله سبحانه بالتوحید وللنبی محمد صلی الله علیه وآله وسلم بالرسالة، ولولاه لأصبح دین الناس الیوم هو دین یزید بن معاویة علیه اللعنة، الذی لا یعرف إلا السکر والمجون واللعب بالکلاب والقرود.

 فبعاشوراء عرف الناس معالم دینهم، وبعاشوراء حفظت حرمة الإسلام، وبعاشوراء وحد الله سبحانه وتعالی حق توحیده، وبعاشوراء أقیمت الصلاة وبقیت الفرائض، وبعاشوراء افتضح أرباب الفسق وانکشف أهل الریب والنفاق، وبعاشوراء حفظت حرمة النبی صلی الله علیه وآله وسلم من أن تنتهک من قبل الشجرة الملعونة فی القران، ولو أننا بقینا نعدد فوائد ذلک الیوم لما وقف بنا الحال عند حد معین، فما زالت السنین تمر وفی کل یوم یتضح معنی جدید من معانی عظمة ذلک الیوم، وفی کل یوم یخرج علینا باحث ودارس یکشف الجدید مما غاب عن أقرانه الذین سبقوه، ولسوف لا تتوقف هذه الاکتشافات فی یوم من الأیام، إلی أن یقوم الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه فیکشف جوهر العظمة وسر الخلود لذلک الیوم الذی حیر عقول العظماء والبسطاء علی حد سواء.

ص: 12

وهذه العظمة وتلک الأهمیة لیوم عاشوراء امتدت لتشمل کل ما یمت لهذا الیوم بصلة من قریب أو بعید، وزیارة عاشوراء التی نحن بصدد شرح مضامینها لیست بمستثناة عن هذه القاعدة، فعظمتها مستوحاة من عظمة ذلک الیوم، ومضامینها تحمل أسرار ذلک الیوم الذی لم یکشف الزمان کل جزئیاته إلی یوم الناس هذا.

کما ان لهذه الزیارة العظیمة علاقة وثیقة وشبها کبیرا مع أصل واقعة عاشوراء، فواقعة عاشوراء لم یزل أهل العلم وأرباب العقول وهم یکتشفون معنی جدیدا من معانیها لم یکن مکتشفا من قبل، وکذلک الحال بالنسبة لزیارة عاشوراء، فلم تزل الأقلام تکتب أسرارها وتبین عظیم مضامینها والی یوم الناس هذا لم تنفد جمیع أسرارها ولا فنیت کل مضامینها، وستبقی الإنسانیة تنتهل من مناهل هذه الزیارة العظیمة، ما دام للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ذکر، وما دام لیوم عاشوراء وجود.

ولا تتوقف عظمة هذه الزیارة علی مجرد ما تحویه من مضامین عالیة وحقائق مهمة، بل قد ثبت بالنقل والتجربة ان لها أثارا تکوینیة عجیبة سواء فی قضاء الحوائج ونیل المقاصد الدنیویة، أو فی رفع الدرجات وحط السیئات فی عالم الآخرة، وهو أمر قد ذکره الباحثون من قبل، ولیس فی ذلک غرابة ولا استکثار علی زیارة اهتم بها الجلیل من فوق سبع سماوات، واهتم بها أهل البیت علیهم السلام فقد روی عن صفوان عن أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه انه قال له: (تعاهد هذه الزیارة وادع بهذا الدعاء وزر به فإنی ضامن علی الله لکل من زار بهذه الزیارة ودعا بهذا الدعاء من قرب أو بعد، أن زیارته مقبولة وسعیه مشکور وسلامه واصل غیر محجوب وحاجته مقضیة من الله تعالی بالغة ما بلغت ولا یخیبه. یا صفوان، وجدت هذه

ص: 13

الزیارة مضمونة بهذا الضمان عن أبی، وأبی عن أبیه علی بن الحسین علیهما السلام مضمونا بهذا الضمان عن الحسین علیه السلام والحسین علیه السلام عن أخیه الحسن علیه السلام مضمونا بهذا الضمان والحسن علیه السلام عن أبیه أمیر المؤمنین علیه السلام مضمونا بهذا الضمان، وأمیر المؤمنین علیه السلام عن رسول الله صلی الله علیه وآله مضمونا بهذا الضمان ورسول الله صلی الله علیه وآله عن جبرئیل علیه السلام مضمونا بهذا الضمان وجبرئیل عن الله عز وجل مضمونا بهذا الضمان، وقد آلی الله علی نفسه عز وجل أن من زار الحسین علیه السلام بهذه الزیارة من قرب أو بعد ودعا بهذا الدعاء قبلت منه زیارته وشفعته فی مسألته بالغة ما بلغت، وأعطیته سؤله ثم لا ینقلب عنی خائبا، وأقلبه مسرورا قریرا عینه بقضاء حاجته والفوز بالجنة والعتق من النار وشفعته فی کل من شفع خلا ناصب لنا أهل البیت آلی الله تعالی بذلک علی نفسه، وأشهدنا بما شهدت به ملائکة ملکوته علی ذلک، ثم قال جبرئیل: یا رسول الله __ إن الله __ أرسلنی إلیک سرورا وبشری لک، وسرورا وبشری لعلی وفاطمة والحسن والحسین والأئمة من ولدک وشیعتکم إلی یوم البعث)((1).

ثم قال صفوان: قال لی أبو عبد الله صلوات الله وسلامه علیه: (یا صفوان إذا حدث لک إلی الله حاجة فزر بهذه الزیارة من حیث کنت وادع بهذا الدعاء وسل ربک حاجتک تأتک من الله، والله غیر مخلف وعده ورسوله صلی الله علیه وآله بمنه والحمد لله...)((2).

فهذه الزیارة إذن هی لیست کباقی کلامهم المعتاد صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وان کان کل کلامهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین نوراً وحکمة وموعظة، إلا أن هذه الزیارة لها سنخیة


1- () مصباح المتهجد للشیخ الطوسی: ص 781.
2- () المصدر السابق ص782.

ص: 14

لأحادیث القدسیة التی أوحی الله سبحانه بها إلی جبرائیل ونزل بها جبرائیل علیه السلام إلی النبی الأکرم صلی الله علیه وآله وسلم، وأودعها النبی صلی الله علیه وآله وسلم إلی خلفائه الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، ثم أفیضت من قبلهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین إلی شیعتهم شأنها شأن باقی العلوم التی لولاهم لما اطلع علی حقیقتها احد من العالمین.

وزیارة عاشوراء علی وفق تلک الضمانات التی تقدمت فی حدیث صفوان السابق لو أردنا أن نشبهها بباقی أحادیث أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من حیث قوة النقل والإسناد لما کان لها شبه إلا بما یعرف بحدیث سلسلة الذهب المروی عن الإمام الرضا صلوات الله وسلامه علیه((1)، ففی کلتا الروایتین ینقل فیهما الإمام الروایة عن الإمام الذی قبله وکلهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ینقلون عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم، والنبی صلی الله علیه وآله وسلم عن جبرائیل وجبرائیل علیه السلام عن الله سبحانه وتعالی، فإذا کان حدیث الإمام الرضا صلوات الله وسلامه علیه إنما سمی بحدیث سلسلة الذهب لان رواته هم من بمنزلة الإمام عن الإمام عن النبی عن جبرائیل عن الله سبحانه، فحقیق علی کل منصف أن یسمی زیارة عاشوراء بزیارة سلسلة الذهب لنفس العلة ولاتحاد الملاک فی کلتا الحالتین.


1- () حدیث سلسلة الذهب رواه الشیخ الصدوق فی کتابه الأمالی (ص 305 – 306) حیث قال: (حدثنا محمد بن موسی بن المتوکل «رحمه الله»، قال: حدثنا علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن یوسف بن عقیل، عن إسحاق بن راهویه، قال: لما وافی أبو الحسن الرضا «علیه السلام» نیسابور، وأراد أن یرحل منها إلی المأمون، اجتمع إلیه أصحاب الحدیث، فقالوا له: یا بن رسول الله، ترحل عنا ولا تحدثنا بحدیث فنستفیده منک... فأطلع رأسه، وقال: سمعت أبی موسی بن جعفر یقول: سمعت أبی جعفر بن محمد یقول: سمعت أبی محمد بن علی یقول: سمعت أبی علی بن الحسین یقول: سمعت أبی الحسین بن علی یقول: سمعت أبی أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب «علیهم السلام» یقول: سمعت رسول الله «صلی الله علیه وآله» یقول: سمعت جبرئیل «علیه السلام» یقول: سمعت الله عز وجل یقول: لا إله إلا الله حصنی، فمن دخل حصنی أمن عذابی. فلما مرت الراحلة نادانا: بشروطها، وأنا من شروطها).

ص: 15

ثم ان أهمیة کون زیارة عاشوراء حدیثاً قدسیاً هو صدق مضامینها وما احتوت علیه من وقائع، سواء الوقائع الکونیة، أو الوقائع التاریخیة، لان کلام الله عز وجل صادق لا یتخلف ولا یحتمل الکذب، وهو أمر بدیهی عند کل المسلمین لا یحتاج بیانه إلی البرهان.

وفی کون مضامینها صادقة لا تحتمل الکذب خدمة کبیرة للموغل بحثا فی أعماق التاریخ، فالحقیقة التی ینشدها کل الأحرار فی العالم موجودة فی طیات هذه الزیارة، لان الباحث المنصف طالما عانی وما زال یعانی من المجاملة التی تحیط بالنص التاریخی، فالنص التاریخی کما هو معروف سواء فی أثناء تدوینه وکتابته فی المراحل الأولی، أو فی أثناء نقله إلی الغیر جیلا بعد جیل، قد تعرض إلی التشویه والتشویش والاضطراب لأسباب جمة ودواعٍ مختلفة من الترغیب والترهیب، مما أدی فی کثیر من الأحیان إلی ضیاع أصل الحقیقة ومجیء صورة أخری لا تمت بصلة إلی تلک الحقیقة.

وبناءً علی ما سبق یمکن لنا أن نضع قاعدة مهمة هی: لو تعارض النص التاریخی المتداول بین أیدی الناس مع مضمون فقرات الزیارة ومفرداتها، فلا یمکن حینئذ أن نرفع الید عن الزیارة بحجة ان التاریخ __ الذی قد عرفت حاله __ لا ینسجم مع تلک الزیارة أو بعض فقراتها، بل فی حال التعارض بین فقرات الزیارة الشریفة وما بین النص التاریخی، لابد وان نقدم نص الزیارة وما احتوته من معلومة علی ذلک النص التاریخی المتعارض، وذلک لان زیارة عاشوراء کلام قدسی صادر من اعلی سلطة تکوینیة وتشریعیة فی هذا الکون وهو الله سبحانه، والذی یعلم کل خافیة وکل صغیرة وکبیرة فی هذا العالم، فلا یمکن والحال هذه أن یتسرب إلی إخباراته الکذب بحال من الأحوال، بعکس النص التاریخی الذی ثبت بالتحقیق تعرضه لکثیر من

ص: 16

حالات الکذب والتزویر والإخفاء العمدی أو السهوی لکثیر من تفاصیله وحیثیاته وبالخصوص التی تحدثت عن ظلامة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وسوء ما واجهتهم به الأمة ولزمن طویل.

وعلیه فإذا ما أراد کل باحث عن الحق أن یتعرف علی حقیقة ما جری فی تلک الحقبة التاریخیة من دون رتوش أو مجاملات فما علیه إلا أن یمعن الفکر والنظر فی ما احتوته زیارة عاشوراء من حقائق، لأنها قد حکت لنا الواقع بما هو، وبما ینبغی علی المؤرخ المنصف أن ینقله.

فنتیجة لکل ما لهذه الزیارة الشریفة من الأهمیة العظیمة والمنزلة الرفیعة ارتأیت أن أدلو بدلوی لأُسهم فی شرح مقاصد هذا السفر العظیم وتبیان إشاراته، غیر أنی لم أکمل شرح جمیع ما احتوته هذه الزیارة الشریفة، لأسباب کثیرة منها ما هو متعلق بإمکانیة کاتب هذه السطور العلمیة والمعرفیة، إذ إنی أری ونتیجة معایشتی الطویلة لهذه الزیارة وفقراتها قلة بضاعتی تجاه ما تحتویه هذه الزیارة من أسرار وإشارات وحقائق یعجز عن فهمها وإدراکها من هم بمثل منزلتی، فعند الله سبحانه وعند الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه التمس العذر فی عدم إکمال الشرح والإیضاح لجمیع فقرات هذه الزیارة التی حیرت عقول فطاحل العلم وجهابذة الفکر قدیما وحدیثا فکیف بمن هم مثلی من قلیلی الزاد؟!، هذا سبب، والسبب الآخر أن الاستغراق فی شرح جمیع فقرات هذه الزیارة الشریفة وکلماتها تأخذ من الباحث سنین طویلة من عمره، فیما لو أراد أن یعطی الزیارة حقها، ویحیط بکل جوانبها، وهذا ما لم یکن لنا صبر علیه، لأنی والی هذه الساعة أمضیت ما یقارب السنتین فی شرح فقرات هذه الزیارة الشریفة وإیضاحها، ولکنی لم ابلغ منها النصف، فکیف لو قدر ومضینا لإتمام جمع فقراتها وألفاظها، فانی سأحتاج ولا ریب إلی ثلاث أو أربع سنین أخری

ص: 17

لإتمام الباقی، وهو وقت طویل، لذلک استشرت بعض الأخوة الأفاضل ممن له الباع الطویل فی البحث والتألیف فی الاستمرار ومواصلة البحث او التوقف والاکتفاء بما تم شرحه، فأشار علی جزاه الله خیرا بالاستخارة وطلب المشورة من الله سبحانه، فاستخرت الله سبحانه وقد اختار لی وهو علام الغیوب ان التوقف والاکتفاء بما تم شرحه وإیضاحه هو المتعین، وان التفرغ لأبحاث أخری هو اللازم، ولا عجب فی ذلک فالهجمة الیوم من أعداء المذهب باتت بأوجها، وان تکالب النواصب لمحق دعائم هذا المذهب الحق قد بلغ منتهاه، فأصبح من الضروری بل من الواجب أن یبذل کل من له القدرة علی الدفاع غایة مجهوده لرد أباطیل أولئک النواصب الأشرار وتفنیدها، وفقنا الله سبحانه لذلک، ونسأله سبحانه العون والتوفیق، والمدد والمعونة من سادتی وأئمتی الذین أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهیرا.

عبدکم یا سادتی الشیخ وسام برهان البلداوی

من داخل حرم مولای الحسین الشهید صلوات الله وسلامه علیه

9 صفر الخیر 1432 للهجرة النبویة الشریفة

14 کانون الثانی 2011 میلادی

                                        

ص: 18 

ص: 19

منهجنا فی البحث 

فتاوی مراجع الدین العظام وأقوالهم بخصوص زیارة عاشوراء

1: فتوی آیة الله العظمی السید السیستانی دام ظله بخصوص سند الزیارة

2: فتوی أخری مهمة لآیة الله العظمی السید السیستانی دام ظله

3: فتوی آیة الله السید محمد سعید الحکیم دام ظله

4: فتوی أخری لآیة الله العظمی السید محمد سعید الحکیم دام ظله

5: فتوی لآیة الله العظمی الشیخ جواد التبریزی رحمه الله تعالی

6: فتوی أخری لآیة الله العظمی الشیخ جواد التبریزی رحمه الله تعالی

7: فتوی لآیة الله العظمی السید الروحانی دام ظله

8: فتوی أخری لآیة الله السید الروحانی دام ظله

9: السید الروحانی: قراءة عاشوراء کل یوم لها الأثر البالغ علی الجنین

10: السید الروحانی: ما ذکر فی فضیلة  زیارة عاشوراء یحیر العقول

11: السید الروحانی: لا یجوز الصلاة خلف من یقول بان زیارة عاشوراء مزورة 

ص: 20 

ص: 21

منهجنا فی البحث 

اشارة

لا یخفی أن کل نص أو حدیث تاریخی أو دینی مرکب فی الحقیقة من أمرین:

الأول: سند هذا الحدیث والحاوی علی مجموعة من الرجال الذین قاموا بإیصال ذلک الحدیث إلینا.

الثانی: متن ذلک الخبر والحدیث، والمتضمن لجملة أو عدة جمل لفظیة، نطق بها المتکلم أراد من خلالها إفهام الآخرین لمقصده سواء فی ذلک السامع المباشر أو الأعم منه.

وزیارة عاشوراء غیر خارجة عن هذا الترکیب، وقد اعتاد من أراد إثبات صحة صدورها عن المعصوم الدخول فی معترک حرب السند ورجال الروایة، فهم ما بین قاطع مسلم، أو مشکک نافٍ، أو مثبت لبعض أجزائها ومنکر للبعض الآخر، وقد دارت بین هؤلاء وهؤلاء مناوشات کلامیة یطول سردها ولا طائل من ذکرها.

غیر أننا رأینا أن نعالج قضیة إثبات صدور هذه الزیارة عن المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، والقطع بصحة کل ما احتوت علیه من مضامین من جهة أخری تغنینا والقارئ الکریم عن الخوض فی معترک الرجال ومصطلحات هذا الفن، وذلک بثلاثة طرق: 

ص: 22

الأول: عرض لأقوال مجموعة من العلماء الأعلام وآرائهم وفتاواهم بخصوص صحة زیارة عاشوراء من حیث السند والمتن، وهذه الأقوال والفتاوی تعدّ کما لا یخفی علی عاقل شهادة یمکن الاعتماد علیها من الناحیة العلمیة، لان هؤلاء الأعلام حینما یصححون الإسناد والمتن لأی خبر من الأخبار والنصوص الدینیة فإنهم لا شک قد بذلوا الجهد فی التقصی والبحث عن کل حیثیات ذلک السند أو المتن وملابساتهما وبشکل علمی متخصص، ووفق قواعد الجرح والتعدیل المعروفة والمعمول بها فی علمی الدرایة والرجال، فإذا ما اقر هؤلاء الأعلام صحة روایة ما فإن المکلف لا شک یطمئن إلی صحة ما صححوه، بوصفهم من أهل الخبرة وممن قضی العمر فی هذا المیدان، وهذا ما یغنینا عن البحث اعتمادا علی أقوالهم وما وصلوا إلیه من النتائج(1).

الثانی: إثبات مضمون کل فقرة من فقرات هذه الزیارة العظیمة فی بقیة الأدعیة والزیارات الصادرة عن أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فیکون وجودها فی تلک الزیارات وذکرها فی تلک الأدعیة أو الروایات شاهد صدق علی صحة صدورها عن الإمام المعصوم صلوات الله وسلامه علیه.

الثانی: إثبات صدق تحقق هذه المضامین فی الخارج، فحینما نأتی مثلا إلی عبارة (فَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً أَسَّسَتْ أَسَاسَ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ عَلَیْکُمْ أَهْلَ الْبَیْتِ) نجد أنّ الذی أشارت إلیه هذه الفقرة قد تحقق فعلا، فقد ثبت تاریخیا ان هنالک مجموعة من الأولیاء عرفوا باسم أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وان هنالک ظلماً وجوراً قد مارسته الأمة ضدهم، وان هنالک من أسس لهذا الظلم والجور، فنستنتج من صدق وقوع ذلک خارجا صدق صدورها عن المعصوم صلوات الله وسلامه علیه. 


1- هذه الوثائق والفتاوی سیتم عرضها بعد إکمال منهجنا فی البحث وتوضیحه.

ص: 23

هذا هو منهجنا لإثبات هذه الزیارة الشریفة ومعالجتها من حیث صحة صدورها عن أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

وأما من حیث متن هذه الزیارة الشریفة، ولان کلامهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أشبه شیء بالقرآن الکریم، فکما أن للقرآن ظاهراً وباطناً، کذلک لکلامهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین معنی ظاهر ومعنی أو عدة معانٍ باطنة، کما قال المحقق البحرانی فی (الحدائق الناضرة): (فإن أخبارهم کالقرآن لها ظهر وبطن)(1)، وقال الحسن بن سلیمان الحلی فی (مختصر البصائر): إن أحادیث الرسول «صلی الله علیه وآله وسلم» وأهل بیته صلوات الله علیهم تحذو حذو القرآن العزیز، ففیها المحکم والمتشابه، والخاص والعام، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمفصل، إلی غیر ذلک)(2)، لذلک وجب التفتیش قدر المستطاع عن کل ما یمکن أن یکون معنی محتملاً لعبارات الزیارة وفقراتها، وذلک بالاستعانة بالآیات القرآنیة والنصوص الروائیة والمعاجم اللغویة والنصوص التاریخیة وکل ما یکون من شأنه أن یساعدنا علی فهم النص أکثر، ولسوف یثبت بالدلیل الذی لا یقبل الشک ان هذه الزیارة العظیمة المضامین أوسع وأعمق من أن تفهم بالقراءة السطحیة العابرة، وان مضامینها ما زالت ومنذ صدورها إلی الیوم بل إلی یوم القیامة طریة حیة.


1- الحدائق الناضرة للمحقق البحرانی ج 7 ص 439.
2- مختصر البصائر للحسن بن سلیمان الحلی ص19.

ص: 24 

ص: 25

فتاوی مراجع الدین العظام وأقوالهم بخصوص زیارة عاشوراء

1: فتوی آیة الله العظمی السید السیستانی دام ظله بخصوص سند الزیارة

فی سؤال وجه إلی سماحة آیة الله العظمی السید علی الحسینی السیستانی دام ظله حول صحة سند کل من الزیارة الجامعة وزیارة عاشوراء ومضمونهما وما هو الرأی العلمی فیهما.

فأجاب مکتب الاستفتاء التابع له دام ظله بالآتی:

باسمه تعالی: زیارة عاشوراء والجامعة الکبیرة من أهم الزیارات وأحسنها وأصحها سندا ومتنا ومضمونهما وارد فی کثیر من الروایات الصحیحة فینبغی للمؤمنین المداومة علیهما ولا یصغون لتسویلات المغرضین.

وهذا هو نص الفتوی المبارکة: 

ص: 26

تصویر (1)

ص: 27

2: فتوی أخری مهمة لآیة الله العظمی السید السیستانی دام ظله

وفی سؤال آخر وجه لسماحة السید السیستانی دام ظله حول تحفظ البعض وتشکیکه فی دعاء التوسل والشهادة الثالثة فی الأذان والزیارة الجامعة وزیارة عاشوراء.

فأجاب مکتب سماحة السید السیستانی دام عزه بالآتی:

باسمه تعالی: إن أمثال هؤلاء لابد من التحرز والاحتراز عنهم وترک معاشرتهم وعدم اخذ معالم الدین منهم فإنهم لا یقصدون الخیر والصلاح للأمة بمثل هذه الشبهات والتحفظات وإلا فالسؤال الأساسی: ما هو المانع من قراءة دعاء التوسل حتی لو کان من تألیف بعض العلماء مع ان المحدث القمی یسنده إلی المعصوم (علیه السلام).

وما المانع من الشهادة الثالثة فی الأذان بدون قصد الجزئیة مع أن الأدلة المعتمدة تثبت استحبابها بل ظاهرها وجوب الشهادة الثالثة بعد الشهادتین؟ وهل المجتمع الشیعی أو الإسلامی سوف یتضرر من ذکر الشهادة الثالثة.

وهکذا الزیارة الجامعة التی قال عنها الأعاظم کالمجلسی ووالده وغیرهما إنها من اصح الزیارات متنا وإسنادا، وهل قراءتها یوجب الکفر والشرک أو الانحراف؟! وهل ذکر المعصومین (علیهم السلام) بهذه الأوصاف والنعوت التی تثبت أکثرها بالدلائل القطعیة للأئمة یکون فیه ضرر وفساد حتی تتحفظ منه؟!

وزیارة عاشوراء التی اشتهرت عند العلماء والفقهاء وتلقوها بالقبول وداوموا علی قراءتها وذکروا لها الآثار العجیبة والبرکات العظیمة وقد رواها المحدثون الأجلاء بطرق متعددة وروی مضامینها فی زیارات وروایات أخری حیث تکون متواترة مضمونا، لماذا یکون موردا للتحفظ عند هؤلاء ویذکرون الشبه حولها؟

ان أمثال هؤلاء سوف یأتی علیهم زمان ینکرون أکثر مبادئ الإسلام وأحکامه

ص: 28

ویفسرون القرآن بآرائهم بل إذا سمحت لهم الظروف ینکرون محکمات القرآن وذلک لسببین أساسیین مع أسباب أخری لا یعلمها إلا الله تعالی:

السبب الأول: حب الدنیا والرئاسة والاشتهار فإنهم عملوا بقاعدة (خالف تعرف).

السبب الثانی: إرضاء الشباب المنحرف والجمعیات والمذاهب والمسالک الباطلة والأدیان الأخری بل إرضاء من ینکر الله تعالی ویدعو إلی العولمة والإلحاد لکسبهم وجلب محبتهم وتألیف قلوبهم. وهذا هو نص الفتوی المبارکة:

تصویر (2)

 

ص: 29

3: فتوی آیة الله السید محمد سعید الحکیم دام ظله

وقد سئل سماحته عن التشکیک والطعن فی زیارة عاشوراء والزیارة الجامعة الکبیرة والطعن فی سندیهما ودعوی وقوع التزویر والزیادة فیهما وغیرها من الشبهات.

فأجاب مکتب سماحته دام عزه بالآتی:

زیارة عاشوراء معتبرة سندا ومتنا علی مبانی سماحة السید الحکیم دام ظله، والمنصرف من اللعن هو غیر المؤمن منهم لو فرض وجود مؤمن فیهم واقعا.

والظاهر اعتبار سند زیارة الجامعة مضافا إلی أن متن الزیارة شاهد بأنه من کلام الأئمة علیهم السلام بملاحظة أسلوبها البیانی ومضامینها العالیة، وکذلک زیارة عاشوراء.

مع انه لا یشترط فی الدعاء والسلام علی النبی صلی الله علیه وآله وسلم أن یکون واردا بسند صحیح. وهذا هو نص الفتوی المبارکة:

تصویر (3)

ص: 30

4: فتوی أخری لآیة الله العظمی السید محمد سعید الحکیم دام ظله

وقد وُجّه إلی سماحته أیضا سؤال عن مدی اعتبار زیارة عاشوراء الموجودة فی کتاب مفاتیح الجنان وغیره من کتب الدعاء والزیارة، وهل وقع فیها تزویر أو زیادات فی بعض مقاطعها؟.

فأجاب مکتب سماحة آیة الله العظمی محمد سعید الحکیم دام ظله بالآتی:

...لقد صرح سماحة السید الحکیم (دام ظله) بالوثوق بصدور الزیارة الجامعة کما ان زیارة عاشوراء المشهورة معتبرة علی مبانیه الرجالیة بکامل فقراتها.

وهذا هو نص الفتوی المبارکة:

تصویر (4)

ص: 31

5: فتوی لآیة الله العظمی الشیخ جواد التبریزی رحمه الله تعالی 

وقد سئل رحمه الله تعالی عن صحة سند زیارتی عاشوراء والجامعة ومضمونها فی ضمن أسئلة أخری فأجاب رحمه الله بالآتی:

بعض الزیارات کزیارة عاشوراء والزیارة الجامعة معتبرة ومرویة فی کتاب المزار ومضمونها صحیح قطعا. وفیما یأتی نص هذه الفتوی المبارکة:

تصویر (5)

ص: 32

6: فتوی أخری لآیة الله العظمی الشیخ جواد التبریزی رحمه الله تعالی

وقد أکد الشیخ التبریزی رحمه الله تعالی فی استفتاء آخر علی صحة وسلامة تمام متن وسند زیارة عاشوراء، وأفتی بعدم جواز التردد أو التشکیک فیها وحث علی المواظبة علی قراءتها لنیل قضاء حوائج الدنیا والآخرة.

 وهذا هو نص جوابه رحمه الله تعالی:

تصویر (6)

ص: 33

7: فتوی لآیة الله العظمی السید الروحانی دام ظله

وقد سئل السید الروحانی عن قطعیة سند زیارة عاشوراء، فأجاب دام ظله بقوله:

زیارة عاشوراء ثابتة من طریق سند معتبر و الأصحاب عاملون به ولا إشکال فیه وعلی فرض عدم قوة السند بمقتضی قاعدة التسامح الدال علیها النبوی المعتبر یحکم باستحبابها وترتب الثواب المذکور فی الروایات علیها.

وهذه نص فتواه مقتبسة من الموقع الالکترونی التابع لمکتبه دام ظله:

تصویر (7)

ص: 34

8: فتوی أخری لآیة الله السید الروحانی دام ظله

وقد وجه إلیه بعض المستفتین سؤالا مفاده ان البعض یقولون بان زیارة عاشوراء غیر صادرة عن الإمام المعصوم أو غیر صحیحة، وان هذا البعض یشکک فی عبارة (ولعن الله بنی أمیة قاطبة) وغیر ذلک. فأجاب السید الروحانی بما هو نصه:

1: زیارة عاشوراء صادرة عن الإمام المعصوم علیه السلام وسندها معتبر ووثق جدا.

2: من صدر عنه اللعن علی بنی أمیة قاطبة کان عالما بجواز ذلک ونحن اعتمادا علیه نتحدث به.

3: لا ریب ان فی الروایات المنسوبة إلی الأئمة الأطهار علیهم صلوات الله کثیر منها لم تصدر عنهم إحدی وظائف العلماء تشخیص الصادر عن غیر الصادر وعلم الرجال انما هو لذلک.

وهذا نص فتواه کما فی الموقع الالکترونی التابع لمکتب سماحته:

تصویر (8)

ص: 35

9: السید الروحانی: قراءة عاشوراء کل یوم لها الأثر البالغ علی الجنین

وقد وجهت إلیه إحدی المؤمنات سؤالا عن إفادتها بمعلومة أو مصدر یمکن الرجوع إلیه لتهیئة جنینها قبل الولادة لیصبح فی المستقبل عالما نابغا محبا لمحمد وآل محمد صلوات الله علیهم وخادما لهم، ویوفق لحفظ القرآن ونهج البلاغة وغیر ذلک من وجوه التوفیق.

فأجابها حفظه الله بما نصه: قراءة دعاء العهد فی کل یوم وکذا زیارة عاشوراء لها التأثیر.

وهذا نص فتواه من الموقع التابع لمکتب سماحته:

تصویر (9)

ص: 36

10: السید الروحانی: ما ذکر فی فضیلة زیارة عاشوراء یحیر العقول

وفیما یأتی نص فتواه حفظه الله کما وردت فی الموقع التابع لسماحته:

تصویر (10)

11: السید الروحانی: لا یجوز الصلاة خلف من یقول بان زیارة عاشوراء مزورة

وقد سئل حفظه الله عن صحة الصلاة خلف من یعتقد وقوع التزویر فی زیارة عاشوراء.

فأجاب السید الروحانی بما هو نصه: أنا اعتقد ان من کان من أهل الفضل والکمال وتتبع ودقق النظر لا یمکن أن یعتقد بوقوع التزویر فیها. ومع عدم الاعتقاد فان نفس الإخبار بوقوع التزویر فیها یکون کذبا یمنع من الصلاة خلفه.

وهذا هو نص الفتوی المبارکة کما وردت فی الموقع التابع لسماحته: 

ص: 37

تصویر (11)

أقول: هذه بعض فتاوی مراجع الدین العظام حول اعتبار ووثاقة زیارة عاشوراء من حیث الإسناد والمتن، وقد اجتمعت کلمتهم کما رأینا علی تکذیب کل من یدعی ضعف طریق إسنادها، أو وقوع التزویر والزیادة فی بعض فقراتها، ومثل هذه الشهادة کما لا یخفی لها قیمة علمیة عظیمة، لأنها صادرة عن شهود أفنوا الأعمار فی مجال البحث والدرس وتمحیص الأسانید والتتبع للرجال والنصوص الروائیة، ومثل هؤلاء العظماء لا یمکن للمؤمن الإعراض عن کلامهم والأخذ بکلام أناس لم یعرف لهم شأن علمی ولا ید طولی أو ممارسة طویلة فی تمحیص الأسانید ومعرفة الرجال مما أدی بهم إلی تضعیف أسانید هذه الزیارة الشریفة إما جهلا أو تعمدا للخلاف وإثارة الفوضی.

ص: 38 

ص: 39

السَّلامُ عَلَیْکَ یَا أَبَا عَبْدِ الله

المبحث الأول: إثبات صحة صدور هذه الفقرة الشریفة

المبحث الثانی: تبیان معنی السلام وفوائده وعلة بدء الزیارة به

                     المحور الأول: معنی السلام

                             1: بمعنی التحیة وعلامة من علامات الأمن

                             2: بمعنی التسلیم والانقیاد له فی جمیع شؤونه

                             3: بمعنی التذکیر بالمیثاق والدعاء بتعجیل الفرج والنصر

                             4: شهادة من الزائر لإمامه بأداء أمر الله وإقامة سنة نبیه الأعظم

                     المحور الثانی: علة بدء الزیارة بلفظ السلام علی أبی عبد الله

المبحث الثالث: سر السلام علی الإمام بکنیة أبی عبد الله

                     المدلول الأول: تعلیم الزائر أدب الخطاب مع إمامه

                     المدلول الثانی: الخطاب بالکنیة دلیل علی حضور المخاطب وحیاته

                             1: آیات القرآن الکریم تتحدث عن أن للأموات شعوراً وحیاة وتفاعلاً مع العالم الخارجی

                             2: إجماع روایات أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین علی سماع الأموات وحیاتهم وفرحهم وحزنهم

                             3: روایات أهل السنة فی صحاحهم وأسانیدهم وسماعهم لمن ینادیهم ویزورهم

                             4: علماء السنة یصرحون بحیاة الأموات وسماعهم وتعقلهم لما یدور حولهم

                     المدلول الثالث: توجیه نظر الزائر إلی مصیبة الطفل الرضیع

ص: 40 

ص: 41

السَّلامُ عَلَیْکَ یَا أَبَا عَبْدِ اللهِ 
اشارة

وفی هذه الفقرة الشریفة من الزیارة عدة مباحث منها:

المبحث الأول: إثبات صحة صدور هذه الفقرة الشریفة

وهذه الفقرة من الزیارة مما لا یحتاج إثبات وجودها فی غیر زیارة عاشوراء إلی کثیر جهد، لأننا لا نجد زیارة من زیارات الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه المطلقة أو غیرها من الزیارات المخصوصة خالیة من هذه الفقرة، ولکن إلزاما لأنفسنا بما سبق فی منهج البحث نذکر مجموعة من النصوص التی ورد فیها ذکر لهذه الفقرة، منها:

ما فی مصباح المتهجد عند ذکره الصلاة علی الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما: (اللهم صل علی الحسن والحسین عبدیک وولییک وابنی رسولک...أفضل ما صلیت علی أحد من أولاد النبیین والمرسلین... اللهم صل علی الحسین بن علی المظلوم الشهید قتیل الکفرة وطریح الفجرة السلام علیک یا أبا عبد الله، السلام علیک یا بن

ص: 42

رسول الله)((1).

ومنها ما عن العلامة الحلی فی منتهی المطلب عند ذکره لزیارة أبی محمد الحسن صلوات الله وسلامه علیه قال: (کان محمد بن الحنیف یأتی قبر الحسن صلوات الله وسلامه علیه فیقول السلام علیک یا بقیة المؤمنین و ابن أول المسلمین... ثم یلتفت للحسین صلوات الله وسلامه علیه ویقول السلام علیک یا أبا عبد الله وعلی أبی محمد السلام)((2).

وفی الکافی بسنده عن أبی الحسن صاحب العسکر صلوات الله وسلامه علیه قال: (تقول عند رأس الحسین علیه السلام: السلام علیک یا أبا عبد الله السلام علیک یا حجة الله فی أرضه وشاهده علی خلقه، السلام علیک یا بن رسول الله...)((3).

وعن الصادق صلوات الله وسلامه علیه قال: (...اصعد فوق سطحک ثم تلتفت یمنة ویسرة ثم ترفع رأسک إلی السماء ثم أنحُ نحو القبر وتقول: السلام علیک یا أبا عبد الله السلام علیک ورحمة الله وبرکاته، تکتب لک زورة والزورة حجة وعمرة)((4).

ولو أردنا أن نسرد کل الروایات والزیارات التی ورد فیها لفظ (السَّلامُ عَلَیْکَ یَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ) لطال المقام، وخرج الأمر عن حد الاعتدال، وبالجملة فقد تواترت هذه العبارة فی کلمات أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وزیاراتهم للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه حتی لا تکاد زیارة من زیاراته صلوات الله وسلامه علیه تخلو من هذه الکلمات. 


1- () مصباح المتهجد للشیخ الطوسی ص 401 __ 402.
2- () منتهی المطلب (ط.ق) للعلامة الحلی ج 2 ص 891.
3- () الکافی للشیخ الکلینی ج 4 ص 577 __ 578.
4- () المصدر السابق ص 589.

ص: 43

المبحث الثانی: تبیان معنی السلام وفوائده وعلة بدء الزیارة به
المحور الأول: معنی السلام
اشارة

تشعبت کلمات الأئمة الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومن بعدهم العلماء الأعلام حول مفهوم السلام ومعناه، وهذا الاختلاف ناتج عن الزاویة التی ینظر منها لموضوع السلام ومفهومه، وفیما یأتی جملة من المعانی التی جاء لها ذکر علی لسان الروایات الشریفة وکلمات الأعلام:

1: بمعنی التحیة وعلامة من علامات الأمن

المعنی المتبادر والمصداق المتعارف عند عامة الناس وهو بمعنی التحیة من الشخص المسلِّم علی الشخص المسلَّم علیه، وقد ورد هذا المعنی فی آیات القرآن الکریم کما فی قوله سبحانه ((دَعْوَاهُمْ فِیهَا سُبْحَانَکَ اللَّهُمَّ وَتَحِیَّتُهُمْ فِیهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ)) ((1)، وقال سبحانه فی آیة أخری: ((وَأُدْخِلَ الَّذِینَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِینَ فِیهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِیَّتُهُمْ فِیهَا سَلَامٌ)) ((2).

والسلام بهذا المعنی علامة من علامات الأمن یعطیها الإنسان المسلِّم إلی المسلَّم علیه وفی هذا المعنی ورد الحدیث عن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه والمنقول عن عبد الله بن الفضل الهاشمی: (سألت أبا عبد الله علیه السلام عن معنی التسلیم فی الصلاة، فقال: التسلیم علامة الأمن وتحلیل الصلاة، قلت: وکیف ذلک جعلت فداک؟ قال: کان الناس فیما مضی إذا سلم علیهم وارد أمنوا شره وکانوا إذا ردوا علیه أمن شرهم، فإن لم یسلم لم یأمنوه وإن لم یردوا علی المسلم لم یأمنهم،


1- () سورة یونس الآیة رقم 10.
2- () سورة إبراهیم الآیة 23.

ص: 44

وذلک خلق فی العرب...)((1).

فیصبح معنی قول الزائر (السَّلامُ عَلَیْکَ یَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ) هو: (انک یا أبا عبد الله آمن من أن یصلک منی أذی کما وصل إلیک من قبل أعدائک وقاتلیک وناصبی الحرب لک ولأهل بیتک).

وعدم إیصال الأذی إلی أفراد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین هی من شیمة المؤمن ومن صفات شیعتهم کما ورد فی الحدیث المروی عن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه فی تفسیر قوله سبحانه: ((وَأَمَّا إِنْ کَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْیَمِینِ (90) فَسَلَامٌ لَکَ مِنْ أَصْحَابِ الْیَمِینِ))((2)، قال: (قال رسول الله صلی الله علیه وآله لعلی علیه السلام: هم شیعتک فسلم ولدک منهم أن یقتلوهم)((3).

2: وقد یکون السلام هنا بمعنی الدعاء من الزائر المسلِّم للإمام المسلَّم علیه بالحفظ والسلامة من کل الآفات، وان یبعد عنه کل مکروه قد یصله من الآخرین.

2: بمعنی التسلیم والانقیاد له فی جمیع شؤونه

وقد یکون سلام الزائر بمعنی التسلیم من قبل الزائر لإمامه المسلَّم علیه، والتفویض له فی کل أموره وجمیع شؤون دینه ودنیاه، وتوطین النفس علی الطاعة والانقیاد المطلق له صلوات الله وسلامه علیه ولمن هو فی منزلته من بقیة المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین دون غیرهم من العالمین. 


1- () معانی الأخبار للشیخ الصدوق ص176.
2- () سورة الواقعة الآیة 90 __ 91.
3- () الکافی للشیخ الکلینی ج8 ص260.

ص: 45

3: بمعنی التذکیر بالمیثاق والدعاء بتعجیل الفرج والنصر

وقد یکون السلام بمعنی تذکر الزائر بالمیثاق وتجدیده مع الإمام المزور، لان الله سبحانه قد اخذ علی النبی الأعظمصلی الله علیه وآله وسلم وسائر المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وشیعتهم المیثاق علی الطاعة والمرابطة والصبر ووعدهم بأن یمکّن لهم فی الأرض ویستخلفهم ویجعل کلمتهم هی العلیا، والسلام وفقا لهذا المعنی: تذکیر بهذا المیثاق، ودعاء لتعجیل ذلک الوعد.

وفی هذا المعنی وردت الروایة عن محمد بن سنان، عن داود بن کثیر الرقی قال: قلت لأبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه: (ما معنی السلام علی رسول الله ؟ فقال: إن الله تبارک وتعالی لما خلق نبیه ووصیه وابنته وابنیه وجمیع الأئمة وخلق شیعتهم أخذ علیهم المیثاق وأن یصبروا ویصابروا ویرابطوا وأن یتقوا الله، ووعدهم أن یسلم لهم الأرض المبارکة والحرم الآمن وأن ینزل لهم البیت المعمور، ویظهر لهم السقف المرفوع ویریحهم من عدوهم والأرض التی یبدلها الله من السلام ویسلم ما فیها لهم لا شیة فیها، قال: لا خصومة فیها لعدوهم وأن یکون لهم فیها ما یحبون وأخذ رسول الله صلی الله علیه وآله علی جمیع الأئمة وشیعتهم المیثاق بذلک، وإنما السلام علیه تذکرة نفس المیثاق وتجدید له علی الله، لعله أن یعجله عز وجل ویعجل السلام لکم بجمیع ما فیه)((1).

4: شهادة من الزائر لإمامه بأداء أمر الله وإقامة سنة نبیه الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم

وقد یکون السلام من قبل الزائر علی إمامه المزور شهادة من المسلم لإمامه بأداء أمر الله سبحانه وإقامة سنة نبیه والخضوع والخشوع منه صلوات الله وسلامه علیه حتی استحق بذلک الأمان فی الدنیا والآخرة، لان هذه الأمور من معانی السلام ومصادیقه


1- () الکافی للشیخ الکلینی ج 1 ص 451.

ص: 46

فقد روی عن الصادق صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (معنی السلام فی دبر کل صلاة معنی الأمان، أی من أدی أمر الله وسنة نبیه صلی الله علیه وآله خاضعا له خاشعا منه فله الأمان من بلاء الدنیا وبراءة من عذاب الآخرة)((1).

هذه هی أهم معانی السلام التی لها شواهد من کتاب الله سبحانه وأقوال المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وقد ترکنا الکثیر مما ذهب إلیه البعض خوف الإطالة، ولان کثیرا منها عبارة عن تفسیر ذوقی وقد صیغت أکثرها بعبارات فلسفیة أو عرفانیة معقدة لا یستذوقها عامة القراء فلذلک غضضنا الطرف عنها.

المحور الثانی: علة بدء الزیارة بلفظ السلام علی أبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه 

ان زیارة عاشوراء وبوصفها صادرة عن المعصوم صلوات الله وسلامه علیه فقد روعیت فیها قواعد الشریعة الإسلامیة التی جعلت من السلام مقدمة لابتداء الکلام، فعن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم انه قال: (من بدأ بالکلام قبل السلام فلا تجیبوه. وقال: ابدؤوا بالسلام قبل الکلام فمن بدأ بالکلام قبل السلام فلا تجیبوه)((2).

وقال رسول الله صلی الله علیه وآله أیضا: (أولی الناس بالله وبرسوله من بدأ بالسلام)((3).

وبما ان الزائر لمرقد الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه له من الحوائج والطلبات والذنوب ما یرید من الله قضاءها وغفرانها، لذلک لا ینبغی له البدء بالکلام عن أی طلبة أو حاجة قبل أن یسلم، وإلا کان الزائر معرضا لعدم قبول حوائجه وإجابة دعائه والتجاوز عن سیئاته عملا بالأحادیث السابقة فتنبه. 


1- () مصباح الشریعة المنسوب للإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه ص95 فی السلام.
2- () الکافی للشیخ الکلینی ج 2 ص 644.
3- () المصدر السابق.

ص: 47

المبحث الثالث: سر السلام علی الإمام بکنیة أبی عبد الله
اشارة

لا یخفی ان أبا عبد الله هو کنیة((1) الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وبها اشتهر حتی قال بعض الباحثین ان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه لا کنیة له غیرها((2)، غیر ان الحسین ابن حمدان الخصیبی المتوفی سنة 334 هجریة ذکر فی کتابه (الهدایة الکبری) کنی أخری حیث قال: (واسمه الحسین وفی التوراة شبیر ولما علم موسی بن عمران علیه السلام قبل التوراة ان الله سمی الحسن والحسین سبطی محمد شبر وشبیر سمی أخوه هارون ابنیه بهذین الاسمین، وکان یکنی أبا عبد الله والخاص أبو علی ولقبه الشهید والسبط والتام وسید شباب أهل الجنة والرشید والطیب)((3).

وعلی أی الأحوال فإن الخطاب بالکنیة دون الاسم له مدالیل متعددة، وکذلک الخطاب باسم ولده عبد الله له مدلول إضافی فوق تلک المدالیل التی سنوضحها فیما یأتی:

المدلول الأول: تعلیم الزائر أدب الخطاب مع إمامه

لقد عانی النبی صلی الله علیه وآله وسلم أیام حیاته المبارکة من تعامل أمته معه علی أساس انه کأحدهم لا خصوصیة له زائدة سوی انه ینزل علیه الوحی دونهم وقد ذکر القرآن الکریم هذه النظرة بقوله ((لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَیْنَکُمْ کَدُعَاءِ بَعْضِکُمْ بَعْضًا)) ((4).


1- () قال الزبیدی فی تاج العروس ج 20 - ص 135(والکنیة علی ما اتفق علیه أهل العربیة هو ما صدر بأب أو أم أو ابن أو بنت علی الأصح فی الأخیرین... وفی المصباح: الکنیة اسم یطلق علی الشخص للتعظیم نحو أبی حفص وأبی حسن؛ أو علامة علیه).
2- () الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه سماته وسیرته. السید محمد رضا الجلالی - ص 15
3- () الهدایة الکبری للحسین بن حمدان الخصیبی ص 201 __ 202.
4- () سورة النور الآیة 63.

ص: 48

فکانت هذه النظرة السطحیة الغافلة عن مقام ومنزلة سید المرسلین وخاتم النبیین صلی الله علیه وآله وسلم تجعل البعض یتمادی فی سوء أدبه فینادی النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم من خارج البیت باسمه المبارک من دون أی إضافة أخری، قائلین: (یا محمد یا محمد أخرج إلینا) غیر مراعین لمقام نبوته ولا لعلو قدره وعظیم شرفه، فعابهم الله سبحانه بقوله ((إِنَّ الَّذِینَ یُنَادُونَکَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَکْثَرُهُمْ لَا یَعْقِلُونَ)) ((1)، فالعقل والذوق والعرف یحکم علی الإنسان إذا وقف أمام ملک من الملوک أو شخص له منزلة اجتماعیة أو دینیة أن لا یخاطبه باسمه تأدبا فکیف إذا کان الخطاب مع أعظم وأکمل شخصیة عرفتها الإنسانیة، وعلیه فمن الطبیعی أن یکون الإنسان بلا عقل حال عدم التزامه للأدب مع إنسان عظیم کهذا.

 وقد تمادی بعض آخر فی سوء أدبه مع نبیه الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فصار یرفع صوته فوق صوت النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فی أثناء محاوراته ومناقشاته مع النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، أو مع مؤمن آخر فی مجلس النبی الأعظم وفی أثناء حضورهصلی الله علیه وآله وسلم، إما لطلب الغلبة، أو لعدم مراعاة القدسیة لشخص النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، أو لطبع قد فطر علیه ذلک الرافع لصوته، لان هذا التصرف ینم عن شخصیة وحشیة جلفة غیر ملتزمة بأدنی مراتب اللطف والأدب، ولکی یردع الله سبحانه أمثال هذه الظواهر المنافیة للإیمان هدد هؤلاء الذین لا یراعون الأدب بمحضر نبیهم أن یحبط أعمالهم الصالحة إن کان لهم عمل صالح، فقال سبحانه: ((یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَکُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِیِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ کَجَهْرِ بَعْضِکُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُکُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ))((2).

ثم ان الأسباب والحیثیات نفسها التی تلزم المسلم والمؤمن أن یراعی بموجبها


1- () سورة الحجرات الآیة 4.
2- () سورة الحجرات الآیة 2.

ص: 49

قواعد الأدب مع نبیه ورسوله الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، توجب علیه کذلک أن یراعی قواعد الأدب مع الخمسة أصحاب الکساء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وباقی أئمة أهل البیت من ذریة الإمام الحسین علیه وعلیهم السلام، وذلک لاتحادهم فی الکمال والفضل والرفعة وعلو الشأن، فکل ما لا یجوز الخطاب به مع النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم کذلک لا یجوز الخطاب به مع أهل بیته والأئمة من ذریته، وکل ما یجب التقید به مع النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم کذلک یجب التقید به مع أهل بیته والأئمة من ذریته صلوات الله وسلامه علیه.

وهذا التأدب مع النبی صلی الله علیه وآله وسلم ومع أهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین مثلما هو واجب فی حیاتهم کذلک هو واجب بعد مماتهم وخصوصا عند حضور المؤمن إلی ریاض قبورهم للزیارة والتبرک والدعاء، فینبغی أن تکون المراعاة أشد والالتزام أکبر لان حرمتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أمواتا کحرمتهم حال حیاتهم.

فزیارة عاشوراء وفقا لما تقدم جاریة علی وفق قاعدة الأدب فی التعامل وحسن الخطاب مع سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه، وقواعد الأدب الرفیع تقضی بقبح مناداة الزائر لإمامه صلوات الله وسلامه علیه بمثل ما ینادی أحدهم الآخر بالاسم دون الکنیة أو الصفة أو اللقب، فهی ترید أن تربی الإنسان الموالی علی أن لا یکون فی تعامله مع إمامه بمنزلة أولئک الذین کانوا ینادون النبی صلی الله علیه وآله وسلم من وراء الحجرات، أو یجهرون له بالقول کجهر بعضهم لبعض.

فیکون الخطاب والسلام علی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بکنیته وجهاً من أوجه التعظیم والتوقیر والتفخیم لشخصه المقدس صلوات الله وسلامه علیه((1).


1- () قال ابن منظور فی لسان العرب ج 15 ص 233: (الکنیة علی ثلاثة أوجه: أحدها أن یکنی عن الشیء الذی یستفحش ذکره، والثانی أن یکنی الرجل باسم توقیرا وتعظیما، والثالث أن تقوم الکنیة مقام الاسم فیعرف صاحبها بها کما یعرف باسمه کأبی لهب اسمه عبد العزی، عرف بکنیته فسماه الله بها).

ص: 50

المدلول الثانی: الخطاب بالکنیة دلیل علی حضور المخاطب وحیاته
اشارة

فی حدیث عن الإمام الرضا صلوات الله وسلامه علیه قال: (إذا ذکرت الرجل وهو حاضر فکنه، وإذا کان غائبا فسمه)((1)، والإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه ونتیجة لعلمه بحیاة جده الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، وعلمه بالزائر له والقاصد لمشهده خاطبه فی الزیارة بکنیته لا باسمه.

وحیاة الأموات فی قبورهم حیاةً برزخیة تتناسب وعالمهم مما أجمعت علیه کلمة المسلمین بجمیع مذاهبهم إلا شرذمة قلیلة من المتأخرین من أتباع ابن تیمیة الذین ذهب بهم تعصبهم ونصبهم إلی عدّ (الاستغاثة به __ بالنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم __ وطلب الشفاعة منه إلی الله والتوسل به إلیه بقول یا رسول الله أو یا رسول الله إشفع لی أو أتوسل بک إلی الله والتبرک بقبره والصلاة والدعاء عنده وتعظیمه کل ذلک شرکاً وکفراً وعبادة للأصنام والأوثان موجبة لحل المال والدم وأنه یحرم السفر لزیارته ویجب هدم ضریحه وقبته ویحرم التبرک بتربته ولمس ضریحه وتقبیله وأن ضریحه صنم من الأصنام ووثن من الأوثان بل هو الصنم الأکبر والوثن الأعظم وکذلک سائر الأنبیاء والصالحین)((2)، وتفضیل بعض أئمتهم الجهال عصاه علی النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وقوله الشهیر: (عصای هذه خیر من محمد لأنها ینتفع بها فی قتل الحیة ونحوها ومحمد قد مات ولم یبق فیه نفع أصلا وإنما هو طارش وقد مضی)((3) هو أشهر من نار علی علم.

ولیس لنا مع هؤلاء النصاب کلام بعد أن ثبت إجماع المسلمین علی ان للأموات حیاةً یسمعون معها ویشاهدون من یأتیهم ویسلم علیهم ویجیبونه ویأنسون


1- () تحف العقول لابن شعبة الحرانی ص443.
2- () کشف الارتیاب فی أتباع محمد بن عبد الوهاب للسید محسن الأمین ص 127.
3- () الدرر السنیة فی الرد علی الوهابیة لأحمد زینی دحلان ص 42.

ص: 51

بزیارته، لکن الله قد حجب عن الأحیاء فی دار الدنیا لحکمة بالغة جوابهم ومشاهدة أحوالهم، ونحن هنا نورد جملة من الآیات الشریفة والأحادیث الصحیحة وجملة أخری من أقوال علماء أهل السنة التی تثبت بما لا یقبل الشک أن للأموات عقلاً وحیاة ونطقاً وسماعاً منها:

1: آیات القرآن الکریم تتحدث عن أن للأموات شعوراً وحیاة وتفاعلاً مع العالم الخارجی

قال تعالی: ((وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ یُقْتَلُ فِی سَبِیلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْیَاءٌ وَلَکِنْ لَا تَشْعُرُونَ))((1)، وقال سبحانه: ((وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْیَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ یُرْزَقُونَ)) ((2)، قال الشیخ الطوسی فی تفسیره التبیان: (فإن قیل: هل الشهداء أحیاء علی الحقیقة، أم معناه أنهم سیحیون ولیسوا أحیاء؟ قلنا: الصحیح أنهم أحیاء إلی أن تقوم الساعة، ثم یحییهم الله فی الجنة، لا خلاف بین أهل العلم فیه إلا قولا شاذا من بعض المتأخرین)((3).

وقال ابن حزم فی کتابه المحلی: (وأما الشهداء فإن الله عز وجل یقول «ولا تقولوا لمن یقتل فی سبیل الله أموات بل أحیاء ولکن لا تشعرون» وقال تعالی «ولا تحسبن الذین قتلوا فی سبیل الله أمواتا بل أحیاء عند ربهم یرزقون فرحین بما آتاهم الله من فضله» ولا خلاف بین مسلمَینِ((4) فی أن الأنبیاء علیهم السلام أرفع قدرا ودرجة وأتم فضیلة عند الله عز وجل وأعلی کرامة من کل من دونهم، ومن خالف فی هذا فلیس مسلما)((5)


1- () سورة البقرة الایة154.
2- () سورة آل عمران الآیة 169.
3- () التبیان للشیخ الطوسی ج 2 ص 34.
4- () تثنیة لکلمة مسلم.
5- () المحلی لابن حزم ج 1 ص 25.

ص: 52

أقول: ولا یخفی ان کلام ابن حزم ینطبق أیضا علی الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وعلی السیدة الطاهرة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها لأنها وإیاهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین نفس النبی وروحه قد خلقوا من طینته وهم من شجرة واحدة وباقی الناس من شجر شتی، وهم أفضل من الأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وعلی اقل التقادیر فهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین شهداء بل سادة الشهداء الذین أعطوا لله کل ما سألهم، فتفضل الله سبحانه علیهم بأن ضمن لهم أن یعطیهم کل ما سألوه لهم ولشیعتهم وزوارهم.

2: إجماع روایات أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین علی سماع الأموات وحیاتهم وفرحهم وحزنهم

الروایات الکثیرة عن أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أجمعت علی سماع الأموات وحیاتهم ونطقهم وغیر ذلک الکثیر نختار منها ما یأتی:

منها ما عن عبد الله بن سلیمان، عن الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه قال: (سألته عن زیارة القبور. قال: إذا کان یوم الجمعة فزرهم، فإنه من کان فیهم فی ضیق وسع علیه ما بین طلوع الفجر إلی طلوع الشمس، یعلمون بمن أتاهم فی کل یوم، فإذا طلعت الشمس کانوا سدی. قال: قلت: فیعلمون بمن أتاهم، فیفرحون به؟ قال: نعم، ویستوحشون له إذا انصرف عنهم)((1).

ومنها ما عن إسحاق بن عمار عن أبی الحسن صلوات الله وسلامه علیه قال: (قلت له المؤمن یعلم من یزور قبره؟ قال نعم لا یزال مستأنسا به ما زال عند قبره فإذا قام وانصرف من قبره دخله من انصرافه عن قبره وحشة)((2).

ومنها ما عن الشیخ الصدوق عن محمد بن مسلم قال (قلت لأبی عبد الله علیه


1- () الأمالی للشیخ الطوسی ص 688 زیارة القبور فی الجمعة.
2- () وسائل الشیعة للحر العاملی ج3 ص223 باب تأکد استحباب زیارة القبور.

ص: 53

السلام الموتی نزورهم؟ قال نعم. قلت: فیعلمون بنا إذا أتیناهم؟ قال إی والله إنهم لیعلمون بکم ویفرحون بکم ویستأنسون إلیکم)((1).

3: روایات أهل السنة فی صحاحهم وأسانیدهم وسماعهم لمن ینادیهم ویزورهم

ومنها ما أخرجه البخاری وغیره من علماء العامة عن انس بن مالک عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم انه قال: (العبد إذا وضع فی قبره وتولی وذهب أصحابه حتی انه لیسمع قرع نعالهم أتاه ملکان فأقعداه...)((2).

ومنها ما أخرجه مسلم قال: (عن ثابت البنانی عن انس بن مالک ان رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ترک قتلی بدر ثلاثا ثم أتاهم فقام علیهم فناداهم فقال یا أبا جهل بن هشام یا أمیة بن خلف یا عتبة بن ربیعة یا شیبة بن ربیعة ألیس قد وجدتم ما وعد ربکم حقا فإنی قد وجدت ما وعدنی ربی حقا فسمع عمر قول النبی صلی الله علیه وسلم فقال یا رسول الله کیف یسمعوا وأنی یجیبوا وقد جیفوا قال والذی نفسی بیده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولکنهم لا یقدرون أن یجیبوا ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا فی قلیب بدر)((3).

ومنها ما أخرجه ابن عبد البر عن ابن عباس قال: (قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: ما من أحد مر بقبر أخیه المؤمن کان یعرفه فی الدنیا فسلم علیه إلا عرفه ورد علیه السلام)((4)


1- () من لا یحضره الفقیه للشیخ الصدوق ج1 ص181 المیت یزور أهله.
2- () صحیح البخاری ج2 ص92 باب فی الجنائز، وصحیح مسلم ج8 ص161 باب عرض مقعد المیت فی الجنة أو النار.
3- () صحیح مسلم ج 8 ص 163 __ 164 باب إثبات الحساب.
4- () الاستذکار لابن عبد البر ج 1 ص 185.

ص: 54

ومنها ما عن عائشة أنها قالت: (قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: ما من رجل یزور قبر أخیه فیجلس عنده، إلا استأنس به حتی یقوم)((1).

فالروایات المرویة عن العامة والخاصة کما تری مستفیضة بتأکید وجود حیاة للأموات فی قبورهم ولهم علم بمن یزورهم ویأتیهم ولهم إدراک وسمع لمن یتکلم معهم ویسلم علیهم.

4: علماء السنة یصرحون بحیاة الأموات وسماعهم وتعقلهم لما یدور حولهم

ألف: قال ابن القیم فی أول (کتاب الروح): (المسألة الأولی: وهی هل تعرف الأموات زیارة الأحیاء وسلامهم أم لا؟... وقد شرع النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم لأمته إذا سلموا علی أهل القبور، أن یسلموا علیهم سلام من یخاطبونه، فیقول: «السلام علیکم دار قوم مؤمنین » وهذا خطاب لمن یسمع ویعقل، ولولا ذلک لکان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد، والسلف مجمعون علی هذا، وقد تواترت الآثار عنهم أن المیت یعرف زیارة الحی له، ویستبشر له)((2).

وقال السبکی: (عود الروح إلی الجسد فی القبر ثابت فی الصحیح لسائر الموتی فضلا عن الشهداء)((3).

وقال الإیجی: (إحیاء الموتی فی قبورهم، ومسألة منکر ونکیر لهم، وعذاب القبر للکافر والفاسق کلها حق عندنا، اتفق علیه سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والأکثر بعده __ أی بعد ظهور الخلاف __)((4) وقد ترکنا الخوض فی المزید مخافة الإطالة. 


1- () تفسیر ابن کثیر ج3 ص447، أضواء البیان للشنقیطی ج 6 ص 137.
2- () نقلا عن أضواء البیان للشنقیطی ج6 ص135.
3- () الأصول الأربعة فی تردید الوهابیة لحکیم معراج الدین ص 55.
4- () المواقف للإیجی: ج3، ص516.

ص: 55

ثم اعلم ان کمالات الأنبیاء والأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وتصرفاتهم التکوینیة لا تفنی ولا تضمحل حال انتقالهم عن هذه الدنیا إلی عالم البرزخ والقبر، بل تزداد أرواحهم بعد الموت کمالا وقربا إلی الله سبحانه، وتزداد أیدیهم بالعطاء انبساطا، لان النبی والإمام فی عالم الدنیا مقید بمراعاة العوام من الناس ومداراة أهل الضلال والذین فی قلوبهم مرض فلا یظهر کامن أسراره ومنتهی قدرته فی التصرف بإذن الله سبحانه، لکنه وبعد الموت وانقطاع تلک العوائق یصبح النبی والإمام أکثر حریة فی ممارسة سلطته التکوینیة الممنوحة له من قبل الله سبحانه، وقضائهم لحاجات زائریهم، واستجابة ما عظم من توسلاتهم وشفائهم لمن عجز عن شفائه أهل الدنیا، وقوانین هذا العالم خیر دلیل علی هذه الحقیقة.

المدلول الثالث: توجیه نظر الزائر إلی مصیبة الطفل الرضیع 

لما کان الهدف الأساس من زیارة عاشوراء هو ذکر المصائب والویلات التی جرت علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عامة، وعلی الإمام الحسین وأبنائه وبقیة أهل بیته وأصحابه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بشکل خاص، لذلک صیغت فقراتها بشکل یثیر فی نفس الزائر وعقله أمرین مهمین:

الأول: توعیته وتعریفه بالأسباب التی أدت إلی حدوث فاجعة عاشوراء، عن طریق تبیان الأشخاص والجماعات والظروف التی شارکت مشارکة فاعلة فی إیجاد هذه المصیبة الجلیلة والرزیة العظیمة.

الثانی: إثارة الحزن والأسی فی نفسه عن طریق عرض المشاهد المؤلمة، أو الأسماء التی تثیر فی نفس الزائر صورا وأحداثا معینة من الواقعة، فذکر اسم الشمر وعمر بن سعد وأبی سفیان وغیرهم من الملعونین الذین بمجرد ذکر أسمائهم ینتقل

ص: 56

ذهن الزائر وفکره إلی تلک الجرائم التی ارتکبوها بحق سید الشهداء وأهل بیته وصحبه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

وبالعکس فحینما تذکر الزیارة نوعا آخر من الأسماء مثل الحسین صلوات الله وسلامه علیه وعلی بن الحسین صلوات الله وسلامه علیه وأصحاب الحسین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فإن هذه الأسماء تنقل ذهن الزائر وفکره إلی تلک المآسی والفجائع التی حلت بهؤلاء الأطهار ومقدار الخسارة التی منیت بها الأمة الإسلامیة جراء فقدهم وقتلهم بتلک الطریقة المریعة.

وذکر اسم عبد الله فی أثناء السلام علی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه داخل ضمن هذا الذی تقدم فالإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه یرید ومن خلال ذکر عبد الله التذکر والتذکیر بمصیبة ذلک الرضیع الذی (رفعه __ الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه __ أمام القوم یرید استعطافهم، لیسمحوا بإعطائه ماء. غیر أن الروح الدمویة التی ما رآها التاریخ ولا شهدتها ملاحم البشر، کانت توجد فی هذا المعسکر المشؤوم، فرفع «حرملة بن کاهل الأسدی» سهمه ورمی بها الطفل فسال دم البراءة علی کف الحسین، وأخذ یرمی به نحو السماء وهو یقول: اللهم تقبل منا قربان آل محمد. وقال: هون ما نزل بی إنه بعین الله تعالی، اللهم لا یکون أهون علیک من فصیل ناقة صالح، إلهی إن کنت حبست عنا النصر فاجعله لما هو خیر منه وانتقم لنا من الظالمین، واجعل ما حل بنا فی العاجل ذخیرة لنا فی الآجل، اللهم أنت الشاهد علی قوم قتلوا أشبه الناس برسولک ثم نزل علیه السلام عن فرسه ودفن طفله الرضیع وصلی علیه)(1).

فالسلام علی عبد الله بن الحسین، الطفل الرضیع، المرمی الصریع، المتشحط دما، المصعد دمه فی السماء، المذبوح فی حجر أبیه، لعن الله رامیه حرملة بن کاهل الأسدی وذویه. 


1- لقد شیعنی الحسین لإدریس الحسینی المغربی ص 309.

ص: 57

السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ

اشارة

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة

المبحث الثانی: لماذا التأکید علی کون الحسین علیه السلام ابن رسول الله قدس الله روحه

                             لیس للنبی صلوات الله وسلامه علیه من قرابة غیر بنی أمیة

                             نظرة العباسیین لمسألة القرابة

                             أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین کانوا حجر العثرة بوجه ذلک المخطط

                             محاولات أصحاب السقیفة القضاء علی هذه العقبة

                             استمرار المحاولات علی أیدی الأمویین والعباسیین

                             موقف أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من هذا المخطط 

المبحث الثالث: سر السلام علی الحسین بابن رسول الله

                     المدلول الأول: لتبیان أسباب قتل الأمة للإمام الحسین علیه السلام

                      المدلول الثانی: لتبیان موجبات زیارة الإمام الحسین علیه السلام

                      المدلول الثالث: لتبیان الفارق ما بین القاتل والمقتول

                     المدلول الرابع: للوقوف بوجه مخطط أصحاب السقیفة وأشیاعهم

ص: 58 

ص: 59

السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ

فی هذه الفقرة الشریفة من زیارة عاشوراء عدة من المباحث المهمة نستعرض بعضها فیما یأتی:

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة

لا شک فی تواتر الخطاب بلفظ (السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ) لکل من الإمامین الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما فی النصوص الروائیة ومتون الأدعیة والزیارات الشریفة، ولا تکاد زیارة من زیارات الإمام أبی عبد الله الحسین صلوات الله وسلامه علیه تخلو من وصفه بابن رسول الله.

والتزاما منا بمنهج البحث نستعرض بعض تلک النصوص التی ورد فیها الخطاب للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بلفظ (السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ) منها:

ص: 60

ما روی فی زیارة الأربعین للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه عن صفوان بن مهران قال: (قال لی مولای الصادق صلوات الله وسلامه علیه: فی زیارة الأربعین تزور عند ارتفاع النهار وتقول: السلام علی ولی الله وحبیبه، السلام علی خلیل الله ونجیبه... السلام علیک یا ابن رسول الله السلام علیک یا ابن سید الأوصیاء أشهد أنک أمین الله وابن أمینه)((1).

ومنها ما عن جعفر بن محمد بن قولویه قال: (حدثنی حکیم بن داود بن حکیم، عن سلمة بن الخطاب، عن الحسین بن زکریا، عن سلیمان بن حفص المروزی، عن المبارک، قال: تقول عند قبر الحسین علیه السلام: السلام علیک یا أبا عبد الله، السلام علیک یا حجة الله فی أرضه وشاهده علی خلقه، السلام علیک یا ابن رسول الله...)((2).

وعنه أیضا قال: (حدثنی أبی وغیر واحد، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد ابن محمد بن عیسی، عن العباس بن موسی الوراق، عن یونس، عن عامر بن جذاعة، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: إذا أتیت قبر الحسین علیه السلام فقل: السلام علیک یا ابن رسول الله، السلام علیک یا أبا عبد الله، لعن الله من قتلک، ومن بلغه ذلک فرضی به، أنا إلی الله منهم برئ)((3).

وبالجملة فإن الزیارات والأدعیة والروایات التی ذکرت أنّ الإمام الحسین ابن رسول الله تفوق حد الإحصاء علی ما نحن فیه من العجالة وقد اکتفینا بالبعض منها وترکنا الکثیر مخافة الخروج عن حد الاعتدال. 


1- () مصباح المتهجد للشیخ الطوسی ص 788 __ 789.
2- () کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص 380.
3- () المصدر السابق ص 385.

ص: 61

المبحث الثانی: لماذا التأکید علی کون الحسین علیه السلام ابن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم 
اشارة

لعل نظرة عابرة إلی کتب الحدیث والأدعیة والزیارات تکفی للکشف عن تأکید وإصرار أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وشیعتهم وعلماء المذهب الحق علی کون الحسن والحسین وبقیة أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من أولاد وأبناء الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، مما یثیر فی النفس سؤالا ربما یکون للوهلة الأولی سؤالا ساذجا وهو لماذا کل هذا التأکید علی قضیة تکاد تکون بدیهیة، فمن هذا الذی ینکر ان ابن البنت ابن شأنه شأن ابن الابن غیر من کان یعانی من نقص فی إدراکاته البدیهیة والفطریة.

ولکن المتتبع لحرکة التاریخ الإسلامی وما مر به أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من ظروف مأساویة وتعسف ونکران لأبسط حقوقهم وامتیازاتهم لا یجد ذلک السؤال ساذجا ولا التأکید علی بنوة الحسین صلوات الله وسلامه علیه للنبی صلی الله علیه وآله وسلم أمرا من دون أهمیة ومن غیر هدف، لان هنالک __ کما یحدثنا التاریخ __ أناساً حاولوا وما زال أتباعهم إلی الآن یحاولون نکران تلک البدیهیة وعدم عدّ ابن البنت ابنا للرجل وحصروا البنوة بالأبناء وأولاد الأبناء، وعلی نکران هذه البدیهیة صاغت دول ومذاهب منظومتها الفکریة والعقائدیة.

وفیما یأتی جولة تاریخیة تضع بین یدیک أسباب التأکید المتکرر والتذکیر المستمر من أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین علی کون الحسن والحسین وباقی أبنائهم المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین هم أولاد النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم. 

ص: 62

جذور هذه المسألة

 من یتتبع أشکال الردة التی حصلت للمجتمع الإسلامی بمجرد موت النبی صلی الله علیه وآله وسلم، یجدها غیر مقتصرة علی الردة عن الإمامة، وتنصیب الخلیفة الشرعی الذی أخذت العهود والمواثیق علی مناصرته ومؤازرته فی غدیر خم وغیره من المواقف والمواطن، بل تعدت هذه الردة لتشمل جمیع أو أغلب المفاهیم التی زرعها النبی صلی الله علیه وآله وسلم وغرسها فی قلوب وعقول أمته من خلال أفعاله وأقواله المعصومة التی لا تصدر عن الهوی، وقد کان مفهوم القرابة والرحم والانتساب لشخص النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم من ضمن تلک المفاهیم التی تعرضت للتشویه والاستغلال والتحریف.

فبینما النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم یربی الأمة طوال مدّة حیاته المبارکة علی ان کلاً من الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه والسیدة الطاهرة فاطمة بنت محمد صلوات الله وسلامه علیها والإمامین المعصومین الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما هم أهل بیته وذوو قرابته وخاصته وموضع سره ومعدن علمه، نراهم وبمجرد ارتحاله صلی الله علیه وآله وسلم عن هذه الدنیا قُلبت هذه المفاهیم وسلبت عن أهلها الشرعیین واغتصبت شأنها شأن کثیر من الحقائق والنفائس التی اغتصبها القوم من أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وبدأت محاولات جدیدة لتوسیع مفهوم القرابة والاختصاص بالنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لیشمل ما هو أوسع من الخمسة أصحاب الکساء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بهدف الاستعلاء فی الأرض والسیطرة علی العباد والبلاد باسم القرابة للنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم.

 وأول من أسس هذه المحاولة وفتح هذا الباب هم أصحاب السقیفة فقد روی الطبری فی تاریخه قال: (فبدأ أبو بکر فحمد الله وأثنی علیه ثم قال إن الله بعث محمدا

ص: 63

رسولا إلی خلقه وشهیدا علی أمته لیعبدوا الله ویوحدوه... فعظم علی العرب أن یترکوا دین آبائهم فخص الله المهاجرین الأولین من قومه بتصدیقه والإیمان به والمؤاساة له... فهم أول من عبد الله فی الأرض وآمن بالله وبالرسول وهم أولیاؤه وعشیرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده ولا ینازعهم ذلک إلا ظالم...)((1).

وتبعه علی هذا الأمر الحادث عمر بن الخطاب فی نفس تلک الحادثة بعد أن اقترحت الأنصار أن یکون منهم أمیر ومن المهاجرین أمیر آخر: (فقال عمر هیهات لا یجتمع اثنان فی قرن والله لا ترضی العرب أن یؤمروکم ونبیها من غیرکم ولکن العرب لا تمتنع أن تولی أمرها من کانت النبوة فیهم وولی أمورهم منهم ولنا بذلک علی من أبی من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبین من ذا ینازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولیاؤه وعشیرته إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط فی هلکة)((2).

فتغیرت المعادلة ودخل فی القرابة أناس ما أشار إلیهم النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ولا خصهم فیها بیوم من الأیام، وابعد عنها من کان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم یتحین کل فرصة ومناسبة للتأکید علی قربهم منه واختصاصهم به.

لیس للنبی صلوات الله وسلامه علیه من قرابة غیر بنی أمیة

 وما أن وصل بنو أمیة إلی کرسی الحکم حتی بدأت مرحلة جدیدة من مراحل مفهوم القرابة والاختصاص بالنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وهی تلک التی


1- () تاریخ الطبری ج 2 ص 457 ذکر الخبر عما جری بین المهاجرین والأنصار فی أمر الإمارة فی سقیفة بنی ساعدة، وراجع أیضا کتاب الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج2 ص329 حدیث السقیفة وخلافة أبی بکر.
2- ()المصدر نفسه.

ص: 64

بینها غیر واحد من المؤرخین بقولهم: (قال أبو الحسن المدائنی: أخبرنی أبو العباس الفلسطینی وکان من غلبة أهل العلم فی عصره قال: بعث عبد الله بن علی إلی أمیر المؤمنین أبی العباس بمشایخ أهل الشام، فلما دخلوا إلیه قال لهم أبو العباس: یا أهل الشام! ما حملکم علی الخروج مع بنی أمیة علی بنی هاشم وهم أهل بیت رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وهم أولی الناس بهذا الأمر من غیرهم؟ قال: فحلف الشامیون بالله الذی لا إله إلا هو أنهم ما علموا أن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم له ذریة ولا أهل بیت غیر بنی أمیة حتی ولیتم أنتم هذا الأمر...)((1).

وبذلک ضیق بنو أمیة ولأسباب غیر خافیة مفهوم القرابة والاختصاص بالنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لیصیر حکرا علی بنی أمیة خاصة دون بقیة العالمین، مع انهم أبعد الناس عن هذه الصفة وقد أثار هذا الامر تعجب الکثیرین حتی صار اختصاصهم بالقرابة دون العالمین مادة یتخذها الشعراء والأدباء للسخریة منهم والاستهزاء بهم وبفکرتهم هذه، منهم إبراهیم بن المهاجر القائل:

أیها الناس اسمعوا أخبرکم                ***         عجبا زاد علی کل العجب

عجبا من عبد شمس أنهم  ***         فتحوا للناس أبواب الکذب

ورثوا أحمد فیما زعموا     ***         دون عباس بن عبد المطلب

کذبوا والله فیما ادعوا        ***         یحرز المیراث إلا من قرب((2)

وهذا الشاعر وان کان یتکلم من وجهة نظر عباسیة إلا ان تعجبه فی محله وهو کما قال باب من أبواب الکذب جدید ما استحدثه غیرهم.


1- () کتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الکوفی ج 8 ص 339 __ 340.
2- () المصدر السابق.

ص: 65

نظرة العباسیین لمسألة القرابة

قاتل العباسیون بضراوة أکثر من غیرهم لتحریف موضوع القرابة والاختصاص بالرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وحصره بالمتولدین من ذریة العباس بن عبد المطلب، فمنذ الیوم الأول لتولیهم الحکم اجتمعوا علی کلمة واحدة وهی ان الإمارة والخلافة التی صارت بأیدیهم بعد زوال الدولة الأمویة هی حق طبیعی لهم وانها من ضمن ما ورثه العباس بن عبد المطلب من النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فقد أخرج الطبری فی تاریخه کتابا أرسله المنصور العباسی إلی محمد بن عبد الله بن الحسن: (... ولقد علمت أنه لم یبق أحد من بنی عبد المطلب بعد النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم غیره فکان وراثة من عمومته ثم طلب هذا الأمر غیر واحد من بنی هاشم فلم ینله إلا ولده فالسقایة سقایته ومیراث النبی له والخلافة فی ولده فلم یبق شرف ولا فضل فی جاهلیة ولا إسلام فی دنیا ولا آخرة إلا والعباس وارثه ومورثه)((1).

وهکذا یصبح واضحا لدینا تاریخ هذا النکران لقرابة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وبقیة آل علی صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وان مسألة القرابة والاختصاص بالرسول الأعظم کانت قد مرت بمراحل عدیدة، فتارة توسع دائرة القربی والاختصاص لیدخل فیها أصحاب السقیفة وغیرهم، وتارة تضیق فلا یسمح بأن یدخلها إلا من کان أمویا أو عباسیا، وهذا التوسیع والتضییق کان یخضع للظرف السیاسی وللمصلحة التی یراد استخدام القرابة من أجلها، فإن کانت المصلحة فی التوسیع کما فی السقیفة وسع ذلک الباب وفتح علی مصراعیه، وإلا ضیق وفتحت منه کوة لا یدخل منها إلا من کان أمویا أو عباسیا. 


1- () تاریخ الطبری ج 6 ص 199 کتاب المنصور إلی محمد بن عبد الله بن الحسن وکتاب محمد بن عبد الله الیه.

ص: 66

أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین کانوا حجر العثرة بوجه ذلک المخطط

کان الجمیع قد استفاد من میزة القرابة وعلی أحسن وجه وأکمله سواء فی ذلک أصحاب السقیفة أو غیرهم من الأمویین والعباسیین، ولکن کانت هنالک عقبة مهمة أمامهم أفشلت الکثیر من مساعیهم، بحیث صارت غصة فی قلوب أولئک المنتهزین.

وهذه العقبة کانت تتمثل بوجود کل من أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب والسیدة الطاهرة فاطمة الزهراء وابنیهما الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فقد علم القاصی والدانی شدة قرب هؤلاء الأطهار للنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وعظیم اختصاصهم به، وقد حفظت الأمة عن نبیها أحادیث وروایات لا تحصی، تدل علی أنهم أحب الناس إلیه، وأعزهم علیه، وان لحمهم لحمه، ودمهم دمه، وانهم لا یفترقون عنه طرفة عین أبدا، لا فی الدنیا ولا فی الآخرة، وقد نزلت آیات القرآن تتری مؤیدة لنظرة النبی صلی الله علیه وآله وسلم وموقفه تجاه هؤلاء الأهل، فنزلت آیة التطهیر بحقهم وحکمت لهم بالطهارة من کل رجس ونزهتهم عن کل دنس، ونزلت آیة المباهلة بشأنهم لتبین أنهم نفس النبی وأبناؤه ونساؤه دون العالمین.

فکل الحجج التی حاول من خلالها أصحاب السقیفة إثبات أن لهم نوعاً من أنواع القربی والاختصاص بالنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم کانت تتهشم عند وصولها لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، لان القربی ان کانت هی المیزان فی التفاضل والاختیار والاصطفاء والخلافة فأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أقرب إلی النبی صلی الله علیه وآله وسلم من کل أحد، وعلیه فهم أحق بأمر الخلافة من کل احد، لأنهم الأقرب إلیه من کل احد، وإذا استطاع أهل السقیفة سلب الإمارة من الأنصار بحجة أنهم: (أولیاؤه وعشیرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده ولا ینازعهم ذلک

ص: 67

إلا ظالم) کما قال أبو بکر، أو کما قال عمر بن الخطاب: (من ذا ینازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولیاؤه وعشیرته إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط فی هلکة) فان هذا المنطق لا ینفع مع الإمام علی بن أبی طالب وبقیة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، لأنهم الأقرب والألصق به منزلة وقربی وشأنا، ویکون فعل من تقدم علیهم وغصبهم أمرهم مشمولا بالقانون الذی ألزم به أبو بکر نفسه بقوله: (ولا ینازعهم ذلک إلا ظالم)، وبما ألزم به عمر بن الخطاب نفسه بقوله: (من ذا ینازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولیاؤه وعشیرته إلا مدل بباطل أو متجانف لاثم أو متورط فی هلکة).

وبعبارة أخری: إذا کان أبو بکر یعدّ تقدم الأنصار علی المهاجرین ومنازعتهم ظلما بحجة ان المهاجرین أولیاؤه وعشیرته وأحق الناس به، فإن تقدم أبی بکر وعمر ابن الخطاب وسائر المهاجرین ومنازعة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین الأمر ظلم أیضا، بل من أقبح الظلم، لان قریشا عشیرته والإمام علیاً من أهل بیته بل هو نفسه کما فی آیة المباهلة، وتقدم العشیرة علی أهل البیت ظلم لا ریب فیه، ومن یرتکبه لا یکون إلا مدلاً بباطل أو متجانفاً لإثم أو متورطاً فی هلکة.

وقد احتج الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه بهذا الأمر حینما انتهت إلیه أنباء السقیفة قال: (... فماذا قالت قریش؟ قالوا احتجت بأنها شجرة الرسول صلی الله علیه __ وآله __ وسلم. فقال علیه السلام احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة)((1)، وقد واجه الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ابا بکر بهذه الحقیقة وبشکل مباشر حینما خاطبه بقوله: 


1- () شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید المعتزلی ج6 ص4 من کلام له علیه السلام فی معنی الأنصار.

ص: 68

فان کنت بالقربی حججت خصیمهم   ***         فغیرک أولی بالنبی وأقرب

وان کنت بالشوری ملکت أمورهم      ***         فکیف بهذا والمشیرون غیب((1)

وقال صلوات الله وسلامه علیه أیضا متحدثا عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم: (والله إنی لأخوه وولیه، وابن عمه، ووارث علمه فمن أحق به منی...)((2).

وقد کتب أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه إلی معاویة بن أبی سفیان لعنه الله رسالة جاء فیها: (قالت قریش: منا أمیر. وقالت الأنصار: منا أمیر. فقالت قریش: منا محمد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فنحن أحق بذلک الأمر. فعرفت ذلک الأنصار، فسلمت لهم الولایة والسلطان. فإذا استحقوها بمحمد صلی الله علیه وآله وسلم دون الأنصار، فإن أولی الناس بمحمد صلوات الله وسلامه علیه أحق بها منهم)((3).

فکانت هذه الاحتجاجات غصة فی حلق السلطة الغاصبة، وجرحاً دائم النزف کلما حاولوا رتقه انفتق، فرأی القوم ان بقاء وانحصار صفة القرب فی النسب بعلی وفاطمة وأبنائهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین غایة فی الخطورة، وبوجودهم تتقوض کل الجهود التی تبذل من اجل استعلاء أصحاب السقیفة وغیرهم باسم النبی صلی الله علیه وآله وسلم وقرابته، فتعاضد أصحاب السقیفة وآل أمیة والعباس علی سلب هذا القرب منهم وإخراجهم من ذلک الاختصاص بکل وسیلة وطریقة.

محاولات أصحاب السقیفة القضاء علی هذه العقبة

وکما کان أصحاب السقیفة هم أول من فتح باب استغلال القرابة والعشیرة من اجل السیطرة وکسب الشعبیة والتأیید کذلک کانوا أول من حاول سلب هذه الصفة


1- () شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج18 ص416 تحت رقم 185.
2- () المستدرک للحاکم النیسابوری ج3 ص126 فی أنا مدینة العلم وعلی بابها،
3- () شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج15 ص78 فصل فی ذکر بعض مناقب جعفر بن أبی طالب.

ص: 69

عن أقربائه الحقیقیین وأهل بیته الواقعیین، وکانت أول ضربة لهم فی هذا الخصوص هی سلبهم حق ذوی القربی من الخمس، لان الخمس له علاقة وثیقة بذوی قربی النبی صلی الله علیه وآله وسلم فآخذه یذکر الناس علی الدوام بأنه اقرب إلی النبی صلی الله علیه وآله وسلم من غیره، فتفطن القوم إلی ان استمرار اخذ أهل البیت لحق ذوی القربی سیقوض کل محاولة لحشر أنفسهم من ضمن ذوی القربی.

ولیست کذبة ان النبی لا یورث بخارجة عن هذا المخطط لان المیراث شأنه شأن الخمس، ففیه إشارة واضحة علی ان المختص به هو مختص بالقرابة دون غیره فلو ان فاطمة بنت محمد صلوات الله وسلامه علیها وبعلها الإمام أمیر المؤمنین وابنیها الحسنین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین کانوا قد ورثوا النبی صلی الله علیه وآله وسلم دون غیرهم من ذوی قرباه لدل اختصاصهم بالمیراث علی اختصاصهم بقرب النسب، والأقرب نسبا أولی من غیره بالاختصاص، فلکی لا تکتشف الأمة هذا القرب ولکی یبقی الباب مفتوحا أمام الآخرین ولکی لا یبقی الاختصاص بالقربی حکرا علی خمسة أشخاص دون العالمین منعوا آل محمد صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین إرثهم من أبیهم.

وکخطوة أخری متممة لهذا المشروع، لم توکل لأفراد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أی ولایة علی أی منطقة من مناطق المسلمین طوال مدّة حکم أصحاب السقیفة((1)، وتم تجاهل وجودهم، وحصر انتشار کونهم اقرب الناس وأخصهم بالنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فی حدود المدینة لا غیر، حتی ان بنی أمیة ونتیجة هذا الحصار الذی استمر لسنوات طویلة استطاعوا أن یقنعوا أهل الشام بأن لیس للنبی صلی الله علیه وآله وسلم قرابة تختص به غیرهم.


1- () راجع تفصیل الکلام حول عمال أصحاب السقیفة وأسمائهم فی کتاب النزاع والتخاصم للمقریزی ص 84 __ 87 تجده فی الفهرس تحت عنوان لعن بنی مروان وبنی العاص.

ص: 70

استمرار المحاولات علی أیدی الأمویین والعباسیین 

ثم جاءت أمیة لتحکم رقاب الأمة وتمسک بمقدراتها ولتتغیر معرکة القرابة وحرب الاختصاص بالنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم من طور التکتم والسریة إلی مرحلة الجهر والعلن، ولتعلن الحرب ویوضع السیف فوق رقبة کل من یدعی ان الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما ابنا رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ومن صلبه وقد لعب سیف الحجاج لعنه الله دورا هاما فی القضاء علی اکبر عدد ممکن ممن یعتقد بانحصار القرابة للنبی صلی الله علیه وآله وسلم والاختصاص بأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فقتل منهم من قتل، وسجن منهم من سجن، وشرد منهم الآلاف، ودفن منهم المئات وهم أحیاء، حتی کان الناس یتقربون إلی الله یوم العید بذبح الأضاحی وتوزیع لحومها علی فقراء المسلمین، ویتقرب هو بذبح من یقول ان الحسن والحسین ابنا رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم((1).

 وجاء العباسیون وحشدوا کل طاقاتهم وإمکاناتهم المادیة لدعم وتأیید کل ما له علاقة بإخفاء وإزالة رابطة القربی والاختصاص التی لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین مع الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، واستغل بنو العباس مسألة کونهم أولاد عم النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لمحاولة إثبات أن العم وبنی العم اقرب نسبا ورحما للرجل من بنته وأبناء بنته، وان أبناء البنت لیسوا أبناءً للرجل بل هم أبناء آبائهم، وعلیه فأهل النبی صلی الله علیه وآله وسلم بزعمهم هم العباس وأبناء العباس، أما الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما فهما من أولاد الإمام علی صلوات الله وسلامه علیه ولیسا من أبناء رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.

وحث العباسیون الشعراء والأدباء والفقهاء والمفکرین الذین یمکن لضمائرهم


1- () راجع شرح الأخبار للقاضی النعمان المغربی ج 3 ص 92 __ 95.

ص: 71

أن تباع وتشتری علی تأیید هذه النظریة، وترسیخ هذا المبدأ، فانبری بعض أهل الدنیا بالخصوص الشعراء منهم لتلبیة هذا الأمر وإرساء هذا المبدأ، منهم مروان بن أبی حفصة القائل:

أنی یکون ولیس ذاک بکائن             ***         لبنی البنات وراثة الأعمام

ألغی سهامهم الکتاب فما لهم             ***         ان یشرعوا فیه بغیر سهام

ومنهم طاهر بن علی بن سلیمان بن عبد الله بن العباس الذی خاطب الطالبیین بقوله:

لو کان جدکم هناک وجدنا             ***         فتنازعا فیها لوقت خصام

کان التراث لجدنا من دونه                *** فحواه بالقربی وبالإسلام

حق البنات فریضة معروفة ***         والعم أولی من بنی الأعمام

فأعطی کل واحد منهم مئة ألف درهم من بیت المال، وأضافوا لمروان بن أبی حفصة عشرة آلاف فوق تلک المئة؛ لأنه شاعر البلاط العباسی((1).

وعن مروان بن أبی الجنوب أبی السمط قال: (أنشدت أمیر المؤمنین وذکرت الرافضة فیه فعقد لی علی البحرین والیمامة وخلع علیّ أربع خلع فی دار العامة وخلع علیّ المنتصر وأمر لی بثلاثة آلاف دینار فنثرت علی رأسی وأمر ابنه المنتصر وسعدا ان یلقطاها لی ولا أمس منها شیئا فجمعاها فانصرفت بها قال والشعر الذی قال فیه:

ملک الخلیفة جعفر         ***         للدین والدنیا سلامه

لکم تراث محمد            ***         وبعدلکم تنفی الظلامة


1- () راجع تاریخ بغداد للخطیب البغدادی ج13 ص145 ذکر من اسمه مروان (مروان بن سلیمان بن یحیی).

ص: 72

یرجو التراث بنو البنات     ***         وما لهم فیها قلامه

والصهر لیس بوارث         ***         والبنت لا ترث الإمامة

ما للذین تنحلوا               ***         میراثکم إلا الندامة

أخذ الوراثة أهلها             ***         فعلام لومکم علامة

لو کان حقکم لها            ***         قامت علی الناس القیامة

لیس التراث لغیرکم         ***         لا والإله ولا کرامة

أصبحت بین محبکم        ***         والمبغضین لکم علامة

ثم نثر علی رأسی بعد ذلک لشعر قلته فی هذا المعنی عشرة آلاف درهم)((1).

موقف أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من هذا المخطط 

کان المخطط لسلب صفة القرابة والبنوة والاختصاص عن أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین کبیرا ومعقدا ومدعوما من خمس دول عظمی، ثلاثة منها هی دول أصحاب السقیفة، والرابعة دولة بنی أمیة، والخامسة هی الدولة العباسیة، وقد رأینا کیف خصصت هذه الدول لأجل إنجاح هذا المشروع میزانیة مالیة ضخمة من جهة وسیف بتار یحز رقبة کل من لا یقر بمصداقیة هذا المخطط من جهة ثانیة.

وقد عانی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وشیعتهم الکثیر فی سبیل الوقوف بوجه هذا الباطل، وبذلوا فی سبیل إفهام الأمة بقرب منزلتهم ودنو مراتبهم من أبیهم رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم کل غال ونفیس، وما استشهاد السیدة الطاهرة ریحانة النبی فاطمة بنت محمد صلوات الله وسلامه علیها إلا بسبب وقوفها حائلا وسدا أمام سلب قربها واختصاصها وإرثها من أبیها صلی الله علیه وآله وسلم، وما حرب الاستئصال التی شنت علی أهل


1- () تاریخ الطبری ج 7 ص 397 ذکر الخبر عن بعض أمور المتوکل وسیرته.

ص: 73

هذا البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین یوم عاشوراء إلا بسبب ان وجودهم کان مذکرا للأمة علی الدوام بوجود النبی صلی الله علیه وآله وسلم بین ظهرانیهم، فکان علی الطغاة ولکی یقطعوا ذکر النبی الأعظمصلی الله علیه وآله وسلم وسنته وتعالیمه أن یجتثوا أصل أهل بیته ویمحوا عن الأرض ذکرهم، ألا تری منادی القوم فی ذلک الیوم الرهیب یدعوا إلی ذلک بقوله: (لا تدعوا منهم صغیرا ولا کبیرا)((1) وکیف رفعوا شعار (لا تبقوا لأهل هذا البیت باقیة) أرادوا بذلک أن یطفئوا نور الله بأفواههم وأسیافهم وأبی الله سبحانه إلا أن یتم نوره ولو کره الغاصبون.

وقد حشد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فضلاً عن دمائهم الطاهرة آیات القرآن وأحادیث الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم مستغلین کل موقف لنشر کونهم من أولاد النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وانهم أخص الناس به وأقربهم إلیه وحثوا شیعتهم علی استغلال کل فرصة لنشر ذلک، وبثوا صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین آلاف الجمل الدالة علی ذلک فی ضمن محاوراتهم وادعیتهم وزیاراتهم.

وفیما یأتی جملة من الأحادیث الدالة علی ما بیناه:

منها ما عن الشیخ الکلینی رحمه الله عن أبی الجارود، عن أبی جعفر صلوات الله وسلامه علیه قال: (یا أبا الجارود ما یقولون لکم فی الحسن والحسین علیهما السلام؟.

قلت: ینکرون علینا أنهما ابنا رسول الله صلی الله علیه وآله.

 قال: فأی شیء احتججتم علیهم؟.

قلت: احتججنا علیهم بقول الله عز وجل فی عیسی ابن مریم علیهما السلام:


1- () مقتل الحسین للعلامة السید عبد الرزاق الموسوی المقرم ص316، منشورات مؤسسة النور للمطبوعات، بیروت __ لبنان.

ص: 74

((وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَیَعْقُوبَ کُلًّا هَدَیْنَا وَنُوحًا هَدَیْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّیَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَیْمَانَ وَأَیُّوبَ وَیُوسُفَ وَمُوسَی وَهَارُونَ وَکَذَلِکَ نَجْزِی الْمُحْسِنِینَ * وَزَکَرِیَّا وَیَحْیَی وَعِیسَی وَإِلْیَاسَ کُلٌّ مِنَ الصَّالِحِینَ))((1)، فجعل عیسی بن مریم من ذریة نوح علیه السلام.

قال: فأی شیء قالوا لکم؟

قلت: قالوا: قد یکون ولد الابنة من الولد ولا یکون من الصلب.

قال: فأی شیء احتججتم علیهم؟

قلت: احتججنا علیهم بقول الله تعالی لرسوله صلی الله علیه وآله: ((فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَکُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَکُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَکُمْ))((2).

قال: فأی شیء قالوا؟

قلت: قالوا: قد یکون فی کلام العرب أبناء رجل وآخر یقول: أبناؤنا.

قال: فقال أبو جعفر «علیه السلام»: یا أبا الجارود لأعطینّکها من کتاب الله جل وتعالی أنهما من صلب رسول الله صلی الله علیه وآله لا یردها إلا الکافر.

قلت: وأین ذلک جعلت فداک؟.

قال: من حیث قال الله تعالی: ((حُرِّمَتْ عَلَیْکُمْ أُمَّهَاتُکُمْ وَبَنَاتُکُمْ وَأَخَوَاتُکُمْ))((3)، الآیة إلی أن انتهی إلی قوله تبارک تعالی: ((وَحَلَائِلُ أَبْنَائِکُمُ الَّذِینَ مِنْ أَصْلَابِکُمْ))، فسلهم یا أبا الجارود هل کان یحل لرسول الله صلی الله علیه وآله نکاح حلیلتیهما؟ فإن قالوا: نعم کذبوا وفجروا وإن قالوا: لا فهما ابناه


1- () سورة الأنعام الآیة 84 __ 85.
2- () سورة آل عمران الآیة 61.
3- () سورة النساء الآیة 23.

ص: 75

لصلبه)((1).

وعن عابد الأحمسی قال: (دخلت علی أبی عبد الله وأنا أرید أن أسأله عن صلاة اللیل فقلت: السلام علیک یا بن رسول الله فقال: وعلیک السلام إی والله إنا لولده، وما نحن بذوی قرابته، ثلاث مرات قالها)((2).

وفی حدیث عن الإمام الکاظم صلوات الله وسلامه علیه مع الرشید، قال له: (لم لا تنهون شیعتکم عن قولهم لکم یا بن رسول الله وأنتم ولد علی، وفاطمة إنما هی وعاء، والولد ینسب إلی الأب لا الأم، فقلت: إن رأی أمیر المؤمنین أن یعفینی عن هذه المسألة فعل، فقال: لست أفعل أو تجیب.

 فقلت: فأنا فی أمانک أن لا یصیبنی من آفة السلطان شیء؟

 فقال: لک الأمان.

فقلت: أعوذ بالله من الشیطان الرجیم بسم الله الرحمن الرحیم ووهبنا له إسحاق إلی أن قال وعیسی، فمن أبو عیسی(3)؟

فقال: لیس له أب إنما خلق من کلام الله عز وجل وروح القدس.

فقلت: إنما ألحق عیسی بذراری الأنبیاء من قبل مریم، وألحقنا بذراری الأنبیاء من قبل فاطمة لا من قبل علی علیه السلام...)((4)


1- () الکافی للشیخ الکلینی ج 8 ص 317 __ 318.
2- () المصدر السابق ج3 ص487 باب النوادر الحدیث رقم 3.
3- الآیة بتمامها کالتالی: ((وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَیَعْقُوبَ کُلًّا هَدَیْنَا وَنُوحًا هَدَیْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّیَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَیْمَانَ وَأَیُّوبَ وَیُوسُفَ وَمُوسَی وَهَارُونَ وَکَذَلِکَ نَجْزِی الْمُحْسِنِینَ (84) وَزَکَرِیَّا وَیَحْیَی وَعِیسَی وَإِلْیَاسَ کُلٌّ مِنَ الصَّالِحِینَ)) سورة الأنعام الآیة رقم 84 __ 85.
4- () کتاب الاختصاص للشیخ المفید ص56 حدیث موسی بن جعفر علیهما السلام مع هارون الرشید.

ص: 76

المبحث الثالث: سر السلام علی الحسین بابن رسول الله
اشارة

الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه وبوصفه أحد المعصومین لا یتکلم إلا بما یکون موزونا بدقة ومصاغا لأجل غایات وأهداف قد تکون ظاهرة معروفة وقد تکون خفیة تظهر للعالم فی وقتها المناسب، وسلام الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه علی جده الحسین صلوات الله وسلامه علیه بقوله: (السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ) فیه لمن تأمل أسرار وأهداف ومدالیل مهمة نستطیع أن نکتشف بعضها فیما یأتی ونوکل علم البقیة إلی نفس الإمام صلوات الله وسلامه علیه:

المدلول الأول: تبیان أسباب قتل الأمة للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه 

 احتوت زیارة عاشوراء علی تبیان واضح وشافٍ لکل الأسباب أو لأهم الأسباب التی أدت إلی حدوث فاجعة عاشوراء، فبینت الزیارة المؤسسین والأشیاع والأتباع والغایات والعائلات التی اشترکت کآل أمیة وبنی مروان وغیرهم، وذکرت بعض الأشخاص الذین کانت لهم ادوار مهمة قبل تلک الفاجعة وبعدها کعمر بن سعد وابن مرجانة والشمر بن ذی الجوشن لعنهم الله جمیعا، وأوضحت هذه الزیارة الشریفة بعض الحالات النفسیة لهؤلاء المتسببین لهذه الوقعة العظیمة، فذکرت علی سبیل المثال فرح آل مروان بقتلهم الحسین صلوات الله وسلامه علیه وغیر ذلک، وبالجملة فلم تغفل هذه الزیارة عن تبیان وإیضاح کل صغیرة وکبیرة کان لها دور فاعل فی إیجاد وإحداث مجزرة عاشوراء الرهیبة.

وقد ذکرنا فیما سبق ان واحدة من أهم الأسباب التی أدت إلی استشهاد الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وإبادة أهل بیته هی کونه ابن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، ولو انه صلوات الله وسلامه علیه کان ابنا لأبی بکر أو عمر بن الخطاب أو حتی لأبی سفیان لما تجرأ علیه

ص: 77

ولا علی أهل بیته احد من أولئک الطغاة العتاة، ولرأینا کیف یرفعه التاریخ الإسلامی علما ویصیره أسطورة من أساطیر العلم والعمل والشجاعة، ولما تجرأ علیه التاریخ باتهامه تارة بأنه قتل بسیف جده، وأخری انه خرج علی إمام زمانه ونکث البیعة وفرق صف المسلمین، وثالثة بأن بیعة یزید شرعیة وخروج الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه قد سبب للأمة شرخا وصدعا حاشاه من جمیع هذه الافتراءات الکاذبة.

وعلیه فیکون سلام الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه علی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بقوله: (السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ) داخلاً فی ضمن تبیان الأسباب والمسببات التی أدت إلی مقتل واستشهاد الإمام وأهل بیته وأصحابه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

المدلول الثانی: تبیان موجبات زیارة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه

کلما کان الولی أعظم قدرا وأکمل مقاما وارفع منزلة یکون الداعی إلی زیارته وصلته أشد وأوکد، ولا یوجد أفضل من أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین الذین منَّ الله سبحانه علی البشریة جمعاء بهم وبجدهم صلی الله علیه وآله وسلم، فبهم أخرج الله سبحانه العباد من الضلالة إلی الهدی، وبهم فتح الله سبحانه علی العالم کل أبواب الخیر، وبهم عرف الله سبحانه وعبد حق عبادته، وبهم علمنا الله معالم دیننا، وأصلح ما فسد من دنیانا، وبهم ینزل کل خیر ویدفع کل شر، فبسبب کل هذه الکمالات وبسبب أیادیهم العطوفة علی البشریة صار الداعی إلی زیارتهم ووصلهم والحضور إلی قبورهم أوجب وأشد وأوکد من کل صلة أخری.

وواحدة من أهم الأمور التی توجب((1)علی المؤمنین صلة أبی عبد الله الحسین


1- () روی صاحب کتاب کامل الزیارات محمد بن قولویه ص246 عن أبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه انه قیل له: (جعلت فداک ما تقول فیمن ترک زیارته وهو یقدر علی ذلک؟ قال: أقول انه قد عق رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وعقنا واستخف بأمر هو له...)، وفی ص238 عن أم سعید الاحمسیة عن أبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه قالت: (قال لی یا أم سعید تزورین قبر الحسین؟ قالت: قلت نعم، فقال لی: زوریه فان زیارة قبر الحسین واجبة علی الرجال والنساء) ومن هذه الروایات وغیرها استظهر العلامة المجلسی وجوب زیارة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه حیث قال: (ولا یبعد القول بوجوبها فی العمر مرة مع القدرة، وإلیه یمیل الوالد العلامة) راجع بحار الأنوار ج98 ص10 فیمن ترک زیارة الحسین علیه السلام.

ص: 78

صلوات الله وسلامه علیه وزیارة قبره والحضور فی مشهده هی کونه ابن الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فصلة النبی صلوات الله وسلامه علیه توجب صلة أبنائه، وفضل النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم علی أمته یوجب لزوم تفقد مجالسهم والأخذ والتزود منهم حال حیاتهم وزیارة قبورهم حال استشهادهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

لذلک وردت روایات کثیرة تحث الزائر علی زیارة قبر الحسین صلوات الله وسلامه علیه حبا برسول الله صلوات الله وسلامه علیه وصرحت جمیعها ان لهذه الزیارة الأجر الجزیل والثواب الکبیر منها:

ما عن أبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه قال: (إذا کان یوم القیامة نادی مناد: أین زوار الحسین بن علی، فیقوم عنق من الناس لا یحصیهم إلا الله تعالی، فیقول لهم: ما أردتم بزیارة قبر الحسین علیه السلام، فیقولون: یا رب أتیناه حبا لرسول الله وحبا لعلی وفاطمة ورحمة له مما ارتکب منه، فیقال لهم: هذا محمد وعلی وفاطمة والحسن والحسین فالحقوا بهم، فأنتم معهم فی درجتهم الحقوا بلواء رسول الله فینطلقون إلی لواء رسول الله، فیکونون فی ظله واللواء فی ید علی علیه السلام حتی یدخلون الجنة جمیعا، فیکونون أمام اللواء، وعن یمینه وعن یساره ومن خلفه)((1).

 وعن أبی بصیر، قال سمعت أبا عبد الله أو أبا جعفر صلوات الله وسلامه علیهما یقول: (من أحب أن یکون مسکنه الجنة ومأواه الجنة فلا یدع زیارة المظلوم، قلت: ومن هو،


1- () کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص 268 __ 269.

ص: 79

قال: الحسین بن علی صاحب کربلاء من أتاه شوقا إلیه وحبا لرسول الله وحبا لأمیر المؤمنین وحبا لفاطمة، أقعده الله علی موائد الجنة، یأکل معهم والناس فی الحساب)((1).

المدلول الثالث: تبیان الفارق ما بین القاتل والمقتول

استعرضت زیارة عاشوراء صنفین ونوعین من الشخصیات ضمن فقراتها الشریفة، الصنف الأول هم: من وقع الظلم والحیف والقتل والجور علیهم، فذکرت ضمن هذا الصنف کلاً من أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، والإمام أبی عبد الله الحسین صلوات الله وسلامه علیه وأولاد الإمام الحسین وأصحابه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

والصنف الثانی هم: من تسبب بإیقاع الظلم والحیف والقتل والجور علی الصنف الأول، فذکرت عدة مصادیق لهذا الصنف بعضهم ذکرته بالفعل والبعض الآخر ذکرته بالاسم، فذکرت المؤسسین للظلم والجور علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وذکرت آل أبی سفیان وآل مروان وابن مرجانة وعمر بن سعد وشمرا وغیرهم من الملعونین.

واستعراض هذین الصنفین فی فقرات الزیارة واحدة من أهم فوائده وغایاته وأهدافه هو: بیان الفارق النسبی والأخلاقی والعلمی والإیمانی وغیر ذلک من الفوارق التی تمیز کلاً من القاتل والمقتول والظالم والمظلوم والجائر والمجور علیه.

فحینما تذکر الزیارة الشریفة ان الحسین الشهید هو ابن رسول الله وابن أمیر المؤمنین وابن فاطمة سیدة نساء العالمین، ثم تذکر بعد ذلک ان ظالمه وقاتله ابن مرجانة وأمثاله ممن عرفوا تاریخیا بوضاعة النسب وخمول الحسب وفقد الإیمان، فحینئذ یدرک المؤمن فداحة یوم عاشوراء وعظم الجریمة التی ارتکبت فیه، ویستبین 


1- () المصدر السابق.

ص: 80

معالم الفاجعة حینما یقارن بین أولئک القتلة المطعون فی أحسابهم وأنسابهم وإیمانهم وبین أولئک الشهداء المقتولین المظلومین الذین هم غایة فی الکمال والطهر والإیمان.

المدلول الرابع: الوقوف بوجه مخطط أصحاب السقیفة وأشیاعهم 

تعرفنا فی المبحث الثانی المنصرم کیف أراد أعداء أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین القضاء علی قربهم واختصاصهم وانتسابهم للنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وکیف بدأ هذا المخطط بالدعوة إلی إخراج أهل البیت عن کونهم أبناء الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وکیف انتهی بالدعوة والتحریض یوم عاشوراء علی استئصالهم وان لا یبقی لهم باقیة.

وتعرفنا أیضا علی الجهد العظیم الذی قام به أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین للحفاظ علی صدق انتسابهم وحقیقة اختصاصهم بجدهم المصطفی صلی الله علیه وآله وسلم دون العالمین، فاستخدموا لأجل ذلک کل وسیلة، واتبعوا کل طریقة ممکنة، وواحدة من هذه الوسائل والطرق هی زجها فی متون ادعیتهم وزیاراتهم، وأمر الشیعة بتردیدها وتکرار قراءتها، ما یؤدی هذا التکرار إلی ترسیخ هذا الأمر فی نفس الزائر وعقله رسوخا لا یقبل الشک أو الانفکاک.

وعلیه فیصبح قول الزائر لقبر أبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه ومخاطبته إیاه بقوله (السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ) مشارکة فی نصرة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی حربهم مع أعدائهم، وفیه إثبات وإقرار حق من حقوقهم المسلوبة، وفیه نکران للمنکر الذی أراد أصحاب السقیفة وأتباعهم تأسیسه وترسیخ قواعده، والزائر مأجور علی هذه المناصرة والشهادة والرفض للظلم ویکتب له اجر الواقف بوجه ذلک الباطل وان لم یکن ملتفتا فی اغلب الأحیان إلی أهمیة فعله أو الهدف من السلام علی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه والشهادة له بأنه ابن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.

ص: 81

السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ابْنَ أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ، وَابْنَ سَیِّدِ الْوَصِیِّینَ

اشارة

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة

المبحث الثانی: تبیان السبب الثانی من أسباب واقعة عاشوراء

                     اختصاص لقب أمیر المؤمنین بالإمام علی بن أبی طالب

                     ابتزاز هذا اللقب من الإمام علی بن أبی طالب

                     کیف اثر لقب أمیر المؤمنین فی استشهاد الحسین

المبحث الثالث: تبیان السبب الثالث من أسباب فاجعة عاشوراء

                     ابتزاز لقب الوصی من الإمام أمیر المؤمنین

                     أدلة أفضلیة أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه علی بقیة الأوصیاء

                     الدلیل الأول

                     الدلیل الثانی

                     الدلیل الثالث

المبحث الرابع: من هم الأوصیاء المقصودون فی هذه العبارة

                     ملاحظة لابد منها

ص: 82 

ص: 83

السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ابْنَ أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ وَابْنَ سَیِّدِ الْوَصِیِّینَ وهذه الفقرة الشریفة من الزیارة کغیرها من الفقرات فیها مباحث مهمة وإشارات جلیلة القدر نستعرض بعضها فیما یأتی:

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة

من یرجع إلی کتب الأدعیة والزیارات یجد أنّ السلام علی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه والشهادة له بأنه ابن أمیر المؤمنین أو انه صلوات الله وسلامه علیه ابن سید الوصیین مما قد اشتهر ووصلت شهرته إلی حد یستغنی عن الإطالة فی الخوض بتفاصیله وذکر جمیع شواهده، ونحن هنا نذکر من باب التزامنا بالمنهج الذی وضعناه للبحث بعض تلک النصوص التی منها:

الصلاة التی ذکرها الشیخ الطوسی قدس الله روحه علی الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما: (اللهم صل علی الحسین بن علی المظلوم الشهید قتیل الکفرة وطریح الفجرة السلام علیک یا أبا عبد الله السلام علیک یا بن رسول الله السلام علیک یا بن

ص: 84

أمیر المؤمنین، أشهد موقنا أنک أمین الله وابن أمینه قتلت مظلوما ومضیت شهیدا)((1).

ومنها الزیارة المختصرة التی ذکرها الشیخ المفید رحمه الله قال: (باب مختصر زیارته علیه السلام إذا أتیت مشهده علیه السلام فاغتسل قبل أن تدخله، والبس أطهر ثیابک وقف علی القبر، واستقبله بوجهک، واجعل القبلة بین کتفیک، وقل: السلام علیک یا بن رسول الله، السلام علیک یا بن أمیر المؤمنین، السلام علیک یا بن الصدیقة الطاهرة، سیدة نساء العالمین...)(2).

ومنها ما ذکره ابن قولویه فی کامل الزیارات بقوله: (حدثنی أبی، عن سعد بن عبد الله وعبد الله بن جعفر الحمیری، عن أحمد بن الحسن بن علی بن فضال، عن عمرو بن سعید المدائنی، عن مصدق بن صدقة، عن عمار بن موسی الساباطی، عن أبی عبد الله علیه السلام، قال: تقول إذا أتیت إلی قبره:السلام علیک یا ابن رسول الله، السلام علیک یا ابن أمیر المؤمنین، السلام علیک یا أبا عبد الله، السلام علیک یا سید شباب أهل الجنة ورحمة الله وبرکاته، السلام علیک یا من رضاه من رضی الرحمان وسخطه من سخط الرحمان)((3).

ومنها ما ذکره ابن طاوس رحمه الله فی إقبال الأعمال من زیارة الأربعین: (تزور عند ارتفاع النهار فتقول: السلام علی ولی الله وحبیبه، السلام علی خلیل الله ونجیبه... یا سیدی، استشفع إلی الله بجدک سید النبیین، وبأبیک سید الوصیین، وبأمک سیدة نساء العالمین، السلام علیک یا بن رسول الله، السلام علیک یا بن أمیر المؤمنین سید الأوصیاء...)((4)


1- () مصباح المتهجد للشیخ الطوسی ص 401 __ 402.
2- المقنعة للشیخ المفید ص 469
3- () کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص 382 __ 383.
4- () إقبال الأعمال للسید ابن طاوس ج 3 ص 101 __ 102.

ص: 85

ومنها الزیارة التی یزار بها الإمام الحسین فی أول شهر رجب والتی نقلها السید ابن طاوس قدس الله روحه بقوله: (إن هذه الزیارة مما یزار بها الحسین علیه السلام أول رجب أیضا... ثم ادخل وقف عند ضریحه وکبر الله تعالی مائة مرة وقل: السلام علیک یا بن رسول الله، السلام علیک یا بن خاتم النبیین، السلام علیک یا بن سید المرسلین، السلام علیک یا بن سید الوصیین)((1).

واستقصاء هذه الفقرة من الزیارة فی کل کتب الأدعیة والزیارات یخرج بنا عن حد الاختصار والاعتدال، وشهرتها تغنی عن الإسناد.

المبحث الثانی: تبیان السبب الثانی من أسباب واقعة عاشوراء 
اشارة

ان تکرار السلام علی أبی عبد الله الحسین صلوات الله وسلامه علیه وقرنه تارة بابن رسول الله وتارة بابن أمیر المؤمنین وغیر ذلک من العبارات الشریفة هو فی الحقیقة لیس مجرد تردید ساذج لعبارة السلام وتکثیرها وحشوها داخل فقرات الزیارة(2)، بل ان السلام وتکراره __ کما رأینا فی شرح الفقرة السابقة __ هو سلام هادف وتکرار هادف، ویحمل بین طیاته معانی سامیة وإشارات جلیلة تکشف لنا وبوضوح عن الأسباب والحیثیات التی من اجلها حدثت فاجعة عاشوراء، والتی بسببها انتهکت حرمة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وحرمة أهل بیته وأصحابه الکرام صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وأریقت دماؤهم الطاهرة.

وقرن السلام فی هذه الفقرة بعبارة یا ابن أمیر المؤمنین، لیس بخارج عن هذه


1- () المصدر السابق ج 3 ص 341 ، وراجع أیضا کتاب المزار للشهید الأول ص 142 __ 143.
2- کما اعتقده بعض الجهال ممن حاول إسقاط زیارة عاشوراء عن الاعتبار لمجرد کثرة تردید السلام فیها، لانه یعتقد ان سلاما واحدا یکفی ویغنی عن کل تلک الأنواع من السلام، وهو اعتقاد ساذج وسطحی کما سنعرف.

ص: 86

القاعدة، والإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه یهدف من وراء ذلک إلی ذکر سبب آخر من أسباب حدوث فاجعة عاشوراء، والذی یتلخص فی کون الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ابن أمیر المؤمنین.

اختصاص لقب أمیر المؤمنین بالإمام علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه

ولقب أمیر المؤمنین أطلق أول ما أطلق علی الإمام علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه ولنا علی هذه الحقیقة نصوص تاریخیة عدة منها:

ما عن أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه وقد سأله رجل عن القائم یسلم علیه بإمرة المؤمنین؟ فقال صلوات الله وسلامه علیه: (لا، ذاک اسم سمی الله به أمیر المؤمنین علیه السلام، لم یسم به أحد قبله ولا یتسمی به بعده إلا کافر، قلت جعلت فداک کیف یسلم علیه؟ قال: یقولون:السلام علیک یا بقیة الله، ثم قرأ ((بَقِیَّتُ اللَّهِ خَیْرٌ لَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ))(1))(2).

وقال المولی محمد المازندرانی فی شرح هذا الحدیث: (لم ینقل أن أحدا سمی بأمیر المؤمنین قبله، وأما بعده فقد سمی به بعض جبابرة هذه الأمة، ولعل المراد بالکافر هنا ضد المؤمن، وهو من لم یؤمن بالله وبرسوله، فضلا عما جاء به الرسول، إن اعتقد جواز ذلک شرعا أو مطلقا، کمن سمی نفسه باسم الله أو نبی الله أو رسول الله، ویحتمل أن یراد بالکفر کفر النعمة، بتغییرها ووضعها فی غیر موضعها، أو تغطیة الحق، وأصل الکفر هو التغطیة، والمتصف بهما یسمی کافرا وإن لم یکن خارجا عن الإیمان، والله أعلم)(3)


1- سورة هود الآیة 86.
2- الکافی للشیخ الکلینی ج 1 ص 411 __ 412 باب نادر.
3- شرح أصول الکافی للمولی محمد صالح المازندرانی ج 7 ص 48 __ 51.

ص: 87

عن أحمد بن عمر قال: (سألت أبا الحسن علیه السلام لم سمی أمیر المؤمنین علیه السلام؟

قال: لأنه یمیرهم العلم، أما سمعت فی کتاب الله ((وَنَمِیرُ أَهْلَنَا))(1). وفی روایة أخری قال: (لأن میرة المؤمنین من عنده، یمیرهم العلم)(2).

وعن فضیل بن یسار عن أبی جعفر علیه السلام قال: (... یا فضیل لم یسم بها والله بعد علی أمیر المؤمنین إلا مفتر کذاب إلی یوم الناس هذا)(3).

أما من مصادر العامة فقد نقل ابن عساکر عن القاسم بن جنیدب عن أنس بن مالک قال: (قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أسکب إلی ماء أو وضوءا فتوضأ ثم قام فصلی رکعتین ثم قال یا أنس أول من یدخل من هذا الباب أمیر المؤمنین وقائد الغر المحجلین سید المؤمنین علی)(4).

وفی قوله صلی الله علیه وآله وسلم: (علی یعسوب الدین والمال یعسوب المنافقین)(5) إشارة إلی نفس المعانی المتقدمة.

وقال المناوی فی شرح هذا الحدیث: («علی یعسوب المؤمنین» أی سیدهم «والمال یعسوب المنافقین» قال فی المحکم: الیعسوب أمیر النحل ثم کثر حتی سموا کل رئیس یعسوبا، وقال ثعلب: الیعسوب ذکر النحل الذی یتقدمها ویحامی عنها)(6)


1- سورة یوسف الآیة 65.
2- الکافی للشیخ الکلینی ج 1 ص 412 باب نادر.
3- الیقین للسید ابن طاوس ص303.
4- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 42 ص 303.
5- الجامع الصغیر لجلال الدین السیوطی ج2 ص178 حرف العین،
6- فیض القدیر شرح الجامع الصغیر للمناوی ج 4 ص 472.

ص: 88

ابتزاز هذا اللقب من الإمام علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه

لقب أمیر المؤمنین شأنه شأن غیره من حقوق أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وألقابهم وفضائلهم التی اختصوا بها عن العالمین والتی ابتزت منهم واغتصبت، وأسباب هذا الابتزاز واضحة للمؤمن الفطن، إذ إن هذا اللقب کان یذکر الأمة الإسلامیة بأن علیا صلوات الله وسلامه علیه هو الأولی من غیره باعتلاء منصب الإمامة والخلافة بعد النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، لأنه أمیرهم وسیدهم ویعسوبهم، ومن غیر اللائق لأحد من المسلمین أن یتقدم علی أمیره، أو یتأمر علی سیده، ومن یفعل ذلک فانه ظالم متعدّ لحدود الله.

 فتنبه القوم إلی أن بقاء هذا اللقب وانحصاره بأمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه یعد تهدیدا دائما ومستمرا یدین صحة اعتلائهم لمنصب قیادة المسلمین، ویفضح تقدمهم لأمیرهم وسیدهم ویعسوبهم. فکان علیهم والحال هذه، وفیما لو أرادوا أن یحافظوا علی تلک المناصب المغتصبة أن یعمدوا إلی أمرین:

الأول: توسیع إطلاق هذا اللقب لیشمل أفرادا غیر الإمام علی بن أبی طالب أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه.

الثانی: القضاء علی ما کان مشاعا من اختصاص الإمام علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه بلقب أمیر المؤمنین، وإبداله بشیاع جدید یخرج هذا اللقب من حیز الاختصاص إلی العموم.

وأول من وسع إطلاق لقب أمیر المؤمنین بحسب الوثائق التاریخیة هو عمر بن الخطاب فی أیام حکومته، قال الطبری: (قال أبو جعفر: أول من دعی أمیر المؤمنین عمر بن الخطاب ثم جرت بذلک السنة واستعمله الخلفاء إلی الیوم)(1)


1- تاریخ الطبری ج 3 ص 277.

ص: 89

وقال الطبری أیضا: (حدثنی أحمد بن عبد الصمد الأنصاری قال حدثتنی أم عمرو بنت حسان الکوفیة عن أبیها قال لما ولی عمر قیل یا خلیفة خلیفة رسول الله فقال عمر هذا أمر یطول کلما جاء خلیفة قالوا یا خلیفة خلیفة خلیفة رسول الله بل أنتم المؤمنون وأنا أمیرکم فسمی أمیر المؤمنین)(1).

وقیل إن مسیلمة الکذاب قد تلقب بلقب أمیر المؤمنین قبل عمر بن الخطاب کما نقله ابن حجر فی کتابه فتح الباری حیث قال: (وجدت فی کلام أبی الخطاب بن دحیة الإنکار علی من أطلق أن عمر أول من لقب أمیر المؤمنین وقال قد تسمی به مسیلمة قبله کما أخرجه البخاری فی قصة وحشی)(2).

واستمر هذا التوسیع للقب أمیر المؤمنین لیشمل کل من یتولی الحکم علی المسلمین برّاً کان أو فاجراً قال النووی: (یجوز أن یقال للإمام الخلیفة والإمام وأمیر المؤمنین، قال الماوردی: ویقال أیضا: خلیفة رسول الله، قال البغوی فی شرح السنة: ویقال له أمیر المؤمنین وإن کان فاسقا، وقد أوضحت ذلک وما یتعلق به فی أواخر کتاب الأذکار)(3).

وقال البهوتی فی کشف القناع: (قال أحمد فی روایة عبدوس بن مالک العطار: ومن غلب علیهم بالسیف حتی صار خلیفة وسمی أمیر المؤمنین فلا یحل لأحد یؤمن بالله یبیت ولا یراه إماما برا کان أو فاجرا)(4).

بل نجد ان لقب أمیر المؤمنین وسع لیدخل فیه غیر الحکام وأصحاب السلطة


1- المصدر السابق.
2- فتح الباری لابن حجر ج 7 ص 285.
3- روضة الطالبین لمحیی الدین النووی ج7 ص270 الفصل الثالث فی أحکام الإمام.
4- کشاف القناع للبهوتی ج 6 ص 202.

ص: 90

أمثال بعض المحدثین الذین أطلق علیهم لقب (أمیر المؤمنین فی الحدیث) منهم مالک بن أنس فقیه وإمام المذهب المالکی الذی یقول عنه (یحیی بن سعد القطان ویحیی بن معین: مالک أمیر المؤمنین فی الحدیث)(1).

ومنهم محمد بن إسحاق الذی وصفه شعبة بقوله: (محمد بن إسحاق أمیر المحدثین هو أمیر المؤمنین فی الحدیث)(2)، ومنهم الثوری ذکر النووی فی شرح صحیح مسلم: (وکان الثوری یسمی أبا الزناد أمیر المؤمنین فی الحدیث)(3).

فأصبح لقب أمیر المؤمنین کما تری شرعة لکل وارد، وخرج من حالة الاختصاص بأمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه إلی العموم لیشمل البر والفاجر، بل صار إطلاقه ولشدید الأسف علی الطغاة والجبابرة والمسرفین هو الأکثر شیوعا عند الاستعمال.

أما کیف أمکن القضاء علی ما کان مشاعا من اختصاص أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه بهذا اللقب، وإبداله بشیاع آخر فهذا ما سنتناول أسبابه وباختصار فیما یأتی:

السبب الأول: اختراع روایات تقابل وتعاکس تلک التی خصت علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه بلقب أمیر المؤمنین، ونحن هنا نشیر إلی روایتین فقط رغبة فی الاختصار. 


1- المدونة الکبری للإمام مالک ج6 ص465 فی ترجمة الإمام أبی عبد الله مالک بن أنس، وراجع أیضا تنویر الحوالک لجلال الدین السیوطی ص3 فی کتاب وقت الصلاة.
2- المحلی لابن حزم ج3 ص241 فی المسألة 360 لا یجوز للمأموم أن یقرأ خلف الإمام شیئا غیر أم القرآن.
3- شرح مسلم للنووی ج1 ص87 باب بیان ان الإسناد من الدین.

ص: 91

 الأولی عن النعمان بن بشیر بن سعد قال: (توفی رجل منا یقال له خارجة بن زید فسجینا علیه ثوبا وقمت أصلی قال سمعت ضوضأة قال فانصرفت فإذا به یتحرک فظننت أن حیة دخلت بینه وبین الثوب.

 فلما وقفت علیه قال: أجلد القوم أوسطهم عبد الله عمر أمیر المؤمنین الذی لا تأخذه فی الله لومة لائم وهو فی الکتاب الأول صدق صدق القوی فی جسمه القوی فی أمر الله الذی لا تأخذه فی الله لومة لائم، کان فی الکتاب الأول.

 صدق صدق صدق عبد الله أبو بکر أمیر المؤمنین الضعیف فی جسمه القوی فی أمر الله هو فی الکتاب الأول.

 صدق صدق صدق عبد الله عثمان أمیر المؤمنین العفیف المتعفف الذی یعفو عن ذنوب کثیرة خلت لیلتان وبقیت أربع اختلف الناس فلا نظام لهم أبیحت الأحماء.

 أیها الناس أقبلوا علی إمامکم اسمعوا له وأطیعوا فمن تولی فلا یعهدن دما کان أمر الله قدرا مقدورا هذا رسول الله سلام علیک یا رسول الله هذا عبد الله بن رواحة، ما فعل خارجة بن زید، ثم رفع صوته یقول "کلا إنها لظی نزاعة للشوی تدعو من أدبر وتولی" أخذت بئر أریس ظلما ثم خفت الصوت فرفعت الثوب فإذا هو علی حاله میت)(1).

وعدم ذکر اسم الإمام علی بن أبی طالب أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه فی الروایة دلیل قاطع علی ان ذکر تلک الأسماء فی الروایة وإطلاق لقب أمیر المؤمنین علیهم مقصود منه التغطیة علی اسم الشخص الحقیقی الذی اختص بهذا اللقب دون جمیع العالمین. 


1- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 39 ص 221 __ 222.

ص: 92

والروایة الثانیة هی التی نقلها البکری الدمیاطی علی شکل زیارة یزار بها عمر ابن الخطاب مصاغة بنفس الطریقة التی یزار بها أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین والتی جاء فیها: (...ثم یتأخر قدر ذراع آخر، فیسلم علی سیدنا عمر رضی الله عنه، ویقول: السلام علیک یا أمیر المؤمنین، یا سیدنا عمر بن الخطاب، یا ناطقا بالحق والصواب. السلام علیک یا حلیف المحراب، السلام علیک یا من بدین الله أمر، یا من قال فی حقک سید البشر صلی الله علیه وآله وسلم: لو کان بعدی نبی لکان عمر. السلام علیک یا شدید المحاماة فی دین الله والغیرة، یا من قال فی حقک هذا النبی الکریم صلی الله علیه وآله وسلم: ما سلک عمر فجا إلا سلک الشیطان فجا غیره أستودعک...)(1).

السبب الثانی: ترویج لقب أمیر المؤمنین وإدخاله بعد الأذان لیسمعه المسلمون صغیرهم وکبیرهم خمس مرات فی الیوم، ولسنین طویلة، حتی یشیب فیها الصغیر ویهرم فیها الکبیر، وحتی نشأ بمرور تلک السنین جیل اعتاد علی سماع إطلاق لقب أمیر المؤمنین علی غیر علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، بل أکثر من ذلک فإن هذا الجیل الجدید والأجیال التی ستلیه اعتادوا علی عدم دخول الإمام علی صلوات الله وسلامه علیه عند إطلاق هذا اللقب فیه، ولنا علی هذه الطریقة الخبیثة عدة شواهد تاریخیة نختار منها:

قال جلال الدین السیوطی: (قال الواقدی وغیره...فلما ولی أبو بکر کان سعد القرظ یقف علی بابه فیقول السلام علیک یا خلیفة رسول الله الصلاة یا خلیفة رسول الله(2).


1- إعانة الطالبین للبکری الدمیاطی ج 2 ص 357.
2- التأکید والترکیز علی کون أبی بکر خلیفة رسول الله یدخل فی نفس المخطط الذی نحن بصدد الکلام عنه، باعتبار ان المسلمین الأوائل کانوا یعلمون ان النبی صلی الله علیه وآله وسلم لم یستخلف أبا بکر من بعده، بل ان أبا بکر نفسه یعترف بذلک حینما جاءه أعرابی فقال له: أنت خلیفة رسول اللّه؟ فقال: لا، فقال: ما أنت؟ قال: أنا الخالفة من بعده، أخرجه المتقی الهندی فی کنز العمال ج12 ص531 فی وفاة أبی بکر، وقال جار الله الزمخشری فی کتابه الفائق فی غریب الحدیث ج1 ص 339 بعد إیراده لهذه الروایة: (الخالف والخالفة الذی لا غناء عنده ولا خیر فیه...) وقال ابن الأثیر فی کتابه النهایة فی غریب الحدیث ج2 ص69 باب الخاء مع اللام بعد إیراده لهذا الخبر: (فأما الخالفة فهو الذی لا غناء عنده ولا خیر فیه، وکذلک الخالف، وقیل هو الکثیر الخلاف).

ص: 93

 فلما ولی عمر ولقب أمیر المؤمنین کان المؤذن یقف علی بابه ویقول السلام علیک یا أمیر المؤمنین ثم إن عمر أمر المؤذن فزاد فیها رحمک الله.

 ویقال إن عثمان زادها، وما زال المؤذنون إذا أذنوا سلموا علی الخلفاء وأمراء الأعمال ثم یقیمون الصلاة بعد السلام فیخرج الخلیفة أو الأمیر فیصلی بالناس. هکذا کان العمل مدة أیام بنی أمیة ثم مدة أیام بنی العباس حتی ترک الخلفاء الصلاة بالناس فترک ذلک)(1).

السبب الثالث: ترویج بعض ضعفاء النفوس من الصحابة والتابعین لهذا اللقب لأسباب منفعیة أو عقد نفسیة.

وعلی سبیل المثال نأخذ کلاً من ابن عمر وزید بن ثابت کمثالین کان لهما التأثیر البالغ فی نشر هذا اللقب وإطلاقه علی غیر مستحقیه، فقد أخرج البخاری فی صحیحه روایة توضح إقرار ابن عمر لعبد الملک بن مروان بإمارة المؤمنین قال: (حدثنا عمرو بن علی حدثنا یحیی عن سفیان قال حدثنی عبد الله بن دینار قال لما بایع الناس عبد الملک کتب إلیه عبد الله بن عمر: إلی عبد الله عبد الملک أمیر المؤمنین إنی أقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملک أمیر المؤمنین علی سنة الله وسنة رسوله فیما استطعت وان بنی قد أقروا بذلک)(2) مع العلم ان ابن عمر لم یقر للإمام علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه بالإمارة ولا بایعه طوال مدّة خلافته. 


1- تنویر الحوالک لجلال الدین السیوطی ص92 کتاب الصلاة باب ما جاء فی النداء للصلاة.
2- صحیح البخاری ج 8 ص 122 __ 123 فی کتاب الأحکام.

ص: 94

وعن البخاری أیضا فی کتابه الأدب المفرد أن زید بن ثابت کتب إلی معاویة بن أبی سفیان بما نصه: (بسم الله الرحمن الرحیم لعبد الله معاویة أمیر المؤمنین من زید ابن ثابت سلام علیک أمیر المؤمنین ورحمة الله فإنی أحمد إلیک الله الذی لا إله إلا هو... والسلام علیک أمیر المؤمنین ورحمة الله وبرکاته ومغفرته)(1).

وعن ابن حجر قال: (ومن طریق زید بن ثابت انه کتب إلی معاویة السلام علیکم یا أمیر المؤمنین ورحمة الله وبرکاته ومغفرته وطیب صلواته)(2).

ولهذه الأسباب وبهذه الجهود ضیع حق من حقوق أهل البیت علیهم السلام وتم القضاء علی أهم ألقاب مولی الموحدین الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالبصلوات الله وسلامه علیه.

ولا ینبغی التوهم بأن مقصد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وشیعتهم فی الدفاع عن لقب أمیر المؤمنین وإصرارهم علی انحصاره بشخص الإمام علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه هو دفاع وإصرار علی مجرد لقب مؤلف من حروف جوفاء أو مجرد وسام افتخاری یمکن أن یرفع من مکانة ومنزلة أهل البیت الدنیویة شأنه شأن بعض المناصب الدنیویة التی یمنحها بعض الملوک لبعض خواصه، بل ان جوهر الدفاع والإصرار علی لقب أمیر المؤمنین واختصاصه بشخص الإمام علی تکمن أهمیته بما وراء ذلک اللقب، لان لقب أمیر المؤمنین یستبطن فی جوهره الإقرار لصاحب اللقب باستحقاق أعلی منصب من مناصب الدولة الإسلامیة، ویجعل حامله والمختص به مؤهلا ومقدما علی مَن غیره لتسلم موقع السیادة والصدارة والخلافة بعد رحیل النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم. 


1- الأدب المفرد للبخاری ص241 فی الجواب علی کیف أصبحت.
2- فتح الباری لابن حجر ج 11 ص 5 باب بدء السلام.

ص: 95

وبعبارة أخری: فإن لقب أمیر المؤمنین یمکن أن یعد أعلی منصب من مناصب الدولة الإسلامیة یمکن أن یعطی لأحد من الناس بعد لقب نبی المؤمنین(1) الذی انفرد به نبینا الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فیکون بذلک الدفاع عن لقب أمیر المؤمنین من أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وشیعتهم هو فی الحقیقة دفاعاً عن أصل الخلافة، وإصرارنا علی اختصاص هذا اللقب فی الإمام علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه یعد نفس إصرارنا علی اختصاص الخلافة بشخصه الشریف، واستماتتنا فی الحفاظ علی هذا اللقب هو نفس استماتتنا فی الحفاظ علی مبدأ الإمامة وأحقیة أهل البیت به من دون العالمین.

کیف اثر لقب أمیر المؤمنین فی استشهاد الحسین صلوات الله وسلامه علیه

بعد أن زویت الإمارة عن أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لسنین طویلة عادت لهم بعد تولی الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه الخلافة بعد عثمان بن عفان، فأوجس أصحاب نظریة توسیع إمارة المؤمنین(2) فی أنفسهم خیفة من رجوع


1- جاء وصف النبی صلی الله علیه وآله وسلم بنبی المؤمنین علی لسان کثیر من الصحابة ونخص بالذکر منهم عباس بن مرداس حیث یقول فی بعض أشعاره کما فی (البدایة والنهایة لابن کثیر ج 4 ص 394). وقال نبی المؤمنین تقدموا                ***          وحب إلینا أن نکون المقدما
2- روی الشریف الرضی فی کتابه خصائص الأئمة (ص61 __ 62) عن الإمام أبی جعفر محمد بن علی الباقر صلوات الله وسلامه علیهما انه قال: (لما قدم عبد الله بن عامر بن کریز المدینة لقی طلحة والزبیر، فقال لهما بایعتما علی بن أبی طالب علیه السلام؟ «فقالا نعم» فقال: أما والله لا یزال ینتظر بها الحبالی من بنی هاشم، ومتی تصیر إلیکما، أما والله ما جئت حتی ضربت علی أیدی أربعة آلاف من أهل البصرة کلهم یطلبون بدم عثمان فدونکما فاستقیلا أمرکما). وفی کتاب الأمالی للشیخ الطوسی (ص 177) ان إبلیس لعنه الله (تصور یوم قبض النبی صلی الله علیه وآله وسلم فی صورة المغیرة بن شعبة فقال: أیها الناس، لا تجعلوها کسروانیة ولا قیصرانیة، وسعوها تتسع، فلا تردوها فی بنی هاشم، فتنتظر بها الحبالی).

ص: 96

الإمارة إلی الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، وتیقنوا ان الأمور لو صفت وخلصت واستقرت للإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه وعاش حیاةً سیاسیة مستقرة کما عاشها کل من أبی بکر وعمر بن الخطاب، فانه صلوات الله وسلامه علیه سیربی الأمة علی المبادئ التی یؤمن بها، وأحد هذه المبادئ هی کونه الوحید المستحق للقب (أمیر المؤمنین)، فیعید للأمة ما جهد الذین سبقوه بإخفائه وتبدیله، وانه سیمهد للإمام الذی یلیه من أهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وکذلک سیفعل الذی یلیه، وبهذا سوف لن تخرج منهم الإمارة والخلافة مرة أخری بأی حال من الأحوال، وستعود مخصوصة بأهل بیت محددین کما أرادها الله سبحانه ونبیه صلی الله علیه وآله وسلم.

فقرروا ان لا یعطوا لأمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه الفرصة بأن یلتقط أنفاسه أو یهنأ بعیشه ویستقر فی خلافته، فأشعلوا بوجهه نیران الفتن، ودقوا من حوله طبول الحرب، واجبروه علی أن یخوض مع الناکثین من أصحاب الجمل حربا ضروسا أشغلته لعدة أشهر، ثم أتبعوها بحرب ثانیة مع الباغین فی صفین، واختلقوا له فتنة رفع المصاحف والتحکیم التی أفرزت وکانت أساسا لظهور فئة الخوارج المارقین، ثم لم یهنأ الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وأصحابه وشیعته إلا أیاما حتی اجتمع الخوارج علی حربه فی النهروان فصار هنالک ما صار، وفی هذه الأثناء کانت غارات معاویة علی المناطق المتاخمة للشام تشتد أکثر وأکثر، إلی أن ختمت جمیع هذه المؤامرات بمؤامرة دنیئة أدت إلی اغتیال واستشهاد الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه ورحیله عن هذه الدنیا من دون أن تتاح له فرصة تربیة الأمة وتعلیمها وإرجاعها إلی الخط النبوی الصحیح.

ولما استشهد الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وعمل بما هو الحق وأوصی لابنه الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه ازدادت مخاوف القوم المناهضین لمبدأ تخصیص الإمارة بأهل البیت من دون العالمین، واستیقنوا ان استخلاف الإمام الحسن من بعد أبیه أمیر

ص: 97

المؤمنین خطوة مهمة لترسیخ هذا المبدأ، ومحاولة لبث الحیاة إلیه مرة ثانیة بعدما کاد یموت وینسی، وانهم لو ترکوا الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه یستقر فی خلافته فسیوصی لأخیه الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وسیوصی الإمام الحسین للإمام الذی بعده وهلم جرا، وسیعتاد المسلمون علی رؤیة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وهم یوصون لأحدهم بعد الآخر، وهذا ما سیقوض کل الجهود التی بذلها أصحاب فکرة توسیع الإمارة، فکان الحل الجذری لکل هذا هو منع استمرار خلافة الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه بعد أبیه أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وبأی ثمن کان، لینتهی بذلک قانون الوصایة والاستخلاف من إمام إلی إمام آخر.

فأشعلوا تبعا لذلک نار الحرب بوجه الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه کما أشعلوها بوجه أبیه أمیر المؤمنین من قبل، وتوالت علیه الطعنات من کل حدب وصوب، وتعاضدت أیدی المتآمرین بوجهه صلوات الله وسلامه علیه واستغل المتآمرون الضعف العقائدی والإیمانی عند تلک الأمة التی کانت تقیس کل شیء بالمال والثروة، وتنظر إلی الأمور والأحداث علی أساس مادی بحت، فما ان فتح معاویة کنوزه المذخورة، وما ان رأی وجهاء تلک الأمة بریق الدنانیر والدراهم حتی عادت بهم الذکریات إلی ما قبل أیام خلافة الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، أیام کان الواحد منهم تکسر مدخراته من الذهب والفضة بالفؤوس، فاشتاقت نفوسهم إلی تلک الأیام وخذلوا الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه واضطروه لترک الخلافة والصلح مع معاویة بن أبی سفیان بعد أحداث یطول شرحها ولیس هنا محل تناولها، فخرجت بذلک الإمارة والخلافة مرة ثانیة عن أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وعادت إلی دعاة التوسیع لمبدأ الإمارة.

وما أن وصلت الإمارة المغتصبة لید معاویة بن أبی سفیان ونُصب لتولی الحکم بالقوة والجور، قرر أن یعید مبدأ التخصیص للإمارة لکن بثوب جدید، وذلک عن

ص: 98

طریق الوصیة لابنه یزید بن معاویة من بعده، ویوصی بها یزید للذی بعده وهکذا إلی أن تصیر مخصوصة لآل أبی سفیان یتوارثها منهم الخلف عن السلف کما یتوارث القیاصرة والأکاسرة الملک واحداً بعد واحد وظالماً بعد ظالم.

فثارت ثائرة البعض وبالخصوص سعد بن أبی وقاص، وعائشة وأخوها عبد الرحمن بن أبی بکر، وابن عمر وعبد الله بن الزبیر، إذ ان کل واحد من هؤلاء کان یرجو الإمارة لنفسه أو لشخص من أهل بیته، وأملهم الوحید فی ذلک بقاء مبدأ توسیع الإمارة علی ما کان علیه زمن أبی بکر وعمر، لان فی إبقاء الباب مفتوحا فرصة کبیرة لا تتاح فی حالة غلق هذا الباب وتخصیصه بأهل بیت معینین.

لکن معاویة سرعان ما حل کل هذه العقبات فاغتال بعض هؤلاء المعترضین أمثال سعد بن أبی وقاص(1) وعبد الرحمن بن أبی بکر(2)، وأسکت البعض الآخر بقوة السیف وقهر السلطة، والبعض الآخر اشتری سکوته(3)، وسکت البعض الآخر


1- قال أبو الفرج الأصفهانی فی مقاتل الطالبیین ص48: (أراد معاویة البیعة لابنه یزید فلم یکن شیء أثقل علیه من أمر الحسن بن علی وسعد بن أبی وقاص فدس إلیهما سما فماتا منه).
2- عن العلامة الأمینی فی کتابه الغدیر (ج10 ص 246) وابن قتیبة فی الإمامة والسیاسة (ج1 ص159) (وأرسل إلی عبد الرحمن بن أبی بکر فخلا به قال: بأی ید أو رجل تقدم علی معصیتی؟ فقال عبد الرحمن: أرجو أن یکون ذلک خیرا لی. فقال معاویة: والله لقد هممت أن أقتلک. فقال: لو فعلت لأتبعک الله فی الدنیا، ولأدخلک فی الآخرة النار) ثم خرج عبد الرحمن إلی مکة بعد هذا التهدید ومات فی الطریق دون أن یعرف احد سبب مماته.
3- کما فعل مع عائشة حیث فتح علیها أبواب بیت المال فبعث إلیها مرة کما أخرجه الذهبی فی تذکرة الحفاظ ج1 ص28 مائة ألف درهم، وقال ابن الأثیر فی البدایة والنهایة ج8 ص146: (بعث معاویة إلی عائشة بطوق قیمته مائة ألف فقبلته)، وبعث لها أیضا بمال أعطت منه المنکدر بن عبد الله عشرة آلاف درهم لیشتری بها جاریة یتزوج بها (راجع الطبقات الکبری لابن سعد ج5 ص28)، وروی ابن کثیر فی البدایة والنهایة ج8 ص146 عن سعید بن العزیز وقال: (قضی معاویة عن عائشة أم المؤمنین ثمانیة عشر ألف دینار، وما کان علیها من الدین الذی کانت تعطیه الناس).

ص: 99

ووافق علی هذا التخصیص الجدید للإمارة ما دام یمنع آل علی من الوصول مرة أخری إلی موقع الإمارة للمؤمنین.

إلا ان الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه بقی العقبة الکؤود أمام معاویة، لان الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه کان قد اشترط علی معاویة أن لا یعهد إلی أحد من بعده(1)، فکان الاغتیال الذی اعتاده معاویة للخلاص من معارضیه هو الحل الوحید للتنصل من کل التزاماته وشروطه وعهوده المأخوذة فی وثیقة الصلح، فما ان استشهد الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه بعد تعرضه للسم الذی دسه إلیه معاویة بید زوجته جعدة بنت الأشعث حتی بدأ معاویة بتنفیذ مخططه الجدید لحصر الإمارة بآل أبی سفیان وحدهم، قال ابن عبد البر فی کتابه الاستیعاب: (کان معاویة قد أشار بالبیعة لیزید فی حیاة الحسن وعرض بها ولکنه لم یکشفها ولا عزم علیها إلا بعد موت الحسن)(2)، وبهذا یتضح جلیا ان یزید علیه اللعنة وولایته وإمارته المشؤومة لم تقتل الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه فحسب بل انها کانت سببا مهما من أسباب استشهاد الإمام الحسن المجتبی صلوات الله وسلامه علیه أیضا.

ولم تمض إلا مدّة وجیزة بعد أخذ معاویة البیعة من المسلمین علی ولایة العهد لابنه الفاسق یزید علیه اللعنة حتی مات معاویة لعنه الله، لتطوی بموته صفحة سوداء من صفحات التاریخ، ولیترک للمسلمین أسوأ اثر من آثاره یزید بن معاویة لعنه الله.

فتولی یزید وثارت الغیرة أو الحمیة فی نفوس بعض المسلمین، ورفضوا أن یتأمر علیهم أمیر خیر صفاته انه قاتل للنفس وشارب للخمر ولاعب بالکلاب والقرود، فتزلزل بذلک الوضع الأمیری للدولة الأمویة، وبدأت الأنظار تتجه مرة أخری إلی


1- النصائح الکافیة لمحمد بن عقیل ص 192.
2- الاستیعاب لابن عبد البر ج1 ص391.

ص: 100

أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، و بالتحدید إلی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

وأصبح وضعه صلوات الله وسلامه علیه شبیها بوضع أبیه أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه یوم اتجهت إلیه الأنظار بعد مقتل عثمان بن عفان حیث ذاقت الأمة من ویلات إمارته وحبوته لبنی عمومته وأهل بیته وعشیرته ما أدی إلی حصره وقتله بعد أن رفض التنازل عن الإمارة، فرأوا ان المخلص لهم من کل معاناتهم هذه هو الإمام علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه لا غیر، فتداکوا علی بیعته تداک الإبل الهیم یوم وردها، وها هی نفس الأمة تری من جدید بعدما ذاقت من جور معاویة بن أبی سفیان وظلمة ما ذاقت تری فی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه المنقذ والمخلص من جور یزید واستهتاره، وبانت للعیان بوادر عودة إمارة المؤمنین من جدید لأصحابها الشرعیین الذین ارتضاهم الله سبحانه ورسوله صلی الله علیه وآله وسلم لها، فبایع الآلاف من أهل العراق للإمام وشرطوا له السمع والطاعة وخلعوا عنهم بیعة یزید بن معاویة لعنه الله، واستحکمت القرائن بعزم الإمام صلوات الله وسلامه علیه للمسیر نحوهم إجابة لدعوتهم وإحساسا بالمسؤولیة الشرعیة تجاه استصراخهم له، فأصبحت الأمور بذلک تسیر وبشکل سریع ومنظم لعودة الإمارة من جدید تحت تصرف أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

فرجعت المخاوف القدیمة من تخصیص وحصر الإمارة بأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فیما لو تولاها الحسین صلوات الله وسلامه علیه بعد معاویة بن أبی سفیان، فقرر الجمیع باستثناء القلة القلیلة من تلک الأمة ورموزها الدینیة التواطؤ من جدید لتقویض هذه الإمارة وقتلها فی مهدها وسحق بذرتها قبل أن تری النور وقبل أن تشتد ویقوی عودها، حتی وان استلزم الأمر إلی المواجهة الدامیة، وحتی لو کانت هذه المواجهة تؤدی إلی قتل کل البقیة الباقیة من أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین صغیرهم وکبیرهم حتی لا یبقی منهم من یطالب بالإمارة ویعیدها إلی کنف أهل البیت

ص: 101

ویخصصها بهم مرة ثانیة، وهذا هو ما حصل یوم عاشوراء.

فالحسین صلوات الله وسلامه علیه إذن وبالتوضیح الذی مر هو شهید إمارة المؤمنین کما کان أبوه وأخوه صلوات الله وسلامه علیهما شهیدَی هذه الإمارة.

المبحث الثالث: تبیان السبب الثالث من أسباب فاجعة عاشوراء
اشارة

وهذا السبب یوضحه الإمام الباقرصلوات الله وسلامه علیه فی خطابه للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ب_قوله: (وَابْنَ سَیِّدِ الْوَصِیِّینَ)، فلقب سید الوصیین کان له الأثر البالغ فی نشوء وحدوث فاجعة عاشوراء واستشهاد الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وأهل بیته وأصحابه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

وسید الوصیین هو لقب من ألقاب الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه اختص به دون العالمین، وهو کلقب أمیر المؤمنین من حیث کونه لم یأتِ ذکره فی فقرات الزیارة بشکل عشوائی من دون هدف، وهو کذلک لیس مجرد لقب تشریفی یهدف إلی رفع المکانة الاجتماعیة لأمیر المؤمنین علی بن أبی طالب أو أفراد أسرته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، بل هو ینطوی علی عدة من الحقائق المهمة منها:

أولا: ان الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه أفضل وأکمل من کل أوصیاء الأنبیاء الذین سبقوا نبینا صلی الله علیه وآله وسلم والذین کان بعضهم یحمل رتبة النبوة __ کما سیأتی فی محله __، وإذا کان الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه أفضل من کل أولئک الأوصیاء العظام، ومقدم فی الفضل علیهم، فمن البدیهی أن یکون أکمل من کل الصحابة ومقدماً علیهم.

ثانیا: ان وصایته صلوات الله وسلامه علیه لیست علی نحو الوصایة البشریة، بل هی وصایة إلهیة من سنخ وصایة الأنبیاء وأوصیائهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین والتی هی فی

ص: 102

حقیقتها منصب الهی لا ینال ولا یعطی إلا بإذن وقبول ورضا من الله سبحانه وتعالی شأنه فی ذلک شأن النبوة والرسالة.

ثالثا: ان مسألة الوصایة والخلافة لیست شرعة لکل وارد ولا تتاح لکل صعلوک آثم(1)، ویلزم منها ان الوقوف بوجه علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه صاحب هذا اللقب والحیلولة دون تصدیه للوصایة هو فی حقیقته وقوف بوجه کل الأوصیاء والأنبیاء السابقین لان علیا صلوات الله وسلامه علیه سیدهم والوقوف بوجه السید یعدّ وقوفاً بوجه من هو أقل منه کمالا وشرفا ومنزلة.

ابتزاز لقب الوصی من الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه 

لم تکن تلک المعانی التی یثبتها لقب الوصی أو سید الأوصیاء تروق لمن تقمص ثوب الخلافة وتقدم وتأمر علی أمیره ووصی رسوله، وقد أحس هو وحزبه بأن بقاء هذا اللقب سیبقی غصة تنکد علیهم صفو عیشهم وتعرقل خططهم التوسعیة، وان الأمة ستبقی تتذکر تلک الوصیة المغصوبة ما دام للقب الوصی أو سید الأوصیاء وجود فی أذهان الناس ومدوناتهم التاریخیة، لذلک قرروا ان یتبعوا طریقتین کان لهما الأثر الفعال فی إنساء الأمة لهذا اللقب وأمثاله:

الطریقة الأولی: وضع الأحادیث وتکثیرها فی عدم وصیة النبی صلی الله علیه وآله وسلم لأحد من بعده، وقد لعبت عائشة بنت أبی بکر دورا هاما فی نکران الوصیة وإبعادها عن أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، فقد روت لتثبیت هذه البدعة أحادیث عدة، منها: ما أخرجه البخاری وغیره عن الأسود قال: (ذکر عند عائشة ان النبی صلی الله علیه 


1- وهی کما قال تعالی: ((وَإِذِ ابْتَلَی إِبْرَاهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّی جَاعِلُکَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّیَّتِی قَالَ لَا یَنَالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ)) سورة البقرة الآیة 124.

ص: 103

__ وآله __ وسلم أوصی إلی علی فقالت: من قاله؟ لقد رأیت النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وانی لمسندته إلی صدری فدعا بالطست فانخنث فمات فما شعرت فکیف أوصی إلی علی)(1).

وحینما کان المنکرون للوصیة یواجهون بسؤال بدیهی هو: کیف یجوز علی النبی صلی الله علیه وآله وسلم وهو الذی أوجب علی الأمة الوصیة وأکد علی أنه لا یحل لمسلم أن یموت ولم یکن قد أوصی بکل ما یهمه عن أمور آخرته ودنیاه، فکیف یجوز أن یغفل هو عن هذا الأمر البدیهی ویرحل هن هذه الدنیا من دون أن یوصی، فیترک أمته تائهة من بعده مختلفة، حاشاه عن مثل هذا الفعل الذی لو قلناه ونسبناه لأبی بکر أو عمر لاستفظعوه ولما قبلوه، فحینما کان المنکرون للوصیة یواجهون بهذا السؤال المحرج یعمدون إلی بتر بعض الأحادیث التی تخدم مصالحهم وإخفاء الأجزاء الأخری التی یستشعر منها الخطر، کما فعل عبد الله بن أبی أوفی حینما سئل:أوصی النبی صلی الله علیه وآله وسلم؟ فقال: لا، فقیل له: کیف کتب علی الناس الوصیة أو أمروا بها، قال: أوصی بکتاب الله)(2)، وهذا الحدیث کما هو واضح مبتور لان النبی أوصی بالکتاب والعترة کما فی حدیث الثقلین المتواتر، لکنهم اختاروا ما یناسب هواهم ولا یجعل للشیعة وأنصار أهل البیت حجة ودلیلا علیهم.

الطریقة الثانیة: اتباع وسائل الإرهاب الفکری ضد کل من یقول بأفضلیة علی ابن أبی طالب علی بقیة أوصیاء الأنبیاء الذین کان بعضهم یحمل رتبة النبوة، وذلک برمیهم بالکفر والردة وإخراجهم عن حضیرة الإیمان بل عن عنوان الإسلام.

قال محیی الدین النووی: (وکذا یقطع بتکفیر کل قائل قولا یتوصل به إلی


1- صحیح البخاری ج 5 ص 143باب مرض النبی صلی الله علیه وآله وسلم ووفاته.
2- المصدر السابق ص144.

ص: 104

تضلیل الأمة، أو تکفیر الصحابة، وکذا من فعل فعلا أجمع المسلمون أنه لا یصدر إلا من کافر، وإن کان صاحبه مصرحا بالإسلام مع فعله، کالسجود للصلیب، أو النار والمشی إلی الکنائس مع أهلها بزیهم... فکل هذا أو شبهه لا شک فی تکفیر قائله...وکذا من غیر شیئا من القرآن...قال:الأئمة أفضل من الأنبیاء)(1).

ووافقه علی ذلک محمد بن أحمد الشربینی فقال: (یکفر من نسب الأمة إلی الضلال أو الصحابة إلی الکفر... أو قال: إنی دخلت الجنة وأکلت من ثمارها وعانقت حورها، أو قال: الأئمة أفضل من الأنبیاء، هذا إن علم معنی ما قاله لا إن جهل ذلک لقرب إسلامه أو بعده عن المسلمین فلا یکفر لعذره کما مر)(2)وبه قال أیضا الشروانی والعبادی(3).

وبهذه الطریقة منعوا انتشار لقب الوصی وحاصروا فکرة ان علیا صلوات الله وسلامه علیه هو سید الأوصیاء وانه الأفضل من بینهم والأکمل.

أدلة أفضلیة أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه علی بقیة الأوصیاء
اشارة

سنستعرض فیما یأتی وعلی عجالة جملة من الأدلة التی تشیر وتدل دلالة واضحة علی أفضلیة أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه علی جمیع الأوصیاء، ومن هذه الأدلة ما یأتی:

الدلیل الأول

قال تعالی: ((کُنْتُمْ خَیْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ


1- روضة الطالبین لمحیی الدین النووی ج 7 ص290 تجده فی کتاب الردة الطرف الأول فی حقیقتها وهی قطع الإسلام.
2- مغنی المحتاج لمحمد بن أحمد الشربینی ج4 ص136 کتاب الردة.
3- حواشی الشر وانی للشروانی والعبادی ج9 ص91 کتاب الردة.

ص: 105

وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ))(1)، وبدیهی ان الآیة لا ترید تفضیل کل الأمة الإسلامیة بحیث یشمل فُساقها ورعاعها علی کل الأمم الأخری، بل التفضیل کما لا یخفی هو للأمة المتصفة بالأمر بالمعروف والنهی عن المنکر والمتصفة بصفة الإیمان بالله سبحانه، فهؤلاء مفضلون علی من یؤمن بالله ویأمر بالمعروف وینهی عن المنکر من باقی الأمم الأخری.

ویکون هذا التفاضل ما بین الأمتین __ الإسلامیة وغیرها __ کل بحسبه فمؤمن هذه الأمة المتصف بتلک الشروط أفضل وأکمل من مؤمن تلک الأمم المتصف بنفس هذه الشروط، ووصی هذه الأمة المتصف بالإیمان والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وغیرها من الصفات التی لابد من توفرها فی الوصی أفضل من جمیع أوصیاء الأمم السالفة ممن یتصف بنفس تلک الصفات، وهذا التفاضل لا یقتصر علی المؤمن العادی أو الوصی بل انه ینسحب لیشمل حتی الأنبیاء فنبی هذه الأمة أکمل وارفع مقاما وأفضل من أنبیاء جمیع تلک الأمم الغابرة، فیثبت ان نبینا المصطفی صلی الله علیه وآله وسلم سید الأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، ووصینا المرتضی صلوات الله وسلامه علیه سید الأوصیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وأئمتنا علیهم أفضل الصلاة والسلام سادة الأئمة، ومؤمنینا سادة المؤمنین کل ذلک بالاستفادة من الآیة المبارکة.

الدلیل الثانی

أحادیث (علی خیر البشر) دالة علی ذلک، فقد روی عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم قوله: (علی خیر البشر فمن أبی فقد کفر)(2). وعن أبی الزبیر المکی قال: (رأیت جابرا متوکیا علی عصاه وهو یدور فی سکک الأنصار ومجالسهم وهو یقول: علی خیر البشر فمن أبی فقد کفر یا معشر الأنصار أدبوا أولادکم علی حب علی فمن أبی 


1- سورة آل عمران الآیة 110.
2- تفضیل أمیر المؤمنین للشیخ المفید ص34.

ص: 106

 فانظروا فی شأن أمه)(1)، وروی عبد الله بن عدی عن الساجی عن عبد الله بن الحسین ابن الحسن الأشقر قال: (سمعت أبا داود الدهان یقول سمعت شریک بن عبد الله یقول علی خیر البشر فمن أبی فقد کفر)(2) وروی أیضا عن (حذیفة عن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال علی خیر البشر فمن أبی فقد کفر)(3).

وإطلاق لفظ البشر فی هذه الأحادیث یشمل الأوصیاء وغیرهم من أفراد تلک الأمم، بل یشمل حتی الأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، لان جمیعهم بشر، وإذا کانوا بشرا کان علی أفضل منهم وأکمل بنص الحدیث النبوی فیکون سیدهم.

وکذلک هو أفضل أفراد الأمة الإسلامیة من بدایة الدعوة النبویة إلی آخر یوم من أیام الدنیا، لان جمیعهم بشر فیکون علی أفضلهم وخیراً منهم وأکمل، ویستثنی من هذه القاعدة شخص النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فهو وان دخل تحت لفظ البشر إلا أن الدلیل القطعی قام علی أفضلیته علی الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وعلی کل بنی آدم إلی قیام الساعة.

الدلیل الثالث

وتثبت أفضلیته صلوات الله وسلامه علیه علی جمیع الأوصیاء بل علی جمیع البشر باستثناء النبی صلی الله علیه وآله وسلم من قوله تعالی: ((فَمَنْ حَاجَّکَ فِیهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَکَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَکُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَکُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَکُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَی الْکَاذِبِینَ))(4)


1- علل الشرائع للشیخ الصدوق ج 1 ص 142، وراجع أیضا من لا یحضره الفقیه للشیخ الصدوق ج3 ص 493.
2- الکامل لعبد الله بن عدی ج 4 ص 10.
3- المصدر السابق.
4- سورة آل عمران الآیة 61.

ص: 107

فقد أجمع المفسرون علی ان المقصود من قوله تعالی فی الآیة ((وَأَنْفُسَنَا)) هو نفس النبی صلی الله علیه وآله وسلم ونفس الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، فقد عدّهما القرآن الکریم نفسا واحدة، فتثبت تبعا لذلک المساواة ما بین النفسین فی الکمال والصفاء وکل شأن رفیع باستثناء النبوة، والثابت القطعی ان النبی صلی الله علیه وآله وسلم أفضل من جمیع الأنبیاء والأوصیاء فیکون علی بن أبی طالب أفضل أیضا لان المساوی للأفضل أفضل أیضاً.

الدلیل الرابع: وحدیث الطائر المشوی یدل علی ذلک أیضا، فقد روی قطن بن بشیر... عن أنس بن مالک قال: (أهدی لرسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم حجل مشوی بخبزه وضیافه، فقال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: اللهم ائتنی بأحب خلقک إلیک یأکل معی من هذا الطعام، فقالت عائشة: اللهم اجعله أبی، وقالت حفصة: اللهم اجعله أبی، وقال أنس: وقلت: اللهم اجعله سعد بن عبادة، قال أنس: فسمعت حرکة بالباب فخرجت فإذا علی بالباب فقلت إن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم علی حاجة فانصرف ثم سمعت حرکة بالباب، فقلت: إن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم علی حاجة فانصرف ثم سمعت حرکة بالباب فسلم علی فسمع رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم صوته فقال: انظر من هذا؟ فخرجت فإذا هو علی فجئت إلی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فأخبرته فقال: ائذن له یدخل علی فأذنت له فدخل، فقال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم اللهم وال من والاه)(1).

فعلی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه وبحسب حدیث الطائر المشوی الذی صححه جمیع علمائنا، وجملة کبیرة من علماء أهل السنة، هو أحب الخلق إلی الله من بعد


1- البدایة والنهایة لابن کثیر ج 7 ص 387 حدیث الطیر، وقد اتفق الفریقان علی روایته.

ص: 108

النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فیکون أفضل من جمیع الأنبیاء والأوصیاء وأممهم لان هؤلاء کلهم یجمعهم لفظ الخلق، وهو صلوات الله وسلامه علیه کذلک أفضل من جمیع أمة محمد صلی الله علیه وآله وسلم إلی یوم القیامة؛ لأن الجمیع یدخل تحت عنوان الخلق، وکذلک هو صلوات الله وسلامه علیه أفضل من جمیع الملائکة حتی المقربین منهم؛ لأنهم جمیعا مشمولون بلفظ الخلق.

الخامس: هنالک مجموعة من الأحادیث الشریفة التی وصفت کل نبی من أنبیاء أولی العزم أو غیرهم بأوصاف امتاز بها عن غیره، وجعلت من أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه جامعا لکل تلک الفضائل، فیکون أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وفقا لهذه الأحادیث أفضل من جمیعهم(1)، لبداهة ان الجامع لکل صفات الکمال أفضل من الحائز علی بعضها، ومن هذه الأحادیث قول النبی صلی الله علیه وآله وسلم: (من أراد أن ینظر إلی آدم فی علمه، والی نوح فی فهمه، والی إبراهیم فی خلقه، والی موسی فی مناجاته، والی عیسی فی سنته، والی محمد فی تمامه وکماله فلینظر إلی هذا الرجل المقبل، فتطاول الناس فإذا هم بعلی بن أبی طالب کأنما ینقلع من صبب(2) وینحط من جبل) وقد استقصی العالم النحریر العلامة الشیخ الأمینی فی کتابه الغدیر جملة من طرق هذا الحدیث بألفاظه المختلفة فمن أراد التفصیل فلیرجع إلی هناک(3).

ویجب ان ننبه علی ان إثبات کون الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه أفضل من کل الأنبیاء والرسل الذین سبقوا نبینا الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم یستبطن أفضلیته علی


1- باستثناء النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لقیام الدلیل علی أفضلیته علی سائر الخلق کما ذکرنا ذلک من قبل.
2- هذه العبارة والتی بعدها وصف لمشیته صلوات الله وسلامه علیه فخطواته کانت ثابتة ورشیقة.
3- الغدیر للشیخ عبد الحسین الامینی ج3 ص355 تحت عنوان حدیث الأشباه فی أمیر المؤمنین علیه السلام.

ص: 109

أوصیاء هؤلاء الأنبیاء والرسل بالغ ما بلغ عددهم؛ لان الأنبیاء والرسل أفضل وأکمل من أوصیائهم، وعلیه فیکون إثبات أفضلیته علی أولی العزم کافیاً لإثبات أفضلیته علی جمیع أوصیائهم.

کانت هذه بعض الأدلة التی تثبت وبوضوح أفضلیة الإمام أمیر المؤمنین علی جمیع الأوصیاء بل والأنبیاء والملائکة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وقد ترکنا الخوض فی المزید منها رجاء الاختصار.

المبحث الرابع: من هم الأوصیاء المقصودون فی هذه العبارة
اشارة

لکلمة (الْوَصِیِّینَ) التی ورد ذکرها فی هذه العبارة الشریفة من الزیارة ثلاثة معانٍ محتملة نستعرضها علی سبیل الاختصار دون الخوض فی تفاصیل هذه الاحتمالات؛ لان التفصیل فیها یحتاج إلی مساحة اکبر من مساحة هذه المباحث المثارة فی هذا الکتاب والذی نشدنا فیه الاختصار بقدر المستطاع، وهذه المعانی الثلاثة هی کالتالی:

الأول: قد یراد من الأوصیاء هم خلفاء الأنبیاء الذین سبقوا نبینا الکریم صلی الله علیه وآله وسلم، والذین أوکلت لهم مهام القیادة والإمامة بالوصایة والنیابة عن أنبیائهم، فیکون الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه سیدهم وأکملهم وارفعهم رتبة ومحلا عند الله سبحانه وتعالی، لان الشریعة الخاتمة کما بینا سابقا أفضل الشرائع ونبیها صلی الله علیه وآله وسلم سید الأنبیاء والرسل وکتابها خیر الکتب ومؤمنیها أفضل من کل مؤمنی الأمم السابقة فمن الطبیعی والعادل أن یکون وصیها أفضل من جمیع الأوصیاء وسیدا لهم.

الثانی: وقد یراد من الأوصیاء فی هذه الفقرة الشریفة من الزیارة هم نفس الأنبیاء والرسل صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین الذین سبقوا نبینا ورسولنا الکریم محمد بن عبد الله صلی الله علیه وآله وسلم، وتکون تسمیتهم أوصیاء لان کل واحد من هؤلاء العظام

ص: 110

صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین کان یبشر أمته بالنبی الذی سیأتی من بعده ویوصی باتباعه کما أوضح القرآن الکریم عن عیسی بن مریم بشارته بنبینا الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بقوله: ((وَإِذْ قَالَ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ یَا بَنِی إِسْرَائِیلَ إِنِّی رَسُولُ اللَّهِ إِلَیْکُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَیْنَ یَدَیَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ یَأْتِی مِنْ بَعْدِی اسْمُهُ أَحْمَدُ))(1).

أو لان بعضهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین یصل ویکمل دور البعض الآخر فیکون بعضهم لبعض وصیاً إذ إن أحد معانی الوصایة هو الوصل، ومنه أخذ اسم وصیة المیت التی إنما (سمیت وصیة لاتصالها بأمر المیت)(2).

فیکون أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه بذلک أفضل من جمیعهم باستثناء النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لقیام الدلیل القطعی علی أفضلیة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم علی سائر الخلق، ومن ضمنهم أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه.

الثالث: وقد یراد من الأوصیاء فی هذه الفقرة المبارکة خصوص الأئمة الأطهار من أولاد أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لاتصال وصایتهم بالنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ولاتصال وصایة النبی بوصایة من سبقه من الأنبیاء والرسل وأوصیائهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فتکون بذلک وصایة الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین استمراراً وامتداداً لسلسلة الأوصیاء التی ابتدأت بأبی البشر آدم صلوات الله وسلامه علیه وستختم بالإمام المهدی المنتظر عجل الله تعالی فرجه.

وأفضلیة الإمام أمیر المؤمنین علی بقیة أولاده الأوصیاء مما لا شک فیه وهو مؤید بجملة کبیرة من الأدلة، منها حدیث الطائر المشوی، وآیة المباهلة وغیرها من الأدلة التی استعرضناها فی المبحث السابق، ونضیف هنا قول الرسول الأعظم


1- سورة الصف الآیة رقم 6.
2- لسان العرب لابن منظور ج15 ص394 فصل الواو مادة وصی.

ص: 111

صلی الله علیه وآله وسلم بحق الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما (هذان سیدا شباب أهل الجنة وأبوهما خیر منهما)(1)، وما رواه أبان بن عیاش، قال: (سألت الحسن البصری عن علی علیه السلام، فقال: ما أقول فیه! کانت له السابقة، والفضل والعلم والحکمة والفقه والرأی والصحبة والنجدة والبلاء والزهد والقضاء والقرابة، إن علیا کان فی أمره علیا، رحم الله علیا، وصلی علیه! فقلت: یا أبا سعید، أتقول: «صلی علیه» لغیر النبی! فقال: ترحم علی المسلمین إذا ذکروا، وصل علی النبی وآله وعلی خیر آله. فقلت: أهو خیر من حمزة وجعفر؟ قال: نعم، قلت: وخیر من فاطمة وابنیها؟ قال: نعم، والله إنه خیر آل محمد کلهم، ومن یشک أنه خیر منهم، وقد قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «وأبوهما خیر منهما» ولم یجر علیه اسم شرک، ولا شرب خمر، وقد قال رسول الله صلی الله علیه وآله لفاطمة علیها السلام: «زوجتک خیر أمتی»، فلو کان فی أمته خیر منه لاستثناه، ولقد آخی رسول الله صلی الله علیه وآله بین أصحابه، فآخی بین علی ونفسه، فرسول الله صلی الله علیه وآله خیر الناس نفسا، وخیرهم أخا. فقلت: یا أبا سعید، فما هذا الذی یقال عنک إنک قلته فی علی؟ فقال: یا بن أخی، أحقن دمی من هؤلاء الجبابرة، ولولا ذلک لشالت بی الخشب)(2).

وأهل الکساء الخمسة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین کما هو معلوم أفضل من غیرهم من الأئمة وعلی صلوات الله وسلامه علیه أفضل أهل الکساء بعد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فیکون علی أفضل الجمیع، وبالجملة فإن أفضلیة أمیر المؤمنین علی بقیة أولاده مما لا یحتاج إلی کثیر عناء وهو من بدیهیات معتقدات الفرقة الناجیة، ومما اجتمعت علیه کلمتهم وإجماعهم حجة بنفسه کما لا یخفی. 


1- الخصال للشیخ الصدوق ص 551، وعیون أخبار الرضا علیه السلام للشیخ الصدوق ج1 ص36.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 4 ص 96 تجده فی فصل فی ذکر المنحرفین عن علی.

ص: 112

وثبوت کون أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه أفضل من کل أفراد الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین یستبطن أیضا أفضلیته علی جمیع الأنبیاء والرسل وأوصیائهم لما ثبت من أفضلیة الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین علی جمیع الأنبیاء والرسل وأوصیائهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین باستثناء نبینا الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم(1) والأفضل من الأفضل هو أفضل من الأدنی من باب أولی.

ملاحظة لابد منها

لقد اثر لقب سید الوصیین فی حدوث فاجعة عاشوراء وکان سببا من أسباب استشهاد الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ویمکن توضیح هذه المسألة بنفس ما تقدم فی مسألة (کیف اثر لقب أمیر المؤمنین فی استشهاد الحسینصلوات الله وسلامه علیه) والتی أسهبنا الکلام فیها آنفا، فمن أراد أن یفهم ذلک فلیراجع المطلب المزبور.

ویمکن کذلک الرجوع إلی مبحث (سر السلام علی الحسین صلوات الله وسلامه علیه بابن رسول الله) والذی تقدم ذکره أیضا لفهم سر السلام علی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بعبارة (السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ابْنَ أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ وَابْنَ سَیِّدِ الْوَصِیِّینَ) فنفس الأسباب التی تم توضیحها هناک تنطبق هنا أیضا.

وبهذا ینتهی بنا الکلام حول شرح وتبیان هذه العبارة المبارکة نسأل الله أن یمن علینا بمعرفة فضل محمد وأهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین والإقرار بکمالهم انه ولی التوفیق.


1- قال الشیخ الصدوق قدس الله روحه فی کتابه الهدایة ص 23 __ 25: (باب النبوة... ویجب أن یعتقد أن الله تعالی لم یخلق خلقا أفضل من محمد صلی الله علیه وآله وسلم ومن بعده الأئمة صلوات الله علیهم، وأنهم أحب الخلق إلی الله عز وجل وأکرمهم علیه، وأولهم إقرارا به لما أخذ الله میثاق النبیین فی الذر، وأشهدهم علی أنفسهم: ألست بربکم؟ قالوا: بلی، وبعدهم الأنبیاء علیهم السلام، وأن الله بعث نبیه صلی الله علیه وآله وسلم إلی الأنبیاء علیهم السلام فی الذر، وأن الله أعطی ما أعطی کل نبی علی قدر معرفته).

ص: 113

السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ابْنَ فَاطِمَةَ سَیِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِینَ

اشارة

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة من الزیارة

المبحث الثانی: تبیان السبب الرابع من أسباب فاجعة عاشوراء

                     الأول: ان اسمها المقدس ووجودها صلوات الله وسلامه علیهما مذکر بالنبی الأعظم

                     الثانی: ان اسمها المقدس کان علی الدوام یذکر الأمة بأعظم رزیة ومصیبة

المبحث الثالث: سر السلام علی الإمام الحسین بابن سیدة النساء 

ص: 114 

ص: 115

السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ابْنَ فَاطِمَةَ سَیِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِینَ وتحوی هذه الفقرة المبارکة من الزیارة علی مباحث مهمة لا غنی للفرد المؤمن عن معرفتها والتوجه إلی مضامینها نذکر منها علی سبیل الاختصار ما یأتی:

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة من الزیارة 

قد تقدم فی أثناء إثبات الفقرات السابقة من الزیارة تکرار السلام علی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه والشهادة له بالبنوة للصدیقة الطاهرة فاطمة بنت محمد صلوات الله وسلامه علیها وکذلک تکرر وصف السیدة الطاهرة بلفظ (سیدة نساء العالمین) فلا نری ان من اللازم التفصیل أکثر لان هاتین الفقرتین مما تواتر ذکرهما ونقلهما لفظا أو معنی فی کتب وتصانیف المذاهب الإسلامیة، وسیأتی ذکر لبعض تلک الأحادیث فی المبحث الثانی. 

ص: 116

المبحث الثانی: تبیان السبب الرابع من أسباب فاجعة عاشوراء
اشارة

کان ولا یزال اسم فاطمة صلوات الله وسلامه علیها حینما یذکر یحمل معه إلی الأذهان شیئین مهمین:

الأول: ان اسمها المقدس ووجودها صلوات الله وسلامه علیهما مذکر بالنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم

ان الإنسان المؤمن وبمجرد سماع ذلک الاسم المقدس اسم فاطمة صلوات الله وسلامه علیها ینتقل ذهنه من حیث یشعر أو لا یشعر إلی شخص النبی صلی الله علیه وآله وسلم، فاسم فاطمة کان ولا یزال یجذب القلوب وینقل الفکر وینعش الذاکرة بتذکر شخص النبی صلی الله علیه وآله وسلم، وهذه خصوصیة لا نجدها لأی اسم آخر مهما کان قریبا إلی النبی صلی الله علیه وآله وسلم باستثناء أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب وابناه سیدا شباب أهل الجنة الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما.

 ولهذا الترابط وجه غیبی الهی فی کثیر من جوانبه، ویحکی عن سر وجودی کان قبل خلق السماوات والأرض یوم کانت الزهراء روحی فداها نورا واحدا هی وأبوها وبعلها وولداها صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین یسبحون الله ویقدسونه قبل أن یفطر الله السماوات والأرض.

 ولما شاء الله سبحانه وتعالی وأراد أن یخلق عالم المادة والطبیعة خلقوا أیضا من طینة واحدة أطلقت علیها الروایات الشریفة اسم (طینة علیین)، فنورهم وطینتهم واحدة طابت وطهرت، فمن الطبیعی بعد کل هذا الاتحاد أن یکون ذکر فاطمة صلی الله علیه وآله وسلم یجتذب ذکر أبیها النبی صلوات الله وسلامه علیه.

وبعدما منّ الله سبحانه علی هذه الأمة بنعمة إیجاد هذه البضعة الطاهرة صلوات الله وسلامه علیهما، جعلت کلمات النبی صلی الله علیه وآله وسلم تتری فی حق ابنته یتبع بعضها البعض

ص: 117

الآخر، محاولة إفهام الأمة وجذب انتباهها إلی ان وجود السیدة الزهراء صلوات الله وسلامه علیهما نعمة من النعم الإلهیة التی خص الله بها هذه الأمة من دون الأمم فیجب علی کل فرد من أفرادها أن یحسن مجاورة هذه النعمة ویراعی حرمتها.

وکثیراً ما کان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم یحاول إفهام الأمة ان فاطمة صلوات الله وسلامه علیها لیست موجودا بشریا عادیا کسائر البشر وعوام الناس(1)، وانها صلوات الله وسلامه علیها موجود یجمع ما بین صفات عالم الملک وعالم الملکوت وهی مزیج الهی خاص لا یتکرر ولن یتکرر فی غیر القالب الوجودی للسیدة الطاهرة فاطمة بنت محمد صلوات الله وسلامه علیها فهی حوراء إنسیة(2)، وهی لیست کسائر نساء العالمین أیضا، ولا یصح مقارنتها بواحدة منهن، لأنها سیدة نساء العالمین(3)، والسیدة لا تقارن بمن دونها من آحاد الأمة. 


1- روی الطبرانی فی المعجم الکبیر ج22 ص401 فی مناقب فاطمة عن قول النبی صلی الله علیه وآله وسلم وهو یخاطب عائشة بقوله: (یا حمیراء إن فاطمة لیست کنساء الآدمیین ولا تعتل کما یعتلون).
2- روی ابن الجوزی فی کتابه الموضوعات ج 1 ص 412 قال: (نبأنا عبد الرحمن بن محمد أنبأنا أبو بکر محمد بن علی الخیاط أنبأنا أحمد بن محمد بن درست أنبأنا أبو الحسین عمر بن الحسن الأشنانی حدثنا أبو عبد الله الحسین بن محمد بن حاتم بن عبید الله العجل [ العجلی ] حدثنا عبد العزیز بن عبد الله الهاشمی قال: کنت أنا وأبو علی القوقسانی فی جماعة فیهم غلام خلیل فذکروا فاطمة، فقال غلام خلیل: حدثنی حسین بن حاتم حدثنا سفیان بن عیینة عن هشام بن عروة عن أبیه عن عائشة قالت " قلت یا رسول الله مالی أراک إذا قبلت فاطمة أدخلت لسانک فی فیها کأنک ترید أن تلعقها عسلا؟ قال: نعم إن جبریل الروح الأمین نزل إلی بعنقود قطف من الجنة فأکلت وجامعت خدیجة، فولدت فاطمة، فإذا اشتقت إلی الجنة قبلتها فهی حوراء إنسیة ". قال فقال عبد العزیز: لا إله إلا الله هذا عن رسول الله صلی الله علیه وسلم بهذا الإسناد، والله لا کتبته إلا قائما علی رجلی ولا کتبته إلا فی ورقة تهامیة بماء الذهب. قال فقام علی رجلیه وجاؤوه بورقة تهامیة وبماء الذهب فکتب الحدیث).
3- ورد وصفها صلوات الله وسلامه علیها بسیدة نساء العالمین أو سیدة نساء أهل الجنة أو سیدة نساء المؤمنین عند الخاصة والعامة فأما عند الإمامیة أعزهم الله فهو مسلم به متواتر لا یقبل تأویلاً ولا تشکیکاً، وأما عند العامة فقد ورد هذا الوصف بطرق یصعب حصرها وفی مصادر یصعب إحصاؤها لکننا نذکر علی سبیل المثال کلاً من: البخاری فی صحیحه ج4 ص183 باب علامات النبوة فی الإسلام، وص209 باب مناقب المهاجرین وفضلهم، وص219 من نفس الباب، ج7 ص142 کتاب الاستئذان، وفی صحیح مسلم ج7 ص143 وص 144 باب فضائل فاطمة بنت النبی، وفی المستدرک للحاکم النیسابوری ج3 ص156 فی إذا سافر النبی کان آخر الناس عهدا به فاطمة، وغیر ذلک مما لا یحصی عده.

ص: 118

وهذا البین والفرق فیما بینها صلوات الله وسلامه علیها وبین باقی أفراد البشر نساءً ورجالاً لم یکن لیقتصر علی ترکیبتها المادیة، بل شمل أیضا ما یتعلق بمیولها النفسیة وکمالاتها الروحیة، فصارت صلوات الله وسلامه علیها لا تمیل إلا للحق ولما فیه رضا لله سبحانه ورضا نبیه صلی الله علیه وآله وسلم، ولا ترفض إلا ما فیه باطل وبعد عن الله سبحانه ومخالفة لنبیه صلی الله علیه وآله وسلم، حتی صار حبها ورضاها وبغضها وغضبها مقیاسا لحب الله ورضاه وبغضه وغضبه، وقد أوضح النبی صلی الله علیه وآله وسلم هذه الخصوصیة لفاطمة صلوات الله وسلامه علیها بقوله مخاطبا ابنته: (ان الله یغضب لغضبک ویرضی لرضاک)(1)، فمن أراد أن یستکشف رضا الله سبحانه وتعالی ورضا نبیه فلینظر إلی من رضیت عنه فاطمة ومن أراد أن ینظر إلی من غضب الله علیه ورسوله فلینظر إلی من غضبت علیه فاطمة لان فاطمة صلوات الله وسلامه علیها کما کررنا ذلک سابقا مقیاس درجة الرضا والحب الإلهی والغضب والبغض الإلهی، وکفی بها درجة یقصر دون نیلها جمیع العالمین.

الثانی: ان اسمها المقدس کان علی الدوام یذکر الأمة بأعظم رزیة ومصیبة

والشیء الثانی الذی یحمله اسم فاطمة صلوات الله وسلامه علیها بمجرد مروره علی الأذهان، هو تلک الرحلة الجهادیة الطویلة للسیدة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها والتی بدأتها یوم ظهرت بوادر التغییر والتبدیل فی شریعة أبیها سید المرسلین صلی الله علیه وآله وسلم، ویوم تیقنت ان حدود الله وحرماته انتهکت فی سقیفة بنی ساعدة بإقصاء أولیائه عن مناصبهم التی نصبهم الله


1- المعجم الکبیر للطبرانی ج1 ص109 فی ما اسند علی بن أبی طالب.

ص: 119

فیها واختارهم لها، فغضبت لله وحده فغضب الله لغضبها، ولم ترضَ إلی الیوم عمن غیر وبدل، ومن بقاء غضبها نستکشف بقاء غضب الله سبحانه وعدم رضاه عن أولئک المبدلین المغیرین إلی یومنا هذا بل إلی یوم القیامة.

فاسم فاطمة صلوات الله وسلامه علیها وشخص فاطمة صلوات الله وسلامه علیها کان علی الدوام سکینا یمزق شرعیة المنتحلین لإمارة المسلمین، وعقبة کؤوداً تحول دون إضفاء الشرعیة علی سلب حقوق أهل البیت، وکم من مرة ومرة حاول أولئک المغضوب علیهم استرضاءها واستعطافها وکسب الشرعیة من خلال التقرب إلیها بعد غضبها لکنها صلوات الله وسلامه علیها أبت إلا الإغضاء عنهم والتنکر لأفعالهم وإفهام القریب والغریب والصدیق والعدو ومن حضر عصرها ومن جاء بعد زمانها إلی یوم القیامة وبمختلف الطرق بأن غضبها وعدم رضاها مستمر علی ما تم التعاقد علیه فی السقیفة المشؤومة وعلی من قام بذلک کله.

واکبر ضربة وجهتها صلوات الله وسلامه علیها للغاصبین هی وصیتها بأن تدفن لیلا من دون أن یصلی علیها أو یحضر جنازتها احد ممن ظلمها وغصب حقها وحق أهل بیتها صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین حتی لا یتقول متقول ولا یدعی مدع أنّ فاطمة صلوات الله وسلامه علیها قد رضیت عن المغضوب علیهم بدلیل انهم صلوا علی جنازتها وحضروا دفنها وتغسیلها، ولیبقی قبرها المجهول یثیر فی قلوب من یرید الاستبصار والهدایة التساؤل عن الأسباب والمبررات التی اخفت من اجلها السیدة فاطمة صلوات الله وسلامه علیها قبرها الشریف لیصل من ثم إلی الحقیقة التی أرادت فاطمة صلوات الله وسلامه علیها إبقاءها حیة شاهدة علی ما وقع فی ذلک العصر.

إذن فالإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ابن تلک اللبوة التی دافعت عن عرین

ص: 120

التوحید والرسالة إلی أن استشهدت، وهو صلوات الله وسلامه علیه المذکر للأمة بشخص فاطمة، وصوت فاطمة، وثورة فاطمة، وغضب فاطمة، وهو الامتداد الذی اکتسب جل ما عنده من کمال ومکارم أمه فاطمة صلوات الله وسلامه علیها.

فلولاها لم یکن له نسب واتصال برسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، ولولاها صلوات الله وسلامه علیها لم یکن صلوات الله وسلامه علیه من الخمسة أصحاب الکساء المطهرین بنص الکتاب العزیز، ولولاها صلوات الله وسلامه علیها لم یرث منزلة الإمامة الإلهیة، ولولا إمامته وتصدیه لإحیاء شریعة جده والحفاظ علی مبادئ وقیم الإسلام لما تجرأ علیه آل أمیة وأشیاعهم.

ولو کان الحسین صلوات الله وسلامه علیه ابن هند آکلة الأکباد، أو ابن سمیة وغیرهما من نساء الرذیلة، لصیروه قطب الوجود وکعبة النظار، لکنه ابن التی أذاقت الظالمین کؤوس السم الزعاف، وصار ذکرها یرعب أسماع الغاصبین لتراث الأنبیاء ومنازل الأوصیاء، فکرهوها وکرهوا أبناءها وقتلوها وقتلوا أبناءها، بل ونصبوا الحرب وأعلنوا الکره لکل ما یذکر بها وبهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، حتی انهم کرهوا النبتة التی کانت تحب أکلها صلوات الله وسلامه علیها فقد ورد عن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (لیس علی وجه الأرض بقلة اشرف ولا انفع من الفرفخ، وهی بقلة فاطمة صلوات الله وسلامه علیها، ثم قال: لعن الله بنی أمیة هم سموها بقلة الحمقاء بغضا وعداوة لفاطمة صلوات الله وسلامه علیها)(1).

فلیس من الغریب بعد هذا التوضیح أن نقول بأن واحدة من أهم أسباب استشهاد الحسین صلوات الله وسلامه علیه هو کونه ابن فاطمة صلوات الله وسلامه علیها سیدة نساء العالمین. 


1- الکافی للشیخ الکلینی ج6 ص367 باب الفرفخ الحدیث رقم1، وراجع أیضا المحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقی ج2 ص517 باب الفرفخ الحدیث رقم 713.

ص: 121

المبحث الثالث: سر السلام علی الإمام الحسین بابن سیدة النساء

ولعل سبب اختیار الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه للقب (سیدة نساء العالمین) فی فقرات الزیارة والسلام دون بقیة ألقاب وأوصاف وأسماء السیدة الطاهرة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها هو لتبیان الفارق ما بین فریق الحق المتمثل بالحسین صلوات الله وسلامه علیه ومعسکره، وما بین فریق الباطل المتمثل بیزید بن معاویة وعبید الله بن زیاد ومعسکرهم معسکر الشیطان وحزب إبلیس.

فالقتیل الشهید صلوات الله وسلامه علیه هو ابن سیدة النساء، والقاتل هو ابن آکلة الأکباد، وابن مرجانة المعروف بولادته وولادة أبیه من الحرام، والقتیل الشهید صلوات الله وسلامه علیه هو ابن من عرفها القاصی والدانی بتورم قدمیها من طول الوقوف بین یدی الجبار حین مناجاتها وتبتلها وصلاتها، والقاتل الظالم هو ابن من عرفها القاصی والدانی بالبغاء والزنا، حتی نصبت لطلابها رایات ترشد أهل الفجور إلی بیتها.

ولیس أحد من قتلة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه إلا وهو مشهور بنسبته إلی غیر أبیه، وخذ علی ذلک ابن مرجانة مثلا وقس علیه الباقین، ومن نسب منهم إلی أبیه ظاهرا فقد افتضح أمره وانکشف سر أمه بمشارکته بقتل الحسین صلوات الله وسلامه علیه، لان الأحادیث الصحیحة صرحت وبشکل لا یقبل الشک، بأن قتلة الأنبیاء وأبناء الأنبیاء من الأوصیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لا یکونون إلا من ولادة غیر شرعیة، فعن أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (کان قاتل یحیی بن زکریا علیهما السلام ولد زنا وکان قاتل الحسین علیه السلام ولد زنا) وعن أبی جعفر الباقر صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (إن الله جعل قتل أولاد النبیین من الأمم الماضیة علی یدی أولاد الزنا) (1).


1- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص161 الباب (25 ما جاء فی قاتل الحسین وقاتل یحیی بن زکریا علیه السلام.

ص: 122

فالظلیمة الظلیمة من مقتل الشهداء الأخیار الأبرار من أبناء النبیین، وذریة سیدة نساء العالمین، بسیف الأشرار الفجار، ومن تربی فی حجور الفسق والفجور والمجون، ورضع بغض الأنبیاء والأوصیاء وأبناؤهم من آکلات لحوم الشهداء.

ثم لیس تفسیرنا لعلة السلام علی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بلقب ابن سیدة النساء علی النحو السابق بعجیب أو مستغرب، لان من تتبع کلمات أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی مناظراتهم ومحاوراتهم مع أعدائهم یجد أنهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین کانوا کثیرا ما یؤکدون علی مسألة فارق النسب والحسب الذی ما بینهم وبین أعدائهم ومناوئیهم، ذلک النسب الطیب الطاهر الخالی من کل دنس ورجس فی الجاهلیة والإسلام، والشواهد علی هذه الحقیقة کثیرة جدا، نختار منها ما أخرجه ابن شهر آشوب عن المنهال بن عمرو قال: (ان معاویة سأل الحسن أن یصعد المنبر وینتسب فصعد فحمد الله وأثنی علیه ثم قال: أیها الناس من عرفنی فقد عرفنی ومن لم یعرفنی فسأبین له نفسی بلدی مکة ومنی، وأنا ابن المروة والصفا، وأنا ابن النبی المصطفی، وأنا ابن من علا الجبال الرواسی، وأنا ابن من کسا محاسن وجهه الحیاء، أنا ابن فاطمة سیدة النساء، أنا ابن قلیلات العیوب نقیات الجیوب)(1).

ونظیر هذه المحاورة قد جرت بین الإمام زین العابدین صلوات الله وسلامه علیه ویزید بن معاویة لعنه الله، فعن الشیخ الطبرسی رحمه الله قال: (قال یزید: یا علی اصعد المنبر فأعلم الناس حال الفتنة، وما رزق الله أمیر المؤمنین من الظفر! فقال علی بن الحسین: ما أعرفنی بما ترید. فصعد المنبر فحمد الله وأثنی علیه، وصلی علی رسول الله صلی الله علیه وآله ثم قال: أیها الناس من عرفنی فقد عرفنی ومن لم یعرفنی فأنا أعرفه بنفسی، أنا ابن مکة ومنی، أنا ابن المروة والصفا، أنا ابن محمد


1- مناقب آل أبی طالب لابن شهر آشوب ج 3 ص 178باب امامة أبی محمد الحسن بن علی.

ص: 123

المصطفی)(1)، قال العلامة المجلسی رحمه الله: (نقیات الجیوب:کنایة عن عفتهن کما أن طهارة الذیل فی عرف العجم کنایة عنها)(2).

وهذا الوصف کما لا یخفی وان کان مدحا لأهل بیت العصمة والطهارة إلا انه فی نفس الوقت تعریض صریح وواضح بأعدائهم وظالمیهم وإشارة بعدم خلوص أنسابهم من الرجس والدنس.


1- الاحتجاج للشیخ الطبرسی ج 2 ص 39 احتجاج علی بن الحسین زین العابدین علیهما السلام علی یزید بن معاویة لما ادخل علیه.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج 43 ص 356 الخطبة التی خطبها علیه السلام فی حضور معاویة علیه الهاویة.

ص: 124 

ص: 125

السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ثَارَ اللهِ وَابْنَ ثَارِهِ وَالْوِتْرَ الْمَوْتُورَ

اشارة

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

المبحث الثانی: معنی کون الحسین صلوات الله وسلامه علیه ثار الله

                     المعنی الأول: قد یطلق الثار علی الدم

                     المعنی الثانی: وقد یطلق الثار علی الطلب بالدم

                     المعنی الثالث: وقد یطلق الثار علی الثائر الذی لا یبقی شیئاً حتی یأخذ بثاره

المبحث الثالث: معنی کون الحسین صلوات الله وسلامه علیه ابن ثار الله

المبحث الرابع: الدعاء لفرج الإمام المهدی عجل الله تعالی فرجه الشریف یعجل بأخذ ثار الإمام الحسین علیه السلام

المبحث الخامس: معنی وصف الحسین صلوات الله وسلامه علیه بالوتر الموتور

                     المعنی الأول: قد یطلق الوتر ویراد به المتفرد فی الکمال

                     المعنی الثانی: وقد یطلق الموتور علی من قتل حمیمه وافرد

                     المعنی الثالث: وقد یطلق الموتور علی من قتل له قتیل ولم یدرک بدمه

ص: 126 

ص: 127

السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ثَارَ اللهِ وَابْنَ ثَأرِهِ وَالْوِتْرَ الْمَوْتُورَ

وفی هذه الفقرة الشریفة من الزیارة مجموعة من المباحث المهمة نستعرضها فیما یأتی من کلام.

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

ان وصف الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بثار الله وابن ثاره، أو وصفه صلوات الله وسلامه علیه بالوتر الموتور هو مما تواتر استعماله علی لسان الروایات والأدعیة والزیارات المنقولة عن أهل بیت العصمة والطهارة واستغنی بشهرته عن إقامة البرهان، لکننا سنختار جملة من تلک الموارد التزاما منا بمنهج البحث: 

ص: 128

فمن تلک الموارد ما فی زیارة الحسین صلوات الله وسلامه علیه یوم عرفة: (السلام علیک یا وارث آدم صفوة الله... السلام علیک یا ثار الله وابن ثاره والوتر الموتور اشهد انک قد أقمت الصلاة وآتیت الزکاة...)(1).

ومنها ما عن الحسن بن عطیة عن أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (إذا دخلت الحائر فقل: اللهم ان هذا مقام أکرمتنی به وشرفتنی به... ثم تقول:... اشهد انک أمرت بالقسط ودعوت إلیه وانک ثار الله فی أرضه حتی یستثیر لک من جمیع خلقه)(2).

ومنها ما عن الحسن بن یونس قال کنت أنا ویونس بن ظبیان والفضیل بن عمرو بن سلمة السراج جلوسا عند أبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه وکان المتکلم یونس بن ظبیان وکان أکبرنا سنا فقال له جعلت فداک إذا أردت زیارة الحسین صلوات الله وسلامه علیه کیف اصنع وکیف أقول قال له: (اغتسل علی شاطئ الفرات وتلبس ثیابک الطاهرة ثم امش حافیا فإنه فی حرم من حرم الله تعالی وحرم رسول صلی الله علیه وآله وعلیک بالتکبیر والتهلیل والتمجید والتعظیم لله کثیرا والصلاة علی محمد وأهل بیته حتی تصیر إلی باب الحایر ثم تقول: السلام علیک یا حجة الله وابن حجته... السلام علیک یا قتیل الله وابن قتیله السلام علیک یا ثار الله وابن ثاره السلام علیک یا وتر الله الموتور فی السماوات والأرض اشهد ان دمک سکن فی الخلد واقشعرت له أظلة العرش...)(3).

وغیر ذلک ما لا یمکن إحصاؤه فی هذه العجالة. 


1- المزار لمحمد بن المشهدی ص463 الباب 18 زیارة أبی عبد الله علیه السلام فی یوم عرفة.
2- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص358 الباب 79.
3- منتهی المطلب (ط.ق) للعلامة الحلی ج 2 ص 892 __ 893.

ص: 129

المبحث الثانی: معنی کون الحسین علیه السلام ثار الله 
اشارة

وردت لکلمة (ثار) معانٍ عدیدة فی اللغة العربیة نختار منها فیما یأتی ما یتناسب مع بقیة ألفاظ الزیارة:

المعنی الأول: قد یطلق الثار علی الدم

قال الزبیدی فی تاج العروس: (الثأر، بالهمز وتبدل همزته ألفا: الدم نفسه)(1).

فیصبح معنی قول الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه: (السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ثَارَ اللَّهِ وَابْنَ ثَأرِهِ) هو: (السلام علیک یا دم الله وابن دمه)، وهو إطلاق مجازی؛ لان الله سبحانه لیس بجسم مادی حتی یکون له دم، وأنی یکون له ذلک وقد وصف سبحانه نفسه بقوله ((لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْءٌ وَهُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ))(2)، وهذا الإطلاق شبیه بإطلاق (بیت الله) علی الکعبة، و(شهر الله) علی شهر رمضان، والقصد من هذه الإضافات (الدم، البیت، الشهر) ونسبتها إلی الله سبحانه وتعالی هو تشریفها وتکریمها وتنزیهها وإعلاء شأنها وتبیان منزلتها عند الله سبحانه(3)، قال الطریحی فی مجمع البحرین: (إذا أضیف


1- تاج العروس للزبیدی ج 6 ص 138 فصل الثاء المثلثة مع الراء، أقول: وقد اعترض آیة الله العظمی الشیخ مکارم الشیرازی فی کتابه (الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزل ج 3 ص 559 __ 560 عند تفسیره للآیتین174 و175 من سورة النساء) بأن: (العرب لم تطلق کلمة الثأر أبدا لتعنی بها الدم، بل اعتبرت الثأر دائما ثمنا للدم، ولذلک فإن معنی العبارة أن الله هو الذی یأخذ ثمن دم الحسین الشهید، وأن هذا الأمر منوط به سبحانه وتعالی... کما أن الحسین هو ابن علی بن أبی طالب علیه السلام الذی استشهد فی سبیل الله، والله هو الذی یطالب ویأخذ ثمن دمه أیضا)، ویرد علیه حفظه الله بأن العرب قد استخدمت الثار بمعنی الدم والصحاح والمعاجم خیر دلیل علی هذا الاستعمال.
2- سورة الشوری الآیة 11.
3- قال الشیخ علی النمازی الشاهرودی فی مستدرک سفینة البحار ج1 ص 501 __502:(ثأر: فی الزیارات: یا ثار الله وابن ثاره. والثار أی الدم إضافة تشریفیة کما تقول: بیت الله وروح الله ووجه الله. وفی القاموس: الثأر: الدم والطلب به).

ص: 130

شیء إلی عظیم اکتسی عظما کبیت الله، فإذا وجد من الولد ما یحسن موقعه قیل: "لله أبوک" للمدح والتعجب، أی لله أبوک خالصا حیث أتی بمثلک)(1).

وهنالک معنی آخر غیر التعظیم، فبالدم یحیا البدن ولولاه لمات، وبالحسین صلوات الله وسلامه علیه استعاد الدین حیاته ولولاه لمات الإسلام واندثر فهو کالدم بالنسبة إلیه.

ثم ان لإطلاق (دم الله) علی الحسین صلوات الله وسلامه علیه علة واضحة وهی إثبات محبوبیة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ودمه المسفوک بالنسبة إلی الله سبحانه، فقد ورد عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم (ما من قطرة أحب إلی الله عز وجل من قطرة دم فی سبیل الله)(2) ودم الإمام الحسین وبلا أدنی ریب مشمول بهذا الحدیث الشریف، لأنه من الدماء التی سقطت وأریقت لوجه الله سبحانه، بل هو من أعظمها وأطهرها وأکثرها خلوصا وقربة لله جل شأنه، فیکون وبلا أدنی ریب من أکثرها محبوبیة ومقبولیة له سبحانه.

فکأن الزائر لأبی عبد الله الحسین صلوات الله وسلامه علیه وعند مخاطبته للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بقوله: (السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ثَارَ اللَّهِ)، فانه یقصد: (السلام علیک یا أیها الدم المقدس المکرم المشرف من جهة الله سبحانه علی کل الدماء کما شرف بیته وشهره علی کل البیوت والشهور، والذی لولاه لمات دین الله واندثر التوحید، فأنت روح الإسلام ودمه الذی لولاه لما بقی فی جسد هذا الدین حیاة).

ولعل الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه یرید من خلال هذا المعنی أن یشیر إلی مسألة بالغة الأهمیة، وهی: ان الذین تجرؤوا علی سفک دم سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه،


1- مجمع البحرین للشیخ الطریحی ج 1 ص 28.
2- الکافی للشیخ الکلینی ج5 ص53 کتاب الجهاد باب فضل الشهادة الحدیث رقم3.

ص: 131

قد تجرؤوا علی حرمة من حرم الله سبحانه، فهم کمن تجرأ واعتدی علی بیت الله الحرام، أو شهر الله الحرام، أو شعائر الله وحدوده، ورکائز الدین وأصوله، وإذا عرفنا ان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه أعظم وأشرف وأکرم علی الله سبحانه من البیت الحرام والشهر الحرام، ومن جمیع شعائر الله سبحانه وحدوده، فتصبح الجنایة حینئذ علیه، وإهراق دمه الطاهر، وانتهاک حرمته، أعظم وأکبر وأشد عند الله سبحانه من انتهاک جمیع حرمات الدین وشعائره وحدوده. وبناءً علی هذا التوضیح یصبح قصد الزیارة من وصف الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ب_(دم الله) هو تعظیم وتهویل ما اقترف بحقه من جرائم واعتداءات أدت بمجموعها إلی سفک دمه الطاهر بتلک الطریقة المریعة الرهیبة.

المعنی الثانی: وقد یطلق الثار علی الطلب بالدم 

قال الخلیل الفراهیدی: (الثأر: الطلب بالدم. ثأر فلان لقتیله، أی: قتل قاتله)(1)، وقال ابن الأثیر: (ثأر: فی حدیث محمد بن مسلمة یوم خیبر «أنا له یا رسول الله الموتور الثائر» أی طالب الثأر، وهو طالب الدم. یقال ثأرت القتیل، وثأرت به فأنا ثائر: أی قتلت قاتله)(2).

فیصبح معنی العبارة وفقا لما مر هو: (السلام علیک یا من سیطلب الله سبحانه بدمک، ویتولی القصاص من واترک، ویقتل کل من قتلک).

وتصبح قضیة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وقتله وانتهاک حرمته وفقا لهذا التفسیر لیست قضیة شخصیة أو قبلیة وقعت ما بین آل أمیة وحزبهم حزب الشیطان


1- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 8 ص 236 باب الثلاثی المعتل من الثاء باب الثاء والراء و(و ا ی ء) معهما.
2- النهایة فی غریب الحدیث لابن الأثیر ج 1 ص 204 باب الثاء مع الهمزة.

ص: 132

وبین آل علی وأنصارهم أنصار الإیمان، بل هی قضیة کونیة إلهیة، لان الحرب التی راح ضحیتها الإمام الحسین وأهل بیته وأصحابه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لم تکن موجهة ضد شخص الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بوصفه شخصا عادیا من سائر أفراد المجتمع الإسلامی، بل بوصفه السد المنیع المنصوب من قبل الله سبحانه والذی کان یحول دون عبث الأمویین واستهتارهم بالحرمات الإلهیة والمقدرات الإسلامیة، فلم یستطیعوا تجاوز هذا السد الإلهی ولا إسکاته إلا بقتله وسفک دمه الطاهر، لذلک تکفل الله سبحانه بأخذ ثاره، والاقتصاص من قتلته بنفسه، لأن الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه استشهد فی سبیله، فکان حقا علی الله سبحانه أن یکون هو الضامن لدمه وحقه وثاره.

فکان الزائر حینما یسلم علیه بقوله: (السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ثَارَ اللَّهِ) فانه یقصد: (السلام علیک یا من أعطی لله سبحانه حقه، وبذل غایة مجهوده فی الدفاع عن حرماته، فضمن الله سبحانه له الأخذ بثاره ودمه والانتقام من قتلته).

المعنی الثالث: وقد یطلق الثار علی الثائر الذی لا یبقی شیئاً حتی یأخذ بثاره

قال الزبیدی: (ویقال للثائر أیضا: الثأر، وکل واحد من طالب ومطلوب ثأر صاحبه)(1)وقال الجوهری فی الصحاح: (والثائر: الذی لا یبقی علی شیء حتی یدرک ثأره)(2) وکذا قال ابن منظور فی لسان العرب(3).

فیصبح بذلک معنی قول الزائر لإمامه (السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ثَارَ اللَّهِ) هو: (السلام علیک یا من سیثور الله سبحانه لأجل الأخذ بدمک وحقک والاقتصاص من قتلتک،


1- تاج العروس للزبیدی ج 6 ص 139 مادة ثأر.
2- الصحاح للجوهری ج2 ص603 فصل الثاء.
3- لسان العرب لابن منظور ج4 ص97 فصل الثاء المثلثة.

ص: 133

حتی لو لم یبق فی سبیل تحقیق هذا الأمر شیء من الأرض وأهلها)، وهو یدل علی ان دم الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه والأخذ بحقه أهم عند الله سبحانه من الأرض ومن علیها، ولو أن أهل الأرض کلهم اشترکوا فی دمه ثم اقتص الله منهم جمیعا ولم یترک علی الأرض منهم دابة لما کان ذلک علی الله بعزیز، لان الأرض وما فیها لا تساوی عند الله سبحانه دمعة من دموع الإمام الحسین التی ذرفها علی أولاده وأصحابه ومصائب أهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فکیف بسفک دمه وإزهاق نفسه الشریفة، ورض صدره المقدس بحوافر الخیل وسنابکها.

ثم ان الثورة الإلهیة التی ستکون سببا للأخذ بحق الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ودمه المقدس إما أن تقع من الله سبحانه مباشرة، کما فعل سبحانه وانتقم من کل من شارک فی تلک الحرب الخؤون، أو تقع علی ید بعض عباده الذین اصطفاهم ووفقهم للثورة والأخذ بثارات الإمام السبط الشهید صلوات الله وسلامه علیه، منهم المختار الثقفی وغیره من الذین ثاروا وساموا قتلة الإمام الحسین سوء العذاب، ولکن الانتقام الحقیقی سیکون علی ید الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه الذی سیعید بإذن الله جمیع قتلة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وقتلة سائر أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ویذیقهم أنواع العذاب وألوان الهوان، بل سیقتص حتی من ذراری قتلة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ممن رضی بفعل آبائه، بل وسیقتص من کل من شایع وبایع وتابع ورضی بقتله من الأولین والآخرین، حتی لو نال واستوعب ذلک القصاص أکثر أهل الأرض، لان أهل الأرض جمیعا لا یعدلون ذلک السهم المثلث الذی وقع فی قلب الحسین صلوات الله وسلامه علیه، بل ولا قطرة دم سقطت من طفله الرضیع.

وأطلق الثار علی معان أخری لم نرَ لذکرها ضرورة هنا. 

ص: 134

المبحث الثالث: معنی کون الإمام الحسین علیه السلام ابن ثار الله

أکدت الزیارات والأحادیث الشریفة علی ان هنالک وجه شبه کبیر ما بین کل من الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه وبین ابنه الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، فجملة من الزیارات الشریفة صرحت بأن الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه هو ثار الله وابن ثاره، أو قتیل الله وابن قتیله، أو حجة الله وابن حجته، أو انه صلوات الله وسلامه علیه ثائر الله وابن ثائره، وغیر ذلک من أوجه الشبه.

وهذا التشابه إن دل علی شیء فانه یدل علی أن هنالک وجه تشابه فی الأهداف والحوافز والمنطلقات، فکلاهما کان یبتغی وجه الله سبحانه فی حرکته ونهضته، وکلاهما کان یهدف إلی إعلاء دین الله سبحانه وحفظ شریعته من أن تدنس أو تحرف أو ینتهکها المنتهکون.

ولیس هذا التشابه بمنحصر فیهما صلوات الله وسلامه علیهما بل نراه مشترکا أیضا بین أعدائهما، فأهداف قتلة هذین العظیمین واحدة وغایاتهم مشترکة، فجمیعهم قاتل فی سبیل الدنیا والجاه والمنصب ولیطفئوا نور الله بأفواههم وأیدیهم، فأهداف وغایات ونوایا أصحاب الجمل هی نفسها أهداف وغایات أصحاب النهروان من الخوارج، وکلاهما نسخة عن أهداف وغایات معاویة بن أبی سفیان علیه وعلیهم اللعنة، وجمیعهم یحمل نفس الحوافز والنزعات العصبیة الجاهلیة والأطماع الدنیویة التی کانت فی نفوس وقلوب أولئک الطغاة الذین قتلوا الإمام الحسین وأهل بیته وأصحابه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی یوم عاشوراء الرهیب، فالجمیع وجوه متعددة لعملة واحدة، لعنهم الله جمیعا وحشرهم إلی نار جهنم وبئس المصیر.

ونستطیع أیضا أن نجد وجها آخر من أوجه التشابه فیما بینهما صلوات الله وسلامه علیهما، وذلک عن طریق التأمل فی الظرف الزمانی والموضوعی الذی قامت فیه کل من النهضتین

ص: 135

العلویة والحسینیة، فالثورة العلویة جاءت لإصلاح المسیر المعوج الذی ابتدأ منذ التحاق النبی صلی الله علیه وآله وسلم بالرفیق الأعلی وإلی أن وصل الاعوجاج الی أقصی غایاته فی الأیام التی سبقت خلافته صلوات الله وسلامه علیه، حیث اتخذ من کان قبله من الحکام مال الله دولا، وعباده خولا، والصالحین حربا، والفاسقین حزبا، فجاءت الثورة العلویة لتعید الروح إلی جسد الإسلام الذی بدأت تزهق روحه یوما بعد یوم، وما ردت فیه الحیاة غضة طریة إلا علی ید الإمام أمیر المؤمنین والأوصیاء من أولاده صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

والأمر نفسه قد تکرر قبل ثورة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، فالدین علی ید معاویة وابنه یزید قد تمزق وتفرق، وشاع الظلم، ونسی العدل، وتأمر الفساق علی الأخیار، والمجرمین علی الصلحاء، ولم ترجع للإسلام العزة والکرامة، ولا نهض الإسلام من کبوته إلا علی ید الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه.

فالإمام الحسین ومن قبله أبوه أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیها لهما من المنة والفضل علی الإسلام والمسلمین ما لا یعلمه إلا الله سبحانه، فلذا صارا ثار الله وقتیلیه، وصار الله سبحانه متکفلا بدمائهما آخذا بثاریهما صلوات الله وسلامه علیهما.

ولم یشارک الإمامین أمیر المؤمنین والحسین صلوات الله وسلامه علیهما فی لقب (ثار الله) من سائر الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بحسب ما تتبعت غیر الإمام المهدی روحی فداه، فقد ورد وصفه ب_(ثار الله) فی الزیارة التی رواها العلامة المجلسی عن السید علی بن طاوس نور الله مرقده حیث قال: (إذا فرغت من زیارة العسکریین علیهما السلام فامض إلی السرداب المقدس وقف علی بابه وقل:... السلام علیک یا باب الله، السلام علیک یا ثار الله، السلام علیک یا محیی معالم الدین وأهله)(1)


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج 99 ص 83 __ 86 الباب السابع زیارة الإمام المستتر عن الأبصار الحاضر فی قلوب الأخیار المنتظر فی اللیل والنهار الحجة بن الحسن صلوات الله وسلامه علیها فی السرداب وغیره.

ص: 136

وفی وصف الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه ب_(ثار الله) دلیل علی ان ثورة الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه تحمل نفس الأهداف والحوافز والمنطلقات التی حملتها کل من الثورة العلویة والحسینیة علی حد سواء، وان ظروف وحیثیات ثورة الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه ونهضته ستکون مشابهة لظروف وحیثیات الثورة الإصلاحیة والتغییریة للإمام أمیر المؤمنین وابنه الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیها، لأن الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه وکما ورد فی کثیر من الروایات الشریفة سیخرج بعدما لا یبقی من الدین إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه، وبعد أن یکاد الإسلام تزهق روحه وتجتث جذوره، فیخرج لیعید له الحیاة ویحقق عدل الله سبحانه فی الأرض، ویأخذ بحق الله سبحانه من رقاب المغیرین والمبدلین، کما اخذ أمیر المؤمنین الحق واقتص بسیفه وسیوف أصحابه من الناکثین والقاسطین والمارقین، وکما اقتص جده الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه من أولئک اللئام یوم عاشوراء.

المبحث الرابع: الدعاء لفرج الإمام المهدی عجل الله تعالی فرجه الشریف یعجل بأخذ ثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه

ذکر المیرزا محمد تقی الأصفهانی فی کتابه القیم (مکیال المکارم فی فوائد الدعاء للقائم علیه السلام) ان واحدة من فوائد الدعاء للإمام الثانی عشر صلوات الله وسلامه علیه بتعجیل الفرج والظهور هی الفوز بطلب اخذ الثأر للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ونحن نورد فیما یأتی نص کلماته مع مراعاة المهم منها وما یتعلق بموضوعنا:

قالرحمه الله: (ومما یحصل بالدعاء لتعجیل فرج مولانا صاحب الزمان علیه السلام وظهوره، الفوز بثواب طلب ثأر مولانا الحسین الإمام المظلوم الغریب الشهید علیه السلام: وهذا أمر لا یقدر علی إحصاء ثوابه أحد إلا الله العزیز الحمید جل شأنه،

ص: 137

لأن عظمة شأن الثأر بقدر عظمة صاحبه، فکما لا یقدر أحد علی الإحاطة بالشؤون الحسینیة إلا الله عز وجل، کذلک لا یقدر غیره علی إحصاء ثواب طلب ثأره.

فإنه الذی ورد فی زیارته: «السلام علیک یا ثار الله وابن ثاره» ولو لم یکن فی الدعاء بتعجیل ظهور مولانا صاحب الزمان عجل الله تعالی فرجه سوی هذا الثواب، لکفی فضلا وشرفا وشأنا فکیف وفیه من الفضل ما لا یحصی، ومن الثواب ما لا یستقصی.

وأما حصول الفوز بثواب طلب ثأر مولانا الشهید علیه السلام بهذا الدعاء، فتقریره أن طلب ثأره علیه السلام وظیفة کل مؤمن ومؤمنة، لأنه والدهم الحقیقی، بمقتضی، ما قدمناه فی الباب الثالث، من کون الإمام علیه السلام والدا حقیقیا، ویؤیده تفسیر الوالدین فی قوله تعالی: ((وَوَصَّیْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَیْهِ إِحْسَانًا))(1)، بالحسنین علیهما السلام کما فی تفسیر القمی(2) وغیره، ولذا یصح أن ینسب المؤمن ثأره علیه السلام إلی نفسه ویجعل کل أحد من المؤمنین نفسه ولی دمه علیه السلام، کما فی زیارة عاشوراء: «وأن یرزقنی طلب ثاری مع إمام مهدی ظاهر ناطق منکم».

ووجه آخر مضاف إلی هذا الوجه أن النبی صلی الله علیه وآله أمر أمته بأمر الله عز وجل بالمودة فی القربی، وقد تقدم أخبار عدیدة دالة علی کون المراد بالقربی الأئمة علیهم السلام، ولو حملنا القربی علی مطلق الأقارب، أو الذریة نظرا إلی ظاهر اللفظ، فلا ریب أن الأئمة علیهم السلام أفضل أفرادهم، وأکمل مصادیقهم، ولا ریب أیضا فی أن طلب ثارهم وحقوقهم من أظهر مصادیق المودة، وأجل أقسام إظهار المحبة.


1- سورة الأحقاف الآیة 15.
2- تفسیر القمی لعلی بن إبراهیم القمی ج2 ص297 سورة الأحقاف الجزء 26.

ص: 138

إذا تقرر ما ذکرنا، فنقول: إن لطلب الثأر مراتب عدیدة ودرجات أربع:

الأولی: أن یکون ولی الدم ذا قوة واستیلاء واستعلاء، وسلطنة فیأمر بعض عبیده بقتل قاتل المظلوم.

والثانیة: أن یقتل هو قاتل المظلوم، وبهذین القسمین یطلب الله عز وجل ثأر مولانا الشهید المظلوم فإنه تعالی ولی دمه فی الحقیقة ولذا ورد فی زیارات عدیدة: «السلام علیک یا ثار الله»...

وکما یطلب القادر المنتقم جل شأنه ثأره بهذین القسمین یطلب القائم المنتظر ثأره أی ثأر جده الحسین بهذین القسمین أیضا. باعتبار آخر فإنه یقتل قتلة أجداده «علیهم السلام»، والراضین بفعلهم ویأمر شیعته وأنصاره بقتلهم أیضا.

الثالثة: أن یکون الطالب بالثار ضعیفا لا یقدر علی ذلک إلا بالتظلم والاستعداء إلی سلطان مقتدر یأخذ بحقه من ظالمه فهذا أیضا نوع من طلب الثأر، کما هو واضح عند أولی الأبصار.

 والرابعة: أن یکون بسبب ضعفه غیر قادر علی أخذ الثأر، إلا بالاستعانة إلی غیره من ذوی الاقتدار فیتعاونان علی ذلک.

 وبعبارة أخری: إن الإعانة فی تهیؤ أسباب أخذ الثأر قسم من أقسام الطلب والانتصار، وحیث إنا لا نقدر فی زماننا هذا علی طلب ثأر مولانا الحسین إلا بهذین القسمین، فاللازم علینا بمقتضی وظیفتنا الثابتة المبادرة إلی المطالبة بهذین النحوین وهما یحصلان بمسألة تعجیل ظهور مولانا صاحب الزمان، من القادر المنان، والتظلم والتضرع إلیه فی هذا الشأن فإنه أقدر من کل سلطان والمنتقم من أهل البغی والعدوان، لأنا علمنا بالمتواتر من الأخبار أن القادر الجبار ادخر مولانا الغائب عن

ص: 139

الأبصار لطلب هذا الثار، فاللازم علینا فی آناء اللیل والنهار التظلم والتضرع إلی الله عز وجل فی تعجیل ظهوره علیه السلام لأخذ الثار والانتقام من الجبابرة الکفار إذ لیس لنا سبیل فی زمان غیبته علیه السلام إلی غیر هذا القسم من طلب الثار...فالدعاء لذلک إعانة له علیه السلام فی المبادرة إلی الانتصار وأخذ ثار الأئمة الأطهار من القتلة اللئام الفجار) (1) انتهی کلامه مختصرا رضی الله عنه وأرضاه، وإنما أوردناه طلبا للفائدة وتتمیما للبحث.

المبحث الخامس: معنی وصف الحسین علیه السلام بالوتر الموتور
اشارة

جاءت لکلمة الوتر والموتور معانٍ متعددة فی کتب اللغة نستعرض منها فیما یأتی ما ینسجم ویتناسب مع أجواء الزیارة:

المعنی الأول: قد یطلق الوتر ویراد به المتفرد فی الکمال

ربما أطلقت العرب الوتر علی العدد وقصدت به الشیء الواحد الفرد الذی لیس بزوج، قال ابن منظور: (وتر: الوِتْر والوَتْر: الفرد أو ما لم یتشفع من العدد)(2).

وربما أطلقت العرب الوتر علی من یتصف بصفة لا یشارکه احد غیره بها، کإطلاقهم الوتر علی نبی الله آدم صلوات الله وسلامه علیه لأنه أول موجود بشری خلقه الله سبحانه، فلما خلقت حواء أم البشر شفع بها قال ابن منظور: (وروی عن ابن عباس، رضی الله عنهما، أنه قال: الوتر آدم علیه السلام، والشفع شفع بزوجته) 


1- مکیال المکارم للمیرزا محمد تقی الأصفهانی: ج1، ص419 إلی ص 422.
2- لسان العرب لابن منظور ج 5 ص 273 فصل الواو، وراجع أیضا تاج العروس للزبیدی ج7 ص579 مادة وتر.

ص: 140

وکذا قال الزبیدی فی تاج العروس(1).

والوتر صفة من صفات الله سبحانه (لأنه البائن من خلقه الموصوف بالوحدانیة من کل وجه ولا نظیر له فی ذاته ولا سمی له فی صفاته ولا شریک له فی ملکه، فتعالی الله الملک الحق)(2).

فیتبین من مجموع ما مر ان من معانی الوتر هو الموجود المتفرد بصفة أو صفات لا یشارکه فیها أحد غیره. وهذا المعنی متحقق فی شخص الإمام الشهید صلوات الله وسلامه علیه، والی هذا أشار العلامة المجلسی قدس الله روحه بقوله: (وتر الله أی الفرد المتفرد فی الکمال من نوع البشر فی عصره الشریف) (3).

ووجه تحقق هذا المعنی فی شخص الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه: من حیث انه من الخمسة أهل الکساء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین الذین کانوا فی عصر وجودهم الشریف أفضل أهل الأرض وأکملهم، والمتفردین بکل مراتب الکمال من سائر الأنام، فلما فقد النبی صلی الله علیه وآله وسلم وارتحل من دار الفناء، وارتحلت من بعده ابنته الصدیقة الشهیدة صلوات الله وسلامه علیها، والتحق بهما الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه مغدورا مسلوب الحق، وبعد مدة لیست بالطویلة التحق بهما ابنهما الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه المسموم المهتضم، بقی الإمام السبط الحسین بن علی صلوات الله وسلامه علیه بعد رحیل هؤلاء الأطهار وحید أهل زمانه بالفضل، والمتفرد من دونهم بالکمال، فانطبق علیه لقب الوتر الذی بمعنی المتفرد فی الکمال من نوع البشر. لذا کان فقده صلوات الله وسلامه علیه یوم عاشوراء فقدا لعامة أهل الکساء الأطهار، لان برکة وجوده المبارک کانت مذکرة بهم، وسادة


1- المصدر السابق.
2- مجمع البحرین للشیخ الطریحی ج 4 ص 462 باب الواو.
3- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج 98 ص 154.

ص: 141

مسد غیبتهم وفقدهم، فلما فقد من الدنیا أثره، ورفع من بین العالمین شخصه، بانت وحشة فراقهم، ورفعت من بین العالمین ألطاف وجودهم.

وقد استشهد الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بهذا المعنی یوم عاشوراء، حینما خطب فی جیش البغی والظلم بقوله: (فانسبونی وانظروا من أنا، ثم ارجعوا إلی أنفسکم وعاتبوها، فانظروا هل یصلح لکم قتلی وانتهاک حرمتی، ألست ابن بنت نبیکم، وابن وصیه وابن عمه وأول المؤمنین المصدق لرسول الله بما جاء به من عند ربه، أولیس حمزة سید الشهداء عمی، أولیس جعفر الطیار فی الجنة بجناحین عمی، أو لم یبلغکم ما قال رسول الله لی ولأخی: هذان سیدا شباب أهل الجنة... أما فی هذا حاجز لکم عن سفک دمی...)(1)، فبقوله هذا أرادصلوات الله وسلامه علیه من الأمة أن تعی وتفهم ان وجوده بین ظهرانیهم فرصة ونعمة لن تتکرر، وسترفع منهم إلی یوم القیامة فیما لو قوبلت بالجحود والنکران، وهو ما حدث بالفعل.

وکلام السیدة زینب العقیلة صلوات الله وسلامه علیها مع أخیها الحسین صلوات الله وسلامه علیه لیلة عاشوراء یدل دلالة واضحة علی هذا المعنی، فحینما سمعت العقیلة زینب صلوات الله وسلامه علیها أخاها الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه یردد لیلة العاشر أبیاتا من الشعر مشهورة ومذکورة فی کتب المقاتل، علمت انه قد عزم علی الموت، وان فقد هذا الموجود العظیم بات وشیکا، وان فرصة وجوده فی الحیاة الدنیا صارت قصیرة جدا، فأحست بعظم المصیبة، وبهول الخطب، فصاحت: (وا ثکلاه لیت الموت أعدمنی الحیاة الیوم ماتت أمی فاطمة وأبی علی وأخی الحسن یا خلیفة الماضین وثمال الباقین)(2)


1- الإرشاد للشیخ المفید ج 2 ص 97 __ 98خطبة الإمام الحسین علیه السلام یوم عاشوراء.
2- مثیر الأحزان لابن نما الحلی ص 35 المقصد الأول علی سبیل التفصیل للأحوال السابقة لقتال آل الرسول.

ص: 142

فمن کلامها صلوات الله وسلامه علیها نستکشف ان أشخاص أصحاب الکساء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وقیمهم وکمالاتهم کانت مجتمعة جملة وتفصیلا فی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، وان فقده کان یمثل فقدا للکل، کما ان الاعتداء علیه کان یمثل اعتداءً علی جمیع أولئک الأطهار.

ومن هنا أیضا نفهم سبب مخاطبة الزائر للشهداء الذین دافعوا عن الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه یوم عاشوراء ونصروه وذبوا عنه بأرواحهم وأجسامهم بقول: (السلام علیکم یا أنصار رسول الله السلام علیکم یا أنصار أمیر المؤمنین السلام علیکم یا أنصار فاطمة الزهراء سیدة نساء العالمین السلام علیکم یا أنصار أبی محمد الحسن بن علی الزکی الناصح الولی السلام علیکم یا أنصار أبی عبد الله)(1)، فإن کلاً من النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم والإمام أمیر المؤمنین والزهراء والإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لم یکونوا بموجودین یوم عاشوراء بأشخاصهم وأبدانهم المادیة حتی یتم نصرتهم من قبل أولئک الشهداء الکرام، ولکن ولان شخص الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه قد جمع کمالات بقیة أصحاب الکساء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عُدَّت نصرته نصرة لهم والذب عنه ذباً عنهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین(2).

المعنی الثانی: وقد یطلق الموتور علی من قُتِلَ حمیمُه واُفرِد

 قال الزبیدی فی تاج العروس: (والموتور المفعول، وتقول منه: وتره یتره ترة ووترا، إذا قتل حمیمه فأفرده منه)(3) وهکذا کان حال الإمام الحسین بن علی


1- المزار للشهید الأول ص 129 زیارة الشهداء رضوان الله علیهم.
2- توجد معانٍ أخری لهذا المقطع من زیارة الشهداء لیس هاهنا محل تبیانها، وانما اقتصرنا علی هذا المعنی لموافقته مع ما نحن فیه.
3- تاج العروس للزبیدی ج 7 ص 583 مادة وتر.

ص: 143

صلوات الله وسلامه علیه فقد قتل أولاده وفلذات أکباده وإخوته وبنو أخیه وبنو عمومته وأصحابه بتلک الصورة المریعة التی لم یشهد لها التاریخ مثیلا أبدا، وأعداء الحسین صلوات الله وسلامه علیه ما استطاعوا أن یقتلوه ویصلوا إلیه إلا بعد أن افردوه ووتروه، وهی لأصحابه ولأهل بیته فضیلة لیست کمثلها فضیلة، إذ ان وجودهم کان مانعا عن قتله، وبذلهم لمهجهم کان دافعا لوصول شتی أنواع الأذی إلی شخصه المبارک فجزاهم الله خیرا عن إمامهم وعن أهل بیت نبیهم صلی الله علیه وآله وسلم.

المعنی الثالث: وقد یطلق الموتور علی من قتل له قتیل ولم یدرک بدمه

قال الجوهری فی الصحاح: (والموتور: الذی قتل له قتیل فلم یدرک بدمه)(1)، وقال ابن منظور: (والموتور: الذی قتل له قتیل فلم یدرک بدمه، تقول منه: وتره یتره وترا وترة)(2).

والإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه لم یُدرک دم أبنائه وأهل بیته وأصحابه من أولئک الأجلاف الطغام اللئام، والی الیوم ما زال صوته صلوات الله وسلامه علیه یدوی ویتردد فی آذان الزمان، وهو یستغیث ولا یغاث، ویستجیر ولا یجار، ویستنصر ولا ینصر، رافعا صوته قائلا:

هل من ذاب یذب عن حرم رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.

هل من موحد یخاف الله فینا.

هل من مغیث یرجو الله فی إغاثتنا.

هل من معین یرجو ما عند الله فی إعانتنا. 


1- الصحاح للجوهری ج 2 ص 843 فصل الواو.
2- لسان العرب لابن منظور ج 5 ص 273 __ 276 فصل الواو.

ص: 144

هل من راحم یرحم آل الرسول المختار.

هل من ناصر ینصر الذریة الأطهار.

هل من مجیر لأبناء البتول.

هل من ذاب یذب عن حرم الرسول.

لکنه صلوات الله وسلامه علیه لم یجد جوابا لکل استغاثاته إلا صرخات خرجت من حناجر النسوة الثواکل، ولم یُغَثْ بغیر دموع تفجرت بها عیون أیتامه وأیتام البقیة من أهل بیته الذین تقدموه بالشهادة، فهو الموتور الوحید الخائف الطرید الذی فاقت وحدته کل وحدة وعظمت غربته علی کل غربة.

فسلام علیک أبا الشهداء (سلام من لو کان معک بالطفوف لوقاک بنفسه حد السیوف، وبذل حشاشته دونک، وجاهد بین یدیک، ونصرک علی من بغی علیک، وفداک بروحه وجسده، وماله وولده، وروحه لروحک فداء، وأهله لأهلک وقاء فلئن أخرتنی الدهور، وعاقنی عن نصرک المقدور، ولم أکن لمن حاربک محاربا، ولمن نصب لک العداوة مناصبا، فلأندبنک صباحا ومساء، ولأبکین علیک بدل الدموع دما، حسرة علیک وتأسفا علی ما دهاک وتلهفا، حتی أموت بلوعة المصاب وغصة الاکتیاب) (1).


1- المزار لمحمد بن جعفر المشهدی: ص500 __ 501.

ص: 145

السَّلامُ عَلَیْکَ وَعَلَی الأَرْوَاحِ الَّتِی حَلَّتْ بِفِنَائِکَ وَأَنَاخَتْ بِرَحْلِک 

اشارة

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة من الزیارة

المبحث الثانی: تبیان ألفاظ هذا المقطع من الزیارة

                     أولا: السَّلامُ عَلَیْکَ

                     ثانیا: وَعَلَی الأَرْوَاحِ

                             1: الإنسان       2: الملائکة      3: الجن

                     ثالثا: الَّتِی حَلَّتْ بِفِنَائِکَ

                     رابعا: وأناخت برحلک

المبحث الثالث: فضل السلام وفوائد تکراره

                     الفائدة الأولی: السلام سبب من أسباب المغفرة

                     الفائدة الثانیة: السلام سبب لکثرة خیر بیت المسلِّم

                     الفائدة الثالثة: وفی السلام الکثیر من الحسنات

                     الفائدة الرابعة: ان المسلِّم یحظی برد من الملائکة

                     الفائدة الخامسة: المسلم یحظی بالرد من قبل إمامه المعصوم

                     الفائدة السادسة: فی السلام تکامل لروح الزائر المسلِّم

المبحث الرابع: المقصود من الأرواح التی ورد ذکرها فی هذه الفقرة

                     الأرواح التی حلت بفناء قبر الإمام أبی عبد الله الحسین علیه السلام

                     الأرواح التی أناخت بقبر الإمام أبی عبد الله الحسین بن علی علیهما السلام

ص: 146 

ص: 147

السَّلامُ عَلَیْکَ وَعَلَی الأَرْوَاحِ الَّتِی حَلَّتْ بِفِنَائِکَ وَأَنَاخَتْ بِرَحْلِک 

وفی هذه الفقرة الشریفة من الزیارة معانٍ جلیلة نستعرض بعض ما یتیسر لنا منها، وهی کما یأتی:

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة من الزیارة

اشتهر فی نصوص زیارات الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ان هنالک أرواحا تحل وتزور وتنیخ بقبره الشریف وضریحه المنیف، حتی بلغت من الشهرة مبلغا استغنت به عن استقصاء جمیع مواردها فی متون تلک الزیارات ولکننا سنذکر للقارئ الکریم فیما یأتی جملة منها حبا للفائدة والتزاما منا بمنهج البحث الذی ألزمنا به أنفسنا فی بدایة هذا الکتاب.

أخرج جعفر بن محمد بن قولویه قدس الله روحه قال: (حدثنی أبی عن سعد بن عبد الله، عن أبی عبد الله الرازی، عن الحسن بن علی بن أبی حمزة، عن الحسن بن

ص: 148

محمد بن عبد الکریم أبو علی، عن المفضل بن عمر، عن جابر الجعفی، قال: قال أبو عبد الله علیه السلام للمفضل: کم بینک وبین قبر الحسین علیه السلام، قال: قلت: بأبی أنت وأمی یوم وبعض یوم آخر، قال: فتزوره، فقال: نعم، فقال: ألا أبشرک ألا أفرحک ببعض ثوابه، قلت: بلی جعلت فداک، قال: فقال لی: إن الرجل منکم لیأخذ فی جهازه ویتهیأ لزیارته فیتباشر به أهل السماء، فإذا خرج من باب منزله راکبا أو ماشیا وکل الله به أربعة آلاف ملک من الملائکة یصلون علیه حتی یوافی قبر الحسین علیه السلام. یا مفضل إذا أتیت قبر الحسین بن علی علیهما السلام فقف بالباب وقل هذه الکلمات، فان لک بکل کلمة کفلا من رحمة الله، فقلت: ما هی جعلت فداک، قال: تقول: السلام علیک یا وارث آدم صفوة الله، السلام علیک یا وارث نوح نبی الله.... السلام علی الأرواح التی حلت بفنائک، وأناخت برحلک، السلام علی ملائکة الله المحدقین بک)(1).

وعنه قدس الله روحه أیضا قال: (حدثنی أبو عبد الرحمن محمد بن أحمد بن الحسین العسکری ومحمد بن الحسن جمیعا، عن الحسن بن علی بن مهزیار، عن أبیه علی بن مهزیار، عن محمد بن أبی عمیر، عن محمد بن مروان، عن أبی حمزة الثمالی، قال: قال الصادق علیه السلام: إذا أردت المسیر إلی قبر الحسین علیه السلام فصم یوم الأربعاء والخمیس والجمعة، فإذا أردت الخروج فاجمع أهلک وولدک وادع بدعاء السفر، واغتسل قبل خروجک وقل حین تغتسل: اللهم طهرنی وطهر قلبی، واشرح لی صدری... فإذا وقفت علی التل فاستقبل القبر فقف وقل: الله أکبر الله أکبر ثلاثین مرة، وتقول: لا إله إلا الله فی علمه منتهی علمه، ولا إله إلا الله بعد علمه منتهی علمه، ولا إله إلا الله مع علمه منتهی علمه... السلام علیکم یا ملائکة الله


1- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص 374 __ 376.

ص: 149

ویا زوار قبر أبی عبد الله علیه السلام... السلام علیک وعلی الأرواح التی حلت بفنائک وأناخت برحلک)(1).

وعن السید ابن طاوس قدس الله روحه قال: (... بإسنادنا إلی عبد الله بن جعفر الحمیری، قال: حدثنا الحسن بن علی الکوفی، عن الحسن بن محمد الحضرمی، عن عبد الله بن سنان قال: دخلت علی مولای أبی عبد الله جعفر بن محمد علیه السلام یوم عاشوراء وهو متغیر اللون ودموعه تنحدر علی خدیه کاللؤلؤ، فقلت له: یا سیدی مما بکاؤک، لا أبکی الله عینیک، فقال لی: أما علمت أن فی مثل هذا الیوم أصیب الحسین علیه السلام... فان فی ذلک الوقت من ذلک الیوم تجلت الهیجاء عن آل الرسول علیه وعلیهم السلام، وانکشفت الملحمة عنهم وفی الأرض منهم ثلاثون صریعا یعز علی رسول الله صلی الله علیه وآله مصرعهم. قال: ثم بکا بکاء شدیدا حتی اخضلت لحیته بالدموع... یا عبد الله بن سنان أفضل ما تأتی به هذا الیوم ان تعمد إلی ثیاب طاهرة فتلبسها... وتحول وجهک نحو قبر أبی عبد الله علیه السلام وتمثل بین یدیک مصرعه، وتفرغ ذهنک وجمیع بدنک وتجمع له عقلک، ثم تلعن قاتله ألف مرة یکتب لک بکل لعنة ألف حسنة، ویمحی عنک ألف سیئة، ویرفع لک ألف درجة فی الجنة...فإذا فرغت من ذلک وقفت فی موضعک الذی صلیت فیه وقلت سبعین مرة: اللهم عذب الذین حاربوا رسلک وشاقوک وعبدوا غیرک واستحلوا محارمک، والعن القادة والأتباع... السلام علیک وعلی الأرواح التی حلت بفنائک وأناخت بساحتک، وجاهدت فی الله معک، وشرت نفسها ابتغاء مرضاة الله فیک، السلام علی الملائکة المحدقین بک)(2)


1- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص 393 __ 402.
2- إقبال الأعمال للسید ابن طاوس ج 3 ص 65 __ 70.

ص: 150

وعن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه انه علم أبا حمزة الثمالی زیارة جاء فیها: (...السلام علیک وعلی الأرواح التی حلت بفنائک وأناخت برحلک السلام علی ملائکة الله المحدقین بک السلام علی ملائکة الله وزوار قبر ابن نبی الله... السلام علی ملائکة الله المقربین السلام علی ملائکة الله المنزلین السلام علی ملائکة الله المسومین السلام علی ملائکة الله الذین هم مقیمون فی هذا الحایر بإذن ربهم السلام علی ملائکة الله الذین هم فی هذا الحایر یعملون ولأمر الله مسلمون... وتقول یا أبا عبد الله یا حسین ابن رسول الله جئتک مستشفعا بک إلی الله اللهم إنی استشفع إلیک بولد حبیبک وبالملائکة الذین یضجون علیه ویبکون ویصرخون لا یفترون ولا یسأمون وهم من خشیتک مشفقون ومن عذابک حذرون لا تغیرهم الأیام ولا ینهزمون من نواحی الحیر یشهقون وسیدهم یری ما یصنعون وما فیه یتقلبون قد انهملت منهم العیون فلا ترقأ واشتد منهم الحزن بحرقة لا تطفی)(1).

وفی هذا المقدار کفایة لإثبات ان من الأرواح ما هو زائر لقبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ومنها ما هو مقیم أو حاف أو محدق أو عامل أو صارخ أو غیر ذلک مما سنتعرف علیه فی بحث لاحق إن شاء الله تعالی.

المبحث الثانی: تبیان ألفاظ هذا المقطع من الزیارة
أولا: السَّلامُ عَلَیْکَ

 مرت معانی السلام مفصلا فی شرح الفقرة الأولی من هذه الزیارة الشریفة، وأما الضمیر فی (علیک) فانه عائد إلی الإمام أبی عبد الله الحسین صلوات الله وسلامه علیه. 


1- جامع أحادیث الشیعة للسید البروجردی ج 12 ص 477 __ 486.

ص: 151

ثانیا: وَعَلَی الأَرْوَاحِ 
اشارة

الواو هنا عاطفة وما بعدها معطوف علی (علیک) ومعنی العبارة (والسلام علی الأرواح التی حلت بفنائک) والأرواح جمع لکلمة روح، والروح مما لا یعلم حقیقتها وجوهرها إلا الله سبحانه، وقد حجب عن الناس الإلمام بتعریفها والاطلاع علی کنهها قال تعالی: ((وَیَسْأَلُونَکَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّی وَمَا أُوتِیتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِیلًا))(1)، فلیس لنا ولا لأحد من العالمین الوصول إلی تعریف جامع مانع للروح، وکل ما قیل فی تعریفها فهو إما ذکر للوازمها، أو تعداد لآثارها، أو تبیان لمراتبها الوجودیة من حیث القوة والضعف فی التجرد، وأما الإحاطة بکامل حقیقتها وکنه جوهرها فهو مما حجب عن العالمین خبره ولم نکلف بالبحث عنه، فیکون العدول عن الخوض فی تفاصیل ذلک أولی للمؤمن.

ولکنها من حیث الإطلاق اللغوی أو الشرعی فقد أطلقت علی حقائق خارجیة شتی منها:

1: الإنسان

الذی یتکون من حیث الخلقة من جسد وروح یتقوم بها ذلک الجسد، وتنبعث بفضلها فیه الحیاة، وقیل ان الروح هی النفس(2)، قال أبو بکر بن الأنباری: (الروح والنفس واحد غیر ان الروح مذکر والنفس مؤنثة عند العرب)(3).

وقد أطلق القرآن الکریم اسم الروح علی نبی الله عیسی بن مریم صلوات الله وسلامه علیه


1- سورة الإسراء الآیة 85.
2- راجع تاج العروس للزبیدی ج4 ص57 مادة روح.
3- تاج العروس للزبیدی ج4 ص57 مادة روح.

ص: 152

فی قوله تعالی ((إِنَّمَا الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَکَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَی مَرْیَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ))(1)، وأطلق القرآن الکریم الروح علی سائر البشر وفی طلیعتهم نبی الله آدم صلوات الله وسلامه علیه قال تعالی: ((وَإِذْ قَالَ رَبُّکَ لِلْمَلَائِکَةِ إِنِّی خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّیْتُهُ وَنَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِینَ))(2).

والإنسان وان کان فی وجوده مرکباً من جسد وروح إلا ان العرف لا یطلق علیه روحا إلا بعد موته، وفی الحدیث: (أرواح المؤمنین علی صورة أبدانهم لو رأیته لقلت فلان وفلان)، أما قبل موته فیمکن تسمیته روحا من باب إطلاق الجزء وإرادة الکل(3).

2: الملائکة 

وسمیت الملائکة روحا أو روحانیین بسبب من انهم خلقوا من روح مجردة عن الجسد المادی، قال ابن منظور: (والروحانی من الخلق: نحو الملائکة ممن خلق الله روحا بغیر جسد)(4).

والملائکة وان کانوا کلهم بحسب التحقیق أرواحا مجردة، إلا ان الآیات الکریمة وأحادیث أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أطلقت لفظ (الروح) أو (روح) علی فئة خاصة من الملائکة، منهم جبرائیل الأمین فی قوله سبحانه: ((نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِینُ))(5)، وقوله سبحانه ((فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَیْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِیًّا))(6)


1- سورة النساء الآیة 171.
2- سورة الحجر الآیة 28 __ 29.
3- مجمع البحرین للشیخ الطریحی ج2 ص240 باب الراء.
4- لسان العرب لابن منظور ج 2 ص 463 مادة روح.
5- سورة الشعراء الآیة رقم 193.
6- سورة مریم الآیة رقم 17.

ص: 153

وأطلق القرآن الروح فی قوله تعالی: ((وَکَذَلِکَ أَوْحَیْنَا إِلَیْکَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا کُنْتَ تَدْرِی مَا الْکِتَابُ وَلَا الْإِیمَانُ وَلَکِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِی بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّکَ لَتَهْدِی إِلَی صِرَاطٍ مُسْتَقِیمٍ))(1)، وأراد به صنفاً من الملائکة أعظم من جبرائیل ومیکائیل، فعن أبی بصیر قال: (سألت أبا عبد الله علیه السلام عن قول الله تبارک وتعالی: ((وَکَذَلِکَ أَوْحَیْنَا إِلَیْکَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا کُنْتَ تَدْرِی مَا الْکِتَابُ وَلَا الْإِیمَانُ)) قال: خلق من خلق الله عز وجل أعظم من جبرئیل ومیکائیل، کان مع رسول الله صلی الله علیه وآله یخبره ویسدده وهو مع الأئمة من بعده)(2).

3: الجن 

والجن کالملائکة أرواح مجردة ولکنها وبحسب الآیات القرآنیة مقرونة بجسم لطیف أوضحه القرآن بقوله: ((قَالَ مَا مَنَعَکَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُکَ قَالَ أَنَا خَیْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِی مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِینٍ))(3)، فالفارق بین نبی الله آدم صلوات الله وسلامه علیه وإبلیس لعنه الله هو فی مادة الجسد فآدم من تراب أو طین وإبلیس من نار، والتفصیل فی هذا لیس محل بحثه هاهنا.

ثالثا: الَّتِی حَلَّتْ بِفِنَائِکَ

 و (حَلَّتْ) بمعنی نزلت فی فنائک وأصلها کما قال ابن منظور من: (حلل: حل بالمکان یحل حلولا ومحلا وحلا وحللا...وذلک نزول القوم بمحلة وهو نقیض الارتحال... وحله واحتل به واحتله: نزل به)(4)


1- سورة الشوری الآیة 52.
2- الکافی للشیخ الکلینی ج1 ص273 باب الروح التی یسدد الله بها الأئمة علیهم السلام.
3- سورة الأعراف الآیة رقم 12.
4- لسان العرب لابن منظور ج 11 ص 163 فصل الحاء المهملة.

ص: 154

وقال الزبیدی: (وحللت: نزلت، من حل الأحمال عند النزول، ثم جرد استعماله للنزول، فقیل: حل حلولا: نزل)(1).

أما الفناء فهی المساحة الفارغة المحیطة بالقبر الشریف، قال الفراهیدی: (والفِناء: سعة أمام الدار، وجمعه: الأفنیة)(2)، وقال الجوهری: (وفِناء الدار: ما امتد من جوانبها، والجمع أفنیة)(3) وقال الشیخ الطریحی: («فِناء الکعبة» بالمد: سعة أمامها. وقیل: ما امتد من جوانبها دورا وهو حریمها خراج المملوک منها، ومثله فِناء الدار، والجمع «أفنیة»)(4).

رابعا: وأناخت برحلک

رابعا: وأناخت برحلک(5)

أناخت مأخوذة من ال_(نوخ: أنخت البعیر فاستناخ ونوخته فتنوخ وأناخ الإبل: أبرکها فبرکت، واستناخت: برکت... والمناخ: الموضع الذی تناخ فیه الإبل. والنوخة: الإقامة)(6).

فشبهت الزیارة حلول الأرواح بفناء الإمام أبی عبد الله الحسین صلوات الله وسلامه علیه بإناخة الإبل وبروکها علی الأرض، لان الإبل إذا ما برکت واستقر جسمها علی الأرض صارت من کثرة ثباتها واستقرارها کالشیء اللاصق بالأرض، کذلک تلک


1- تاج العروس للزبیدی ج 14 ص 159 مادة حلل.
2- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 8 ص 376 أبواب الثلاثی الصحیح من النون أبواب الثلاثی المعتل من النون باب النون والفاء و (وای ء) معهما.
3- الصحاح للجوهری ج 6 ص 2457.
4- مجمع البحرین للشیخ الطریحی ج 3 ص 432.
5- هذه العبارة غیر موجودة فی الروایة التی اعتمدناها لزیارة عاشوراء وإنما أوردناها وشرحناها طلبا للفائدة.
6- لسان العرب لابن منظور ج 3 ص 65 فصل الواو.

ص: 155

الأرواح التی استقرت وحلت بفناء الحسین صلوات الله وسلامه علیه فهی من شدة ملازمتها ومکوثها وبقائها بذلک الفناء صارت کالشیء اللاصق الذی لا یقبل الانفکاک والانفصال.

والرحل کما عرفه الفراهیدی بقوله: (ورحل الرجل: منزله ومسکنه)(1)، وقال الجوهری فی الصحاح: (الرحل: مسکن الرجل وما یستصحبه من الأثاث)(2)، وقال ابن منظور: (قال الأزهری: فقد صح أن الرحل والرحالة من مراکب الرجال ومسکنه وبیته. ویقال: دخلت علی الرجل رحله أی منزله... وانتهینا إلی رحالنا أی منازلنا. والرحل: مسکن الرجل وما یصحبه من الأثاث)(3).

ولا یخفی ان المراد بالرحل فی الزیارة هو مسکن ومثوی جسد الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ومحل دفنه وموضع قبره وقبور أصحابه وأهل بیته وقبر أخیه العباس صلوات الله وسلامه علیه.

المبحث الثالث: فضل السلام وفوائد تکراره 
اشارة

بعد أن بدأت الزیارة الشریفة بالسلام علی الإمام أبی عبد الله الحسین صلوات الله وسلامه علیه، ثم تحولت بعد ذلک إلی تبیان أهم الأسباب التی أدت إلی مقتل الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بالتوضیح الذی قدمناه، عادت فی هذه الفقرة لتبیان حقیقة جدیدة تتمثل فی تبیان الأهمیة الکونیة التی یتمتع بها موضع قبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وما جاوره من الأرض التی طابت وطهرت وبورکت ببرکة حلول


1- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 3 ص 208.
2- الصحاح للجوهری ج 4 ص 1706.
3- لسان العرب لابن منظور ج 11 ص 275.

ص: 156

الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بها وتشریفه لها، بحیث صار قبره الشریف وروضته المنیفة وما یحوطها مرکز اهتمام الخالق الجبار سبحانه وتعالی ومحط نزول أنبیائه ومهبط ملائکته وسکان سماواته مما یجعل هذه الترعة التی هی من ترع الجنة محور الوجود ومرکز اهتمام عالم الإمکان، وهذه الحقیقة ستتضح جلیا فی المبحث الرابع الذی سیلی هذا المبحث إن شاء الله تعالی.

وبما ان السلام علی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه سیتکرر ذکره مرات عدیدة فی فقرات هذه الزیارة المنیفة أحببنا أن نوضح بعض فوائد هذا التکرار، ونبین ان هذا التکرار لم یأتِ إلا لهدف شریف ومهم، وانه لیس تکرارا ساذجا لا طائل منه حاشا أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من أن یصدر عنهم ما هو لغو لا طائل منه ولا فائدة، وهذه الفائدة فی التکرار لا یمکن أن تعلم ویحاط بأهمیتها ما لم نتعرف علی الفوائد الجلیلة والعظیمة للسلام، والتی تکفلت الروایات الشریفة للنبی صلی الله علیه وآله وسلم وأهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بتبیانها وإیضاحها بأقوال وتصریحات لا تحصی علی هذه العجالة نذکر منها ما یأتی:

الفائدة الأولی: السلام سبب من أسباب المغفرة 

فعن النبی الأعظمصلی الله علیه وآله وسلم قال: (إن من موجبات المغفرة بذل السلام وحسن الکلام)((1).

الفائدة الثانیة: السلام سبب لکثرة خیر بیت المسلِّم 

فعن النبی صلی الله علیه وآله وسلم قال: (أفش السلام یکثر خیر بیتک)((2)


1- () بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج73 ص11 أبواب التحیة والتسلیم إذا سلم الیهودی والنصرانی والمشرک.
2- () میزان الحکمة لمحمد الریشهری ج 2 ص 1348.

ص: 157

الفائدة الثالثة: وفی السلام الکثیر من الحسنات

 قال الإمام علی صلوات الله وسلامه علیه: (السلام سبعون حسنة، تسعة وستون للمبتدئ وواحدة للراد)((1).

الفائدة الرابعة: ان المسلِّم یحظی برد من الملائکة

 فعن إسحاق بن عمار الصیرفی قال: (دخلت علی أبی عبد الله علیه السلام وکنت ترکت التسلیم علی أصحابنا فی مسجد الکوفة وذلک لتقیة علینا فیها شدیدة فقال لی أبو عبد الله یا إسحاق متی أحدثت هذا الجفاء لإخوانک تمر بهم ولا تسلم علیهم فقلت له ذلک لتقیة کنت فیها فقال لیس علیک فی التقیة ترک السلام وإنما علیک فی التقیة الإذاعة، إن المؤمن لیمر بالمؤمنین فیسلم علیهم فترد الملائکة سلام علیک ورحمة الله وبرکاته)(2).

الفائدة الخامسة: المسلم یحظی بالرد من قبل إمامه المعصوم صلوات الله وسلامه علیه

 ان الزائر لقبر إمامه المعصوم صلوات الله وسلامه علیه یحظی برد السلام من الإمام المسلَّم علیه نفسه، وذلک لأن سلام الزائر علی إمامه مستحب، ولکن رد هذا السلام من الإمام صلوات الله وسلامه علیه واجب کما قال الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه: (السلام تطوع والرد فریضة)((3) وحاشی الإمام أن یخل بواجب ویضیع فریضة.

 فمن أراد أن یکلمه إمامه المعصوم وان یرد علیه الجواب فلیسلم علیه صلوات الله وسلامه علیه، وأفضل أنواع السلام هو ما جاء علی لسان الزیارات الشریفة ومنها هذه الزیارة الجلیلة القدر العظیمة الفائدة. 


1- () بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج73 ص11 أبواب التحیة والتسلیم إذا سلم الیهودی والنصرانی والمشرک.
2- جامع أحادیث الشیعة للسید البروجردی - ج 15 - ص 585
3- () الکافی للشیخ الکلینی ج 2 ص 644.

ص: 158

الفائدة السادسة: فی السلام تکامل لروح الزائر المسلِّم

ان الحضور عند الإمام والتعلق بتربته ومخاطبته بالسلام یحدث فی النفس تأثیرا روحانیا غیبیا یتکامل من خلاله الإنسان الزائر مستمدا ذلک کله من إمامه المعصوم، وهذه الحقیقة قد اقر بها الموافق والمخالف، قال فخر الدین الرازی: (إن الإنسان إذا ذهب إلی قبر إنسان قوی النفس کامل الجوهر شدید التأثیر ووقف هناک ساعة وتأثرت نفسه من تلک التربة حصل لنفس الزائر تعلق بتلک التربة وقد عرفت أن لنفس المیت تعلقا بتلک التربة أیضا فحینئذ یحصل لنفس هذا الزائر الحی ولنفس ذلک الإنسان المیت ملاقاة بسبب اجتماعهما علی تلک التربة فصارت هاتان النفسان شبیهتین بمرآتین صقیلتین وضعتا بحیث ینعکس الشعاع من واحدة منهما إلی الأخری فکل ما حصل فی نفس هذا الزائر الحی من المعارف البرهانیة والعلوم الکسبیة والأخلاق الفاضلة من الخضوع لله تعالی والرضی بقضاء الله، ینعکس منه نور إلی روح ذلک الإنسان المیت وکل ما حصل فی نفس ذلک الإنسان المیت من العلوم المشرفة والآثار العلویة الکاملة فإنه ینعکس منه نور إلی روح هذا الزائر الحی، وبهذا الطریق تصیر تلک الزیارة سببا لحصول المنفعة الکبری والبهجة العظمی لروح الزائر ولروح المزور، فهذا هو السبب الأصلی فی مشروعیة الزیارة، ولا یبعد أن یحصل فیها أسرار أخری أدق وأحق مما ذکرناه، وتمام العلم بالحقائق لیس إلا عند الله)((1).

فالزائر للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ولروضته التی هی ترعة من ترع الجنة یحظی بوقوفه وسلامه علی إمامه صلوات الله وسلامه علیه بهذه الزیارة العظیمة بکل هذه الفوائد والألطاف الإلهیة، وواحدة من علل التکرار للسلام فی الزیارة تکرار لکل ذلک الثواب وزیادة لجمیع تلک الألطاف التی یحاط بها الشخص المسلِّم.


1- () المطالب العالیة للفخر الرازی الفصل الثامن عشر فی بیان کیفیة الانتفاع بزیارة القبور والموتی، وراجع الفیض القدیر شرح الجامع الصغیر للمناوی ج 5 ص 622.

ص: 159

المبحث الرابع: المقصود من الأرواح التی ورد ذکرها فی هذه الفقرة
اشارة

لا یخفی ان الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه فی هذه الزیارة الشریفة استعمل فی لفظ الأرواح الألف واللام، ومعلوم ان الجمع المحلی بالألف واللام یدل علی العموم، فتدخل وبناءً علی هذا العموم مصادیق متعددة کثیرة، وقد خص الإمام صلوات الله وسلامه علیه بالذکر مصداقین من مصادیق ذلک العام وهما کل من:

الأرواح التی حلت بفناء قبر الإمام أبی عبد الله الحسین صلوات الله وسلامه علیه

والحلول لفظ مطلق غیر مقید بالحلول الدائم، فیشمل کلاًّ من الحلول الدائم والمؤقت، لان الذی یحل بقبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وینزل بجواره یوما أو ساعة من النهار یصح أن یقال حل فیه لمدة یوم أو ساعة، کما یصح أن یقال للحاج الذی یقف بعرفة لساعة من الزمن أو اقل انه وقف یوم عرفات، إذ ان مسمی الوقوف یکفی فی صحة إطلاق الوصف علیه(1).

وهذا الوصف بهذا التوضیح یشمل کل الشهداء السعداء الذین بذلوا مهجهم دون سیدهم وإمامهم الحسین بن علی صلوات الله وسلامه علیه وعلیهم أجمعین، وکذلک یشمل أبناء الحسین وبقیة أهل بیته وأخاه أبا الفضل العباس صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین


1- ویشهد لهذا المعنی أیضا ما أخرجه الشیخ الکلینی قدس الله روحه فی (الکافی ج 8 ص 348 __ 349 نصائح لقمان لابنه فی آداب السفر) عن أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (قال لقمان لابنه: إذا سافرت مع قوم فأکثر استشارتک إیاهم فی أمرک وأمورهم وأکثر التبسم فی وجوههم... وإذا أردت النزول فعلیک من بقاع الأرض بأحسنها لونا وألینها تربة وأکثرها عشبا وإذا نزلت فصل رکعتین قبل أن تجلس وإذا أردت قضاء حاجة فابعد المذهب فی الأرض وإذا ارتحلت فصل رکعتین وودع الأرض التی حللت بها وسلم علیها وعلی أهلها فإن لکل بقعة أهلا من الملائکة...) ومحل الشاهد فی قوله صلوات الله وسلامه علیه (وودع الأرض التی حللت بها) ففیها دلیل علی ان الحلول لا یستلزم الاستقرار والبقاء الطویل الأمد، فیصدق علی المکث والنزول بمکان لمدّة محدودة کما یصدق علی النزول والمکث الطویل.

ص: 160

لان الجمیع حال بفناء إمامه ومقیم بضیافة مولاه.

وکذلک یشمل زوار قبر أبی عبد الله الحسین صلوات الله وسلامه علیه من الأنبیاء والأوصیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین والملائکة والمؤمنین الذین یستأذنون الله سبحانه بزیارة قبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه فیمکثون ویحلون بقبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وحرمه من الزمان ما شاء لهم الله سبحانه ان یحلوا ویمکثوا، وقد تحدثت الروایات الشریفة عن هؤلاء الزوار الکرام بصورة مفصلة وأحادیث کثیرة نختار منها فیما یأتی عشر روایات:

الروایة الأولی: عن ابن سنان، عن أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (قبر الحسین بن علی صلوات الله وسلامه علیهما عشرون ذراعا فی عشرین ذراعا مکسرا روضة من ریاض الجنة، وفیه معراج الملائکة إلی السماء، ولیس من ملک مقرب ولا نبی مرسل إلا وهو یسأل الله أن یزوره، ففوج یهبط وفوج یصعد)(1).

الروایة الثانیة: عن داود الرقی، قال: (سمعت أبا عبد الله صلوات الله وسلامه علیه یقول: ما خلق الله خلقا أکثر من الملائکة، وانه ینزل من السماء کل مساء سبعون ألف ملک یطوفون بالبیت الحرام لیلتهم، حتی إذا طلع الفجر انصرفوا إلی قبر النبی صلی الله علیه وآله وسلم فیسلمون علیه، ثم یأتون قبر أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه فیسلمون علیه، ثم یأتون قبر الحسین صلوات الله وسلامه علیه فیسلمون علیه، ثم یعرجون إلی السماء قبل ان تطلع الشمس، ثم تنزل ملائکة النهار سبعون الف ملک، فیطوفون بالبیت الحرام نهارهم، حتی إذا غربت الشمس انصرفوا إلی قبر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فیسلمون علیه، ثم یأتون قبر أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه فیسلمون علیه، ثم یأتون قبر الحسین صلوات الله وسلامه علیه فیسلمون علیه، ثم یعرجون إلی السماء قبل أن تغیب الشمس)(2)


1- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص 222.
2- المصدر نفسه.

ص: 161

الروایة الثالثة: عن الفضل بن یحیی، عن أبیه، عن أبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه، قال: (زوروا کربلاء ولا تقطعوه، فان خیر أولاد الأنبیاء ضمنته، ألا وان الملائکة زارت کربلاء ألف عام من قبل ان یسکنه جدی الحسین صلوات الله وسلامه علیه، وما من لیلة تمضی إلا وجبرائیل ومیکائیل یزورانه، فاجتهد یا یحیی أن لا تفقد من ذلک الموطن)(1).

الروایة الرابعة: عن یونس، عن الإمام الرضا صلوات الله وسلامه علیه، قال: (من زار قبر الحسین صلوات الله وسلامه علیه فقد حج واعتمر، قال: قلت: یطرح عنه حجة الإسلام، قال: لا، هی حجة الضعیف حتی یقوی ویحج إلی بیت الله الحرام، أما علمت أن البیت یطوف به کل یوم سبعون ألف ملک حتی إذا أدرکهم اللیل صعدوا ونزل غیرهم فطافوا بالبیت حتی الصباح، وان الحسین صلوات الله وسلامه علیه لأکرم علی الله من البیت، وانه فی وقت کل صلاة لینزل علیه سبعون ألف ملک شعث غبر لا تقع علیهم النوبة إلی یوم القیامة)(2).

الروایة الخامسة: عن أبان، عن أبی حمزة الثمالی، عن أبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه، قال: (ان الله وکل بقبر الحسین صلوات الله وسلامه علیه أربعة آلاف ملک شعث غبر یبکونه من طلوع الفجر إلی زوال الشمس، فإذا زالت الشمس هبط أربعة آلاف ملک وصعد أربعة آلاف ملک، فلم یزل یبکونه حتی یطلع الفجر)(3).

الروایة السادسة: عن أبی بصیر، عن أبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه، قال: وکّل الله تعالی بالحسین صلوات الله وسلامه علیه سبعین ألف ملک، یصلون علیه کل یوم شعثا غبرا


1- کامل الزیارات: ص453.
2- المصدر نفسه: ص299.
3- المصدر نفسه: ص175.

ص: 162

منذ یوم قتل إلی ما شاء الله __ یعنی بذلک قیام القائم صلوات الله وسلامه علیه __)(1).

الروایة السابعة: عن عبد الملک بن مقرن، عن أبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه، قال: (إذا زرتم أبا عبد الله صلوات الله وسلامه علیه فالزموا الصمت إلا من خیر، وان ملائکة اللیل والنهار من الحفظة تحضر الملائکة الذین بالحائر فتصافحهم فلا یجیبونها من شدة البکاء فینتظرونهم حتی تزول الشمس وحتی ینور الفجر، ثم یکلمونهم ویسألونهم عن أشیاء من أمر السماء، فأما ما بین هذین الوقتین فإنهم لا ینطقون ولا یفترون عن البکاء والدعاء، ولا یشغلونهم فی هذین الوقتین عن أصحابهم، فإنما شغلهم بکم إذا نطقتم.

قلت: جعلت فداک وما الذی یسألونهم عنه وأیهم یسأل صاحبه الحفظة أو أهل الحائر، قال: أهل الحائر یسألون الحفظة، لان أهل الحائر من الملائکة لا یبرحون والحفظة تنزل وتصعد.

 قلت: فما تری یسألونهم عنه؟ قال: انهم یمرون إذا عرجوا بإسماعیل صاحب الهواء، فربما وافقوا النبی صلوات الله وسلامه علیه وعنده فاطمة والحسن والحسین والأئمة، من مضی منهم، فیسألونهم عن أشیاء وعمن حضر منکم الحائر ویقولون: بشروهم بدعائکم، فتقول الحفظة: کیف نبشرهم وهم لا یسمعون کلامنا، فیقولون لهم: بارکوا علیهم وادعوا لهم عنا، فهی البشارة منا، فإذا انصرفوا فحفوهم بأجنحتکم، حتی یحسوا مکانکم، وانا نستودعهم الذی لا تضیع ودائعه.

 ولو یعلموا ما فی زیارته من الخیر ویعلم ذلک الناس لاقتتلوا علی زیارته بالسیوف، ولباعوا أموالهم فی إتیانه، وان فاطمة صلوات الله وسلامه علیها إذا نظرت إلیهم ومعها ألف نبی وألف صدیق وألف شهید ومن الکروبیین ألف ألف یسعدونها علی البکاء، وانها لتشهق شهقة، فلا تبقی فی السماوات ملک إلا بکی رحمة لصوتها، وما تسکن


1- کامل الزیارات جعفر بن محمد بن قولویه ص173.

ص: 163

حتی یأتیها النبی صلوات الله وسلامه علیه فیقول: یا بنیة قد أبکیت أهل السماوات وشغلتهم عن التسبیح والتقدیس فکفی حتی یقدسوا، فان الله بالغ أمره، وانها لتنظر إلی من حضر منکم، فتسأل الله لهم من کل خیر، ولا تزهدوا فی إتیانه، فإن الخیر فی إتیانه أکثر من أن یحصی)(1).

الروایة الثامنة: عن عبد الله بن حماد البصری، عن أبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه قال: قال لی: (فی قربکم لفضیلة ما أوتی أحد مثلها، وما أحسبکم تعرفونها کنه معرفتها، ولا تحافظون علیها ولا علی القیام بها، وأن لها لأهلا خاصة قد سموا لها وأعطوها بلا حول منهم ولا قوة، إلا ما کان من صنع الله لهم، وسعادة حباهم بها ورحمة ورأفة وتقدم.

 قلت: جعلت فداک وما هذا الذی وصفت ولم تسمه؟ قال: زیارة جدی الحسین صلوات الله وسلامه علیه، فإنه غریب بأرض غربة، یبکیه من زاره، ویحزن له من لم یزره، ویحترق له من لم یشهده، ویرحمه من نظر إلی قبر ابنه عند رجلیه فی أرض فلاة... قد أوحش قربه فی الوحدة والبعد عن جده، والمنزل الذی لا یأتیه إلا من امتحن الله قلبه للإیمان وعرفه حقنا... فقال صلوات الله وسلامه علیه: هل تدری ما فضل من أتاه، وماله عندنا من جزیل الخیر؟ فقلت: لا، فقال: أما الفضل فیباهیه ملائکة السماء، وأما ماله عندنا فالترحم علیه کل صباح ومساء، ولقد حدثنی أبی صلوات الله وسلامه علیه: أنه لم یخل مکانه منذ قتل من مصل یصلی علیه من الملائکة، أو من الجن، أو من الإنس، أو من الوحش، وما من شیء إلا وهو یغبط زائره ویتمسح به، ویرجو فی النظر إلیه الخیر لنظره إلی قبره)(2)


1- کامل الزیارات ص177.
2- مستدرک الوسائل للمیرزا النوری ج 10 ص 251 __ 252.

ص: 164

الروایة التاسعة: عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله صلوات الله وسلامه علیه: (کأنی والله بالملائکة قد زاحموا المؤمنین علی قبر الحسین صلوات الله وسلامه علیه، قال، قلت: فیتراؤون؟ قال: هیهات هیهات، قد لزموا والله المؤمنین، حتی أنهم لیمسحون وجوههم بأیدیهم، قال، وینزل الله علی زوار الحسین صلوات الله وسلامه علیه غدوة وعشیة من طعام الجنة، وخدامهم الملائکة، لا یسأل الله عبد حاجة من حوائج الدنیا و الآخرة إلا أعطاها إیاه، قال، قلت: هذه والله الکرامة، قال: یا مفضل أزیدک؟ قلت: نعم سیدی، قال: کأنی بسریر من نور قد وضع، وقد ضربت علیه قبة من یاقوتة حمراء مکللة بالجوهر، وکأنی بالحسین بن علی صلوات الله وسلامه علیهما جالس علی ذلک السریر، وحوله تسعون ألف قبة خضراء، وکأنی بالمؤمنین یزورونه، ویسلمون علیه، فیقول الله عز وجل لهم: أولیائی سلونی فطالما أوذیتم، وذللتم، واضطهدتم، فهذا یوم لا تسألونی حاجة من حوائج الدنیا والآخرة إلا قضیتها لکم، فیکون أکلهم وشربهم من الجنة، فهذا والله الکرامة التی لا انقضاء لها، ولا منتهاها شیء)(1).

الروایة العاشرة: وفی الزیارة ورد: (السلام علیک أیها الإمام الهادی الزکی وعلی أرواح حلت بفنائک وأقامت فی جوارک ووفدت مع زوارک السلام علیک منی ما بقیت وبقی اللیل والنهار فلقد عظمت بک الرزیة)(2).

فالإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه کما مر فی هذه الروایات العشر یزوره کل نبی وکل ملک مقرب کما فی الروایة الأولی، ویزوره ملائکة اللیل وملائکة النهار کما فی الروایة الثانیة، ویزوره جبرائیل ومیکائیل کل لیلة کما فی الروایة الثالثة، وینزل علیه فی کل وقت صلاة سبعون ألف ملک لا تصلهم نوبة زیارته صلوات الله وسلامه علیه مرة ثانیة إلی


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج98 ص73.
2- جامع أحادیث الشیعة للسید البروجردی ج 12 ص 418.

ص: 165

یوم القیامة کما فی الروایة الرابعة، وأربعة آلاف ملک یبکونه صلوات الله وسلامه علیه إلی وقت الزوال وأربعة آلاف آخرون یبکونه من الزوال إلی الفجر کما فی الروایة الخامسة، وسبعة آلاف ملک مهمتهم الصلاة علی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه حتی یقوم القائم کما فی الروایة السادسة، ویزوره ملائکة اللیل والنهار من الحفظة کما فی الروایة السابعة، ولا یخلو مرقده الشریف منذ قتل إلی یوم القیامة من مصل یصلی علیه من الملائکة أو الجن أو الإنس أو الوحوش کما فی الروایة الثامنة، ویزوره المؤمنون ویسلمون علیه کما فی الروایة التاسعة، وتزوره بعض الملائکة الذین یفدون علیه مع زواره من الأحیاء کما فی الروایة العاشرة ولعلهم الکرام الکاتبون الموکلون بکل إنسان مکلف، ولعلهم صنف آخر قد حجب عنا خبرهم.

فالإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه فی هذا الفقرة من زیارة عاشوراء یغتنم الفرصة لیسلم علی من هو موجود فی تلک الساعة من أرواح الأنبیاء والرسل والأوصیاء والملائکة والمؤمنین من الجن والإنس ممن یکون حلولهم ومکوثهم فی حرم الحسین مؤقتا غیر دائم، صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

الأرواح التی أناخت بقبر الإمام أبی عبد الله الحسین بن علی صلوات الله وسلامه علیه

وهی التی استقرت إلی جواره من غیر مفارقة، حتی صارت من شدة ملازمتها ومکوثها وبقائها بذلک الفناء کالشیء اللاصق الذی لا یقبل الانفکاک والانفصال. وقد تحدثت متون الزیارات الشریفة للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه عن عدة أصناف منهم، فمنهم الشهداء الذین قدموا أنفسهم قرابین لنیل مرضاة الله سبحانه وتعالی ورضا إمامهم صلوات الله وسلامه علیه، وقد تمت الإشارة إلیهم فی زیارة أخری بالقول: (السلام علیک وعلی الأرواح التی حلت بفنائک وأناخت بساحتک، وجاهدت فی الله معک، وشرت

ص: 166

نفسها ابتغاء مرضاة الله فیک(1)، السلام علی الملائکة المحدقین بک)(2).

وهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین المذکورون فی هذه الزیارة الأخری: (السلام علیکم أیها الأرواح التی حلت بفناء قبر الحسین وأناخت برحله. أشهد أنکم أقمتم الصلاة وآتیتم الزکاة و أمرتم بالمعروف ونهیتم عن المنکر، وجاهدتم الملحدین، وعبدتم الله حتی أتاکم الیقین)(3).

ومنهم الملائکة المذکورون بالقول: (السلام علی ملائکة الله الذین هم فی هذا المشهد بإذن الله مقیمون)(4).

ومنهم الملائکة المذکورین بالقول: (السلام علی ملائکة الله الذین هم مقیمون فی هذا الحایر بإذن ربهم السلام علی ملائکة الله الذین هم فی هذا الحایر یعملون ولأمر الله مسلمون... اللهم إنی استشفع إلیک بولد حبیبک وبالملائکة الذین یضجون علیه ویبکون ویصرخون لا یفترون ولا یسأمون وهم من خشیتک مشفقون ومن عذابک حذرون لا تغیرهم الأیام ولا ینهزمون من نواحی الحیر یشهقون وسیدهم یری ما یصنعون وما فیه یتقلبون قد انهملت منهم العیون فلا ترقأ واشتد منهم الحزن بحرقة لا تطفی)(5).

ولعل هنالک ما لا یحصیه إلا الله من أصناف الملائکة من الذین حجب عنا العلم بهم أو لم نستوفِهم إحصاءً فی بحثنا هذا الذی جاء علی عجالة، فجمیع هؤلاء الأطهار یشملهم خطاب (وأناخت برحله) فصلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.


1- المقصود من هذه العبارة هم الشهداء السعداء من أصحاب الحسین وأهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فهم الذین جاهدوا فی الله معه، وشروا أنفسهم فیه ابتغاء مرضاة الله.
2- إقبال الأعمال للسید ابن طاوس ج 3 ص 65 __ 70.
3- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج 98 ص 195 __ 196.
4- المزار للشیخ المفید ص 104 __ 105.
5- جامع أحادیث الشیعة للسید البروجردی ج 12 ص 477 __ 486.

ص: 167

عَلَیْکُمْ مِنِّی جَمِیعاً سَلامُ اللهِ أَبَداً مَا بَقِیتُ وَبَقِیَ اللَّیْلُ وَالنَّهَارُ

اشارة

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة من الزیارة

المبحث الثانی: تبیان ألفاظ هذه الفقرة من الزیارة

                     1: علیکم منی جمیعا                                              2: سلام الله

                     3: أبدا ما بقیت وبقی اللیل والنهار

المبحث الثالث: فی معنی سلام الله سبحانه وتعالی

                     أولا: السلام اسم من أسماء الله سبحانه وتعالی

                     ثانیا: مراتب إفاضة السلامة علی سائر البشر

                     ثالثا: سلام الله سبحانه مرافق لأهل البیت علیهم السلام فی جمیع العوالم

                             ألف: سلامتهم علیهم السلام فی عالم الأشباح والأنوار

                             باء: سلامتهم علیهم السلام فی عالم الطینة

                             جیم: سلامتهم علیهم السلام فی عالم الأظلة

                             دال: سلامتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی عالم الذر

                             هاء: سلامتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی عالم الأصلاب

                     رابعاً: فائدة الخوض فی مثل هذا البحث

                             ألف: ان معرفة الله حق معرفته متوقف علی معرفة الأئمة حق معرفتهم

                             باء: ان معرفتهم علیهم السلام توجب مضاعفة الحسنات

                             جیم: ان دخول الجنة متوقف علی المعرفة وازدیادها یوجب الترقی فی درجاتها

ص: 168 

ص: 169

عَلَیْکُمْ مِنِّی جَمِیعاً سَلامُ اللهِ أَبَداً مَا بَقِیتُ وَبَقِیَ اللَّیْلُ وَالنَّهَارُ

فی هذه الفقرة الشریفة من الزیارة عدة من المباحث المهمة نستعرضها فیما یأتی من الکلام بحسب ما تتیحه لنا المکنة والتوفیق:

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة من الزیارة

توجیه السلام من قبل الله سبحانه وتعالی للإمام أبی عبد الله الحسین مما اشتهر علی لسان الروایات الشریفة والزیارات التی وردت عن أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی حق الإمام الشهید وأهل بیته وأصحابه الذین بذلوا مهجهم دونه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ونحن نورد فیما یأتی جملة من تلک الموارد:

فعن جعفر بن محمد بن قولویه قدس الله روحه قال: (حدثنی محمد بن جعفر الرزاز

ص: 170

الکوفی، عن محمد بن الحسین بن أبی الخطاب، عن عبد الرحمان بن أبی نجران، عن یزید بن إسحاق شعر، عن الحسن بن عطیة، عن أبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه، قال: إذا دخلت الحائر فقل: اللهم إن هذا مقام أکرمتنی به وشرفتنی به، اللهم فأعطنی فیه رغبتی علی حقیقة إیمانی بک وبرسلک، سلام الله علیک یا ابن رسول الله، وسلام ملائکته، فیما تروح وتغتدی به الرائحات الطاهرات لک وعلیک)(1).

ونقل العلامة المجلسی زیارة أخری جاء فیها: (تقف علی باب قبته الشریفة وتقول: اللهم صل علی محمد وآل محمد وأعطنی فی هذا المقام رغبتی علی حقیقة إیمانی بک وبرسولک وبولاة أمرک، الحرم حرم الله وحرم رسوله و حرمک یا مولای... وصلوات الله وبرکاته وتحیاته علیک وعلی آبائک الطیبین المنتجبین...سلام الله علیک ورحمة الله وبرکاته یا ابن سید العالمین، وعلی المستشهدین معک سلاما متصلا ما اتصل اللیل والنهار)(2).

وعن الشهید الأول فی کتابه المزار قال: (دعاء آخر یستحب أن یدعی به عقیب صلاة الزیارة لأمیر المؤمنین علیه السلام. یا الله یا الله یا الله یا مجیب دعوة المضطرین ویا کاشف کرب المکروبین ویا غیاث المستغیثین ویا صریخ المستصرخین... یا أمیر المؤمنین ویا أبا عبد الله علیهما منی سلام الله أبدا ما بقی اللیل والنهار ولا جعله الله آخر العهد من زیارتکما ولا فرق الله بینی وبینکما)(3).

وقد ترکنا ذکر المزید من الموارد والشواهد خوف الإطالة والخروج عن المقصود. 


1- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص 358.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج 98 ص 222 __ 224.
3- المزار للشهید الأول ص 55 __ 59.

ص: 171

المبحث الثانی: تبیان ألفاظ هذه الفقرة من الزیارة
1: علیکم منی جمیعا

ضمیر الجمع فی (علیکم) عائد إلی من مر ذکره فی الفقرة السابقة، وهم کل من شخص الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وبقیة الأرواح التی حلت بفناء الحسین صلوات الله وسلامه علیه، وأناخت برحله الطاهر، فیکون قصد الإمام ان هؤلاء جمیعا وبلا استثناء علیهم منی سلام الله أبدا ما بقیت وبقی اللیل والنهار.

و(منی) قد یقصد بها الزائر نفسه فتکون الجملة بذلک إنشائیة، ویکون الزائر طالبا من الله سبحانه توجیه السلام لشخص الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وللأرواح التی حلت بفنائه وأناخت برحله.

 وقد یکون الضمیر راجعا إلی الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه الذی خرجت هذه الزیارة علی لسانه، وتکون الجملة بذلک إخباریة، وتکون مخبرة عن وقوع هذا السلام من الله فیما سبق، أو انه قد وقع وما زال مستمرا ما بقی اللیل والنهار.

و(جمیعا) لفظ دال علی الشمول، وفیه إشارة إلی أن سلام الله الموجه فی الزیارة شامل للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وأصحابه وجمیع الأرواح التی حلت بفنائه وأناخت برحله.

2: سلام الله

سیأتی لاحقا بحث مفصل حول معنی سلام الله سبحانه ومراتب تحققه بالنسبة للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وبقیة الأرواح التی حلت بفناء الحسین صلوات الله وسلامه علیه وأناخت برحله. 

ص: 172

3: أبدا ما بقیت وبقی اللیل والنهار

والأبد لفظ یدل علی طول المدة وامتداد زمن الفعل، قال الجوهری: («أبد»: الأبد: الدهر، والجمع آباد وأبود... والأبد أیضا: الدائم)(1). وقال الزبیدی فی تاج العروس: (الأبد، محرکة: الدهر مطلقا، وقیل: هو الدهر الطویل الذی لیس بمحدود. ج آباد وأبود... والأبد: الدائم... والأبد القدیم الأزلی... قال الراغب فی المفردات: الأبد، بالتحریک، عبارة عن مدة الزمان الممتد الذی لا یتجزأ کما یتجزأ الزمان وذلک أنه یقال زمان کذا، ولا یقال أبد کذا)(2).

فیصبح معنی العبارة (علیکم منی جمیعا سلام الله دائما ممتدا ما امتد بقائی وما دام للیل والنهار وجود).

وفی ذلک إشارة إلی أن الزائر فی هذه الفقرة الشریفة من الزیارة یرید أن یمتد سلامه وسلام الله سبحانه علی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وعلی الأرواح التی حلت بفنائه وأناخت برحله لأبعد مدّة زمنیة ممکنة، والتی أشار إلی ثلاثة منها وهی:

ألف: تمام مدة حیاة الزائر وهی التی عبرت عنها الفقرة بلفظ(أبدا ما بقیت).

باء: تمام ما یتبقی من عمر الدنیا، وهو ما عبرت عنه الفقرة ب_ (وبقی اللیل والنهار).

جیم: تمام مدة بقائه فی البرزخ والقبر، إذ ان عالم القبر والبرزخ مشمول أیضا بنظام اللیل والنهار، إما بنفس النظام الموجود فی عالم الدنیا، أو بنظام یتناسب وذلک العالم، وفی قوله تعالی: ((جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِی وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَیْبِ إِنَّهُ کَانَ وَعْدُهُ مَأْتِیًّا * لَا


1- الصحاح للجوهری ج 2 ص 439 فصل الألف.
2- تاج العروس للزبیدی ج 4 ص 327 فصل الهمزة مع الدال المهملة.

ص: 173

یَسْمَعُونَ فِیهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِیهَا بُکْرَةً وَعَشِیًّا))(1) إشارة واضحة إلی حقیقة ان للبرزخ لیلاً ونهاراً وبکرة وعشیا، فعن علی بن إبراهیم القمی قدس الله روحه فی تفسیر هذه الآیة قال: (حدثنی محمد بن جعفر قال حدثنی محمد بن أحمد عن یعقوب بن یزید عن یحیی بن المبارک عن عبد الله بن جبلة عن رجل عن أبی عبد الله صلوات الله علیه:... قال: ذلک فی جنات الدنیا قبل القیامة والدلیل علی ذلک قوله: بکرة وعشیا فالبکرة والعشی لا تکون فی الآخرة فی جنات الخلد وإنما یکون الغدو والعشی فی جنات الدنیا التی تنتقل إلیها أرواح المؤمنین وتطلع فیها الشمس والقمر)(2).

المبحث الثالث: فی معنی سلام الله سبحانه وتعالی
اشارة

اختلفت الأقوال فی تفسیر وتبیان معنی دقیق ومتفق علیه للسلام الإلهی، فمنهم من ذهب إلی ان السلام من الله سبحانه بمعنی هبة السلامة منه لعباده، وفی هذا الصدد یقول الشیخ مکارم الشیرازی: (وفی آیة أخری إشارة واضحة إلی أن السلام هو التحیة حیث تقول: فإذا دخلتم بیوتا فسلموا علی أنفسکم تحیة من عند الله ویمکن الاستدلال من هذه الآیة علی أن عبارة «السلام علیکم » هی فی الأصل «سلام الله علیکم» أی لیهبک الله السلامة والأمن)(3).

وذهب بعضهم إلی أن (سلام الله) یعنی (أمان الله) قال علی بن إبراهیم القمی فی تفسیر قوله تعالی ((سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِیمٍ))(4): (السلام منه تعالی یعنی الأمان)(5)


1- سورة مریم الآیة رقم 61 __ 62.
2- تفسیر القمی لعلی بن إبراهیم القمی ج 2 ص 52 تفسیر سورة مریم.
3- الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزل للشیخ ناصر مکارم الشیرازی ج 3 ص 366 __ 367.
4- سورة یس الآیة رقم 58.
5- تفسیر القمی لعلی بن إبراهیم القمی ج2 ص216 الجزء 23.

ص: 174

وقال المولی محمد صالح المازندرانی: (سلام الله هو الرحمة والسلام من الآفات فی الدنیا والمکاره فی الآخرة)(1).

وقال السید فاخر الموسوی: (إن الله یبعث بالسلام لکل إنسان مؤمن حاملا أنواعا من السلامة له فی الحیاة الدنیا وفی الآخرة مصاحبة له ما دام مصاحبا لمقتضاها وهو الهدی والإیمان قال تعالی: «والسلام علی من اتبع الهدی»...)(2).

وقال فی مکان آخر: (إن فی حیاة الإنسان وانتقاله من عالم إلی عالم آخر ثلاثة أیام صعبة: یوم یضع قدمه فی هذه الدنیا: «یوم ولد» ویوم موته وانتقاله إلی عالم البرزخ: «ویوم یموت» ویوم بعثه فی العالم الآخر الغریب عنه: «ویوم یبعث حیا»، ولما کان من الطبیعی أن تکون هذه الأیام مرافقة للاضطرابات والقلق فإن الله تعالی یکتنف خاصة عباده بسلامة، وعافیة ویجعل هؤلاء فی ظل حمایته، ومنعته فی هذه المراحل المتلاطمة الثلاثة، فیحتاج حینئذ إلی فیض السلامة والهدوء والطمأنینة)(3).

وهذه الأقوال وان کانت جمیعها تندرج تحت عنوان السلام والتی أخذت بمجموعها من المعنی اللغوی لکلمة السلام(4)، أو مشتقة من اسم السلام الذی هو احد الأسماء الإلهیة الحسنی، وهی صحیحة إلی حد ما، إلا أنها تبقی قاصرة عن تبیان المعنی الحقیقی لسلام الله سبحانه علی الأئمة الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

ویمکن لنا فیما یأتی وبالاستفادة من الجمع ما بین المعنی اللغوی والدلیل


1- شرح أصول الکافی للمولی محمد صالح المازندرانی ج 11 ص 109.
2- التجلی الأعظم للسید فاخر الموسوی ص126 معنی السلام علی وجه العموم.
3- المصدر السابق ص127 معنی السلام فی اشد حالات الإنسان.
4- قال ابن منظور فی (لسان العرب ج12 ص290 __ 291) (والسلام: السلامة. والسلام: الله عز وجل، اسم من أسمائه لسلامته من النقص والعیب والفناء...والسلام فی الأصل: السلامة، یقال: سلم یسلم سلاما وسلامة ، ومنه قیل للجنة: دار السلام لأنها دار السلامة من الآفات).

ص: 175

الروائی ان نخرج بمعنی جدید لحقیقة السلام الإلهی، یجمع ما بین کل تلک المعانی السابقة وما بین الحقائق الروائیة التی بینها أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وهذا المعنی سنتدرج فی بیانه لیسهل علی القارئ الکریم فهمه واستیعابه.

أولا: السلام اسم من أسماء الله سبحانه وتعالی
اشارة

السلام اسم سمی الله به نفسه فی محکم کتابه العزیز حیث قال تعالی: ((هُوَ اللَّهُ الَّذِی لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِکُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَیْمِنُ الْعَزِیزُ الْجَبَّارُ الْمُتَکَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا یُشْرِکُونَ))(1)، وعن النبی. انه قال: (السلام اسم من أسماء الله تعالی فأفشوه بینکم فإن الرجل المسلم إذا مر بالقوم فسلم علیهم فإن لم یردوا علیه رد علیه من هو خیر منهم وأطیب)(2)، وعن الإمام أبی جعفر الباقر صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (سلم عمار علی رسول الله. وهو فی الصلاة فرد علیه ثم قال أبو جعفر صلوات الله وسلامه علیه إن السلام اسم من أسماء الله تعالی)(3).

ویمکن أن ننتزع من هذا الاسم المبارک معنیین اثنین وباعتبارین:

المعنی الأول

أن یکون السلام وصفاً لذاته المقدسة ویقصد به (سلامته مما یلحق المخلوقین من العیب والنقص والفناء)(4)، قال ابن منظور: (والسلام: الله عز وجل، اسم من أسمائه لسلامته من النقص والعیب والفناء، حکاه ابن قتیبة، وقیل: معناه أنه سلم


1- سورة الحشر الآیة رقم 23.
2- روضة الواعظین للفتال النیسابوری ص 459.
3- من لا یحضره الفقیه للشیخ الصدوق ج1 ص368 التسلیم علی المصلی وجوابه.
4- معجم مقاییس اللغة لأبی الحسین احمد بن فارس زکریا ج3 ص90 باب السین واللام وما یثلثهما مادة سلم.

ص: 176

مما یلحق الغیر من آفات الغیر والفناء، أنه الباقی الدائم الذی تفنی الخلق ولا یفنی، وهو علی کل شیء قدیر)(1).

المعنی الثانی

أن یکون السلام وصفاً لأفعاله سبحانه، بوصفه مصدر السلام بکل ما للسلام من معنی، ومفیض السلامة، ومانح السلامة لعباده ومخلوقاته، وإلیها یشیر قوله تعالی: ((قِیلَ یَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَکَاتٍ عَلَیْکَ وَعَلَی أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَکَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ یَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِیمٌ))(2).

والی کلا القسمین یشیر الدعاء الذی ورد بصیغ وروایات متعددة عنهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین والقائل: (اللهم أنت السلام ومنک السلام والیک یرجع السلام)(3).

ثانیا: مراتب إفاضة السلامة علی سائر البشر

لم یجعل الله سبحانه ألطافه وعطایاه ومواهبه فی دار الدنیا خاصة بالمؤمنین دون غیرهم، ولا بالأولیاء عمن سواهم، بل کان فیض عطائه ورحمته شاملا لجمیع الخلق مؤمنهم وکافرهم، ومن یسأله من عباده ومن لم یسأله منهم، صغیرهم وکبیرهم، أبرارهم وفجارهم، وهی ما یطلق علیها فی علم العقائد بالرحمة العامة، أو اللطف العام، وهی التی تمت إلیها الإشارة فی قوله تعالی: ((وَرَحْمَتِی وَسِعَتْ کُلَّ شَیْءٍ))(4)، وأشیر إلیها فی الدعاء المشهور: (یا من أرجوه لکل خیر، وآمن سخطه عند


1- لسان العرب لابن منظور ج 12 ص 290.
2- سورة هود الآیة رقم 48.
3- مصباح المتهجد للشیخ الطوسی ص322 صلاة الهدیة.
4- سورة الأعراف الآیة رقم 156.

ص: 177

کل شر، یا من یعطی الکثیر بالقلیل، یا من یعطی من سأله، یا من یعطی من لم یسأله ومن لم یعرفه تحننا منه ورحمة، أعطنی بمسألتی إیاک جمیع خیر الدنیا وجمیع خیر الآخرة، واصرف عنی بمسألتی إیاک جمیع شر الدنیا وشر الآخرة، فإنه غیر منقوص ما أعطیت، وزدنی من فضلک یا کریم)(1).

ولکن هنالک رحمة أخری ولطف ثانٍ أطلق علیه اسم الرحمة الخاصة أو اللطف الخاص، وهی الرحمة التی کتبها الله سبحانه لعباده المؤمنین المخلصین، فمن عدله سبحانه وحکمته انه لم یساوِ فی مواهبه وعطایاه ورحمته بین المؤمن وغیره، وبین من جحد وکفر وتکبر عن عبادته وبین من آمن وأجاب واقر بوحدانیته وأطاعه فی أوامره ونواهیه وتکالیفه، لا فی تساوی کلا الصنفین ظلم للمطیع وإجحاف فی حق المؤمن تعالی الله عن هذا الظلم علوا کبیرا، لذلک وتحقیقا للعدل خص الله سبحانه المؤمنین به بمزید ألطاف ونعم اجتباهم وخصهم بها، وقد أشار الله سبحانه إلی هذه الحقیقة فی آیات کثیرة من کتابه العزیز، کقوله تعالی: ((وَرَحْمَتِی وَسِعَتْ کُلَّ شَیْءٍ فَسَأَکْتُبُهَا لِلَّذِینَ یَتَّقُونَ وَیُؤْتُونَ الزَّکَاةَ وَالَّذِینَ هُمْ بِآَیَاتِنَا یُؤْمِنُونَ))(2)، وقوله تعالی: ((وَکَانَ بِالْمُؤْمِنِینَ رَحِیمًا))(3).

ومن عدله سبحانه أیضا انه لم یساوِ فی رحمته ولطفه وعطایاه بین المؤمنین أنفسهم، لأنهم لیسوا علی مستوی واحد من الإیمان والإخلاص والعبادة والطهارة والکمال، فلابد والحال هذه ان تکون مراتب فیضه ودرجات رحمته متناسبة مع درجات أولئک المؤمنین، فکلما کان إیمان احدهم وإخلاصه وکماله اشد کانت


1- إقبال الأعمال للسید ابن طاوس ج 3 ص 211
2- سورة الأعراف الآیة رقم 156.
3- سورة الأحزاب الآیة رقم 43.

ص: 178

الرحمة به أکبر واللطف علیه أعظم، وهذه الحقیقة هی من الحقائق القرآنیة التی تحدثت عنها الآیات المبارکة بما لا یدع للباحث أی شک فی ذلک، قال تعالی: ((لَا یَسْتَوِی الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ غَیْرُ أُولِی الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِینَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَی الْقَاعِدِینَ دَرَجَةً وَکُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَی وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِینَ عَلَی الْقَاعِدِینَ أَجْرًا عَظِیمًا))(1)، فمع ان الله سبحانه فی هذه الآیة قد وعد کل أولئک الحسنی إلا أن أجر المجاهدین علی غیرهم من المؤمنین القاعدین یبقی عظیما.

وقال تعالی: ((أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّیْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا یَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَیَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ إِنَّمَا یَتَذَکَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ))(2)، فتفضیل الأکمل علی غیره بالألطاف والنعم والأجر والکرامة هو من السنن الإلهیة وقوانین عالم الإمکان ((سُنَّةَ اللَّهِ فِی الَّذِینَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِیلًا))(3).

ثم لکون النبی الأکرم. وأهل بیته الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین هم أفضل المؤمنین، وسادة المتقین، وهم أکمل من أوجده الله سبحانه منذ أن خلق آدم صلوات الله وسلامه علیه إلی آخر یوم من أیام الدنیا، فمن العدل والطبیعی أن یمیزهم الله سبحانه وتعالی بألطاف وخصائص لا یشارکهم فیها أحد من الإنس والجان حتی أولو العزم من الرسل والأنبیاء، بل وحتی الملائکة المقربون الکرام فضلا عن غیرهم من سائر الأنام.

فینبغی وفقا لما مر ان یکون نصیبهم من الرحمة الإلهیة أعظم من کل نصیب، ویکون اختصاصهم باللطف الإلهی اکبر من جمیع اختصاصات باقی العالمین،


1- سورة النساء الآیة رقم 95.
2- سورة الزمر الآیة رقم 9.
3- سورة الأحزاب الآیة 62.

ص: 179

بوصفهم الأکمل والأفضل، ومن النعم التی اختصهم الله بها دون العالمین هی نعمة السلام والسلامة التی رافقتهم فی جمیع العوالم التی سبقت عالم الدنیا وفی عالم الدنیا وما بعده من العوالم کما سنتعرض إلی تفصیل هذا الأمر فیما یأتی من الکلام.

ثالثا: سلام الله سبحانه مرافق لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی جمیع العوالم
ألف: سلامتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی عالم الأشباح والأنوار 

إنّ القرآن الکریم والروایات الشریفة أوضحت وبشکل لا یقبل الشک ان عالم الدنیا لیس هو العالم الوحید الذی کان للإنسان فیه وجود وتحقق، فقد سبقت هذا العالم المادی عوالم أخری، کما ان هنالک عوالم أخری تأتی من بعده، وواحد من تلک العوالم التی سبقت عالم الدنیا هو عالم الأنوار والأظلة، والذی کان قبل أن یکون زمان أو مکان أو ارض أو سماء، وقبل أن یخلق ملک أو انس أو جان، وقد صرحت الروایات المستفیضة علی ان أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومن ضمنهم الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه قد أفیض علیه وعلیهم الوجود والتحقق فی ذلک العالم، وان هذا العالم قد انحصر فیهم ولم یشارکهم فیه احد من الخلق، فسلمهم الله سبحانه من ان یشارکهم فی فضلهم هذا مشارک، وسلمهم من أن ینال مرتبتهم هذه نائل، وسلمهم من أن یطمع فی کمالهم طامع من الأولین والآخرین، فالسلامة لهم والسلام علیهم متحقق لهم فی هذا العالم بهذا المعنی.

والیک بعض الأخبار والأقوال التی تحدثت وأثبتت وجود ذلک العالم وبینت اختصاصهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وتفردهم بالوجود فیه:

فعن أبی حمزة قال: سمعت علی بن الحسین علیه السلام یقول: (إن الله خلق محمدا وعلیا وأحد عشر من ولده من نور عظمته، فأقامهم أشباحا فی ضیاء نوره

ص: 180

یعبدونه قبل خلق الخلق، یسبحون الله ویقدسونه، وهم الأئمة من ولد رسول الله صلی الله علیه وآله)(1).

وعن المفضل قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام: (کیف کنتم حیث کنتم فی الأظلة؟ فقال یا مفضل کنا عند ربنا لیس عنده أحد غیرنا، فی ظلة خضراء، نسبحه و نقدسه ونهلله ونمجده وما من ملک مقرب ولا ذی روح غیرنا حتی بدا له فی خلق الأشیاء، فخلق ما شاء کیف شاء من الملائکة وغیرهم، ثم أنهی علم ذلک إلینا(2))(3).

وعن معاذ بن جبل: (ان رسول الله قال: إن الله عز وجل خلقنی وعلیا وفاطمة والحسن والحسین قبل أن یخلق الدنیا بسبعة آلاف عام قلت فأین کنتم یا رسول الله؟ قال: قدام العرش نسبح الله تعالی ونحمده ونقدسه ونمجده قلت: علی أی مثال؟ قال أشباح نور...)(4).

قال السید الخمینی قدس الله روحه: (فان للإمام علیه السلام مقاما محمودا ودرجة سامیة وخلافة تکوینیة تخضع لولایتها وسیطرتها جمیع ذرات هذا الکون، وان من ضروریات مذهبنا أن لائمتنا مقاما لا یبلغه ملک مقرب ولا نبی مرسل، وبموجب ما لدینا من الروایات والأحادیث فإن الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله والأئمة


1- الکافی للشیخ الکلینی ج1 ص531، باب فیما جاء فی الإثنی عشر والنص علیهم السلام، الحدیث رقم 6.
2- ولعل المقصود بقوله صلوات الله وسلامه علیه: ثم أنهی علم ذلک إلینا، هو شبیه قوله تعالی: (وعلم آدم الأسماء کلها).
3- الکافی للشیخ الکلینی ج 1 ص 441 باب بلد النبی صلی الله علیه وآله ووفاته الحدیث رقم 7.
4- علل الشرائع للشیخ الصدوق ج 1 ص 208 __ 209 الباب 156 العلة التی من اجلها صارت الإمامة فی ولد الحسین دون الحسن علیهما السلام.

ص: 181

علیهم السلام کانوا قبل هذا العالم أنوارا، فجعلهم الله بعرشه محدقین وجعل لهم من المنزلة والزلفی ما لا یعلمه إلا الله..)(1).

وقد یکون السلام علیهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من قبل الله سبحانه فی هذا العالم هو تطهیرهم وتسلیمهم من کل رجس حتی قبل ان یخلق الرجس لیکون تطهیرهم دفعا لا رفعا، کما نبه علیه السید علی عاشور بقوله: (زمان إذهاب الرجس هو قبل الزمان والمکان، فی عالم الأظلة وهم حول العرش یسبحون الله ویقدسونه، فمنذ ذلک الحین تعلقت إرادة الله بإذهاب الرجس عنهم وعدم إمکان حلوله فی ساحتهم علیهم السلام. وبعبارة علمیة موجزة: إرادة الله عز وجل فی مورد دفع الرجس عن أهل البیت علیهم السلام، ولیست فی مورد رفع الرجس عنهم. والدفع معناه منع المعاصی عن الحلول فی ساحة آل محمد علیهم السلام، وتحویطهم بسور نورانی المقتضی لعدم وجوده سابقا)(2).

هذا غیض من فیض وقطرة من بحر، وقد ترکنا من الأحادیث وأقوال العلماء والمفکرین ما یملأ الخافقین، وعلیه فلیس لمؤمن مقر بسر آل محمد أن ینکر هذا العالم أو تنفر نفسه عن الإقرار بتفردهم واختصاصهم بالوجود فیه، وان لا یسلک فی اعتقاداته سبیل من شدته الدنیا وحبس عقله فی سجنها، فأنکر کل ما لا یراه ویسمعه أو یشمه ویتذوقه(3).


1- الحکومة الإسلامیة للسید روح الله الخمینی ص52.
2- طهارة آل محمد علیهم السلام للسید علی عاشور ص 206 __ 207.
3- الإنسان ابن هذه الدنیا المحدودة الضیقة، فلا غرو أن یکون فکر اکبر أهلها محدودا بحدود المادة ومقتصراً علی هذا العالم الضیق الذی هو أدنی العوالم وأضیقها واقلها شأنا، لذی نری أکثرهم معرضین أو متهاونین أو منکرین للمطالب الدینیة الدقیقة، والحقائق الغیبیة الرفیعة التی أخبرت بوقوعها الشریعة المقدسة، وصرح بإمکانها بل وحدوثها الأنبیاء العظام والأوصیاء الکرام +، ولیس لإنکارهم ذاک مبرر سوی ان تلک الحقائق لا تتناسب وذوقهم المادی ومقاییسهم الدنیویة الضیقة.

ص: 182

باء: سلامتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی عالم الطینة

باء: سلامتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی عالم الطینة(1)

الآیات القرآنیة المبارکة جاءت صریحة فی تبیان أن أصل المادة التی تکون منها الإنسان وخلق هی الطین کما قال تعالی: ((الَّذِی أَحْسَنَ کُلَّ شَیْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِینٍ))(2)، وکما فی قوله تعالی أیضا: ((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِکَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِیسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِینًا))(3)، وقد تکفلت الروایات الشریفة فی توضیح وتفصیل هذا الخلق، وتبیان أن حکمة الله سبحانه تعلقت بإیجاد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من طینة ممیزة عن سائر أفراد البشر، وان طینتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لم یشارکهم فیها أحد حتی الأنبیاء والمرسلون صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

ثم خلق أرواح شیعتهم من فاضل طینتهم، وخلق أعداءهم من طینة أخری وسیأتی تفصیل الکلام عنها عند استعراضنا لبعض روایات الطینة.

فیکون معنی السلام فی مرحلة عالم الطینة هو ان الله سبحانه بحکمته وقدرته سلمهم من ان تتکدر طهارة طینتهم بخبث وظلمانیة طینة أعدائهم وشانئیهم فلذا خلقهم من طینة طاهرة طیبة اصطفاها لهم لیکون فیها مستقر أنوارهم التی اصطفیت من قبل فی عالم الأنوار والأشباح، وکذلک سلمهم وعصمهم من ان یشارکهم بهذه المزیة أحد من العالمین.

والیک بعض الروایات الشریفة التی توضح بعض تفاصیل عالم الطینة: 


1- قال الجوهری فی الصحاح (ج 6 ص 2159)، وابن منظور فی لسان العرب (ج 13 ص 270) (والطینة: الخلقة والجبلة. یقال: فلان من الطینة الأولی).
2- سورة السجدة الآیة رقم 7.
3- سورة المؤمنون الآیة رقم 12.

ص: 183

فعن محمد بن مروان، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: سمعته یقول: (إن الله خلقنا من نور عظمته، ثم صور خلقنا من طینة مخزونة مکنونة من تحت العرش، فأسکن ذلک النور فیه، فکنا نحن خلقا وبشرا نورانیین لم یجعل لأحد فی مثل الذی خلقنا منه نصیبا، وخلق أرواح شیعتنا من طینتنا و أبدانهم من طینة مخزونة مکنونة أسفل من ذلک الطینة ولم یجعل الله لأحد فی مثل الذی خلقهم منه نصیبا إلا للأنبیاء، ولذلک صرنا نحن وهم: الناس، وصار سائر الناس همجاً، للنار وإلی النار)(1).

وعن أبی حمزة الثمالی قال: سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول: (إن الله خلقنا من أعلی علیین وخلق قلوب شیعتنا مما خلقنا، وخلق أبدانهم من دون ذلک، فقلوبهم تهوی إلینا، لأنها خلقت مما خلقنا، ثم تلا هذه الآیة: ((کَلَّا إِنَّ کِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِی عِلِّیِّینَ * وَمَا أَدْرَاکَ مَا عِلِّیُّونَ * کِتَابٌ مَرْقُومٌ * یَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ))(2)، وخلق عدونا من سجین وخلق قلوب شیعتهم مما خلقهم منه، وأبدانهم من دون ذلک، فقلوبهم تهوی إلیهم، لأنها خلقت مما خلقوا منه، ثم تلا هذه الآیة: ((کَلَّا إِنَّ کِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِی سِجِّینٍ * وَمَا أَدْرَاکَ مَا سِجِّینٌ * کِتَابٌ مَرْقُومٌ))(3))(4).

وقد ورد فی الزیارة ما یؤید هذا المعنی فقد أخرج ابن قولویه قدس الله روحه فی کامل الزیارات: (ثم تأتی قبر الحسین علیه السلام فتقول: السلام علیک یا أبا عبد الله، السلام علیک یا بن رسول الله...أشهد أنکم کلمة التقوی، وباب الهدی، والعروة الوثقی، والحجة علی من یبقی ومن تحت الثری.. أشهد أن أرواحکم وطینتکم طینة


1- الکافی للشیخ الکلینی ج 1 ص 389.
2- سورة المطففین الآیة رقم 18 __ 21.
3- سورة المطففین الآیة رقم 7 __ 9.
4- الکافی للشیخ الکلینی ج 1 ص 390.

ص: 184

طیبة، طابت وطهرت هی بعضها من بعض...)(1).

وهذا الاختصاص والاصطفاء لطینة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وشیعتهم أو لطینة أعداء أهل البیت ومن سار علی نهجهم لا یستلزم الجبر أو نسبة الظلم لذات الباری جل وعلا وقد فصل علماؤنا الأعلام القول فی توجیه ذلک بعبارات شتی وأدلة عدة اخترنا منها ما یأتی:

منها ما ذکره المولی محمد صالح المازندرانی قدس الله روحه بقوله: (لا یقال هذا الحدیث ومثله یرفع الاختیار ویوجب الجبر لأنا نقول: __ والله أعلم __ ان الله جل شأنه لما خلق الأرواح کلها قابلة للخیر والشر، وعلم أن بعضها یعود إلی الخیر المحض وهو الإیمان، وبعضها یعود إلی الشر المحض وهو الکفر، باختیارهما، وأمرها حین کونها مجردات صرفة بأمر کما سیجیء، ووقع معلومه مطابقا لمعلمه، خلق للأول(2) مسکنا وهو البدن من طینة علیین، وخلق للآخر(3) مسکنا من طینة سجین، کما خلق للمؤمن جنة وللکافر نارا، وذلک لیستقر کل واحد فیما یناسبه، ویعود کل جزء إلی کله، وکل فرع إلی أصله، ومن ههنا ظهر أن الخلق من الطینتین تابع للإیمان والکفر، ومسبب عن العمل دون العکس، فلا یستلزم الجبر ولا ینافی الاختیار، ألا تری أنه تعالی لما علم أن بین النبیین والمؤمنین اتصالا من وجه وانفصالا من وجه آخر، لأن المؤمنین من طینة النبیین، وخلق أبدانهم من دون ذلک لانحطاط درجتهم وشرفهم، فوضع کلا فی درجته، وانک إذا قررت لعبدک المطیع بیتا شریفا، ولعبدک العاصی بیتا وضیعا، صح ذلک عقلا وشرعا، ولا یصفک عاقل بالظلم والجور، إذ الظلم وضع


1- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص 369 __ 370.
2- وهو الذی ذکره قدس الله روحه بقوله السابق: (وعلم أن بعضها یعود إلی الخیر المحض وهو الإیمان).
3- وهو الذی ذکره قدس الله روحه بقوله السابق: (وبعضها یعود إلی الشر المحض وهو الکفر).

ص: 185

الشیء فی غیر موضعه، فهو إنما یلزم لو انعکس الأمر، أو وقع التساوی، وبما قررنا تبین فساد توهم أن الإیمان والفضل والکمال وأضدادها تابعة لطهارة الطینة وصفاتها، وخباثة الطینة وظلمتها، وهذا التوهم یوجب الجبر وبطلان الشرائع والتأدیب والسیاسة والوعد والوعید نعوذ بالله منه)(1).

وقال السید نعمة الله الجزائری: (إن الأرواح لما خلقت قبل الأشباح وورد علیها قلم التکلیف فی عالم الأظلة، وکانوا بین مطیع وعاص، صارت کل روح من الأرواح مستعدة لان ترکب مع قالب یناسبها فی الاستعداد والطاعة، فدخلت روح المؤمن فی طینة من علیین، وروح الکافر فی سبخة من سجین. وأنت إذا أحطت علما بما ألقیناه إلیک من هذا الکلام یسهل علیک الجواب عن کثیر من الشبه والاعتراضات الواردة فیما یناسب هذا المقام...)(2).

ثم ان زیارة عاشوراء ذکرت فی الفقرة التی نحن بصدد شرحها ان سلام الله سبحانه متوجه أیضا للشهداء الکرام الذین استشهدوا بین یدی الحسین صلوات الله وسلامه علیه فی یوم عاشوراء لانها قالت (عَلَیْکُمْ مِنِّی جَمِیعاً سَلامُ اللَّهِ أَبَداً مَا بَقِیتُ وَبَقِیَ اللَّیْلُ وَالنَّهَارُ) وهذا السلام والسلامة من الله سبحانه فی عالم الطینة مثلما شمل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین کذلک شمل الشهداء الذین استشهدوا دون الحسین ونصرته؛ إذ خلق أرواحهم من فاضل طینة أبدان أئمتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وبهذا اللطف وفقوا لمحبتهم ونصرتهم والدفاع عنهم والقتل فی سبیلهم، فسلمهم الله سبحانه من ان یکونوا من طینة أعدائهم فیسلبوا توفیق النصرة وحلاوة المحبة التی دفعتهم للجود بالنفس الذی هو غایة الجود. 


1- شرح أصول الکافی للمولی محمد صالح المازندرانی ج 8 ص 5 __ 6.
2- نور البراهین للسید نعمة الله الجزائری ج 1 شرح ص 542.

ص: 186

جیم: سلامتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی عالم الأظلة

الظاهر من الروایات الشریفة ان عالم الأظلة یقع فی مرتبة متأخرة عن عالم الطینة، فبنو آدم بعد ان وضعهم الله سبحانه وتعالی فی قوالب تتناسب وما سیختارونه فی عالم الدنیا، فوضع من سیختار الطیب والخیر فی طینة طیبة، ومن سیختار الشر والظلمة فی طینة خبیثة ظلمانیة، بعثهم بعد ذلک فی عالم خاص أسمته الروایات الشریفة بعالم الأظلة، وکلفهم وامتحنهم بما یتناسب وذلک العالم، فمنهم من نجح فی ذلک التکلیف، وهم من صیرت أرواحهم فی طینة طیبة، ومنهم من أخفق، وهم من صیرت أرواحهم فی طینة خبیثة، فعن أبی جعفر صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین قال: (إن الله خلق، فخلق ما أحب مما أحب، وکان ما أحب أن خلقه من طینة الجنة، وخلق ما أبغض مما أبغض، وکان ما أبغض أن خلقه من طینة النار، ثم بعثهم فی الظلال. فقلت: وأی شیء الظلال؟ قال: ألم تر إلی ظلک فی الشمس شیء ولیس بشیء، ثم بعث الله فیهم النبیین یدعونهم إلی الإقرار بالله وهو قوله: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَیَقُولُنَّ اللَّهُ))(1)، ثم دعاهم إلی الإقرار بالنبیین، فأقر بعضهم وأنکر بعضهم، ثم دعاهم إلی ولایتنا فأقر بها والله من أحب وأنکرها من أبغض، وهو قوله: ((فَمَا کَانُوا لِیُؤْمِنُوا بِمَا کَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ))(2))(3).

وفی تفسیر العیاشی عن زرارة وحمران، عن أبی جعفر وأبی عبد الله علیهما السلام قالا: (إن الله خلق الخلق وهی أظلة، فأرسل رسوله محمدا صلی الله علیه وآله فمنهم من آمن به ومنهم من کذبه، ثم بعثه فی الخلق الآخر فآمن به من کان آمن


1- سورة الزخرف الآیة رقم 87.
2- سورة یونس الآیة رقم 74.
3- الکافی للشیخ الکلینی ج1 ص436 باب فیه نتف وجوامع من الروایة فی الولایة الحدیث رقم 4، وراجع علل الشرائع للشیخ الصدوق ج1 ص118 الباب 97 علة المعرفة والجحود.

ص: 187

فی الأظلة، وجحده من جحد به یومئذ، فقال: ((فَمَا کَانُوا لِیُؤْمِنُوا بِمَا کَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ)) (1))(2).

وعن أبی بکر الحضرمی، عن حذیفة بن أسید الغفار قال: (قال رسول الله صلی الله علیه وآله: ما تکاملت النبوة لنبی فی الأظلة حتی عرضت علیه ولایتی وولایة أهل بیتی، ومثلوا له، فأقروا بطاعتهم وولایتهم)(3).

ووقوع التکلیف فی ذلک العالم مما صرح بحدوثه الأجلاء من علمائنا الأعلام رضوان الله تعالی علیهم تبعا لائمتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وإقرارا بهذه الروایات المتقدمة وغیرها، منهم المولی محمد صالح المازندرانی قدس الله روحه حیث قال: (یفهم من الروایات أن التکلیف الأول وهو ما وقع قبل التکلیف فی دار الدنیا بإرسال الرسل وإنزال الکتب متعدد، الأول کان فی عالم الأرواح الصرفة، الثانی کان وقت تخمیر الطینة قبل خلق آدم منها، الثالث کان بعد خلق آدم منها حین أخرجهم من صلبه وهم ذر یدبون یمینا وشمالا، وکل من أطاع فی هذه التکالیف الثلاثة فهو یطیع فی تکلیف الدنیا، کل من عصی فیها فهو یعصی هنا، وتکلیف خامس یقع فی القیامة وهو مختص بالأطفال والمجانین والشیوخ الذین أدرکوا النبی وهم لا یعقلون وغیرهم ممن ذکر فی محله)(4).

وقال الفاضل الأسترآبادی قدس الله روحه: (یفهم من الروایات أن التکلیف الأول وقع مرتین مرة فی عالم المجرد الصرف ومرة فی عالم الذر، بأن تعلقت الأرواح فیه بجسد صغیر مثل النمل ولما لم یکن تصل أذهان أکثر الناس إلی إدراک الجوهر المجرد عبروا علیهم السلام عن المجردات بالظلال لتفهیم الناس، وقصدهم من ذلک أن


1- سورة یونس الآیة رقم 74.
2- تفسیر العیاشی للعیاشی ج 2 ص 126.
3- بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار ص93 باب 8 ما خص الله به الأئمة من آل محمد صلی الله علیه وآله من ولایة الأنبیاء لهم فی المیثاق وغیره وما اعلموا من ذلک، الحدیث رقم 7.
4- شرح أصول الکافی للمولی محمد صالح المازندرانی ج 8 ص 15.

ص: 188

موجودات ذلک العالم مجردة عن الکثافة الجسمانیة کما أن الظل مجرد عنها فهی شیء ولیست کالأشیاء المحسوسة الکثیفة وهذا نظیر قولهم علیهم السلام فی معرفة الله تعالی: شیء بخلاف الأشیاء الممکنة)(1).

فیکون سلام الله سبحانه وتعالی لهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی هذا العالم هو تسلیمهم من أن یکونوا سببا لضلال الناس کما کان أعداؤهم سببا لذلک، وسلمهم من أن یلحق بمرتبتهم لاحق ویطمع فی إدراک منازلهم طامع، حتی صار الخلق کلهم دون أدنی مراتبهم، وحتی صارت نبوة الأنبیاء وإیمان من آمن من أممهم مشروطة بالإقرار بولایتهم ومحبتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

وکذلک یمکن لنا ان نفهم سلام الله سبحانه للشهداء من أصحاب الحسین بمعنی تسلیم الله سبحانه لهم من أن یقعوا فیما وقع فیه غیرهم من إتباع الظالمین، وتسلیمهم من إنکار دعوة الأنبیاء وعدم الإقرار بولایة النبی الأعظم وأهل بیته الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وتوفیقهم للإتباع بعد أن عرف الله سبحانه منهم الصدق والإخلاص فی الدفاع والنصرة وبذل الروح فی سبیل إمامهم وسیدهم الحسین بن علی صلوات الله وسلامه علیهما.

دال: سلامتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی عالم الذر

وردت الإشارة إلی هذا العالم فی القرآن الکریم فی قوله تعالی ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّکَ مِنْ بَنِی آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّیَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَی أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّکُمْ قَالُوا بَلَی شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا یَوْمَ الْقِیَامَةِ إِنَّا کُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِینَ))(2)، وقد تکفلت الروایات الشریفة عن المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بتبیان بعض


1- شرح أصول الکافی للمولی محمد صالح المازندرانی ج 7 ص 130 __ 131.
2- سورة الأعراف الآیة رقم 172.

ص: 189

تفاصیل ذلک العالم وکشف جزء من أسراره، وفیما یأتی بعض تلک الأخبار مع بعض الأقوال لعلماء الطائفة الأعلام رضوان الله تعالی علیهم:

فعن الحسن بن علی بن فضال، عن ابن بکیر، عن زرارة قال: (سألت أبا عبد الله صلوات الله وسلامه علیه عن قول الله: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّکَ مِنْ بَنِی آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّیَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَی أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّکُمْ قَالُوا بَلَی))، قال ثبتت المعرفة فی قلوبهم ونسوا الموقف، سیذکرونه یوما ما، ولولا ذلک لم یدر أحد من خالقه ولا من رازقه)(1).

وعن أحمد بن محمد عن الحسن بن موسی عن علی بن حسان عن عبد الرحمن بن کثیر عن أبی عبد الله علیه السلام فی قول الله تعالی وإذ أخذ ربک من بنی آدم من ظهورهم ذریتهم إلی آخر الآیة قال: (أخرج الله من ظهر آدم ذریته إلی یوم القیامة فخرجوا کالذر فعرفهم نفسه ولولا ذلک لم یعرف أحد ربه ثم قال الست بربکم قالوا بلی وان هذا محمد رسولی وعلی أمیر المؤمنین خلیفتی وأمینی)(2).

وعن صالح بن سهل عن أبی عبد الله علیه السلام: (أن بعض قریش قال لرسول الله صلی الله علیه وآله: بأی شیء سبقت الأنبیاء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ فقال: إنی کنت أول من آمن بربی وأول من أجاب حیث أخذ الله میثاق النبیین وأشهدهم علی أنفسهم ألست بربکم فکنت أنا أول نبی قال: بلی، فسبقتهم بالإقرار بالله عز وجل)(3).

وعن علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن أبی عمیر، عن بعض أصحابنا، عن أبی بصیر قال: (قلت لأبی عبد الله علیه السلام: کیف أجابوا وهم ذر ؟ قال: جعل


1- المحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقی ج 1 ص 241.
2- بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار ص 91.
3- الکافی للشیخ الکلینی ج 2 ص 10.

ص: 190

فیهم ما إذا سألهم أجابوه، یعنی فی المیثاق)(1).

عن داود الرقی عن أبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه قال: (ما أراد الله عز وجل أن یخلق الخلق خلقهم ونشرهم بین یدیه ثم قال لهم من ربکم؟ فأول من نطق رسول الله صلی الله علیه وآله وأمیر المؤمنین والأئمة صلوات الله علیهم أجمعین فقالوا: أنت ربنا، فحملهم العلم والدین، ثم قال للملائکة هؤلاء حملة دینی وعلمی وأمنائی فی خلقی وهم المسؤولون، ثم قیل لبنی آدم أقروا لله بالربوبیة ولهؤلاء النفر بالطاعة والولایة فقالوا نعم ربنا أقررنا، فقال الله جل جلاله للملائکة اشهدوا، فقالت الملائکة شهدنا علی أن لا یقولوا غدا إنا کنا عن هذا غافلین أو یقولوا إنما أشرک آباؤنا من قبل وکنا ذریة من بعدهم أفتهلکنا بما فعل المبطلون، یا داود، الأنبیاء مؤکدة علیهم فی المیثاق)(2).

وعن علی بن إبراهیم عن أبیه عن ابن أبی عمیر عن ابن مسکان عن أبی عبد الله علیه السلام فی قوله وإذ اخذ ربک من بنی آدم من ظهورهم ذریتهم وأشهدهم علی أنفسهم الست بربکم قالوا بلی قلت معاینة کان هذا قال نعم فثبتت المعرفة ونسوا الموقف وسیذکرونه ولولا ذلک لم یدر أحد من خالقه ورازقه فمنهم من أقر بلسانه فی الذر ولم یؤمن بقلبه فقال الله تعالی فما کانوا لیؤمنوا بما کذبوا به من قبل)(3).

وقال المولی محمد صالح المازندرانی: (والحق أن الإخراج والإشهاد والإقرار واخذ المیثاق بالمعانی المذکورة کلها واقعة، لأنه تعالی أخرجهم وخاطبهم بقوله


1- المصدر السابق ص12 باب کیف أجابوا وهم ذر الحدیث رقم 1.
2- علل الشرائع للشیخ الصدوق ج 1 ص 118.
3- مختصر بصائر الدرجات للحسن بن سلیمان الحلی ص 168.

ص: 191

«ألست بربکم» وأجابوا ببلی حقیقة ولا بعد فیه، نظرا إلی قدرته القاهرة، وأنه تعالی جعل فیهم قوة یقدرون بها علی المعرفة والتوحید والنظر فی آیاته...ثم ان بعضهم بعد الوجود العینی نقضوا المیثاق وأبطلوا تلک القوة والفطرة، وأنکروا ما أقروا به بلسان تلک القوة بحاضر لذاتهم النفسانیة والوساوس الشیطانیة)(1).

وقال الحر العاملی قدس الله روحه: (وروی الصدوق فی کتبه هذه الأحادیث وأمثالها وکذا الصفار، والبرقی، والحمیری، وغیرهم. أقول: والأحادیث فی ذلک کثیرة جدا قد تجاوزت حد التواتر تزید علی ألف حدیث موجودة فی جمیع کتب الحدیث وربما ینکرها بعض المتکلمین من أصحابنا لدلیل ضعیف ظنی غیر تام یظهر من الأحادیث جوابه)(2).

فتحصّل مما سبق ان عالم الذر هو: العالم الذی أخرج الله سبحانه من ظهر أبینا آدم صلوات الله وسلامه علیه ذریته إلی یوم القیامة، وجعل فیهم من العقل والإدراک ما لو سألهم لأجابوه، فعرفهم نفسه وسأل منهم الإقرار بوحدانیته، فکان النبی صلی الله علیه وآله وسلم أول من أجاب ببلی، ثم تبعه أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه ثم بقیة الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فحملهم علمه وکلف الأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین والملائکة بقبول رسالته وولایته واوجب علیهم مودته ومعرفته، فأجابوه سبحانه بالرضا والقبول، وکلف بقیة الخلق بذلک، فأقرّ بعضهم بلسانه وآمن بما اقر قلبه، والبعض الآخر أقرّ بلسانه ولم یؤمن بها قلبه، وکل من أقرّ بلسانه وقلبه فی ذلک العالم فانه فی هذا العالم یوفق لولایتهم ومحبتهم واتباعهم، وأما من لم یؤمن بها بقلبه ولم یعقد علیها ضمیره، فإنه فی هذا العالم مخالف لهم ولولایتهم. 


1- شرح أصول الکافی للمولی محمد صالح المازندرانی ج 8 ص 18.
2- الفصول المهمة فی أصول الأئمة للحر العاملی ج 1 ص 424 __ 425.

ص: 192

ویمکن أن نفهم السلام والسلامة من قبل الله سبحانه فی عالم الذر لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بمعنی ان الله سبحانه قد منّ علیهم فجعلهم من أهل الإجابة بل من أول من أجاب واقر لله بالوحدانیة والهیمنة، وحفظهم من نسیان ذکره وسددهم من التلکؤ والتباطؤ فی الإقرار والشهادة، وعصمهم من الإنکار أو الإقرار باللسان دون القلب.

ویکون معنی سلام الله سبحانه علی الشهداء من أصحاب الحسین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین هو تسلیمهم من إنکار ما عرض علیهم من الإقرار بوجود الله سبحانه ووحدانیته، والإیمان برسالة النبی الأکرم صلی الله علیه وآله وسلم وقبول ولایته وولایة أهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومودتهم ونصرتهم، وتسلیمهم من الإقرار اللسانی دون القلبی.

هاء: سلامتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی عالم الأصلاب 

ان أول منازل الإنسان ومراحل وجوده فی هذا العالم هو منزل الأصلاب، ورعایة الله سبحانه وسلامته مثلما شملت أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین قبل عالم الدنیا، کذلک شملتهم فی هذا العالم، فمنذ أن خلق الله سبحانه أبانا آدم صلوات الله وسلامه علیه أودع فی صلبه جمیع ذریته إلی یوم القیامة، ثم فرق الله سبحانه تلک الذریة فی أصلاب أولاده، وفرق ما فی صلب أولاده فی صلب أولادهم وهکذا إلی یوم القیامة، فوضع سبحانه من یشاء فی صلب من یشاء من عباده، وأخرج المؤمن من صلب الکافر، والکافر من صلب المؤمن، وانزل الخبیث من ظهر الطیب، والطیب من ظهر الخبیث، کل ذلک لیبلی بعض عباده ببعض، فیجزی المطیع الصابر، ویعذب الجاحد الکافر. 

ص: 193

وکان من حکمته سبحانه ولطفه ورحمته أن اختار واصطفی بعض العباد من أولاد نبی الله آدم علیه السلام ومیزهم بفضیلة النقل من صلب طاهر إلی صلب آخر طاهر أو أطهر، ومن رحم طاهر إلی رحم طاهر أو أطهر، فسلمهم فی تقلبهم فی عالم الأصلاب من دناءة الآباء والأمهات، وعصمهم من کل دنس ورجس یمکن أن یشوب ذلک العالم، وکان أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی مقدمة هؤلاء الذین سلمهم الله سبحانه وعصمهم ونقلهم من صلب شامخ إلی رحم طاهر، لم تنجسهم الجاهلیة الأولی بأنجاسها ولم تلبسهم من مدلهمات ثیابها، والیک بعض النصوص وأقوال بعض العلماء الأعلام التی تثبت حقیقة ما ذکرنا بلا أدنی شک وشبهة:

منها ما ورد فی زیارة النبی صلی الله علیه وآله وسلم: (السلام علیک یا رسول الله، السلام علیک أیها البشیر النذیر، السلام علیک أیها السراج المنیر السلام علیک أیها السفیر بین الله وبین خلقه، اشهد یا رسول الله انک کنت نورا فی الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة، لم تنجسک الجاهلیة بأنجاسها ولم تلبسک من مدلهمات ثیابها)(1).

وعن أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه فی وصف الأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین انه قال: (فاستودعهم فی أفضل مستودع، وأقرهم فی خیر مستقر. تناسختهم کرائم الأصلاب إلی مطهرات الأرحام. کلما مضی منهم سلف قام منهم بدین الله خلف. حتی أفضت کرامة الله سبحانه إلی محمد صلی الله علیه وآله، فأخرجه من أفضل المعادن منبتا وأعز الأرومات مغرسا. من الشجرة التی صدع منها أنبیاءه وانتخب منها أمناءه. عترته خیر العتر، وأسرته خیر الأسر، وشجرته خیر الشجر. نبتت فی حرم وبسقت فی کرم، لها فروع طوال وثمرة لا تنال. فهو إمام من اتقی وبصیرة من اهتدی. سراج لمع


1- إقبال الأعمال للسید ابن طاوس ج 3 ص 129 فصل 12 فیما نذکره من زیارة سیدنا رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فی هذا الیوم من بعید المکان وزیارة مولانا علی صلوات الله وسلامه علیه عند ضریحه الشریف.

ص: 194

ضوؤه. وشهاب سطع نوره)(1).

وعن الإمام أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه قال: (إن الله کان إذ لا کان فخلق الکان والمکان وخلق نور الأنوار الذی نورت منه الأنوار وأجری فیه من نوره الذی نورت منه الأنوار وهو النور الذی خلق منه محمدا وعلیا. فلم یزالا نورین أولین، إذ لا شیء کون قبلهما، فلم یزالا یجریان طاهرین مطهرین فی الأصلاب الطاهرة، حتی افترقا فی أطهر طاهرین فی عبد الله وأبی طالب علیهم السلام)(2).

وجاء فی زیارة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه: (السلام علیک یا أبا عبد الله إنا لله وإنا إلیه راجعون، ما أعظم مصیبتک عند أبیک رسول الله...کنت نورا فی الأصلاب الشامخة، ونورا فی ظلمات الأرض، ونورا فی الهواء، ونورا فی السماوات العلی، کنت فیها نورا ساطعا لا یطفی، وأنت الناطق بالهدی)(3).

وفی زیارة أخری: (یا مولای یا أبا عبد الله أشهد أنک کنت نورا فی الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة لم تنجسک الجاهلیة بأنجاسها ولم تلبسک من مدلهمات ثیابها، وأشهد أنک من دعائم الدین وأرکان المؤمنین)(4).

وعن علی بن أبی حمزة، عن یحیی بن أبی إسحاق، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبیه، عن جده، عن أبیه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، قال: (سئل النبی صلی الله علیه وآله وسلم أین کنت وآدم فی الجنة؟ قال: کنت فی صلبه، وهبط بی إلی الأرض فی صلبه، ورکبت السفینة فی صلب أبی نوح، وقذف بی فی النار فی صلب أبی إبراهیم، لم


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج7 ص62 من خطبة له علیه السلام یصف فیها حال الأنبیاء.
2- الکافی للشیخ الکلینی ج 1 ص 441 __ 442.
3- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص402 __ 203.
4- مصباح المتهجد للشیخ الطوسی ص 721.

ص: 195

یلتق لی أبوان علی سفاح قط، ولم یزل الله عز وجل ینقلنی من الأصلاب الطیبة إلی الأرحام الطاهرة هادیا مهدیا حتی أخذ الله بالنبوة عهدی، وبالإسلام میثاقی، وبین کل شیء من صفتی، وأثبت فی التوراة والإنجیل ذکری، ورقی بی إلی سمائه، وشق لی اسما من أسمائه الحسنی، أمتی الحمادون، فذو العرش محمود وأنا محمد)(1).

فتبین من کافة أجزاء هذا البحث أن سلام الله سبحانه وتعالی قد رافق أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی کافة عوالم وجودهم ومراحل تقلبهم، وقد ترکنا الخوض فی عوالم أخری کسلامتهم فی عالم البرزخ والقیامة والجنة وغیرها خوف الإطالة علی القارئ العزیز.

رابعاً: فائدة الخوض فی مثل هذا البحث
اشارة

لا یخفی ان البحث فی مراتب الأئمة الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وفضلهم واصطفائهم فی عوالم ما قبل عالم الحیاة الدنیا هو من المباحث التی قلما یتم التعرض لها فی الکتب الحدیثة، وانها ولشدید الأسف من المباحث التی تم هجرانها من قبل الباحثین المعاصرین، لذا صارت غریبة علی الفهم العامی، وأصبح من یتکلم بهذه المباحث الشریفة والحقائق المنیفة یتکلم بشیء غیر مسموع لعامة الناس ولا مستساغ عند أکثرهم، مع ان هذه المباحث هی مما أشار إلیها القرآن الکریم فی کثیر من آیاته الکریمة، وتناولتها الأحادیث الشریفة عن النبی الأعظم وأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بتفصیل قلما حظیت به الکثیر من المواضیع العقائدیة أو الغیبیة الأخری.

 وهو أیضا مما فصل العلماء الأعلام القول به قدیما، فعقدوا له فصولا وأبوابا فی کتب الروایة والحدیث، ویندر أن تری فی أصول کتب السابقین من الأعلام 


1- الأمالی للشیخ الصدوق ص 723.

ص: 196

رضوان الله تعالی علیهم تجاهلاً لهذه المباحث الشریفة(1).

 فهذا التجاهل من الکتّاب والمفکرین المعاصرین لهذه الحقائق القرآنیة والروائیة أقل ما یمکن ان یقال عنه هو تجاهل وتنکر واضح لحقیقة من حقائق أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وإغضاء للطرف عن مقام من مقاماتهم ومنزلة من منازلهم التی أنزلهم الله سبحانه فیها، هذا إن لم نقل انه مشارکة من قبلهم مع من أشارت إلیه الزیارة بقولها: (وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً دَفَعَتْکُمْ عَنْ مَقَامِکُمْ وَأَزَالَتْکُمْ عَنْ مَرَاتِبِکُمُ الَّتِی رَتَّبَکُمُ اللَّهُ فِیهَا) لان ترک مثل هذه المباحث السامیة إلی أن تندثر یعد مشارکة ولو من حیث لا یقصد فی ذلک المخطط السام الذی کان ولا یزال قائما لهدم مقامات أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ودفعهم عن تلک المراتب التی هی حقهم الطبیعی الممنوح من قبل الله سبحانه.

ولزیادة الفائدة وتنویر الأذهان الغافلة والقلوب الشاکة أردنا اختتام هذا


1- فراجع علی سبیل المثال کتاب المحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقی فی کتاب الصفوة والنور والرحمة باب ما خلق الله المؤمن من نوره، وباب خلق المؤمن من علیین، وباب خلق المؤمن من طینة الأنبیاء، وباب خلق المؤمن من طینة الجنان، وباب خلق المؤمن من طینة مخزونة، وباب المیثاق، وباب اختلاط الطینتین، وباب خلق المؤمن، وراجع أیضا کتاب بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار فی الباب التاسع باب خلق أبدان الأئمة وقلوبهم، والباب العاشر فی خلق أبدان الأئمة وفی خلق أرواحهم وشیعتهم، وأورد الکثیر من هذه الأحادیث فی الباب الثانی عشر أیضا، وکذلک فی الباب السادس عشر، وراجع أیضا کتاب الکافی للشیخ الکلینی ج1 باب خلق أبدان الائمة وأرواحهم وقلوبهم علیهم السلام، وباب فیما جاء ان حدیثهم صعب مستصعب وغیره، وفی ج2 کتاب الإیمان والکفر باب طینة المؤمن والکافر، والباب الذی یأتی هذا الباب ، وکذلک الباب الذی یأتی هذین البابین، وراجع أیضا علل الشرائع للشیخ الصدوق الباب الأول العلة التی من اجلها سمیت السماء والدنیا والآخرة وآدم وحواء، والباب 77 العلة من خروج المؤمن من الکافر وخروج الکافر من المؤمن، والباب 96 علة الطبائع والشهوات، والباب97 علة المعرفة والجحود، والباب 240 العلة التی من اجلها قد یرتکب المؤمن المحارم ویعمل الکافر الحسنات، وغیر ذلک الکثیر الکثیر.

ص: 197

المبحث ببعض الفوائد المختصرة توضح وبشکل جلی فائدة الخوض فی مثل هذه الأبحاث، وذلک لان کثیرا من الجاهلین یأنفون من الخوض فی مثل هذه الحقائق ومعرفة وسماع مثل هذه المناقب بحجة أن لا فائدة ترجی من الخوض فیها والبحث عنها، وهذا کله من تسویلات الشیطان الرجیم الذی یرید أن یحرم ابن آدم من المعرفة التی بها یتکامل إیمانه ویتعاظم أجر أعماله کما سنعرف ذلک فیما یأتی:

ألف: ان معرفة الله حق معرفته متوقف علی معرفة الأئمة حق معرفتهم

عن عبد الله بن جعفر عن محمد بن علی عن الحسین بن سعید عن علی بن الصلت عن الحکم وإسماعیل عن برید قال سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول: (بنا عبد الله وبنا عرف الله وبنا وعد الله ومحمد صلی الله علیه وآله حجاب الله)(1).

وعن علی بن جعفر عن أخیه قال: قال أبو عبد الله صلوات الله وسلامه علیه: (إن الله خلقنا فأحسن خلقنا وصورنا فأحسن صورنا فجعلنا خزانه فی سماواته وأرضه ولولانا ما عرف الله)(2).

عن الحسن بن محبوب، عن عمرو بن أبی المقدام، عن جابر قال: (سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول: إنما یعرف الله عز وجل ویعبده من عرف الله وعرف إمامه منا أهل البیت ومن لا یعرف الله عز وجل و [ لا ] یعرف الإمام منا أهل البیت فإنما یعرف ویعبد غیر الله هکذا والله ضلالا)(3).

عن أبی بصیر قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: الأوصیاء هم أبواب الله عز


1- بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار ص84.
2- المصدر السابق ص125.
3- الکافی للشیخ الکلینی ج 1 ص 181.

ص: 198

وجل التی یؤتی منها ولولاهم ما عرف الله عز وجل وبهم احتج الله تبارک وتعالی علی خلقه)(1).

وقال المولی المازندرانی فی شرح هذا الحدیث الأخیر ما نصه: (قوله: «الأوصیاء هم أبواب الله تعالی» أی أبواب جنته أو أبواب علمه کما قال «أنا مدینة العلم وعلی بابها، والبیوت إنما تؤتی من أبوابها» ومراده أن من طلب العلم والحکمة وأسرار الشریعة والتقرب إلی الله فلیرجع إلی الأوصیاء ولیأت البیوت من أبوابها ولیتق الله فان من أتاه من غیر بابها سمی سارقا.

 قوله: «ولولاهم ما عرف الله» لأن عظمته أرفع من أن یصل إلیه کل طالب، ورفعته أجل من أن ینظر إلیه کل شاهد وغائب، وصراطه أدق من أن یتطرق إلیه قدم الأوهام، وشرعه أشرف من أن یقبل مخترعات الأفهام، فلولا هدایة الأوصیاء وإرشاد الأولیاء لبقوا متحیرین فی تیه الجهالة وراقدین فی مرقد الضلالة کما تری من أعرض عن التوسل بهدایتهم والتمسک بذیل عصمتهم فإن بعضهم یقول بالتجسیم وبعضهم یقول بالتصویر وبعضهم یقول بالتحدید وبعضهم یقول بالتخطیط وبعضهم یقول إنه محل للصفات وبعضهم یقول بأنه قابل للحرکة والانتقال إلی غیر ذلک من المذاهب الباطلة وبالله العصمة والتوفیق)(2).

وجاء عن بعض المحققین ما یؤید هذه الروایات الشریفة حیث قال: (...کل حکمة وعلم من الحق صدرت فمن طریقهم إلی الخلق وصلت، وکل رحمة من الله انتشرت فبهم انتشرت، وکل عنایة منه علی الخلائق وقعت فبسببهم تحققت، لأنهم عیبة علمه، ومعدن حکمته، وسبب خیره، ووسائط فیضه، ویده الباسطة، وعینه


1- الکافی للشیخ الکلینی ج 1 ص 193.
2- شرح أصول الکافی للمولی محمد صالح المازندرانی ج 5 ص 175.

ص: 199

الناظرة، وأذنه السامعة، ولسانه الناطق، والمخلوقون من نوره، والمؤیدون بروحه وبهم یقضی فی الخلق قضیته، وإلیهم تهبط فی مقادیر أموره إرادته. بلی، بلی، أیها السالک سبیل الحکمة والطالب بالعرفان طریق السعادة، إلیهم، إلیهم فإن عندهم الحکمة، وباتباعهم تحصل السعادة، وبهم عرف الله وبهم عبد الله)(1).

وقال العلامة المجلسی: (بیان: قوله: وبنا عبد الله، أی نحن علمنا الناس طریق عبادة الله، أو نحن عبدنا الله حق عبادته بحسب الإمکان، أو بولایتنا عبد الله فإنها أعظم العبادات، أو بولایتنا صحت العبادات فإنها من أعظم شرائطها. قوله: ولولانا ما عرف الله، أی لم یعرفه غیرنا، أو نحن عرفناه الناس، أو بجلالتنا وعلمنا وفضلنا عرفوا جلالة قدر الله وعظم شأنه)(2).

وقال السید علی خان المدنی الشیرازی: (وفی استعارة لفظ الباب إشعار بأنه لا مدخل یتوصل به إلیه سبحانه سوی من جعله بابا للوصول إلیه إذ لا یدخل إلی الدار ولا یتوصل إلیها إلا من بابها، فمن ظن أنه یتوصل إلیه سبحانه من غیر هذه الأبواب فقد ظن باطلا وأخطأ سهمه الثغرة وضل سواء السبیل)(3).

إذن فعبادة الله حق عبادته ومعرفته تعالی حق معرفته لا تتأتی لأحد من العالمین إلا عن طریق القبول عنهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، لأنهم الباب الذی یدخل منه إلی التوحید الصادق غیر المشوب بالباطل، ولأنهم الوجهة الصحیحة التی یتوجه إلیها طالبو الهدایة إلی الله سبحانه ودینه وأحکامه، وان من اخذ بید غیرهم، واتخذ غیر


1- التوحید للشیخ الصدوق ص 5 کلمات حول الکتاب.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج 26 ص 247.
3- ریاض السالکین فی شرح صحیفة سید الساجدین علیه السلام للسید علی خان المدنی الشیرازی ج 7 شرح ص 25.

ص: 200

وجهتهم، ضل سواء السبیل.

 وهذا القبول عنهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لا یتم من دون معرفتهم، لان السائر علی الطریق من دون معرفة بالطریق لا یزیده کثرة المسیر إلا جهلا وتخبطا، بل وربما یحید عن الطریق وتزل قدمه وینجرف فی غیر طریقهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من دون أن یعرف، کما حصل للکثیرین، وذلک لان أهل البیت هم بوصلة الهدایة الإلهیة فمن لا یعرف البوصلة کیف له أن یسیر سیرا مستقیما سلیما.

 أما السائر علی طریقهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عارفا بحقهم وکمالاتهم ومراتب فضائلهم ومنازلهم التی اصطفاهم الله سبحانه ووضعهم فیها لا یزیده کثرة المسیر إلا ترقیا فی سلم الکمالات، وبصیرة بکل ما یحیط بدرب غیرهم من الظلمات المتراکم بعضها فوق بعض ((أَوْ کَظُلُمَاتٍ فِی بَحْرٍ لُجِّیٍّ یَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ یَدَهُ لَمْ یَکَدْ یَرَاهَا وَمَنْ لَمْ یَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ))(1).

وما ورد علی لسان الروایات من التعبیر عنهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بالأسماء الحسنی دال علی هذه الحقیقة فعن معاویة بن عمار عن أبی عبد الله علیه السلام فی قول الله عز وجل: ((وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَی فَادْعُوهُ بِهَا))(2) قال: نحن والله الأسماء الحسنی التی لا یقبل الله من العباد عملا إلا بمعرفتنا)(3) ومعلوم ان معرفة الصفات الإلهیة واجبة علی کل مکلف فکذلک معرفتهم، ومعرفة الصفات الإلهیة یتوقف علیها معرفة الله سبحانه حق معرفته، وکذلک هم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لأنهم مرآة الصفات الإلهیة، بل هم تجسید لها فی عالم الإمکان. 


1- سورة النور الآیة رقم 40.
2- سورة الأعراف الآیة رقم 180.
3- الکافی للشیخ الکلینی ج 1 ص 143 __ 144.

ص: 201

باء: ان معرفتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین توجب مضاعفة الحسنات

 عن الحسین بن علی صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین قال: (نحن قوم لا نعطی المعروف إلا علی قدر المعرفة)(1)فإذا عرفنا أنهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین میزان الله سبحانه وتعالی فی الأرض، وهم أسماؤه الحسنی، فیکون قانون إعطائهم للمعروف علی قدر المعرفة هو قانوناً الهیاً ومنهجاً ربانیاً یتعامل به الله سبحانه مع عباده کما یتعامل به أولیاؤه مع بقیة خلقه، فیکون المؤمن الأکثر معرفة بالله وصفاته وبأهل البیت وصفاتهم ومنازلهم وفضائلهم هو الأحق بزیادة المعروف، وواحدة من وجوه المعروف هی الثواب الذی یجزی به المؤمن العارف، والعکس بالعکس.

واختلاف الدرجات فی العطاء والثواب والجزاء الإلهی من مؤمن لآخر هو حقیقة قرآنیة أوضحتها نصوص الکتاب العزیز منها قوله تعالی ((الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ یُنْفِقُونَ * أُولَئِکَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ کَرِیمٌ))(2).

وواحدة من أهم أسباب التفضیل ورفع الدرجات هی الإیمان والعلم کما قال تعالی: ((یَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِینَ آَمَنُوا مِنْکُمْ وَالَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِیرٌ))(3)، وأشرف العلوم علی الإطلاق هو علم التوحید ومعرفة الخالق جل وعلا، وقد علمت ان هذا العلم لا یأتی بنتائجه الرفیعة العظیمة من دون أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، ومن أهم مقدمات الوصول إلی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین هی معرفتهم ومعرفة منازلهم وفضائلهم ومراتبهم التی رتبهم الله فیها، حتی یُخرج الإنسان هؤلاء الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عن حدی الغلو والتقصیر. 


1- نهج السعادة للشیخ المحمودی ج8 ص286.
2- سورة الإسراء الآیة رقم24.
3- سورة المجادلة الآیة رقم 11.

ص: 202

وبناءً علی ما تقدم یصبح العلم والمعرفة بمنازل ومراتب أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین مقدمة لکل خیر، وفاتحة لکل فضل، وزیادة لکل کمال، وبه یرفع الله الذین آمنوا وعملوا الصالحات درجات کل بحسب سعة معرفته وشدة یقینه وإیمانه وتسلیمه بتلک المنازل والصفات.

وقد جاء تصدیق کل ذلک علی لسان الروایات الشریفة، نختار منها ما یتناسب مع المقام، فمنها ما عن المفضل أنه دخل علی مولانا الصادق صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فقال له: (یا مفضل هل عرفت محمدا وعلیا وفاطمة والحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین کنه معرفتهم؟ قلت: یا سیدی وما کنه معرفتهم؟ قال: یا مفضل من عرفهم کنه معرفتهم کان مؤمنا فی السنام الأعلی. قال: قلت: عرفنی ذلک یا سیدی. قال: یا مفضل تعلم أنهم علموا ما خلق الله عز وجل وذرأه وبرأه وأنهم کلمة التقوی وخزان السماوات والأرضین والجبال والرمال والبحار وأنهارها وعیونها، وما تسقط من ورقة إلا علموها، ولا حبة فی ظلمات الأرض، ولا رطب ولا یابس إلا فی کتاب مبین، وهو فی علمهم، وقد علموا ذلک. فقلت: یا سیدی قد علمت ذلک وأقررت به وآمنت. قال: نعم یا مفضل، نعم یا مکرم، نعم یا محبور، نعم یا طیب، طبت وطابت لک الجنة، ولکل مؤمن بها)(1).

وروی البزنطی قال: (قرأت کتاب أبی الحسن الرضا علیه السلام بخطه: أبلغ شیعتی أن زیارتی تعدل عند الله ألف حجة وألف عمرة متقبلة کلها، قال __ یعنی البزنطی __: قلت لأبی جعفر ألف حجة؟ قال: أی والله وألف ألف حجة لمن یزوره عارفا)(2)، وفیه دلالة قطعیة علی ان المعرفة تضاعف الحسنات وتجعل الحجة بألف


1- مستدرک سفینة البحار للشیخ علی النمازی الشاهرودی ج 7 ص 180 __ 182.
2- الدروس للشهید الأول ج 2 ص 14 کتاب المزار ثواب زیارة النبی والأئمة علیهم السلام.

ص: 203

حجة، وترفع الدرجات بألف مثلها، وکلما ازداد المؤمن بأئمته معرفة ازداد کمالا وتألقت درجاته فی جنات النعیم، والعکس صحیح فکلما ازداد الإنسان عن أهل البیت بعدا ولفضائلهم إنکارا ولأشخاصهم المقدسة حربا ازداد من الله بعدا، وتسافل منزله ومأواه ومستقره فی جهنم ودرکاتها.

جیم: ان دخول الجنة متوقف علی المعرفة وازدیادها یوجب الترقی فی درجاتها 

دلت الآثار المستفیضة علی أن معرفة الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین توجب دخول الجنة، وان معرفتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین علی النحو اللائق بهم یجر علی المؤمن الخیر الوافر الکثیر، وواحدة من أهم هذه الخیرات والنعم هو تغییر الشقاوة والذنوب إلی غفران وسعادة، فعن جعفر بن محمد بن قولویه عن عبد الله بن میمون القداح، عن أبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه، قال: (قلت له: ما لمن أتی قبر الحسین علیه السلام زائرا عارفا بحقه غیر مستکبر ولا مستنکف، قال: یکتب له ألف حجة وألف عمرة مبرورة، وإن کان شقیا کتب سعیدا ولم یزل یخوض فی رحمة الله عز وجل)(1).

وعن أبی بصیر عن أبی عبد الله علیه السلام قال: (سألته عن قوله وعلی الأعراف رجال یعرفون کلا بسیماهم قال نحن أصحاب الأعراف فمن عرفناه کان منا ومن کان منا کان فی الجنة ومن أنکرناه فی النار)(2).

 وعن أبی حمزة الثمالی، عن علی بن الحسین علیهما السلام قال: (قال رسول الله صلی الله علیه وآله: فی الجنة ثلاث درجات، وفی النار ثلاث درکات، فأعلی درجات الجنة لمن أحبنا بقلبه ونصرنا بلسانه ویده، وفی الدرجة الثانیة من أحبنا


1- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص 307 الباب 67 فی ان زیارة الحسین علیه السلام تعدل عتق الرقاب.
2- بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار ص 519.

ص: 204

بقلبه ونصرنا بلسانه، وفی الدرجة الثالثة من أحبنا بقلبه، وفی أسفل درک من النار من أبغضنا بقلبه وأعان علینا بلسانه و یده، وفی الدرک الثانیة من النار من أبغضنا بقلبه وأعان علینا بلسانه، وفی الدرک الثالثة من النار من أبغضنا بقلبه)(1).

وقد عد الشیخ الصدوق کون المعرفة شرطاً لدخول الجنة من اعتقادات الإمامیة حیث قال فی باب الاعتقاد فی الأعراف: (اعتقادنا فی الأعراف أنه سور بین الجنة والنار، علیه رجال یعرفون کلا بسیماهم والرجال هم النبی وأوصیاؤه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لا یدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه، ولا یدخل النار إلا من أنکرهم وأنکروه)(2).

فإذا ثبت ان دخول الجنة لا یکون إلا بمعرفتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وان معرفة حقهم توجب مضاعفة ثواب الأعمال فتصیر زیارة واحدة للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه تعدل عند الله ثواب ألف حجة وألف عمرة، وتغیر مصیر الإنسان وقدره من شقی إلی سعید، فمن الطبیعی بعد هذا التوضیح ان تصبح درجات المؤمنین فی الجنة متفاوتة بتفاوت معرفتهم بأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، ومتغایرة بتغایر سعة تلک المعرفة ورسوخها فی القلب والعقل، وذلک لبداهة ان درجات المعرفة تختلف من مؤمن إلی آخر، فیجب ووفقا للعدل الإلهی أن تتغایر درجاتهم بتغایر معرفتهم، وتتفاوت منازلهم بتفاوت إحاطتهم بأسرار مقامات ومنازل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فلیس من یعرف الاسم والکنیة کمن یعرف منازلهم ومراتبهم وشؤونهم وأسرارهم، ولیست معرفة أحد عوام هذه الأمة کمعرفة سلمان الفارسی أو غیره من أعاظم وأجلاء أصحاب الأئمة +، فمن العدل إذن أن


1- المحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقی ج 1 ص 153.
2- الاعتقادات فی دین الإمامیة للشیخ الصدوق ص 70.

ص: 205

تختلف الدرجات باختلاف مراتب المعرفة، ومن العدل أیضا أن یتعاظم الثواب ویزید الأجر باختلاف العقول والمدارک التی تؤدی إلی زیادة المعرفة، ومن الظلم ان یتساوی العالم والجاهل، ومن الظلم أن یشترک سلمان العارف بأهل البیت حق معرفتهم مع إنسان لا یفقه من أهل البیت إلا أسماءهم ولا یقر لهم بمنزلة إلا بان زیارتهم تقضی له الحاجات.

نسأل الله سبحانه وتعالی زیادة معرفتهم وقوة الیقین بمراتبهم وشدة البصیرة بمنازلهم والارتفاع فی درجات الجنان ببرکة رضاهم ورضا الله سبحانه وتعالی انه أرحم الراحمین.

ص: 206 

ص: 207

یَا أَبَا عَبْدِ اللهِ لَقَدْ عَظُمَتِ الرَّزِیَّةُ وَجَلَّتِ الْمُصِیبَةُ بِکَ عَلَیْنَا وَعَلَی جَمِیعِ أَهْلِ الإِسْلامِ

اشارة

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

                     1: یَا أَبَا عَبْدِ اللهِ

                     2: لَقَدْ عَظُمَتِ الرَّزِیَّةُ

                     3: وَجَلَّتِ الْمُصِیبَةُ

                     4: بِکَ عَلَیْنَا

                     5: وَعَلَی جَمِیعِ أَهْلِ الإِسْلامِ

المبحث الثالث: أهل الإسلام ومراتب تحقق وصفهم بالإسلام

                     المرتبة الأولی: مرتبة الإسلام الظاهری

                     المرتبة الثانیة: مرتبة الإسلام بشرط الولایة

                     المرتبة الثالثة: مرتبة إسلام الأنبیاء والأوصیاء

                             مصیبة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وتأثیرها فی هذه المراتب الثلاث

المبحث الرابع: شواهد روائیة تعکس عظم ما وقع فی عاشوراء                  

ص: 208 

ص: 209

یَا أَبَا عَبْدِ اللهِ لَقَدْ عَظُمَتِ الرَّزِیَّةُ وَجَلَّتِ الْمُصِیبَةُ بِکَ عَلَیْنَا وَعَلَی جَمِیعِ أَهْلِ الإِسْلامِ

وفی هذه الفقرة المبارکة من الزیارة عدة من المباحث نستعرضها فیما یأتی من الکلام:

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة 

ورد فی متون الزیارات الشریفة وجملة من روایات أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وصف مصیبة الحسین صلوات الله وسلامه علیه وأهل بیته وأصحابه الکرام صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بالمصیبة العظیمة والرزیة الجلیلة ونحن فیما یأتی نختار جملة من تلک الموارد، مع الأخذ بنظر الاعتبار الاقتصار علی بعضها وعدم استقصاء کل ما ذکر فی متون الزیارات الشریفة، ومن هذه الموارد ما یأتی:

منها ما رواه الشیخ الطوسی قدس الله روحه عن أبی عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله بن قضاعة بن صفوان بن مهران الجمال عن أبیه عن جده صفوان قال: (استأذنت الصادق علیه السلام لزیارة مولانا الحسین علیه السلام، فسألته أن یعرفنی ما أعمل علیه، فقال: یا صفوان: صم ثلاثة أیام قبل خروجک واغتسل فی الیوم الثالث...ثم تأتی باب القبة وقف من حیث یأتی الرأس، وقل: السلام علیک یا وارث آدم صفوة

ص: 210

الله السلام علیک یا وارث نوح نبی الله... بأبی أنت وأمی یا أبا عبد الله لقد عظمت الرزیة وجلت المصیبة بک علینا وعلی جمیع أهل السماوات والأرض...)(1).

ومنها ما ذکره محمد بن المشهدی قدس الله روحه فی کتابه المزار حیث قال: (زیارة أبی عبد الله علیه السلام فی یوم عرفة ومن لم یمکنه حضور الموقف للحج وقدر علی إتیان قبر الحسین علیه السلام یوم عرفة فلیحضر... ثم انکب علی القبر وقبله وقل: بابی أنت وأمی یا أبا عبد الله، لقد عظمت الرزیة وجلت المصیبة بک علینا وعلی جمیع أهل السماوات والأرض...)(2).

ومنها ما ذکره السید ابن طاوس قدس الله روحه فی إقبال الأعمال: (إذا کنت بمشهد الحسین علیه السلام فی یوم عرفة، فاغتسل غسل الزیارة والبس أطهر ثیابک وطهر عقلک وقلبک مما یقتضی الإبعاد بعقابک و عتابک، لتکون طاهرا من الأدناس، فیصح لک أن تقف بباب طاهر من الأرجاس، واقصد مقدس حضرته وقف علی باب حرمه وکبر الله تعالی وقل: الله أکبر کبیرا والحمد لله کثیرا وسبحان الله بکرة وأصیلا... السلام علیک یا صریع العبرة الساکبة، وقرین المصیبة الراتبة، لعن الله أمة استحلت منک المحارم، فقتلت صلی الله علیک مقهورا، وأصبح رسول الله صلی الله علیه وآله بک موتورا، وأصبح دین الله لفقدک مهجورا... بأبی أنت وأمی یا بن رسول الله، بأبی أنت وأمی یا أبا عبد الله، لقد عظمت الرزیة، وجلت المصیبة بک علینا، وعلی جمیع أهل السماوات والأرض)(3).

وستأتی أحادیث أخری تؤید هذا المعنی. 


1- مصباح المتهجد للشیخ الطوسی ص 717 __ 721.
2- المزار لمحمد بن المشهدی ص 462 __ 464، وکذلک راجع کتاب المزار للشهید الأول ص 125__ 126.
3- إقبال الأعمال للسید ابن طاوس ج 2 ص 62 __ 64 فصل 18: فیما نذکره من لفظ الزیارة المختصة بالحسین علیه السلام یوم عرفة.

ص: 211

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة
1: یَا أَبَا عَبْدِ اللهِ

قد ذکرنا فی الفقرة الأولی من فقرات هذه الزیارة الشریفة تفصیل الکلام عن سبب إطلاق کنیة أبی عبد الله فی هذه الزیارة دون غیرها من الکنی، وعن المدالیل التی یحتویها هذا الإطلاق فراجع.

2: لَقَدْ عَظُمَتِ الرَّزِیَّةُ

لقد: قد وردت معانٍ عدة للحرف (قد) فصلها صاحب کتاب الجنی الدانی فی حروف المعانی(1) وغیره، والظاهر ان (قد) هنا بمعنی التحقق وهی شبیهة بقوله تعالی: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ))(2) أی ان الفلاح واقع ومتحقق للمؤمنین، فیکون معنی هذه الفقرة من الزیارة (ان عظم الرزیة وجلل المصیبة بالحسین صلوات الله وسلامه علیه واقع ومتحقق علینا وعلی جمیع أهل الإسلام).

عظمت: بمعنی کبرت واشتدت وفظعت، قال الفراهیدی: (والعظم: مصدر الشیء العظیم...وسمعت خبرا فأعظمته أی: عظم فی عینی. ورأیت شیئا فاستعظمته...والعظم: جل الشیء وأکثره...والعظیمة: الملمة النازلة الفظیعة)(3).

وقال الجوهری: (عظم الشیء عظما: کبر، فهو عظیم. والعظام بالضم مثله... والعظیمة والمعظمة: النازلة الشدیدة)(4).


1- راجع الجنی الدانی فی حروف المعانی للحسن بن قاسم المروارید ص253 __ 259.
2- سورة المؤمنون الآیة رقم 1.
3- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 2 ص 91 __ 92.
4- الصحاح للجوهری ج 5 ص 1987 __ 1988.

ص: 212

وقال ابن منظور: (والعظیمة والمعظمة: النازلة الشدیدة والملمة إذا أعضلت)(1).

الرزیة: وهی المصیبة بفقد خیار الأعزة، قال ابن منظور: (والرزء: المصیبة...والمرزئة والرزیئة: المصیبة، والجمع أرزاء ورزایا. وقد رزأته رزیئة أی أصابته مصیبة. وقد أصابه رزء عظیم...والرزء: المصیبة بفقد الأعزة)(2).

قال الفراهیدی: (وقوم مرزؤون، وهم الذین تصیبهم الرزایا فی أموالهم وخیارهم)(3).

وربما کان معنی الرزیة هی الفجیعة الموجعة، لان الفجیعة هی: (الرزیة. وقد فجعته المصیبة، أی أوجعته. وکذلک التفجیع. ونزلت بفلان فاجعة. وتفجعت له، أی توجعت)(4).

وقال ابن منظور: (الفجیعة: الرزیة الموجعة بما یکرم...وفجعته المصیبة أی أوجعته. والفواجع: المصائب المؤلمة التی تفجع الإنسان بما یعز علیه من مال أو حمیم)(5)

3: وَجَلَّتِ الْمُصِیبَةُ 

جلت: الجلل والجلیل وصف یوصف به الأمر العظیم، قال ابن منظور: (والجلیل: من صفات الله تقدس وتعالی، وقد یوصف به الأمر العظیم... والجلل:


1- لسان العرب لابن منظور ج 12 ص 411.
2- لسان العرب لابن منظور ج 1 ص 86.
3- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 7 ص 382 __ 383.
4- الصحاح للجوهری ج 3 ص 1256.
5- لسان العرب لابن منظور ج 8 ص 245.

ص: 213

الأمر العظیم)(1).

المصیبة: وهی کما عبر عنها ابن الأثیر فی النهایة فی غریب الحدیث: (مصیبة، ومصوبة، ومصابة، والجمع مصائب، ومصاوب. وهو الأمر المکروه ینزل بالإنسان)(2)، وکذا قال ابن منظور(3)، والشیخ الطریحی(4).

أو هی النائبة لأنهم عرفوا النائبة بقولهم: (والنائبة، المصیبة، واحدة نوائب الدهر)(5).

أو هی النکبة لأنهم عرفوا النکبة بقولهم: (والنکبة: المصیبة من مصائب الدهر، وإحدی نکباته، نعوذ بالله منها)(6).

أو أن المصیبة مرادفة للرزیة وقد تقدم إن إحدی تعاریف الرزیة هی المصیبة.

4: بِکَ عَلَیْنَا

بک: (الباء) حرف استعمل فی معانٍ شتی(7)، وقد استعمل هنا بمعنی السببیة أو التعلیل، قال ابن مالک: (هی التی تصلح غالبا فی موضعها اللام)(8) وهو شبیه قوله تعالی: ((وَإِذْ قَالَ مُوسَی لِقَوْمِهِ یَا قَوْمِ إِنَّکُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَکُمْ بِاتِّخَاذِکُمُ الْعِجْلَ))(9) أی بسبب


1- لسان العرب لابن منظور: ج11، ص116 __ 118.
2- النهایة فی غریب الحدیث لابن الأثیر ج 3 ص 57.
3- لسان العرب لابن منظور ج 1 ص 536.
4- مجمع البحرین للشیخ الطریحی ج 2 ص 642.
5- الصحاح للجوهری ج 1 ص 229.
6- لسان العرب لابن منظور ج 1 ص 772 __ 773.
7- راجع الجنی الدانی فی حروف المعانی للحسن بن قاسم المروارید ص36 __ 56.
8- المصدر السابق ص39.
9- سورة البقرة الآیة رقم 54.

ص: 214

إتخاذکم العجل.

و(الکاف) ضمیر متصل یرجع إلی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه فیکون المعنی هو (ان علة عظمة الرزیة وسبب جلالة المصیبة علینا هو أنت یا أبا عبد الله) أو (لک وبسببک یا أبا عبد الله عظمت علینا الرزیة وجلت المصیبة).

علینا: وضمیر الجمع (نا) إما یقصد الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه منه نفسه المقدسة، لأنه هو من أخرج هذه الزیارة الشریفة للوجود، أو المقصود منها جمیع الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین الذین سبقوا الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه مع شخص رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وأمیر المؤمنین والسیدة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه علیهما، لان الزیارة منقولة کما عرفنا فی بدایة الکتاب عن الإمام الباقر عن آبائه عن جبرائیل عن الله سبحانه، أو یکون المقصود کل من تقدم إضافة إلی شیعتهم وأصحابهم والزائرین لقبره صلوات الله وسلامه علیه، لان الجمیع یصدق علیه أن الرزیة عمته والمصیبة قد شملته.

5: وَعَلَی جَمِیعِ أَهْلِ الإِسْلامِ

وعلی جمیع: جمیع بمعنی کل، فتقول جاءوا جمیعا، أی کلهم، وجمیع أهل الإسلام أی کلهم.

أهل الإسلام: الأفراد المنتمون إلی دین الإسلام أو من یدین من الناس بدین الإسلام.

قال الفراهیدی: (وأهل الإسلام من یدین به)(1) وهو المعنی الظاهری، وستأتی معانٍ أخری فی بحث سنفرده لها. 


1- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج4 ص89 باب الهاء واللام.

ص: 215

المبحث الثالث: أهل الإسلام ومراتب تحقق وصفهم بالإسلام 
اشارة

ذکرت الزیارة الشریفة ان مصیبة الحسین صلوات الله وسلامه علیه ورزیته قد عظمت وجلت علی جمیع أهل الإسلام، ویمکن لنا وبملاحظة الآیات الکریمة والروایات الشریفة أن نجد ثلاث مراتب، أو ثلاثة مصادیق لأهل الإسلام ومن خلال معرفة هذه المراتب الثلاث نستطیع ان نعرف مع أی من تلک الأقسام ینسجم کلام الإمام صلوات الله وسلامه علیه ومع أی منها لا ینسجم، وبعبارة أخری إننا وبمعرفتنا لتلک الأقسام الثلاثة نستطیع أن نحدد وبدقة مراد الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه ومقصده من قوله (یَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَقَدْ عَظُمَتِ الرَّزِیَّةُ وَجَلَّتِ الْمُصِیبَةُ بِکَ عَلَیْنَا وَعَلَی جَمِیعِ أَهْلِ الإِسْلامِ) وهذه المراتب الثلاث هی:

المرتبة الأولی: مرتبة الإسلام الظاهری

ورکیزة هذه المرتبة شهادة أن لا اله إلا الله وان محمدا رسول الله، وتشمل کلاً من:

ألف: من یتشهد الشهادتین بلسانه من دون الإیمان والإقرار القلبی بها وبلوازمها، ویدخل فی هذا القسم المنافقون وکثیر من التیارات السیاسیة والعلمانیة وغیرهم، ممن یتخذ الإسلام شعارا یتصید به السذج والمغفلین.

باء: من تشهّد الشهادتین بلسانه واعتقدها بقلبه، ولکن من دون الإقرار اللسانی أو القلبی بمبدأ ولایة وإمامة الأئمة الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، إذ ان ولایتهم وإمامتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین رکیزة مهمة لا تقل أهمیة عن الرکیزتین السابقتین __ التوحید والنبوة __. 

ص: 216

جیم: من یتشهد بالشهادتین بلسانه ویعتقدها بقلبه، ویشهد للائمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بالولایة والإمامة بلسانه دون الاعتقاد بها أو بلوازمها فی قلبه، فمثل هذا الصنف من الناس إن وجد فهو وان کان محسوبا علی أهل الإیمان فی الظاهر إلا انه عند الله یعامل معاملة القسم الثانی من أقسام أهل الإسلام الظاهری، فلا ینتفع بولایته ولا یترقی مثل ما یترقی غیره من أتباع الأئمة علیهم السلام وأولیائهم.

وبهذه المرتبة الظاهریة من الإسلام حقنت الدماء وأدیت الأمانات وصحت المناکح والعقود وبقیة التعاملات الدنیویة الظاهریة، فعن القاسم شریک المفضل قال سمعت أبا عبد الله علیه السلام الصادق صلوات الله وسلامه علیه یقول: (الإسلام یحقن به الدم وتؤدی به الأمانة وتستحل به الفروج، والثواب علی الإیمان)(1).

 وقد فسر الإمام الصادق معنی أهل الإسلام فی قوله المنقول عن محمد بن الحسن الصفار عن علی بن محمد القاسانی عن القاسم بن محمد عن سلیمان بن داود المنقری عن حفص بن غیاث قال: (سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول وسئل عن قسم بیت المال فقال: أهل الإسلام هم أبناء الإسلام أسوی بینهم فی العطاء وفضائلهم بینهم وبین الله أجملهم کبنی رجل واحد لا نفضل أحدا منهم...)(2).

إذن فجمیعهم سواء من حیث التعامل الدنیوی الظاهری ولهم حقوقهم کاملة فی دار الدنیا، والفرق ما بینهم وبین القسم اللاحق هو فی ثوابهم عند الله سبحانه، فمنازل الآخرة کما ثبت فی محله مشروطة بالإیمان بولایة وإمامة الأئمة الأطهار، ومن لم یأت بالشرط لا ینال المشروط الذی هو الثواب والجنة. 


1- الکافی للشیخ الکلینی: ج2، ص25، ح6.
2- تهذیب الأحکام للشیخ الطوسی ج 6 ص 146باب کیفیة قسمة الغنائم.

ص: 217

المرتبة الثانیة: مرتبة الإسلام بشرط الولایة

وهذه المرتبة أخص من السابقة حیث اخذ فیها إضافة إلی شرط الشهادتین بالربوبیة والنبوة شرط ثالث هو شرط الإقرار اللسانی والقلبی بإمامة وولایة الأئمة الطاهرین بعد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ویمکن أن یدخل تحت هذه المرتبة کل من:

 ألف: من یقر بالتوحید والنبوة والإمامة بلسانه وقلبه ولکنه لا یعتقد بإمامة جمیع الأئمة الاثنی عشر صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، کالزیدیة الذین لا یعتقدون إلا بإمامة أربعة من أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وینکرون إمامة الباقین، وکمثل الواقفیة الذین وقفوا علی إمامة الإمام موسی بن جعفر صلوات الله وسلامه علیه، وکبعض الذین یعتقدون بإمامة أحد عشر إماماً من أئمة أهل البیت علیهم السلام، وینکرون إمامة الإمام المهدی علیه السلام، وغیرهم، وبالجملة فهذه المرتبة شاملة لکل من یعتقد بإمامة وولایة أهل البیت ولکنه ینکر إمامة واحد أو أکثر من الأئمة الإثنی عشر صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

وهذا الصنف من المسلمین وان اقروا بالإمامة لسانا وقلبا ولکنهم یلحقون بأصحاب المرتبة الأولی، ولا یدخلون فی أهل الإیمان بالمعنی الأخص إلا من حیث الظاهر، وإلا فواقعهم عند الله سبحانه مشابه لواقع من آمن بالتوحید وبالنبوة وأنکر الإمامة، لان الروایات الکثیرة عن أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین صرحت وبشکل واضح أن من أنکر واحدا من الأئمة الإثنی عشر، کان کمن أنکرهم جمیعا، وبهذا المعنی وردت روایات کثیرة نختار منها علی عجالة ما یأتی:

منها ما أخرجه الشیخ الصدوق قدس الله روحه فی (کمال الدین وتمام النعمة) قال: (حدثنا أحمد بن محمد بن یحیی العطار رضی الله عنه قال: حدثنا سعد بن عبد الله قال: حدثنا موسی بن جعفر بن وهب البغدادی قال: سمعت أبا محمد الحسن بن

ص: 218

علی علیهما السلام یقول: کأنی بکم وقد اختلفتم بعدی فی الخلف منی، أما إن المقر بالأئمة بعد رسول الله صلی الله علیه وآله المنکر لولدی کمن أقر بجمیع أنبیاء الله ورسله ثم أنکر نبوة رسول الله صلی الله علیه وآله، والمنکر لرسول الله صلی الله علیه وآله کمن أنکر جمیع أنبیاء الله لان طاعة آخرنا کطاعة أولنا، والمنکر لآخرنا کالمنکر لأولنا. أما إن لولدی غیبة یرتاب فیها الناس إلا من عصمه الله عز وجل)(1).

وعن الشیخ الکلینی فی (الکافی) عن: (الحسین بن محمد، عن معلی بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن صفوان، عن ابن مسکان قال: سألت الشیخ(2)، عن الأئمة علیه السلام قال: من أنکر واحدا من الأحیاء فقد أنکر الأموات)(3).

وقد نقل العلامة المجلسی فی (بحار الأنوار) اتفاق الإمامیة علی هذا الأمر: (وقال الشیخ المفید قدس الله روحه فی کتاب المسائل: اتفقت الإمامیة علی أن من أنکر إمامة أحد من الأئمة وجحد ما أوجبه الله تعالی له من فرض الطاعة فهو کافر ضال مستحق للخلود فی النار)(4).

باء: من یقر بالتوحید والنبوة والإمامة لجمیع الأئمة الاثنی عشر صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین قلبا ولسانا، وینقاد لهم روحا وعقلا وعملا، ویقبل عنهم ولا یرد علیهم، ویعترف لهم بالفضل وعلو المنزلة والرفعة علی جمیع البشر باستثناء النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، ویقر لهم بجمیع منازلهم التی أثبتها الله سبحانه لهم وأثبتوها هم لأنفسهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین. 


1- کمال الدین وتمام النعمة للشیخ الصدوق ص 409.
2- المقصود بالشیخ هنا هو الإمام موسی بن جعفر صلوات الله وسلامه علیه.
3- الکافی للشیخ الکلینی ج 1 ص 373.
4- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج 8 ص 366.

ص: 219

وبهذه المرتبة تقبل العبادات ویتضاعف الأجر، وهی المرتبة الکاملة والنعمة التامة، التی قصدها سبحانه بقوله: ((الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَرَضِیتُ لَکُمُ الْإِسْلَامَ دِینًا))(1)، فبالولایة لآل محمد صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین یوم غدیر خم کمل الدین وبالانقیاد إلیهم تمت النعمة، وکل من جاء یوم القیامة بغیر هذه النعمة، فقد جاء بإسلام ناقص مبتور لا یقبل منه.

وقد وردت الأخبار المستفیضة والتی نصت بما لا یقبل الشک علی أن الولایة لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین هی رکیزة الإسلام المهمة ودعامته التی یتقوم بها، وان من ضیعها لم یصب الإسلام الحقیقی، ومن هذه الأخبار ما یأتی:

فعن فضیل بن یسار، عن أبی جعفر علیه السلام قال: (بنی الإسلام علی خمس: علی الصلاة والزکاة والصوم والحج والولایة ولم یناد بشیء کما نودی بالولایة، فأخذ الناس بأربع وترکوا هذه __ یعنی الولایة __)(2).

وعن زرارة، عن أبی جعفر صلوات الله وسلامه علیه قال: (بنی الإسلام علی خمسة أشیاء: علی الصلاة والزکاة والحج والصوم والولایة، قال زرارة: فقلت: وأی شیء من ذلک أفضل؟ فقال: الولایة أفضل، لأنها مفتاحهن والوالی هو الدلیل علیهن)(3).

وعن أبان عن فضیل، عن أبی جعفر علیه السلام قال: (بنی الإسلام علی خمس: الصلاة والزکاة والصوم والحج والولایة ولم یناد بشیء ما نودی بالولایة یوم الغدیر)(4)


1- سورة المائدة الآیة رقم 3.
2- الکافی للشیخ الکلینی ج 2 ص 18 باب دعائم الإسلام حدیث رقم 3.
3- المصدر السابق الحدیث رقم 5.
4- المصدر السابق الحدیث رقم 8.

ص: 220

وعن محمد بن عبد الرحمن بن أبی لیلی، عن أبیه، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: (إنکم لا تکونون صالحین حتی تعرفوا ولا تعرفوا حتی تصدقوا ولا تصدقوا حتی تسلموا أبوابا أربعة لا یصلح أولها إلا بآخرها، ضل أصحاب الثلاثة وتاهوا تیها بعیدا. إن الله تبارک وتعالی لا یقبل إلا العمل الصالح ولا یقبل الله إلا الوفاء بالشروط والعهود، فمن وفی لله عز وجل بشرطه واستعمل ما وصف فی عهده نال ما عنده واستکمل ما وعده.

إن الله تبارک وتعالی أخبر العباد بطرق الهدی وشرع لهم فیها المنار وأخبرهم کیف یسلکون، فقال: ((وَإِنِّی لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَی))(1)، وقال: ((إِنَّمَا یَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِینَ))(2)، فمن اتقی الله فیما أمره لقی الله مؤمنا بما جاء به محمد صلی الله علیه وآله.

هیهات هیهات فات قوم وماتوا قبل أن یهتدوا وظنوا أنهم آمنوا، وأشرکوا من حیث لا یعلمون. إنه من أتی البیوت من أبوابها اهتدی، ومن أخذ فی غیرها سلک طریق الردی، وصل الله طاعة ولی أمره بطاعة رسوله، وطاعة رسوله بطاعته، فمن ترک طاعة ولاة الأمر لم یطع الله ولا رسوله، وهو الإقرار بما انزل من عند الله عز وجل، خذوا زینتکم عند کل مسجد والتمسوا البیوت التی أذن الله أن ترفع ویذکر فیها اسمه، فإنه أخبرکم أنهم رجال لا تلهیهم تجارة ولا بیع عن ذکر الله وإقام الصلاة وإیتاء الزکاة یخافون یوما تتقلب فیه القلوب والأبصار.

 إن الله قد استخلص الرسل لأمره، ثم استخلصهم مصدقین بذلک فی نذره، فقال: ((وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِیهَا نَذِیرٌ))(3) تاه من جهل، واهتدی من أبصر وعقل، إن الله عز


1- سورة طه الآیة رقم 82.
2- سورة المائدة الآیة رقم 72.
3- سورة فاطر الآیة رقم 24.

ص: 221

وجل یقول: ((فَإِنَّهَا لَا تَعْمَی الْأَبْصَارُ وَلَکِنْ تَعْمَی الْقُلُوبُ الَّتِی فِی الصُّدُورِ))(1) وکیف یهتدی من لم یبصر؟ وکیف یبصر من لم یتدبر؟ اتبعوا رسول الله وأهل بیته وأقروا بما نزل من عند الله واتبعوا آثار الهدی، فإنهم علامات الأمانة والتقی واعلموا أنه لو أنکر رجل عیسی بن مریم علیه السلام وأقر بمن سواه من الرسل لم یؤمن، اقتصوا الطریق بالتماس المنار والتمسوا من وراء الحجب الآثار تستکملوا أمر دینکم وتؤمنوا بالله ربکم)(2).

المرتبة الثالثة: مرتبة إسلام الأنبیاء والأوصیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین

لا یخفی ان الإسلام هو الدین الرسمی الذی شرعه الله سبحانه لسائر البشریة، والیه دعا الأنبیاء العظام صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من لدن نبی الله آدم صلوات الله وسلامه علیه إلی نبینا الأکرم صلی الله علیه وآله وسلم، وما إرسال الرسل، وبعثهم الواحد تلو الآخر، إلا لیکمل بعضهم بعضا، ویتمم بعضهم شریعة بعض، ولیبلغوا بأجمعهم شریعة واحدة ودیناً محدداً اسمه عند الله سبحانه الإسلام، قال تعالی: ((إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْیًا بَیْنَهُمْ وَمَنْ یَکْفُرْ بِآَیَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِیعُ الْحِسَابِ))(3)، وقال سبحانه: ((وَمَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الْإِسْلَامِ دِینًا فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِی الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِینَ))(4).

فیمکن علی وفق هذه النظرة القرآنیة عدّ جمیع الأنبیاء والرسل والأوصیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من أهل الإسلام، والیه یشیر حدیث المفضل مع الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه حین سأله المفضل قائلا: (یا سیدی والدین الذی أتی به آدم ونوح،


1- سورة الحج الآیة رقم 46.
2- الکافی للشیخ الکلینی ج1 ص181 __ 183 باب معرفة الإمام والرد إلیه الحدیث رقم 6.
3- سورة آل عمران الآیة رقم 19.
4- سورة آل عمران الآیة رقم 85.

ص: 222

وإبراهیم وموسی، وعیسی ومحمد هو الإسلام، قال: نعم یا مفضل هو الإسلام لا غیر، قلت فنجده فی کتاب الله، قال: نعم من أوله إلی آخره وهذه الآیة منه: ((إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ))، وقوله عز وجل: ((مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْرَاهِیمَ هُوَ سَمَّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ مِنْ قَبْلُ))، وفی قصة إبراهیم وإسماعیل: ((رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَیْنِ لَکَ وَمِنْ ذُرِّیَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ))، وقوله فی قصة فرعون: ((حَتَّی إِذَا أَدْرَکَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِی آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِیلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِینَ))، وفی قصة سلیمان وبلقیس قالت: ((وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَیْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ))، وقول عیسی للحواریین: ((مَنْ أَنْصَارِی إِلَی اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِیُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ))، وقوله تعالی: ((وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِی السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَکَرْهًا وَإِلَیْهِ یُرْجَعُونَ))، وقوله فی قصة لوط: ((فَمَا وَجَدْنَا فِیهَا غَیْرَ بَیْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِینَ))، ولوط قبل إبراهیم، وقوله: ((قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَیْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَی إِبْرَاهِیمَ وَإِسْمَاعِیلَ وَإِسْحَاقَ وَیَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِیَ مُوسَی وَعِیسَی وَمَا أُوتِیَ النَّبِیُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَیْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ))، وقوله: ((أَمْ کُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ یَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِیهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِی قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَکَ وَإِلَهَ آَبَائِکَ إِبْرَاهِیمَ وَإِسْمَاعِیلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ))...)(1).

فیتبین من خلال هذه الآیات الکریمة والأحادیث الشریفة ان جمیع الأنبیاء وأوصیائهم وأممهم کانوا یعتقدون ویدینون بدین الإسلام، بل ویقرون بنبوة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وإمامة الأئمة الإثنی عشر من بعده، کما قد ثبت فی بحث سابق ان ولایتهم وإمامتهم عرضت علی الأنبیاء فی هذا العالم وفی عوالم سابقة، وما نبئ نبی أو أرسل رسول إلا بعد الاعتراف بنبوة نبینا الأعظم وإمامة الأئمة الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وعلیه فیمکن دخولهم بهذا الاعتبار فی المرتبة الثانیة التی مرت آنفا. 


1- الهدایة الکبری للحسن بن حمدان الخصیبی ص394 باب الرابع عشر باب الإمام المهدی المنتظر علیه السلام.

ص: 223

مصیبة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وتأثیرها فی هذه المراتب الثلاث
اشارة

بعد أن عرفنا ان للمسلمین ثلاث مراتب صار حقا علینا ان نعرف أی المراتب هی المقصودة من قول الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه: (عَظُمَتِ الرَّزِیَّةُ وَجَلَّتِ الْمُصِیبَةُ بِکَ عَلَیْنَا وَعَلَی جَمِیعِ أَهْلِ الإِسْلامِ)، ولا نجد صعوبة فی استبعاد أهل المرتبة الأولی(1) من هذه المقولة الشریفة، وهذا الاستبعاد إن لم یشمل جمیع أفراد هذه المرتبة، فهو شامل للغالبیة العظمی منهم، ولنا علی هذا الاستبعاد عدة أدلة وشواهد، منها:

الشاهد الأول

قال الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه: (وکلما عظم قدر الشیء المتنافس فیه عظمت الرزیة لفقده)(2) فإن من تعظم علیه مصیبة الحسین صلوات الله وسلامه علیه وتشتد علیه رزیته لابد ان یکون عارفا بمقام سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه وحائزا علی المعرفة الحقیقیة بشخصه المقدس ومقاماته ومنازل کرامته ومؤهلاته التی منحها له الله سبحانه وتعالی، وهو غیر متحقق فی أهل هذه المرتبة، لان أفرادها مترددون ما بین صنفین:

الصنف الأول: من لا یعترف للحسین صلوات الله وسلامه علیه بفضل مطلقا، کما لم یکونوا یعترفون بفضل أخیه الحسن وأبیه أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیهما وجده النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وهم أهل الإسلام اللسانی ممن لم یدخل الإسلام فی قلبه، وهؤلاء وان تغیرت أعیانهم فی کل عصر ومصر، إلا أن صفاتهم تبقی متشابهة علی الدوام،


1- مرتبة الإسلام الظاهری.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج19 ص156.

ص: 224

فهم وان شهدوا لله بالوحدانیة وللرسول بالرسالة، وهم وان أبدوا الأسی والحزن علی قتل الحسین صلوات الله وسلامه علیه إلا ان هذه الأمور تبقی موصوفة بقوله تعالی: ((یَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَیْسَ فِی قُلُوبِهِمْ))(1)، وتبقی عقائدهم اللسانیة داخلة فی قوله تعالی: ((إِذَا جَاءَکَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّکَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ یَعْلَمُ إِنَّکَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ یَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِینَ لَکَاذِبُونَ))(2)، ومن یکون حاله ما ذکرنا لا یمکن أن تکون مصیبة الحسین علیه عظیمة ورزیته بالنسبة إلیه جلیلة.

 الصنف الثانی: وهم الذین یقرون بالشهادتین ویقرون بلوازمها ولکنهم وبسبب الخلفیة العقائدیة التی تربوا علیها وتبنوها یعدّون الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه شأنه شأن غیره من سائر الناس، بل ویعدّون مصیبته من حیث الأهمیة أقل بکثیر من مصائب کثیر من الصحابة، کما سیأتی الإشارة إلی بعض الشواهد الموضحة لهذه الحقیقة لاحقا، فمن لم یعظم عنده قدر الحسین صلوات الله وسلامه علیه لا یصح أن یقال عنه بأنه قد أصیب وفجع وعظمت وجلت علیه رزیة قتل ابن بنت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.

وهم وان ابدوا التأثر والاهتمام بمقتله إلا أن هذا الاهتمام والتأثر لا یصل بهم إلی مرتبة من عظمت عنده المصیبة وجلت لدیه الرزیة، لان مصیبة غیره عندهم أعظم ورزایا من هم دونه عندهم أجل وأکبر.

الشاهد الثانی

إن من یرید أن یتعرف علی معتقدات فرقة ما أو دیانة ما لابد علیه أن یرجع إلی ما کتبه علماء ومفکر وتلک الفرق ومثقفوها، ونحن لو رجعنا إلی علماء ومفکری ومثقفی الطائفة الأولی ممن لا یقر لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیه بالإمامة والولایة،


1- سورة الفتح الآیة رقم 11.
2- سورة المنافقون الآیة رقم 1.

ص: 225

وسألناهم عن حسن ومشروعیة أن یحزن الإنسان علی مصیبة سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه ویظهر عظیم رزیته وفداحة مصیبته، لأجابوک بما صرح به ابن کثیر بقوله: (ثم دخلت سنة ثنتین وأربعمائة فی المحرم منها أذن فخر الملک الوزیر للروافض أن یعملوا بدعتهم الشنعاء، والفضیحة الصلعاء، من الانتحاب والنوح والبکاء، وتعلیق المسوح وأن تغلق الأسواق من الصباح إلی المساء، وأن تدور النساء حاسرات عن وجوههن ورؤوسهن، یلطمن خدودهن، کفعل الجاهلیة الجهلاء، علی الحسین ابن علی، فلا جزاه الله خیرا، وسود الله وجهه یوم الجزاء، إنه سمیع الدعاء)(1).

وقال فی موضع آخر: (وقد أسرف الرافضة فی دولة بنی بویه فی حدود الأربعمائة وما حولها فکانت الدبادب تضرب ببغداد ونحوها من البلاد فی یوم عاشوراء، ویذر الرماد والتبن فی الطرقات والأسواق، وتعلق المسوح علی الدکاکین، ویظهر الناس الحزن والبکاء، وکثیر منهم لا یشرب الماء لیلتذ موافقة للحسین لأنه قتل عطشانا. ثم تخرج النساء حاسرات عن وجههن ینحن ویلطمن وجوههن وصدورهن، حافیات فی الأسواق إلی غیر ذلک من البدع الشنیعة، والأهواء الفظیعة، والهتائک المخترعة وإنما یریدون بهذا وأشباهه أن یشنعوا علی دولة بنی أمیة، لأنه قتل فی دولتهم)(2)، ومن هذا النص یظهر ان انزعاج ابن کثیر هو لأجل مساس هذه المراسم الشریفة فی إقامة العزاء علی سید الشهداء بأرباب نعمته من بنی أمیة الشجرة الملعونة وقتلة أولاد الأنبیاء.

وقال فی مکان ثالث: (ولکنه لا یحسن ما یفعله الشیعة من إظهار الجزع والحزن الذی لعل أکثره تصنع وریاء، وقد کان أبوه أفضل منه فقتل، وهم لا یتخذون مقتله


1- البدایة والنهایة لابن کثیر ج 11 ص 397.
2- البدایة والنهایة لابن کثیر ج 8 ص 220 __ 221.

ص: 226

مأتما کیوم مقتل الحسین، فإن أباه قتل یوم الجمعة وهو خارج إلی صلاة الفجر فی السابع عشر من رمضان سنة أربعین، وکذلک عثمان کان أفضل من علی عند أهل السنة والجماعة، وقد قتل وهو محصور فی داره فی أیام التشریق من شهر ذی الحجة سنة ست وثلاثین، وقد ذبح من الورید إلی الورید، ولم یتخذ الناس یوم قتله مأتما، وکذلک عمر بن الخطاب وهو أفضل من عثمان وعلی، قتل وهو قائم یصلی فی المحراب صلاة الفجر ویقرأ القرآن، ولم یتخذ الناس یوم مقتله مأتما، وکذلک الصدیق کان أفضل منه ولم یتخذ الناس یوم وفاته مأتما، ورسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم سید ولد آدم فی الدنیا والآخرة، وقد قبضه الله إلیه کما مات الأنبیاء قبله، ولم یتخذ أحد یوم موتهم مأتما یفعلون فیه ما یفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة یوم مصرع الحسین، ولا ذکر أحد أنه ظهر یوم موتهم وقبلهم شیء مما ادعاه هؤلاء یوم مقتل الحسین من الأمور المتقدمة، مثل کسوف الشمس والحمرة التی تطلع فی السماء وغیر ذلک)(1).

وصرح ابن تیمیة وبکل وقاحة ان الشیطان قد استغل مقتل الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه واستشهاده، لیحدث البدع الشیطانیة، ومن بدعه بزعم ابن تیمیة إظهار الحزن والبکاء وقراءة مصیبته وما جری علیه وعلی أهل بیته وأصحابه یوم عاشوراء، فقال هذا المخذول: (وصار الشیطان بسبب قتل الحسین یحدث للناس بدعتین: بدعة الحزن والنوح یوم عاشوراء من اللطم والصراخ والبکاء والعطش وإنشاد المراثی، وما یفضی إلی ذلک من سب السلف ولعنهم، وإدخال من لا ذنب له مع ذوی الذنوب، حتی یسب السابقون الأولون، وتقرأ أخبار مصرعه التی کثیر منها کذب. وکان قصد من سن ذلک فتح باب الفتنة والفرقة بین الأمة، فإن هذا لیس


1- البدایة والنهایة لابن کثیر ج 8 ص 221.

ص: 227

واجبا ولا مستحبا باتفاق المسلمین، بل إحداث الجزع والنیاح للمصائب القدیمة من أعظم ما حرمه الله ورسوله... وأما ما ذکره من سبی نسائه والذراری، والدوران بهم فی البلاد، وحملهم علی الجمال بغیر أقتاب، فهذا کذب وباطل، ما سبی المسلمون هاشمیة قط، ولا استحلت أمة محمد صلی الله علیه __ وآله __ وسلم سبی بنی هاشم قط، ولکن أهل الهوی والجهل یکذبون کثیرا، وفی الجملة، فما یعرف فی الإسلام أن المسلمین سبوا امرأة یعرفون أنها هاشمیة، ولا سبی عیال الحسین، بل لما دخلوا إلی بیت یزید قامت النیاحة فی بیته و أکرمهم وخیرهم بین المقام عنده والذهاب إلی المدینة، فاختاروا الرجوع إلی المدینة)(1).

وقد نقل الشیخ الأمینی فی سفره القیم الغدیر عن الشیخ إسماعیل البروسوی فی تفسیره روح البیان(2): (قال فی عقد الدرر واللآلئ ومن قرأ یوم عاشوراء وأوائل المحرم مقتل الحسین رضی الله عنه، فقد تشبه بالروافض، خصوصا إذا کان بألفاظ مخلة بالتعظیم لأجل تحزین السامعین، وفی کراهیة القهستانی: لو أراد ذکر مقتل الحسین ینبغی أن یذکر أولا مقتل سائر الصحابة لئلا یشابه الروافض. وقال حجة الإسلام الغزالی: یحرم علی الواعظ وغیره روایة مقتل الحسین وحکایته وما جری بین الصحابة من التشاجر والتخاصم، فإنه یهیج بغض الصحابة والطعن فیهم وهم أعلام الدین، وما وقع بینهم من المنازعات فیحمل علی محامل صحیحة، ولعل ذلک لخطأ فی الاجتهاد لا لطلب الریاسة والدنیا کما لا یخفی)(3)


1- منهاج السنة لابن تیمیة ج4 ص554 دار النشر مؤسسة قرطبة، سنة النشر 1406 رقم الطبعة الأولی، تحقیق الدکتور محمد رشاد سالم.
2- ج4 ص142کما فی الغدیر.
3- الغدیر للشیخ الأمینی ج 10 ص 211.

ص: 228

وقال ابن کثیر: (ثم دخلت سنة ثنتین وثمانین وثلاثمائة فی عاشر محرمها أمر الوزیر أبو الحسن علی بن محمد الکوکبی __ ویعرف بابن المعلم وکان قد استحوذ علی السلطان __ أهل الکرخ وباب الطاق من الرافضة بأن لا یفعلوا شیئا من تلک البدع التی کانوا یتعاطونها فی عاشوراء: من تعلیق المسوح وتغلیق الأسواق والنیاحة علی الحسین، فلم یفعلوا شیئا من ذلک ولله الحمد. وقد کان هذا الرجل من أهل السنة)(1).

وقال الذهبی: (أحداث سنة إحدی ستین وثلاثمائة أقامت الشیعة بدعة عاشورا ببغداد)(2).

وقال الذهبی أیضا: (حوادث سنة اثنتین وثمانین وثلاثمائة فمن الحوادث فیها أن أبا الحسن علی بن محمد بن المعلم الکوکبی کان قد استولی علی أمور السلطان بهاء الدولة کلها، فمنع أهل الکرخ وباب الطاق من النوح یوم عاشوراء، ومن تعلیق المسوح، کان کذلک یعمل من نحو ثلاثین سنة)(3).

وقال ابن کثیر: (ثم دخلت سنة إحدی وعشرین وأربعمائة...وفیها عملت الرافضة بدعتهم الشنعاء، وحادثتهم الصلعاء فی یوم عاشوراء، من تعلیق المسوح، وتغلیق الأسواق، والنوح والبکاء فی الأزقة، فأقبل أهل السنة إلیهم فی الحدید فاقتتلوا قتالا شدیدا، فقتل من الفریقین طوائف کثیرة، وجرت بینهم فتن وشرور مستطیرة)(4)


1- البدایة والنهایة لابن کثیر ج 11 ص 355.
2- تاریخ الإسلام للذهبی ج 26 ص 245.
3- المصدر السابق ج 27 ص 12.
4- البدایة والنهایة لابن کثیر ج 12 ص 35.

ص: 229

فهل یبقی شک بعد کل هذا فی عدم شمول قول الباقر صلوات الله وسلامه علیه فی هذه الزیارة الشریفة (یَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَقَدْ عَظُمَتِ الرَّزِیَّةُ وَجَلَّتِ الْمُصِیبَةُ بِکَ عَلَیْنَا وَعَلَی جَمِیعِ أَهْلِ الإِسْلامِ) لهؤلاء الذین یعلنون ویتجاهرون بأن إقامة المآتم وإظهار الحزن علی مصیبة سید الشهداء ورزیته بدعة شنعاء وحادثة صلعاء تستحق وبلا خوف من الله سبحانه أن یخرج علیهم أتباعهم بالحدید لیقتلوهم شر قتلة، فانا لله وإنا إلیه راجعون.

أما أصحاب المرتبة الثانیة وهم من جمع بین رکیزتی التوحید والنبوة وبین رکیزة الولایة والإمامة، فلا شک فی دخولهم فی قول الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه (یَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَقَدْ عَظُمَتِ الرَّزِیَّةُ وَجَلَّتِ الْمُصِیبَةُ بِکَ عَلَیْنَا وَعَلَی جَمِیعِ أَهْلِ الإِسْلامِ) فقد شهد القاصی والدانی والمخالف قبل الموالف بأنهم بالغوا وحق لهم أن یبالغوا فی إظهار عظیم مصیبة إمامهم المظلوم صلوات الله وسلامه علیه وجلل مصابه ومصاب أهل بیته وأصحابه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وتحملوا فی سبیل إظهار ذلک شتی ألوان القهر والاضطهاد ومختلف أنواع القتل والتعذیب والی الیوم.

وکیف لا یکون مصاب إمامهم عندهم جللا ومصیبته لدیهم عظیمة، وهم من خلق من فاضل طینتهم وعرفوه وأهل بیته والأئمة من ولده حق معرفته ومعرفتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

وأما أصحاب المرتبة الثالثة من النبیین والمرسلین وأوصیائهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فقد وردت الأحادیث المستفیضة التی توجب الاطمئنان بأن الله سبحانه وتعالی قد عرض علیهم ما سیجری علی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وأهل بیته وصحبه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وما ستفعله به أمة جده ممن تسربلت بالإسلام وکررت الشهادتین باللسان دون الجنان، وأظهر هؤلاء العظام صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین شدید الحزن وعظیم

ص: 230

الوجد والتأثر، فکانت مصیبته صلوات الله وسلامه علیه علیهم عظیمة، ورزیته فی نفوسهم جلیلة، فلا شک فی شمولهم بقول الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه: (یَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَقَدْ عَظُمَتِ الرَّزِیَّةُ وَجَلَّتِ الْمُصِیبَةُ بِکَ عَلَیْنَا وَعَلَی جَمِیعِ أَهْلِ الإِسْلامِ).

وقد أخرج الشیخ عبد الله البحرانی فی کتابه العوالم أخبارا یطول الوقوف عندها وذکرها فی مثل هذا الاختصار، فمن یرد التفصیل فلیرجع إلی الکتاب المومأ إلیه.

المبحث الرابع: شواهد روائیة تعکس عظم ما وقع فی عاشوراء

قلنا ان ضمیر الجمع فی کلمة (علینا) فی قول الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه فی هذه الزیارة الشریفة (یَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَقَدْ عَظُمَتِ الرَّزِیَّةُ وَجَلَّتِ الْمُصِیبَةُ بِکَ عَلَیْنَا) قد یکون مرجعه إلی سائر أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بإضافة النبی الأکرم صلی الله علیه وآله وسلم والسیدة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها، وهو افتراض منطقی بعد أن مرت علینا کلمة الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه: (وکلما عظم قدر الشیء المتنافس فیه عظمت الرزیة لفقده) (1) ولا أحد من الأولین والآخرین یعرف قیمة وقدر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بقدر أولئک الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فتصبح رزیته علیهم أعظم من کل الرزایا، ومصیبتهم به اجل من کل المصائب، ومن تتبع أقوال وأفعال الأئمة صلوات الله وسلامه علیه یجد عظمة المصیبة وحجم هول الرزیة واضحا فی أقوالهم وأفعالهم وانفعالاتهم، فهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ما بین باک علیه لدرجة تقرح الجفون وبین معول کالثاکل لا یتهأ بطعام أو شراب قبل أن یمزجه بدموع عینیه أو دم جفونه، وفیما یأتی جملة من کلماتهم وبعض من أفعالهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین التی تبین وبوضوح ما قدمناه وأوضحنا معالمه: 


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج19 ص156.

ص: 231

منها: ما أخرجه الشیخ الصدوق قدس الله روحه بسنده عن: (سلیمان بن عبد الله الخزاز الکوفی قال: حدثنا عبد الله بن الفضل الهاشمی قال: قلت لأبی عبد الله جعفر بن محمد الصادق علیه السلام: یا بن رسول الله کیف صار یوم عاشوراء یوم مصیبة وغم وجزع وبکاء دون الیوم الذی قبض منه رسول الله صلی الله علیه وآله والیوم الذی ماتت فیه فاطمة علیها السلام والیوم الذی قتل فیه أمیر المؤمنین علیه السلام والیوم الذی قتل فیه الحسن علیه السلام بالسم؟، فقال: إن یوم الحسین علیه السلام أعظم مصیبة من جمیع سائر الأیام، وذلک أن أصحاب الکساء الذی کانوا أکرم الخلق علی الله تعالی کانوا خمسة فلما مضی عنهم النبی صلی الله علیه وآله بقی أمیر المؤمنین وفاطمة والحسن والحسین علیهم السلام فکان فیهم للناس عزاء وسلوة.

 فلما مضت فاطمة علیها السلام کان فی أمیر المؤمنین والحسن والحسین للناس عزاء وسلوة فلما مضی منهم أمیر المؤمنین علیه السلام کان للناس فی الحسن والحسین عزاء وسلوة فلما مضی الحسن علیه السلام کان للناس فی الحسین علیه السلام عزاء وسلوة، فلما قتل الحسین علیه السلام لم یکن بقی من أهل الکساء أحد للناس فیه بعده عزاء وسلوة فکان ذهابه کذهاب جمیعهم کما کان بقاؤه کبقاء جمیعهم فلذلک صار یومه أعظم مصیبة.

 قال عبد الله بن الفضل الهاشمی: فقلت له یا بن رسول الله فلم لم یکن للناس فی علی بن الحسین عزاء وسلوة مثل ما کان لهم فی آبائه علیهم السلام؟، فقال: بلی ان علی بن الحسین کان سید العابدین وإماما وحجة علی الخلق بعد آبائه الماضین ولکنه لم یلق رسول الله صلی الله علیه وآله ولم یسمع منه وکان علمه وراثة عن أبیه عن جده عن النبی صلی الله علیه وآله وکان أمیر المؤمنین وفاطمة والحسن

ص: 232

والحسین علیهم السلام قد شاهدهم الناس مع رسول الله صلی الله علیه وآله فی أحوال فی آن یتوالی فکانوا متی نظروا إلی أحد منهم تذکروا حاله مع رسول الله صلی الله علیه وآله وقول رسول الله له وفیه، فلما مضوا فقد الناس مشاهدة الأکرمین علی الله عز وجل ولم یکن فی أحد منهم فقد جمیعهم إلا فی فقد الحسین علیه السلام لأنه مضی آخرهم فلذلک صار یومه أعظم الأیام مصیبة.

 قال عبد الله بن الفضل الهاشمی: فقلت له یا بن رسول الله فکیف سمت العامة یوم عاشوراء، یوم برکة فبکی علیه السلام ثم قال: لما قتل الحسین علیه السلام تقرب الناس بالشام إلی یزید فوضعوا له الأخبار وأخذوا علیه الجوائز من الأموال فکان مما وضعوا له أمر هذا الیوم وانه یوم برکة لیعدل الناس فیه من الجزع والبکاء والمصیبة والحزن إلی الفرح والسرور والتبرک والاستعداد فیه حکم الله مما بیننا وبینهم.

 قال: ثم قال علیه السلام یا بن عم وان ذلک لأقل ضررا علی الإسلام وأهله وضعه قوم انتحلوا مودتنا وزعموا أنهم یدینون بموالاتنا ویقولون بإمامتنا زعموا ان الحسین علیه السلام لم یقتل وانه شبه للناس أمره کعیسی بن مریم فلا لائمة إذن علی بنی أمیة ولا عتب علی زعمهم، یا بن عم من زعم أن الحسین علیه السلام لم یقتل فقد کذب رسول الله صلی الله علیه وآله وعلیا وکذب من بعده الأئمة علیهم السلام فی أخبارهم بقتله، ومن کذبهم فهو کافر بالله العظیم ودمه مباح لکل من سمع ذلک منه...)(1).

وعن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیهأنه قال: (إن زین العابدین علیه السلام بکی علی أبیه أربعین سنة صائما نهاره وقائما لیله فإذا حضر الإفطار جاءه غلامه بطعامه


1- علل الشرائع للشیخ الصدوق ج 1 ص 225 __ 227.

ص: 233

وشرابه فیضعه بین یدیه فیقول کل یا مولای فیقول: قتل ابن رسول الله جائعا قتل ابن رسول الله عطشانا فلا یزال یکرر ذلک ویبکی حتی یبل طعامه من دموعه ثم یمزج شرابه بدموعه فلم یزل کذلک حتی لحق بالله عز وجل)(1).

 وحدث مولی للإمام زین العابدین صلوات الله وسلامه علیه أن الإمام (برز یوما إلی الصحراء قال فتبعته فوجدته قد سجد علی حجارة فوقفت وأنا أسمع شهیقه وبکاءه وأحصیت علیه ألف مرة لا إله إلا الله حقا حقا لا إله إلا الله تعبدا ورقا لا إله إلا الله إیمانا وصدقا ثم رفع رأسه من السجود وإن لحیته ووجهه قد غمر بالماء من دموع عینیه. فقلت: یا سیدی ما آن لحزنک أن ینقضی ولبکائک أن یقل: فقال لی ویحک إن یعقوب بن إسحاق بن إبراهیم علیه السلام کان نبیا ابن نبی کان له اثنا عشر ابنا فغیب الله سبحانه واحدا منهم فشاب رأسه من الحزن واحدودب ظهره من الغم وذهب بصره من البکاء وابنه حی فی دار الدنیا وأنا فقدت أبی وأخی وسبعة عشر من أهل بیتی صرعا مقتولین فکیف ینقضی حزنی ویقل بکائی)(2).

وکان صلوات الله وسلامه علیه: (إذا أخذ إناء بشرب الماء بکی حتی یملأها دمعا فقیل له فی ذلک فقال وکیف لا أبکی وقد منع أبی من الماء الذی کان مطلقا للسباع والوحوش وقیل له إنک لتبکی دهرک فلو قتلت نفسک لما زدت علی هذا فقال نفسی قتلتها وعلیها أبکی)(3).

وعن الإمام الرضا صلوات الله وسلامه علیه قال: (إن یوم الحسین أقرح جفوننا وأسبل


1- اللهوف فی قتلی الطفوف للسید ابن طاوس ص121.
2- اللهوف فی قتلی الطفوف للسید ابن طاوس ص122.
3- مناقب آل أبی طالب لابن شهر آشوب ج3 ص303 باب إمامة علی بن الحسین، وفی البحار ج46 ص109 نقلا عن حلیة الأولیاء ج3 ص138.

ص: 234

دموعنا وأذل عزیزنا بأرض کرب وبلا وأورثنا الکرب والبلاء إلی یوم الانقضاء فعلی مثل الحسین فلیبک الباکون فإن البکاء علیه یحط الذنوب العظام.

ثم قال صلوات الله وسلامه علیه: کان أبی إذا دخل شهر المحرم لا یری ضاحکا وکانت الکآبة تغلب علیه حتی تمضی عشرة أیام منه فإذا کان یوم العاشر کان ذلک یوم مصیبته وحزنه وبکائه).

وعن الریان بن شبیب قال: (دخلت علی الرضا علیه السلام فی أول یوم من المحرم، فقال لی: یا ابن شبیب، إن المحرم هو الشهر الذی کان أهل الجاهلیة فیما مضی یحرمون فیه الظلم والقتال لحرمته، فما عرفت هذه الأمة حرمة شهرها، ولا حرمة نبیها صلی الله علیه وآله، إذ قتلوا فی هذا الشهر ذریته، وسبوا نساءه، وانتهبوا ثقله، فلا غفر الله لهم ذلک أبدا. یا ابن شبیب، إن کنت باکیا لشیء، فابک للحسین علیه السلام، فإنه ذبح کما یذبح الکبش، وقتل معه من أهل بیته ثمانیة عشر رجلا ما لهم فی الأرض شبیه، ولقد بکت السماوات السبع والأرضون لقتله...یا ابن شبیب، إن سرک أن تکون معنا فی الدرجات العلی من الجنان، فاحزن لحزننا، وأفرح لفرحنا، وعلیک بولایتنا...)(1).

وفی الزیارة التی خرجت عن الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه: (...السلام علیک، سلام العارف بحرمتک، المخلص فی ولایتک، المتقرب إلی الله بمحبتک، البریء من أعدائک، سلام من قلبه بمصابک مقروح، ودمعه عند ذکرک مسفوح، سلام المفجوع المحزون، الواله المستکین. سلام من لو کان معک بالطفوف لوقاک بنفسه حد السیوف، وبذل حشاشته دونک للحتوف، وجاهد بین یدیک، ونصرک علی من بغی علیک، وفداک بروحه وجسده، وماله وولده، وروحه لروحک فداء، وأهله لأهلک


1- الأمالی للشیخ الصدوق ص192 حدیث الرضا علیه السلام عن یوم عاشوراء.

ص: 235

وقاء فلئن أخرتنی الدهور، وعاقنی عن نصرک المقدور، ولم أکن لمن حاربک محاربا، ولمن نصب لک العداوة مناصبا، فلأندبنک صباحا ومساء، ولأبکین علیک بدل الدموع دما، حسرة علیک وتأسفا علی ما دهاک وتلهفا، حتی أموت بلوعة المصاب وغصة الاکتیاب... فقام ناعیک عند قبر جدک الرسول صلی الله علیه وآله، فنعاک إلیه بالدمع الهطول، قائلا: یا رسول الله قتل سبطک وفتاک، واستبیح أهلک وحماک، وسبیت بعدک ذراریک، ووقع المحذور بعترتک وذویک. فانزعج الرسول وبکی قلبه المهول، وعزاه بک الملائکة والأنبیاء، وفجعت بک أمک الزهراء، واختلفت جنود الملائکة المقربین، تعزی أباک أمیر المؤمنین، وأقیمت لک المآتم فی أعلی علیین، ولطمت علیک الحور العین، وبکت السماء وسکانها، والجنان وخزانها، والهضاب وأقطارها، والأرض وأقطارها، والبحار وحیتانها، ومکة وبنیانها، والجنان وولدانها، والبیت والمقام، والمشعر الحرام، والحل والإحرام...)(1).

ولو سردنا کل کلماتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومواقفهم ودعوتهم للشعراء وإقامة مجالس العزاء فی بیوتهم الطاهرة وشدید بکائهم وعظیم جزعهم لطال بنا المقام، فنکتفی بما أوردنا ومن أراد المزید فلیرجع إلی ما خصص لجمع هذه الأخبار المفجعة المؤلمة من کتب الأعلام رضوان الله تعالی علیهم.


1- المزار لمحمد بن المشهدی ص 500 __ 506.

ص: 236 

ص: 237

وَجَلَّتْ وَعَظُمَتْ مُصِیبَتُکَ فِی السَّمَاوَاتِ عَلَی جَمِیعِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ

اشارة

المبحث الأول: المعنی اللغوی لهذه العبارة الشریفة

                     1: وَجَلَّتْ وَعَظُمَتْ مُصِیبَتُکَ فِی السَّمَاوَاتِ

                     2: عَلَی جَمِیعِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ

المبحث الثانی: التأثیر الکونی لمصیبة الحسین علیه السلام

                     أولا: تصریح السیدة زینب ببکاء السماء دما یوم عاشوراء

                     ثانیا: التأثیر الکونی لمصیبة الحسین علیه السلام فی کتب الإمامیة

                     ثالثا: التأثیر الکونی لمصیبة الحسین علیه السلام فی کتب أهل السنة

                     رابعا: ماذا یقول ابن کثیر وابن تیمیة بخصوص ما سبق؟

المبحث الثالث: هل یمکن أن تبکی الحیوانات والجمادات؟

                     أولا: شواهد قرآنیة علی ان لکل الموجودات عقلاً وإدراکاً

                     ثانیا: ماذا یقول الحلبی فی معاجز النبی. وکراماته

                     ثالثا: خلوا سبیل الناقة فإنها مأمورة

                     رابعا: کسفت الشمس وأظلمت المدینة حین أرادوا نقل منبر النبی

                     خامسا: أظلمت المدینة من جریمة عبید الله بن عمر بن الخطاب

ص: 238 

ص: 239

وَجَلَّتْ وَعَظُمَتْ مُصِیبَتُکَ فِی السَّمَاوَاتِ عَلَی جَمِیعِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ قد مر إثبات صدور هذه الفقرة فی أثناء إثبات صدور الفقرة السابقة من هذه الزیارة الشریفة لذلک لم نرَ من الضروری التکرار لان فیما مر کفایة لمتدبر.

المبحث الأول: المعنی اللغوی لهذه العبارة الشریفة
1: وَجَلَّتْ وَعَظُمَتْ مُصِیبَتُکَ فِی السَّمَاوَاتِ

تقدم فی شرح الفقرة السابقة من الزیارة معنی (جلت) و(عظمت) و(مصیبتک) وبقی هنا أن نعرف معنی:

السماوات: وهی جمع سماء والسماء کما عرفها الفراهیدی: (سقف کل شیء، وکل بیت)(1).

وقال الجوهری: (السماء یذکر ویؤنث أیضا، ویجمع علی أسمیة وسماوات. والسماء: کل ما علاک فأظلک، ومنه قیل لسقف البیت: سماء)(2)


1- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 7 ص 319.
2- الصحاح للجوهری ج 6 ص 2381 __ 2382 مادة سما.

ص: 240

وقال ابن منظور: (وسماء کل شیء: أعلاه، مذکر. والسماء: سقف کل شیء وکل بیت. والسماوات السبع سماء، والسماوات السبع: أطباق الأرضین، وتجمع سما وسموات. وقال الزجاج: السماء فی اللغة یقال لکل ما ارتفع وعلا قد سما یسمو. وکل سقف فهو سماء، ومن هذا قیل للسحاب السماء لأنها عالیة، والسماء: کل ما علاک فأظلک، ومنه قیل لسقف البیت سماء. والسماء التی تظل الأرض أنثی عند العرب لأنها جمع سماءة)(1).

وأما المعنی الشرعی للسماء فهو وان کان مبهما وخافیا فی کثیر من تفاصیله فلا یعلم ما فیها، ومن فیها، ولا من أی شیء هی، ولا ما هی ماهیتها، ومن بالتحدید سکانها وعمارها، إلا ان الآیات الشریفة، ذکرت علی سبیل الإیجاز والإشارة عدة من الحقائق المهمة، والتی ترسم صورة إجمالیة عن السماء وحقیقتها، وبالمقدار الذی یحتاجه الإنسان، وترکت الباقی مبهما، لعدم حاجة عالم التکلیف إلیه، إذ لو علم الله سبحانه ان للتفصیل أهمیة یمکن أن تنفع الإنسان فی عالم تکلیفه وتکامله وترقیه، لتفضل علیه بإطلاعه علیه، والیک فیما یأتی جملة من تلک الحقائق القرآنیة:

فهی کالأرض من جهة أنها کانت عدماً ثم أوجدها الله سبحانه ((بَدِیعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَی أَمْرًا فَإِنَّمَا یَقُولُ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ))(2).

وإنها کالأرض منقادة لإرادة الله وسلطانه هی ومن فیها کما قال تعالی ((لِلَّهِ مُلْکُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِیهِنَّ وَهُوَ عَلَی کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ))(3)، وقال تعالی: ((وَهُوَ اللَّهُ فِی السَّمَاوَاتِ وَفِی الْأَرْضِ یَعْلَمُ سِرَّکُمْ وَجَهْرَکُمْ وَیَعْلَمُ مَا تَکْسِبُونَ))(4)


1- لسان العرب لابن منظور ج 14 ص 397 __ 398.
2- سورة البقرة الآیة رقم 117.
3- سورة المائدة الآیة رقم 120.
4- سورة الأنعام الآیة رقم 3.

ص: 241

وإنها ببدیع صنعها وکثرة أسرارها جعلها الله سبحانه وتعالی آیة تدل علی بدیع صنعه وترشد إلی وجوده کما قال تعالی: ((إِنَّ فِی خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّیْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْکِ الَّتِی تَجْرِی فِی الْبَحْرِ بِمَا یَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْیَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِیهَا مِنْ کُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِیفِ الرِّیَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَیْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَیَاتٍ لِقَوْمٍ یَعْقِلُونَ))(1)، وقال تعالی ((الَّذِینَ یَذْکُرُونَ اللَّهَ قِیَامًا وَقُعُودًا وَعَلَی جُنُوبِهِمْ وَیَتَفَکَّرُونَ فِی خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَکَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))(2).

وانها سبع سماوات یعلو بعضها علی بعض کما قال تعالی: ((هُوَ الَّذِی خَلَقَ لَکُمْ مَا فِی الْأَرْضِ جَمِیعًا ثُمَّ اسْتَوَی إِلَی السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمٌ))(3).

وانها مخلوقة هی والأرض فی ستة أیام کما قال تعالی: ((إِنَّ رَبَّکُمُ اللَّهُ الَّذِی خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَی عَلَی الْعَرْشِ یُغْشِی اللَّیْلَ النَّهَارَ یَطْلُبُهُ حَثِیثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَکَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِینَ)) (4).

2: عَلَی جَمِیعِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ

علی جمیع: بینا فی شرح الفقرة السابقة من الزیارة ان (جمیع) بمعنی (کل).

أهل السماوات: وهم سکان السماوات بحسب الظاهر، فیشمل الملائکة وبقیة أصناف الروحانیین، وأرواح الأنبیاء والأوصیاء، وأرواح المؤمنین، وما لم یصلنا خبره ولم نحط به علما من خلق الله وإبداعه. 


1- سورة البقرة الآیة رقم 164.
2- سورة آل عمران الآیة رقم191.
3- سورة البقرة الآیة رقم 29.
4- سورة الأعراف الآیة رقم 54.

ص: 242

ولا یشترط ان یکون الموجود السماوی موجودا فی السماء حتی یقال له بأنه من أهل السماء، فلو کان الموجود أصله وعالمه هو السماء لکنه مأمور بالمکث فی الأرض لحکمة إلهیة، فهذا المکث فی الأرض لا یخرجه عن کونه من أهل السماء، کالملائکة الموکلین بعمارة الأرض أو المکلفین بکتابة أعمال العباد أو الماکثین والحافین والمحدقین والعاملین فی حرم الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه فهؤلاء وغیرهم لا یخرجهم مکثهم فی الأرض عن کونهم من أهل السماء فیکونون مشمولین بهذه الفقرة من الزیارة.

المبحث الثانی: التأثیر الکونی لمصیبة الحسین علیه السلام
اشارة

لم تقتصر مصیبة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه علی من تقدم ذکرهم فی الفقرة السابقة من البشر، بل تعدی اثر مصیبته وجلل رزیته إلی سائر أجزاء الوجود، وتأثر الکون برمته، ومن یتتبع الروایات والنصوص التاریخیة التی ذکرت هذا التفاعل الکونی مع مصیبة سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه یجد ان بعد عظیم مصیبة سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه وجلیل رزیته أصبح هنالک تغییر کونی واضح وقد امتد هذا التغییر إلی یومنا الحاضر وسیستمر إلی یوم القیامة لیحکی للأجیال عظیم ما وقع وجلیل ما ارتکب، وفیما یأتی تفصیل ذلک:

أولا: تصریح السیدة زینب ببکاء السماء دما یوم عاشوراء 

 ان أول من أشار وبکل صراحة إلی تفاعل السماء مع مصیبة سید الشهداء بالبکاء علیه دما هی السیدة زینب العقیلة بنت علی صلوات الله وسلامه علیهما، فقد جهرت بهذه الحقیقة فی خطبتها التی ألقتها فی الکوفة بعد أن أحضرهم إلی الکوفة عدو الله عبید الله بن زیاد، فعن إسماعیل بن راشد، عن حذلم بن ستیر قال: (قدمت الکوفة فی المحرم سنة إحدی وستین عند منصرف علی بن الحسین علیهما السلام

ص: 243

بالنسوة من کربلاء ومعهم الأجناد محیطون بهم وقد خرج الناس للنظر إلیهم، فلما أقبل بهم علی الجمال بغیر وطاء جعل نساء أهل الکوفة یبکین وینتدبن...قال: ورأیت زینب بنت علی علیهما السلام ولم أر خفرة قط أنطق منها کأنها تفرغ عن لسان أمیر المؤمنین علیه السلام. قال: وقد أومأت إلی الناس أن اسکتوا، فارتدت الأنفاس وسکتت الأصوات فقالت: الحمد لله والصلاة علی أبی رسول الله، أما بعد یا أهل الکوفة، یا أهل الختل والخذل... ویلکم أتدرون أی کبد لمحمد فریتم، وأی دم له سفکتم، وأی کریمة له أصبتم ((لَقَدْ جِئْتُمْ شَیْئًا إِدًّا (89) تَکَادُ السَّمَاوَاتُ یَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا))(1) ولقد أتیتم بها خرقاء شوهاء...أفعجبتم أن قطرت السماء دما ولعذاب الآخرة أخزی...)(2)، وفی کتاب الاحتجاج للشیخ الطبرسی أنها صلوات الله وسلامه علیها قالت: (...أفعجبتم ان تمطر السماء دما...)(3).

وفی قولها صلوات الله وسلامه علیها هذا عدة ملاحظات یجب التنبیه علیها:

الملاحظة الأولی: ان فی قولها هذا تصریحاً واضحاً بوقوع تفاعل کونی لم یکن معهود الوقوع من قبل، وهذا التفاعل الکونی الجدید هو ما عبرت عنه صلوات الله وسلامه علیها بقولها: (أفعجبتم أن قطرت السماء دما).

الملاحظة الثانیة: ان هذا الحدث الکونی قد استغربه الناس عامة وتعجبوا من وقوعه وحصوله، وما تعجب الناس هذا الحدث الکونی إلا لغرابته وعدم إلفته، إذ لو کان معهودا لدیهم ومعروفا وقوعه فی زمانهم أو الأزمنة القریبة علیهم لما لزم من وقوعه أی تعجب. 


1- سورة مریم الآیة رقم 89 __ 90.
2- الأمالی للشیخ المفید ص 321 __ 323، وراجع أیضا بلاغات النساء لابن طیفور ص 24.
3- الاحتجاج للشیخ الطبرسی ج2 ص31.

ص: 244

الملاحظة الثالثة: عدم رد الناس علیها صلوات الله وسلامه علیها ومخالفة قولها أو محاولة تکذیبها حاشاها من کل زلل، دلیل آخر علی وقوع مثل هذا الحدث الکونی المهم، إذ لو کان کلامها صلوات الله وسلامه علیها غیر مطابق للواقع لوجدت العشرات من أتباع ابن زیاد لا یتوانون فی الوقوف بوجه مقالتها وتکذیبها علانیة، لمحاولة سلب شرعیة أقوالها ولیحولوا بینها وبین تأثیرها فی الناس.

الملاحظة الرابعة: فی قولها صلوات الله وسلامه علیها: (ویلکم أتدرون أی کبد لمحمد فریتم، وأی دم له سفکتم، وأی کریمة له أصبتم «لقد جئتم شیئا إدا، تکاد السماوات یتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا» ولقد أتیتم بها خرقاء شوهاء...أفعجبتم أن قطرت السماء دما ولعذاب الآخرة أخزی) ثلاثة مدالیل مهمة:

ألف: أرادت الحوراء زینب صلوات الله وسلامه علیها من خلال کلماتها هذه تبیان سبب وقوع هذه الحادثة الکونیة الغریبة، فسفک هذه الأمة لدم الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه هو الذی سبب هذا التغیر الکونی الرهیب.

 باء: أرادت صلوات الله وسلامه علیها أن تظهر منزلة وعظمة دم الإمام الحسین علیه السلام من خلال تأکیدها علی ان الدم الذی جری فی یوم عاشوراء، والکبد الذی اصطلی من العطش ومن السهام وطعنات السیوف والرماح هو دم رسول الله وکبده قبل أن یکون دم الحسین صلوات الله وسلامه علیه وکبده، لان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه کما هو ثابت فی أحادیث جمیع فرق المسلمین بضعة من رسول الله وجزء لا یتجزأ منه وکیف لا یکون کذلک وهو صلی الله علیه وآله وسلم القائل (حسین منی وأنا من حسین)(1).

جیم: إن بکاء السماء دما یحمل فی طیاته معنیین فهو غضب إلهی علی کل من


1- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص116، ومسند أحمد بن حنبل ج4 ص172.

ص: 245

اشترک وساهم وأعان ورضی بإراقة دم الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وفری کبده الشریف، وهو حزن للسماء وسکانها ومن فیها علی ما ارتکب فی حق ولی الله الأعظم من الجرائم والجرائر التی یندی لها جبین الأحرار.

ثانیا: التأثیر الکونی لمصیبة الحسین صلوات الله وسلامه علیه فی کتب الإمامیة

منها ما عن الشیخ الطوسی فی أمالیه قال: (حدثنی بذلک محمد بن علی ماجیلویه رحمه الله، عن عمه محمد بن أبی القاسم، عن محمد بن علی الکوفی، عن نصر بن مزاحم، عن لوط بن یحیی، عن الحارث بن کعب، عن فاطمة بنت علی صلوات الله علیهما: ثم إن یزید لعنه الله أمر بنساء الحسین علیه السلام فحبسن مع علی بن الحسین علیهما السلام فی محبس لا یکنهم من حر ولا قر حتی تقشرت وجوههم، ولم یرفع ببیت المقدس حجر عن وجه الأرض إلا وجد تحته دم عبیط، وأبصر الناس الشمس علی الحیطان حمراء کأنها الملاحف المعصفرة، إلی أن خرج علی ابن الحسین علیهما السلام بالنسوة، ورد رأس الحسین علیه السلام إلی کربلاء)(1).

وعن أبی بصیر، عن أبی جعفر صلوات الله وسلامه علیه قال: (بکت الإنس والجن والطیر والوحش علی الحسین بن علی علیهما السلام حتی ذرفت دموعها)(2).

وعن یونس وأبی سلمة السراج والمفضل بن عمر قالوا: (سمعنا أبا عبد الله علیه السلام یقول: لما مضی الحسین بن علی علیهما السلام بکی علیه جمیع ما خلق الله إلا ثلاثة أشیاء: البصرة ودمشق وآل عثمان)(3)


1- الأمالی للشیخ الصدوق ص 231 __ 232.
2- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص 165 الباب 26 بکاء جمیع ما خلق الله علی الحسین بن علی علیهما السلام الحدیث رقم 1.
3- المصدر السابق ص166 الحدیث رقم 6.

ص: 246

منها ما روی عن الإمام السجاد صلوات الله وسلامه علیه حین رجوعه إلی المدینة بعد رحلة السبی حینما اجتمع له الناس فخطبهم صلوات الله وسلامه علیه بقوله: (فلقد بکت السبع الشداد لقتله، وبکت البحار بأمواجها، والسماوات بأرکانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحیتان ولجج البحار والملائکة المقربون وأهل السماوات أجمعون...)(1).

وعن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه قال: (إن أبا عبد الله علیه السلام لما مضی بکت علیه السماوات السبع والأرضون السبع وما فیهن وما بینهن ومن یتقلب فی الجنة والنار من خلق ربنا وما یری وما لا یری)(2)وسیأتی ذکر للمزید لاحقا.

ثالثا: التأثیر الکونی لمصیبة الحسین صلوات الله وسلامه علیه فی کتب أهل السنة

قال عبد الکریم الرافعی: (اشتهر أن قتل الحسین بن علی رضی الله عنهما کان یوم عاشوراء وروی البیهقی عن أبی قبیل أنه لما قتل الحسین رضی الله عنه کسفت الشمس کسفة بدت الکواکب نصف النهار حتی ظننا أنها هی)(3) أی ظننا انها القیامة.

وقال محیی الدین النووی فی روضة الطالبین: (فقد صح أن الشمس کسفت یوم مات إبراهیم ابن رسول الله، وروی الزبیر بن بکار فی الأنساب: أنه توفی فی العاشر من شهر ربیع الأول. وروی البیهقی مثله عن الواقدی. وکذا اشتهر أن قتل الحسین رضی الله عنه کان یوم عاشوراء. وروی البیهقی عن أبی قبیل أنه لما قتل


1- مثیر الأحزان لابن نما الحلی ص91 المقصد الثالث من الأمور اللاحقة لقتله وشرح سبی ذریته وأهله.
2- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص166 الباب 26 بکاء جمیع من خلق الله علی الحسین بن علی علیهما السلام.
3- فتح العزیز لعبد الکریم الرافعی ج 5 ص 83 __ 84.

ص: 247

الحسین، کسفت الشمس)(1).

وقال محمد بن احمد الشربینی: (وقد صح أن الشمس کسفت یوم مات سیدنا إبراهیم ابن النبی.، وفی أنساب الزبیر بن بکار أنه مات عاشر ربیع الأول، وروی البیهقی مثله عن الواقدی. وکذا اشتهر أنها کسفت یوم قتل الحسین، وأنه قتل یوم عاشوراء)(2).

وقال الدسوقی: (إن الرافعی نقل أن الشمس کسفت یوم مات الحسین وکان یوم عاشوراء، وورد أنها کسفت یوم مات إبراهیم ولد النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وکان موته فی العاشر من الشهر عند الأکثر)(3).

وقال البیهقی: (وأخبرنا أبو الحسین بن الفضل القطان أنبأ عبد الله بن جعفر ثنا یعقوب بن سفیان حدثنی أبو الأسود النضر بن عبد الجبار أنبأ ابن لهیعة عن أبی قبیل قال لما قتل الحسین بن علی رضی الله عنهما کسفت الشمس کسفة بدت الکواکب نصف النهار حتی ظننا أنها هی) (4).

وعن الهیثمی فی مجمع الزوائد قال: (وعن أبی قبیل قال لما قتل الحسین بن علی انکسفت الشمس کسفة حتی بدت الکواکب نصف النهار حتی ظننا انها هی. رواه الطبرانی وإسناده حسن)(5).

 قال السیوطی فی «تاریخ الخلفاء»: «ولما قتل الحسین مکثت الدنیا سبعة أیام


1- روضة الطالبین لمحیی الدین النووی ج 1 ص 598.
2- مغنی المحتاج لمحمد بن أحمد الشربینی ج 1 ص 320.
3- حاشیة الدسوقی للدسوقی ج 1 ص 404 __ 405.
4- السنن الکبری للبیهقی ج 3 ص 337.
5- مجمع الزوائد للهیثمی ج 9 ص 197.

ص: 248

والشمس علی الحیطان کالملاحف المعصفرة، والکواکب یضرب بعضها بعضاً، وکان قتله یوم عاشوراء، وکسفت الشمس ذلک الیوم واحمرّت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله، ثم لا زالت الحمرة تری فیها بعد ذلک ولم تکن تری فیها قبله. وقیل: إنه لم یقلب حجر ببیت المقدس یومئذ إلاّ وجد تحته دم عبیط، وصار الورس الذی فی عسکرهم رماداً، ونحروا ناقة فی عسکرهم فکانوا یرون فی لحمها مثل النیران، وطبخوها فصارت مثل العلقم، وتکلّم رجل فی الحسین بکلمة، فرماه الله بکوکبین من السماء فطمس بصره)(1) قال الهیثمی: (رواه الطبرانی ورجاله رجال الصحیح)(2).

وأخرج الطبرانی بسنده إلی ابن شهاب الزهری قال: (ما رفع بالشام حجر یوم قتل الحسین بن علی إلا عن دم، رضی الله عنه)(3) قال الهیثمی: (رواه الطبرانی ورجاله رجال الصحیح)(4).

وقال الهیثمی فی مجمع الزوائد: (وعن الزهری قال: قال لی عبد الملک أی واحد أنت إن أعلمتنی أی علامة کانت یوم قتل الحسین فقال قلت: لم ترفع حصاة ببیت المقدس إلا وجد تحتها دم عبیط فقال لی عبد الملک إنی وإیاک فی هذا الحدیث لقرینان. رواه الطبرانی ورجاله ثقات)(5).

وعن ابن عساکر فی تاریخ مدینة دمشق عن علی بن محمد عن علی بن مدرک عن جده الأسود بن قیس قال: (احمرت آفاق السماء بعد قتل الحسین ستة أشهر یری ذلک فی آفاق السماء کأنها الدم قال فحدثت بذلک شریکا فقال لی سألت من


1- تاریخ الخلفاء للسیوطی ص160، ترجمة یزید بن معاویة، دار الکتاب العربی.
2- مجمع الزوائد للهیثمی ج9 ص196 باب مناقب الحسین بن علی علیهما السلام.
3- المعجم الکبیر للطبرانی ج3 ص113 ذکر مولده وصفته.
4- مجمع الزوائد للهیثمی ج9 ص196 باب مناقب الحسین بن علی علیهما السلام.
5- مجمع الزوائد للهیثمی ج 9 ص 196.

ص: 249

الأسود قلت هو جدی أبو أمی قال أما والله إن کان لصدوق الحدیث عظیم الأمانة مکرما للضیف)(1).

وقال الزرندی الحنفی: (ونقل الإمام أبو الفرج ابن الجوزی فی کتاب التبصرة عن ابن سیرین قال: لما قتل الحسین أظلمت الدنیا ثلاثة أیام ثم ظهرت هذه الحمرة فی السماء. وقال أبو سعید ما رفع حجر فی الدنیا لما قتل الحسین إلا وتحته دم عبیط، ولقد مطرت السماء دما بقی أثره فی الثیاب مدة حتی تقطعت. وقال سلیم القاضی لما قتل الحسین مطرنا دما. وقال السدی: لما قتل الحسین بکت السماء وبکاؤها حمرتها. قال الشیخ أبو الفرج ابن الجوزی: کان الغضبان یحمر وجهه عند الغضب فیستدل علی غضبه وهو إمارة الشخص، الحق سبحانه وتعالی لیس بجسم فأظهر تأثیر عظمته علی من قتل الحسین بحمرة الأفق وذلک دلیل علی عظیم الجنایة. وقال أیضا: لما أسر العباس یوم بدر سمع النبی أنینه فما نام تلک اللیلة، وکیف لو سمع أنین الحسین. وقال: لما أسلم وحشی قاتل حمزة قال له النبی: غیب وجهک عنی فانی لا أحب من قتل الأحبة، قال: وهذا والإسلام یجب ما قبله فکیف یقدر الرسول أن یری من ذبح الحسین، أو أمر بقتله وحمل أهله علی أقتاب الجمال)(2).

وقد ترکنا ذکر واستقصاء کل ما ذکر للاختصار ومن یشأ فلیرجع إلی الکتب التی ذکرت هذه الوقائع العظام والحوادث الجسام وهی بحمد الله کثیرة(3) وجمیعها شاهد ناطق بصحة ما جاء فی زیارة عاشوراء. 


1- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 14 ص 227.
2- نظم درر السمطین للزرندی الحنفی ص 221 __ 223.
3- راجع علی سبیل المثال: تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 14 ص 225 __ 230، وتهذیب الکمال للمزی ج 6 ص 432 __ 434، وسیر أعلام النبلاء للذهبی ج 3 ص 312 __ 316، ترجمة الإمام الحسین لابن عساکر ص 353 __ 363، وترجمة الإمام الحسین من طبقات ابن سعد ص 90 وما بعدها.

ص: 250

رابعا: ماذا یقول ابن کثیر وابن تیمیة بخصوص ما سبق؟

لقد أعمت العصبیة بصیرة ابن کثیر الدمشقی الأموی، وابن تیمیة الحرانی فکذبا جمیع ما تم تصحیحه من قبل علماء العامة قبل الخاصة، ولکنهم ولله الحمد لم یقدموا دلیلا واحدا علی رفضهم واستنکارهم لبکاء السماء دما وغیرها من الحوادث الالیمة المفجعة واکتفوا بکلمات التشنیع والقدح والذم للشیعة ولمن یقول بقولهم، وهو دلیل علی ضعف حجتهم ومستوی أخلاقهم ومکانتهم العلمیة والفکریة، لان العالم یواجه الحجة بالحجة والجاهل المتعصب یرد الحجة بالنباح والصیاح والسب والشتم، وهذا هو ما صدر من ابن کثیر وابن تیمیة، ومن أراد التأکد من ذلک فلینظر الی قول ابن کثیر حیث یقول: (... إن یحیی بن زکریا علیه الصلاة والسلام لما قتل احمرت السماء وقطرت دما وإن الحسین بن علی رضی الله عنهما لما قتل احمرت السماء. وحدثنا علی بن الحسین حدثنا أبو غسان محمد بن عمر وزنیج حدثنا جریر عن یزید بن أبی زیاد قال لما قتل الحسین بن علی رضی الله عنهما احمرت آفاق السماء أربعة أشهر قال یزید واحمرارها بکاؤها وهکذا قال السدی فی الکبیر وقال عطاء الخراسانی بکاؤها أن تحمر أطرافها وذکروا أیضا فی مقتل الحسین رضی الله عنه أنه ما قلب حجر یومئذ إلا وجد تحته دم عبیط وأنه کسفت الشمس واحمر الأفق وسقطت حجارة، وفی کل من ذلک نظر والظاهر أنه من سخف الشیعة وکذبهم لیعظموا الأمر ولا شک أنه عظیم ولکن لم یقع هذا الذی اختلقوه وکذبوه)(1).

وقال فی موضع آخر: (وقد ذکروا فی مقتله أشیاء کثیرة أنها وقعت من کسوف الشمس یومئذ، وهو ضعیف، وتغییر آفاق السماء، ولم ینقلب حجر إلا وجد تحته


1- تفسیر ابن کثیر ج 4 ص 153 __ 154.

ص: 251

دم، ومنهم من خصص ذلک بحجارة بیت المقدس، وأن الورس استحال رمادا، وأن اللحم صار مثل العلقم وکان فیه النار، إلی غیر ذلک مما فی بعضها نکارة، وفی بعضها احتمال)(1).

وقال فی موضع ثالث: (وقد ذکر الطبرانی ههنا آثارا غریبة جدا، ولقد بالغ الشیعة فی یوم عاشوراء، فوضعوا أحادیث کثیرة کذبا فاحشا، من کون الشمس کسفت یومئذ حتی بدت النجوم وما رفع یومئذ حجر إلا وجد تحته دم، وأن أرجاء السماء احمرت، وأن الشمس کانت تطلع وشعاعها کأنه الدم، وصارت السماء کأنها علقة، وأن الکواکب ضرب بعضها بعضا، وأمطرت السماء دما أحمر، وأن الحمرة لم تکن فی السماء قبل یومئذ، ونحو ذلک. وروی ابن لهیعة: عن أبی قبیل المعافری: أن الشمس کسفت یومئذ حتی بدت النجوم وقت الظهر، وأن رأس الحسین لما دخلوا به قصر الإمارة جعلت الحیطان تسیل دما، وأن الأرض أظلمت ثلاثة أیام، ولم یمس زعفران ولا ورس بما کان معه یومئذ إلا احترق من مسه، ولم یرفع حجر من حجارة بیت المقدس إلا ظهر تحته دم عبیط، وأن الإبل التی غنموها من إبل الحسین حین طبخوها صار لحمها مثل العلقم. إلی غیر ذلک من الأکاذیب والأحادیث الموضوعة التی لا یصح منها شیء)(2).

وقال ابن تیمیة: (إن کثیرا مما روی فی ذلک کذب، مثل کون السماء أمطرت دما، ومثل کون الحمرة ظهرت فی السماء یوم قتل الحسین، وکذلک قول القائل: ما رفع حجر فی الدنیا إلا وجد تحته دم عبیط هو أیضا کذب بین)(3)


1- البدایة والنهایة لابن کثیر ج 6 ص 258 __ 259.
2- البدایة والنهایة لابن کثیر ج 8 ص 219.
3- منهاج السنة النبویة ج4 ص560.

ص: 252

أقول:

بل الکذب البین هو تکذیب ابن کثیر وابن تیمیة لتلک النصوص الصحیحة، وما مر من تصحیح علماء السنة لتلک النصوص المثبتة لوقوع البکاء من السماء علی مصیبة سید الشهداء وغیرها من الانفعالات الکونیة حجة علیهما، ومن عرف منهج وأسلوب وحقد کل من ابن کثیر وابن تیمیة لا یستغرب علیهما إنکارهما لمثل هذه الحقائق الواضحة الناصعة، فالحدیث الکذب بالنسبة لهما کل ما تقول به الشیعة الإمامیة أو یؤید أفکارهم ومتبنیاتهم، حتی لو کان ذلک الحدیث بحسب الموازین الرجالیة صحیحا ورجاله ثقات، وأما الحدیث الصحیح برأیهما فهو کل حدیث یقدح بالشیعة ویؤدی إلی مس کرامتهم وعقائدهم حتی وان کان هذا الحدیث ساقطاً من حیث الاعتبار السندی والرجالی.

المبحث الثالث: هل یمکن أن تبکی الحیوانات والجمادات؟ 
اشارة

جاءت الروایات ناطقة وموضحة بأن الحسین صلوات الله وسلامه علیه قد أثر مقتله فی سائر أجزاء الکون إنسها وجنها سمائها وأرضها وکل ما فیهما من الحجر والمدر والحیوان والشجر، وقد مرت نصوص تشیر إلی هذا المعنی بوضوح.

 ولیس لأحد یؤمن بآیات القرآن وأحادیث النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم الاعتراض علی بکاء الوحوش والحیتان والطیر، أو السماوات وکواکبها، أو الأرض وأشجارها، أو البحار وأمواجها، لان القرآن الکریم وأحادیث النبی وأقوال علماء المسلمین بجمیع طوائفهم، صرحت بوقوع هذه الأشیاء أو قریب منها، وفیما یأتی جملة من تلک الموارد: 

ص: 253

أولا: شواهد قرآنیة علی ان لکل الموجودات عقلاً وإدراکاً 
اشارة

قال الله سبحانه: ((وَحُشِرَ لِسُلَیْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّیْرِ فَهُمْ یُوزَعُونَ * حَتَّی إِذَا أَتَوْا عَلَی وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ یَا أَیُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاکِنَکُمْ لَا یَحْطِمَنَّکُمْ سُلَیْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا یَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِکًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِی أَنْ أَشْکُرَ نِعْمَتَکَ الَّتِی أَنْعَمْتَ عَلَیَّ وَعَلَی وَالِدَیَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِی بِرَحْمَتِکَ فِی عِبَادِکَ الصَّالِحِینَ))(1).

وقال تعالی: ((وَتَفَقَّدَ الطَّیْرَ فَقَالَ مَا لِیَ لَا أَرَی الْهُدْهُدَ أَمْ کَانَ مِنَ الْغَائِبِینَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِیدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَیَأْتِیَنِّی بِسُلْطَانٍ مُبِینٍ * فَمَکَثَ غَیْرَ بَعِیدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُکَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ یَقِینٍ * إِنِّی وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِکُهُمْ وَأُوتِیَتْ مِنْ کُلِّ شَیْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِیمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا یَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَیَّنَ لَهُمُ الشَّیْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِیلِ فَهُمْ لَا یَهْتَدُونَ))(2).

قال السید المرتضی فی توضیح هاتین الآیتین: (إن فی الناس من ذهب إلی أنه لا یجوز أن یکون الهدهد وما أشبهه من البهائم کامل العقل، وهو علی ما هو علیه من الهیئة والبنیة، وعد ذلک فی جملة المستحیل، وهذا لیس بصحیح ولا دلالة عقلیة تدل علی ذلک. ومن أین لنا أن بنیة قلب الهدهد وما جری مجراه لا تحتمل العلوم التی هی کمال العقل، وإذا کان العقل من قبل العلوم والاعتقادات، وقلب البهیمة یحتمل الاعتقادات لا محالة، بل کثیرا من العلوم وإن لم یکن تلک العلوم عقلا. فأی فرق بین العلم الذی هو عقل، وبین العلم الذی لیس بعقل فی احتمال القلب له؟ وما احتمل الجنس الذی هو الاعتقاد، لا بد أن یکون محتملا للنوع الذی هو العلوم)(3)


1- سورة النمل الآیة رقم 17 __ 19.
2- سورة النمل الآیة رقم 20 __ 24.
3- رسائل المرتضی للشریف المرتضی ج 1 ص 424 __ 425.

ص: 254

وقال ابن قتیبة: (قال أبو محمد ونحن نقول إن المعتقد أن الهوام والسباع والطیر لا یجوز علیها عصیان ولا طاعة مخالف لکتاب الله عز وجل وأنبیائه ورسله وکتب الله المتقدمة؛ لان الله تعالی قد أخبرنا عن نبیه سلیمان علیه السلام أنه تفقد الطیر فقال مالی لا أری الهدهد أم کان من الغائبین لأعذبنه عذابا شدیدا أو لأذبحنه أو لیأتینی بسلطان مبین، أی بعذر بین وحجة فی غیبته وتخلفه ولا یجوز أن یعذبه إلا علی ذنب ومعصیة والذنوب والمعاصی تسمی فسوقا وما جاز أن یسمی عاصیا جاز أن یسمی فاسقا، ثم حکی الله تعالی عن الهدهد بعد أن اعتذر إلی سلیمان فقال أحطت بما لم تحط به وجئتک من سبأ بنبأ یقین إنی وجدت امرأة تملکهم وأوتیت من کل شیء ولها عرش عظیم... وهذا لو کان من أقاویل الحکماء بل لو کان من کلام الأنبیاء لکان کلاما حسنا وعظة بلیغة وحجة بینة فکیف لا یجوز علی هذا مطیع وعاص وفاسق ومهتد وقد حکی الله تعالی أیضا عن النمل ما حکاه فی هذه السورة، فقال: وورث سلیمان داود وقال: یا أیها الناس علمنا منطق الطیر، فجعلها تنطق کما ینطق الناس وقال حتی أتوا علی واد النمل قالت نملة یا أیها النمل، الآیة، فجعلها تنطق کما ینطق الناس، وقال وإن من شیء إلا یسبح بحمده ولکن لا تفقهون تسبیحهم وقال یا جبال أوبی معه والطیر، أی سبّحی...)(1).

أقول: وتحذیر النملة لباقی النمل من جیش نبی الله سلیمان علیه السلام وأمرها لهن بدخول مساکنهن، ومعرفتها بأن هذا الذی أمامها هو نبی الله سلیمان علیه السلام، وان أولئک الذین خلفه هم جیشه وأفراد جنوده، فیه دلالة قاطعة علی أنّ لها مستوی من الإدراک والعقل، وان کان لیس بمستوی العقل والإدراک الذی منحه الله سبحانه للإنسان، بل وربما کان فهمها وعقلها وإدراکها لبعض


1- تأویل مختلف الحدیث لابن قتیبة ص 129 __ 133.

ص: 255

الحقائق الکونیة یفوق ویعلو علی فهم وإدراک وعقل کثیر من جهال البشر.

ولیست النملة بأعجب حالا من الهدهد فی قصة سلیمان السابقة الذکر، والذی کان یدرک المدینة التی کان فیها ویعرف اسمها حیث قال ((وَجِئْتُکَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ یَقِینٍ))، ویعلم أن لهذه المدینة ملکة لا ملکا، وانها محاطة بشتی أنواع النعم والقوة والمنعة وان لها عرشاً عظیماً ((إِنِّی وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِکُهُمْ وَأُوتِیَتْ مِنْ کُلِّ شَیْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِیمٌ))، وانها وأهل تلک المدینة یعبدون ویسجدون لغیر الله سبحانه وبالتحدید للشمس ((وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا یَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ))، وقد تعجب لفعلهم هذا، لأنه یخالف قانون الفطرة، وان هذا الانحراف عن فطرة التوحید وعبادة الله سبحانه سببه الشیطان فهو الذی زین ذلک إلیهم فصدهم بتزیینه هذا عن السبیل فصاروا باتباعه لا یهتدون، ثم یتساءل مستفهما ومستنکرا لفعلهم بقوله ((أَلَّا یَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِی یُخْرِجُ الْخَبْءَ فِی السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَیَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِیمِ))(1) فهل یصح کل تلک الأقوال والأفعال والاعتقادات إلا ممن له مرتبة من الکمال والعقل والإدراک والفهم، تفوق مرتبة من یسجد للشمس من دون الله سبحانه.

ثم انظر إلی أسلوب وطریقة کلام نبی الله سلیمان معه من خلال قوله تعالی ((قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ کُنْتَ مِنَ الْکَاذِبِینَ))(2) فهل یصح أن یوصف بالصدق أو الکذب من لا یعقل شیئا، ولیس له إدراک وفهم.

ثم هل یصح من نبی الله سلیمان علیه السلام وهو الحکیم والمعصوم أن یرسل بید الهدهد کتابا إلی تلک الملکة وقومها قائلا له: ((اذْهَبْ بِکِتَابِی هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَیْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا یَرْجِعُونَ))(3) ویحمله من المضامین أشدها أهمیة: ((إِنَّهُ مِنْ سُلَیْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ


1- سورة النمل الآیة رقم 25.
2- سورة النمل الآیة رقم 27.
3- سورة النمل الآیة رقم 28

ص: 256

اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَیَّ وَأْتُونِی مُسْلِمِینَ))(1)، لو لم یکن علیه السلام یعترف مسبقا بعقل ذلک الحیوان وإدراکه وفهمه.

وبالجملة لا یصح بعد کل هذا التوضیح أن ینکر بعض من لا یتحمل عقله ولا تطمئن نفسه إلی هذه الحقائق القرآنیة شعور وإدراک الحیوانات وان لها مرتبة من الکمال والتعقل تتناسب وعالمها ولیس بالضرورة ان تکون بمستوی عقل وفهم وإدراک الإنسان السوی، لکنها أو بعضها ربما تحمل من الإدراک والتعقل ما یتصاغر أمامه عقل وإدراک وشعور کثیر من جهلة أبناء آدم.

اذا کان للحیوان وغیره من الموجودات عقل وإدراک، فلماذا لم یکلف بالأحکام الشرعیة؟

وربما یحلو للبعض القول بأن لو کان للحیوان أو الشجر أو غیرهما من باقی الموجودات الأخری عقل وإدراک لکلفوا بتکالیفنا، وأمروا ونهوا وأثیبوا وعوقبوا مثلنا.

ویجاب عن هذا الإشکال: بأن مشکلة کثیر من الناس هی انه یقیس کل الأشیاء علی نفسه فإذا ما قال الله سبحانه مثلا ید الله فوق أیدیهم تصور أن لله سبحانه یداً ووجهاً ورجلاً وغیر ذلک من التجسیم الذی أساسه قصور العقل وقلة الفهم، وکذلک حینما یقال أن للحیوان حظّاً ونصیباً من التعقل والإدراک تتناسب وعالمه فانه یقیس ذلک علی نفسه ویتصور ان الحیوان له قدرة عقلیة مثل قدرة الإنسان العقلیة فی ضرب الأعداد مثلا وتقسیمها وإخراج جذور الأرقام ووضع الخرائط الهندسیة وإجراء البحوث العلمیة المعقدة وغیر ذلک، غافلا عن ان هذا


1- سورة النمل الآیة رقم 30 __ 31.

ص: 257

المستوی الرفیع من العقل إنما خص الله سبحانه به الإنسان دون غیره وعلی هذا المستوی العقلی اجری التکلیف، والحیوان اقل من مستواه العقلی بکثیر قطعا، فلذلک لم یکلف بتکالیفنا، أو انه قد کلف ولکن بتکالیف تتناسب ومرتبته الکمالیة، ألا تری أن کل شیء فی الوجود یسبح لله سبحانه قال تعالی ((تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِیهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَیْءٍ إِلَّا یُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَکِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِیحَهُمْ إِنَّهُ کَانَ حَلِیمًا غَفُورًا))(1) ولعل هذا التسبیح هو إشارة إلی نوع من أنواع التکلیف قد خفی علینا خبره وتفصیل حاله، ولعل الآیة بصدد تبیان أن الوجود کله مأمور بالطاعة والانقیاد لله سبحانه، ولکل فرد من أفراده تکلیفه الخاص به ولکن لا تفقهون تکلیفهم.

وکذلک الحال بشان إثابتها أو عقابها فانه قد ورد فی الأثر ان الحیوانات تحشر قال تعالی ((وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ))(2) وتعرض للحساب حتی یقتص الله للجماء من القرناء(3) ثم یقول لها کونی ترابا فترجع ترابا، وهذا المستوی من الإثابة أو العقاب إنما یتناسب ومستواها ومرتبتها الکمالیة.

وعلی هذا الأمر نقیس بقیة أجزاء الکون، من الأرض والحجر والشجر وغیر ذلک، فان للکل إدراکاً یتناسب ومراتبها الکمالیة، وقد ورد فی الأثر ان کل ما فی الکون یشهد للإنسان بالخیر یوم القیامة، وکذلک یشهد علیه إن قد أساء وأذنب علیها أو بقربها، فالأرض تشهد له بالطاعة، وبقاع الأرض یفتخر بعضها علی بعض لان مؤمنا قد صلی علیها، فهل یصح أن یشهد من لا یدرک، أم هل یتفاخر من لا یعقل، وسیأتی ذکر الجذع الذی کان یخطب عنده رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فلما


1- سورة الإسراء الآیة رقم 44.
2- سورة التکویر الآیة رقم 5.
3- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج7 ص92 الباب الخامس صفحة المحشر.

ص: 258

بنی له صلی الله علیه وآله وسلم المنبر ترکه فصار الجذع یئن ویصرخ کما یصرخ الصبی وما هدأ إلا حین احتضنه النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، ولا ننسی قبل کل ذلک قوله تعالی ((تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِیهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَیْءٍ إِلَّا یُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَکِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِیحَهُمْ إِنَّهُ کَانَ حَلِیمًا غَفُورًا))(1)، فالتسبیح لا یصدر إلا ممن له إدراک، ولو لم یکن المسبح مدرکا للشیء المسبح له او المسبح به لصار فعلا لغویا لا یستحق من الباری الذکر فی محکم کتابه العزیز، ولکن کما کررنا مرارا المشکلة فی الإنسان انه ینکر کل ما لا یدرکه بحواسه، لذلک اخبر القرآن بقوله (ولکن لا تفقهون تسبیحهم) کی لا یکون عدم إدراکنا لهذه الحقائق دلیلاً علی إنکارها وقد جاء التصریح بها فی القرآن الذی فیه تبیان کل شیء.

ثانیا: ماذا یقول الحلبی فی معاجز النبی. وکراماته

قال الحلبی فی السیرة الحلبیة عند استعراضه لمعاجز النبی الأعظم. وکراماته والتی اخترنا منها ما یتناسب والمقام الذی نحن فیه: (ومنها شهادة الشجرة له صلی الله علیه __ وآله __ وسلم بالرسالة فی خبر الأعرابی الذی دعاه إلی الإسلام فقال هل من شاهد علی ما تقول قال نعم هذه الشجرة ادعها فدعاها فأقبلت فاستشهدها فشهدت أنه کما قال ثلاثا ثم رجعت إلی منبتها(2).(3)

 ومنها مجیء الشجرة إلیه صلی الله علیه __ وآله __ وسلم لتظله وتسلم علیه فقد


1- سورة الإسراء الآیة رقم 44.
2- أورد هذا الحدیث الهیثمی فی مجمع الزوائد فی ج8 ص292 وقال: (رواه الطبرانی ورجاله رجال الصحیح)، ورواه ابن حبان فی کتابه صحیح ابن حبان ج14 ص436 فی شهادة الشجر للمصطفی.
3- أقول: وقد اجتمعت کلمة المسلمین علی قبول شهادة العاقل المدرک لألفاظ الشهادة العالم بموضوعها، وقبول النبی. بشهادة الشجرة ودعوتها للشهادة له بالنبوة دلیل علی ان لها مستوی من التعقل والإدراک یؤهلها لتلک الشهادة.

ص: 259

جاء أنه صلی الله علیه __ وآله __ وسلم نام أی فی الشمس فجاءت شجرة تشق الأرض حتی قامت علیه لما استیقظ ذکر له ذلک فقال هی شجرة استأذنت ربها عز وجل فی أن تسلم علی فأذن لها(1).(2)

 ومنها حنین الجذع إلیه صلی الله علیه __ وآله __ وسلم کما تقدم(3).(4)


1- راجع أیضا تهذیب الکمال للمزی ج1 ص237، والوافی بالوفیات للصفدی ج1 ص82، وعیون الأثر لابن سید الناس ج2 ص360 فی ذکر نبذة من معجزاته علیه السلام.
2- وفی هذا المقطع عدة من المعانی الدالة علی المطلوب، منها ان الشجرة کانت تدرک أن هذا النائم هو رسول الله.، وتدرک انه. نائم فی الشمس، وتدرک ان الشمس تؤذیه، وتدرک ان أغصانها یمکن ان تریح النبی. فیما لو صارت حائلا ما بین الشمس وبینه.، وتدرک انها لکی تتحول من مکانها وتتحرک عن موضعها لابد ان تستأذن الله سبحانه لعلمها ان الله سبحانه وحده من یملک هذه القدرة، فاخبرونا یا أولی الألباب ألیس العقل والإدراک إلا هذا.
3- أخرج البخاری فی ج4 ص173: (حدثنا محمد بن المثنی حدثنا یحیی بن کثیر أبو غسان حدثنا أبو حفص واسمه عمر بن العلاء أخو أبی عمرو بن العلاء قال سمعت نافعا عن ابن عمر رضی الله عنهما کان النبی صلی الله علیه وسلم یخطب إلی جذع فلما اتخذ المنبر تحول إلیه فحن الجذع فأتاه فمسح یده علیه) وقد أخرج أیضا فی نفس الصفحة قوله (عن جابر بن عبد الله رضی الله عنهما ان النبی صلی الله علیه وسلم کان یقوم یوم الجمعة إلی شجرة أو نخلة فقالت امرأة من الأنصار أو رجل یا رسول الله ألا نجعل لک منبرا قال إن شئتم فاجعلوا له منبرا فلما کان یوم الجمعة دفع إلی المنبر فصاحت النخلة صیاح الصبی ثم نزل النبی صلی الله علیه وسلم فضمه إلیه تأن أنین الصبی الذی یسکن قال کانت تبکی علی ما کانت تسمع من الذکر عندها) وقال فی ص173 __174 من نفس هذا الجزء: (عن یحیی بن سعید قال أخبرنی حفص بن عبید الله بن أنس ابن مالک انه سمع جابر بن عبد الله یقول کان المسجد مسقوفا علی جذوع من نخل فکان النبی صلی الله علیه وسلم إذا خطب یقوم إلی جذع منها فلما صنع له المنبر وکان علیه فسمعنا لذلک الجذع صوتا کصوت العشار حتی جاء النبی صلی الله علیه وسلم فوضع یده علیها فسکنت).
4- أقول ولیس فراق النبی. لجذع الشجرة بأعظم من قتل ابنه فإذا کان الجذع قد حن وصاح کالصبی لمجرد فراق النبی له. أفلا یحق للأرض والسماء والبحار والأشجار أن تبکی الحسین وتحن علیه وتبکی لعظیم رزیته وجلیل مصیبته وفادح ما نزل به فلماذا جوزتم تلک واستعظمتم هذه مع ان مصیبة الحسین * ورزیته ومحنته أعظم وأدهی وأمر.

ص: 260

ومنها شکوی البعیر له صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قلة العلف وکثرة العمل(1).

ومنها شکوی بعض الطیور له صلی الله علیه __ وآله __ وسلم بسبب أخذ بیضه أو فراخه فقد جاء أن حمرة جاءت فوق رأسه فقال صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أیکم فجع هذه فقال رجل من القوم أنا أخذت بیضها فقال رده رده رحمة لها(2).(3)

 ومنها سجود البعیر له صلی الله علیه __ وآله __ وسلم الذی استصعب علی أهله وصار کالکلب لا یقدر أحد أن یقرب إلیه(4).


1- قد رویت روایات کثیرة فی شکایة الحیوانات لرسول الله. أیام کان فی المدینة منها ما أخرجه احمد بن حنبل فی مسنده ج 4 ص 170 __ 171 قال: (حدثنا عبد الله حدثنی أبی ثنا عبد الله بن نمیر عن عثمان بن حکیم قال أخبرنی عبد الرحمن بن عبد العزیز عن یعلی بن مرة قال لقد رأیت من رسول الله صلی الله علیه وسلم ثلاثا ما رآها أحد قبلی ولا یراها أحد بعدی... وکنت عنده جالسا ذات یوم إذ جاءه جمل یخبب حتی صوب بجرانه بین یدیه ثم ذرفت عیناه فقال ویحک أنظر لمن هذا الجمل ان له لشأنا قال فخرجت ألتمس صاحبه فوجدته لرجل من الأنصار فدعوته إلیه فقال ما شأن جملک هذا فقال وما شأنه قال لا أدری والله ما شأنه عملنا علیه ونضحنا علیه حتی عجز عن السقایة فائتمرنا البارحة أن ننحره ونقسم لحمه قال فلا تفعل هبه لی أو بعنیه فقال بل هو لک یا رسول الله قال فوسمه بسمة الصدقة ثم بعث به)، وقال الهیثمی فی مجمع الزوائد ج9 ص6: (رواه أحمد بإسنادین والطبرانی بنحوه، وأحد إسنادی أحمد رجاله رجال الصحیح).
2- راجع مسند أبی داود الطیالسی لسلیمان بن داود الطیالسی ص44، وراجع أیضا تاریخ الإسلام للذهبی ج1 ص350، وفی الأدب المفرد للبخاری ص88 عدم تکرار (رده رده رحمة لها).
3- وفیه کما لا یخفی إشارة واضحة إلی معرفة هذا الطائر بشخص النبی. وکذلک معرفته بتأثیره فی أصحابه وان لا احد یستطیع أن یرجع إلیها فراخها أو بیضها غیره. وهل یکون العقل والإدراک إلا هذا.
4- نقل احمد بن حنبل فی مسنده ج 3 ص 310عن جابر بن عبد الله قال أقبلنا مع رسول الله صلی الله علیه وسلم من سفر حتی إذا دفعنا إلی حائط من حیطان بنی النجار إذا فیه جمل لا یدخل الحائط أحدٌ إلاّ شدّ علیه قال فذکروا ذلک للنبی صلی الله علیه وسلم فجاء حتی أتی الحائط فدعا البعیر فجاء واضعا مشفره إلی الأرض حتی برک بین یدیه قال فقال النبی صلی الله علیه وسلم هاتوا خطاما فخطمه ودفعه إلی صاحبه قال ثم التفت إلی الناس قال إنه لیس شیء بین السماء والأرض إلا یعلم أنی رسول الله إلا عاصی الجن والإنس)، وقال الهیثمی فی مجمع الزوائد ج9 ص7: (رواه احمد ورجاله ثقات). أقول: ولا یخفی ما فی هذا الحدیث من الإشارات المهمة الدالة علی المطلوب والتی منها ان کل الموجودات تعرف النبی. وانه رسول الله وهو موافق لما روی عند الإمامیة بان الولایة للرسول والإمام عرضت علی کل شیء وعلیه فإذا کانت الموجودات تعرف النبی. فإنها تعرف الإمام کذلک، وإذا کانت تسجد للنبی. فإنها کذلک للإمام ولمعرفتها بمنزلة النبی والإمام تأثرت حین استشهاد الحسین صلوات الله وسلامه علیه.

ص: 261

ومنها سجود الغنم له صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فی بعض حوائط الأنصار(1).

ومنها شهادة الجمل عنده صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أنه لصاحبه الأعرابی دون من ادعاه ففی المعجم الکبیر للطبرانی(2) عن زید بن ثابت رضی الله عنه قال کنا مع رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فبصرنا بأعرابی آخذاً بخطام بعیره حتی


1- راجع إمتاع الأسماع للمقریزی ج5 ص247 رابع وسبعون سجود الغنم له. قال: (وأما سجود الغنم له، فخرج أبو نعیم من حدیث جعفر بن محمد الفریابی قال: أخبرنا إبراهیم بن العلاء الزبیدی، حدثنا عباد بن یوسف الکندی، أخبرنا أبو جعفر الرازی عن الربیع بن أنس، عن أنس بن مالک رضی الله عنه قال: دخل النبی صلی الله علیه وسلم حائطا للأنصار، ومعه أبو بکر وعمر فی رجال من الأنصار، وفی الحائط غنم فسجدن له، فقال أبو بکر رضی الله عنه یا رسول الله کنا نحن أحق بالسجود لک من هذه الغنم ، فقال: إنه لا ینبغی من أمتی أن یسجد أحد لأحد، لو کان ینبغی أن یسجد أحد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها. وراجع أیضا کتاب الشفا بتعریف حقوق المصطفی للقاضی عیاض ج1 ص312 فصل فی الآیات فی ضروب الحیوانات، وراجع أیضا کتاب سبل الهدی والرشاد للصالحی الشامی ج9 ص561 جماع أبواب معجزاته. الباب الخامس فی سجود الغنم له.
2- المعجم الکبیر للطبرانی ج5 ص141ویوجد اختلاف فی بعض ألفاظ الروایة فیما بین روایة الحلبی هنا وبین ما هو موجود فی معجم الطبرانی فتنبه.

ص: 262

وقف علی النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ونحن حوله فقال السلام علیک أیها النبی ورحمة الله وبرکاته فرد علیه النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وجاء رجل آخر کأنه حرسی فقال الحرسی یا رسول الله هذا الأعرابی سرق سرب البعیر(1) فرغا البعیر ساعة وحن فأنصت له رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ساعة فسمع رغاءه وحنینه فلما هدأ البعیر اقبل النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فقال للرجل انصرف عنه فإن البعیر شهد علیک أنک کاذب فانصرف وأقبل النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم علی الأعرابی فقال أی شیء قلت حین جئت لی قال قلت بأبی أنت وأمی یا رسول الله اللهم صل علی محمد حتی لا تبقی صلاة وبارک علی محمد حتی لا تبقی برکة اللهم سلم علی محمد حتی لا یبقی سلام اللهم وارحم محمدا حتی لا یبقی رحمة فقال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم إن الله عز وجل أبداها لی والبعیر ینطق بعذرک وإن الملائکة قد سدوا الأفق.

ومنها سؤال الظبیة له صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أن یخلصها لترضع ولدها وتعود فخلصها وعادت وتلطفت بالشهادتین فعن أبی سعید الخدری رضی الله عنه مر رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم علی ظبیة مربوطة إلی خباء فقالت یا رسول الله خلصنی حتی أذهب فأرضع خشفی ثم أرجع فتربطنی فقال لها صید قوم وربیطة قوم ثم استحلفها أن ترجع فحلفت له فحلها فمکثت قلیلا ثم جاءت وقد نفضت ضرعها فربطها رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ثم أتی خباء أصحابها فاستوهبها منهم فوهبوها له فحلها(2).


1- فی المعجم الکبیر للطبرانی هکذا: (یا رسول الله هذا الغلام سرق البعیر).
2- راجع فیض القدیر فی شرح الجامع الصغیر للمناوی ج5 ص401 حرف اللام، وراجع تاریخ الإسلام للذهبی ج1 ص350، وراجع أیضا سبل الهدی والرشاد للصالحی الشامی ج12 ص406 الباب الرابع فی ذکر من توسل به..

ص: 263

 ومنها شهادة الذئب له صلی الله علیه __ وآله __ وسلم بالرسالة(1))(2).

فلیس علی من نقل هذه الوقائع وأمثالها وما لم نذکره أکثر وأکثر ان یستغرب ویستنکر بکاء السماء والملائکة والحیوانات والبحار والجنة وما فیها علی مصیبة سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه.

ثالثا: خلوا سبیل الناقة فإنها مأمورة

اشتهر فی الأخبار التی رواها الفریقان ان النبی صلی الله علیه وآله وسلم لما هاجر إلی المدینة وأراد أن ینزل فیها ویستقر، صار یمشی فی سکک المدینة ویطوف علی بطونها وهو علی ناقته، فصار صلی الله علیه وآله وسلم لا یمر علی أهل حی من أحیائها أو بطن من بطونها إلا ویأخذوا بزمام ناقته ویعرضوا علیه النزول عندهم والاستقرار بقربهم، وهو صلی الله علیه وآله وسلم فی کل ذلک یقول: (خلوا سبیل الناقة فإنها مأمورة) وفیما یأتی نصّان یوضحان هذه الحادثة بکامل تفاصیلها: ففی الکافی بسنده عن الإمام علی بن الحسین صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (...ثم راح یومه إلی المدینة علی ناقته التی کان قدم علیها


1- قال الذهبی فی تاریخ الإسلام ج1 ص351: (عن أبی سعید الخدری قال: بینما راع یرعی بالحرة إذ عرض ذئب لشاة فحال الراعی بین الذئب وبین الشاة فأقعی الذئب علی ذنبه ثم قال للراعی: ألا تتقی الله تحول بینی وبین رزق ساقه الله إلی فقال الراعی: العجب من ذئب مقع علی ذنبه یتکلم بکلام الإنس! فقال الذئب: ألا أحدثک بأعجب منی: رسول الله صلی الله علیه وسلم بین الحرتین یحدث الناس بأنباء ما قد سبق فساق الراعی شاة حتی أتی المدینة فزواها زاویة ثم دخل علی النبی صلی الله علیه وسلم فحدثه بحدیث الذئب فخرج رسول الله صلی الله علیه وسلم إلی الناس فقال للراعی: قم فأخبرهم قال: فأخبر الناس بما قال الذئب فقال رسول الله صلی الله علیه وسلم: صدق الراعی ألا إنه من أشراط الساعة کلام السباع للإنس والذی نفسی بیده لا تقوم الساعة حتی تکلم السباع الإنس ویکلم الرجل شراک نعله وعذبة سوطه ویخبره فخذه بما أحدث أهله بعده. أخرجه الترمذی وقال: صحیح غریب. وقال عبد الحمید بن بهرام ومعقل بن عبید الله عن شهر بن حوشب عن أبی هریرة أو عن أبی سعید الخدری نحوه وهو حدیث حسن صحیح الإسناد).
2- راجع السیرة الحلبیة للحلبی ج3 ص351 __ 353.

ص: 264

وعلی علیه السلام معه لا یفارقه، یمشی بمشیه ولیس یمر رسول الله صلی الله علیه وآله ببطن من بطون الأنصار إلا قاموا إلیه یسألونه أن ینزل علیهم فیقول لهم: خلوا سبیل الناقة فإنها مأمورة، فانطلقت به ورسول الله صلی الله علیه وآله واضع لها زمامها حتی انتهت إلی الموضع الذی تری __ وأشار بیده إلی باب مسجد رسول الله صلی الله علیه وآله الذی یصلی عنده بالجنائز __ فوقفت عنده وبرکت ووضعت جرانها علی الأرض فنزل رسول الله صلی الله علیه وآله وأقبل أبو أیوب مبادرا حتی احتمل رحله فأدخله منزله ونزل رسول الله صلی الله علیه وآله وعلی علیه السلام معه حتی بنی له مسجده بنیت له مساکنه ومنزل علی علیه السلام فتحولا إلی منازلهما)(1).

وفی تاریخ الطبری: (حدثنا ابن حمید قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق أن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم رکب ناقته وأرخی لها الزمام فجعلت لا تمر بدار من دور الأنصار إلا دعاه أهلها إلی النزول عندهم وقالوا له هلم یا رسول الله إلی العدد والعدة والمنعة فیقول لهم صلی الله علیه __ وآله __ وسلم خلوا زمامها فإنها مأمورة حتی انتهی إلی موضع مسجده الیوم فبرکت علی باب مسجده)(2).

أقول: وفی هذه الحادثة دلیل قطعی علی ان لناقته صلوات الله وسلامه علیه إدراکاً لما تفعله وانها قابلة للتکلیف؛ لان الحدیث واضح فهو ینص علی انها مأمورة ولیس الآمر سوی الله سبحانه، ولکن یجب ان لا یغیب عن الذهن ما کررناه مرارا من ان التکلیف لیس بالضرورة یکون بمستوی التکلیف البشری وإنما یکلف کل موجود بما یتناسب ومستواه الکمالی. 


1- الکافی للشیخ الکلینی ج 8 ص 339 __ 340 حدیث إسلام علی علیه السلام.
2- تاریخ الطبری للطبری ج 2 ص 116، وراجع أیضا فتح الباری لابن حجر ج7 ص192 باب هجرة النبی صلی الله علیه وآله وسلم وأصحابه، وراجع أیضا الاستیعاب لابن عبد البر ج1 ص42.

ص: 265

ولیس لأحد أن یفترض أنّ معنی مأمورة هو ان ملکا هو الذی کان یقودها، لان النبی صلی الله علیه وآله وسلم نسب الفعل إلی الناقة وأوکل مسؤولیة تحدید المکان إلیها، ولو لم یکن للناقة مدخلیة فی التحدید ولو کان هنالک ملک یقودها لما صار ضروریا ان تعلق مسألة نزول النبی علی الناقة ولکان من الأنسب ان یقول النبی وبکل صراحة ان الملک بأمر الله أمرنی أن انزل فی المکان الفلانی.

رابعا: کسفت الشمس وأظلمت المدینة حین أرادوا نقل منبر النبی صلی الله علیه وآله وسلم

قال ابن حجر فی فتح الباری: (ولم یزل المنبر علی حاله ثلاث درجات حتی زاده مروان فی خلافة معاویة ست درجات من أسفله وکان سبب ذلک ما حکاه الزبیر ابن بکار فی أخبار المدینة شوال إلی حمید بن عبد الرحمن بن عوف قال بعث معاویة إلی مروان وهو عامله علی المدینة أن یحمل إلیه المنبر فأمر به فقلع فأظلمت المدینة فخرج مروان فخطب وقال إنما أمرنی أمیر المؤمنین أن أرفعه فدعا نجارا وکان ثلاث درجات فزاد فیه الزیادة التی هو علیها الیوم ورواه من وجه آخر قال فکسفت الشمس حتی رأینا النجوم)(1).

وقال المقریزی: (قال سفیان بن حمزة قال کثیر فأخبرنی الولید بن رباح قال: کسفت الشمس یوم زاد معاویة فی المنبر حتی رؤیت النجوم. وذکر الواقدی وغیره: أنه لما کانت سنة خمسین أمر معاویة بن أبی سفیان بحمل المنبر إلی الشام وقال: لا یترک هو وعصا النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم بالمدینة... فلما حرک المنبر لیخرج من موضعه کسفت الشمس حتی رؤیت النجوم بادیة فأعظم الناس ذلک فترک المنبر علی حاله... وذکر ابن زبالة من حدیث عبد الرحمن بن حمید بن عبد الرحمن بن


1- فتح الباری لابن حجر ج 2 ص 331 باب التأذین عند الخطبة.

ص: 266

عوف عن أبیه قال: بعث معاویة بن أبی سفیان إلی مروان بن الحکم عامله علی المدینة یأمره أن یحمل إلیه منبر النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم عن ما وضعه فأمر به أن یقلع فأظلمت المدینة وأصابتهم ریح شدیدة...وعن عبد الله بن زیاد عن ابن فطن قال: قلع مروان بن الحکم منبر النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وکان درجتین والمجلس وأراد أن یبعث به إلی معاویة فکسفت الشمس حتی رأینا النجوم...ولما ولی عبد الملک بن مروان الخلافة هم بنقل المنبر فقال له قبیصة بن ذؤیب: أذکرک الله أن تفعل إن معاویة حرکه فکسفت الشمس)(1).

أقول: ولیس إخراج منبر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم إلی الشام بأعظم من إخراج نساء رسول الله وحریمه وعترته سبایا یساقون إلی الشام، ولیس نقل المنبر بأعظم من نقل رأس سید الشهداء إلی ابن معاویة یزید اللعین، فهل یحق للسماء أن تنکسف شمسها علی نقل منبر صعد علیه الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ولا تنکسف أو تبکی السماء علی سبط النبی الذی طالما اعتلی منکب النبی وظهره وصدره الشریف.

خامسا: أظلمت المدینة من جریمة عبید الله بن عمر بن الخطاب

لما طعن أبو لؤلؤة عمر بن الخطاب ثار ولده عبید الله بن عمر فقتل علی الظنة والتهمة ثلاثة من الأبریاء غدرا وهم الذین ذکرهم الصنعانی بقوله: (فخرج عبید الله ابن عمر مشتملا علی السیف، حتی أتی الهرمزان، فقال: اصحبنی حتی ننظر إلی فرس لی، وکان الهرمزان بصیرا بالخیل، فخرج یمشی بین یدیه، فعلاه عبید الله بالسیف، فلما وجد حر السیف قال: لا إله إلا الله، فقتله، ثم أتی جفینة، وکان نصرانیا، فدعاه، فلما أشرف له علاوة بالسیف، فصلب بین عینیه، ثم أتی ابنة أبی


1- إمتاع الأسماع للمقریزی ج 10 ص 107 __ 109 فصل فی ذکر منبر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.

ص: 267

لؤلؤة، جاریة صغیرة تدعی الإسلام فقتلها، فأظلمت المدینة یومئذ علی أهلها، ثم أقبل بالسیف صلتا فی یده وهو یقول: والله لا أترک فی المدینة سبیا إلا قتلته وغیرهم، وکأنه یعرض بناس من المهاجرین)(1).

وعن ابن حجر ان المدینة قد أظلمت یومئذ ثلاثة أیام حیث قال: (...فخرج یمشی بین یدیه فعلاه عبید الله بالسیف فلما وجد حر السیف قال لا إله إلا الله ثم أتی جفینة وکان نصرانیا فقتله ثم أتی بنت أبی لؤلؤة جاریة صغیرة فقتلها فأظلمت المدینة یومئذ علی أهلها ثلاثا...)(2).

أقول: فإذا أظلمت الدنیا لقتل ابنة أبی لؤلؤة لأنها قد قتلت وهی صغیره لا ذنب لها فکیف لا تظلم لقتل عبد الله الرضیع یوم عاشوراء وقد ذبح عطشانا من الورید إلی الورید، والذی هو بشهادة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه أکرم علی الله من فصیل ناقة صالح وأعظم، وإذا کان لقتل الهرمزان وجفینة النصرانی حرمة عند الله حیث بانت آثار مظلمتهم فی السماء، فکیف لا تکون حرمة الحسین صلوات الله وسلامه علیه وأولاده وأصحابه وبناته أعظم واجل واکبر، وکیف لا تبین آثار مظلمتهم فی السماوات والأرض وما فیهن وقد خلقن وما فیهن لأجلهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

وإذا ذکرت مصابکم قال الأسی          ***         لجفونی اجتنبی لذید کراک

وابکی قتیلا بالطفوف لأجله              ***         بکت السماء دما فحق بکاک

إن تبکهم فی الیوم تلقاهم غدا           ***         عینی بوجه مسفر ضحاک

یا رب فاجعل حبهم لی جنة              ***         من موبقات الظلم والإشراک 


1- المصنف لعبد الرزاق الصنعانی ج 5 ص 478 __ 480، وراجع أیضا تاریخ الإسلام للذهبی ج2 ص297، تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 38 ص 62.
2- الإصابة لابن حجر ج 5 ص 43،

ص: 268 

ص: 269

فَلَعَنَ اللهُ أُمَّةً أَسَّسَتْ أَسَاسَ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ عَلَیْکُمْ أَهْلَ الْبَیْتِ

اشارة

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

                     1: فَلَعَنَ اللَّهُ                                     2 : أُمَّةً                                      3: أَسَّسَتْ أَسَاسَ

                     4: الظُّلْمِ                                           5: وَالْجَوْرِ                               6: أَهْلَ الْبَیْتِ

المبحث الثالث: ماذا یمکن ان یستفاد من هذه الفقرة من الزیارة

المبحث الرابع: دلالة اللعن فی المصطلح القرآنی

المبحث الخامس: جزاء من سن سنة حسنة ومن سن سنة سیئة

المبحث السادس: لا عبرة بالأکثریة والحق هو المدار

المبحث السابع: الإمام الحسین علیه السلام میزان حساب الأمم

                     أهل البیت موازین رضا الله وغضبه

                     أمیر المؤمنین  میزان أولاد الحلال ومیزان الإیمان والنفاق

                     الزهراء میزان غضب الله سبحانه ورضاه

                     الحسین میزان حساب الأمم یوم القیامة

ص: 270 

ص: 271

فَلَعَنَ اللهُ أُمَّةً أَسَّسَتْ أَسَاسَ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ عَلَیْکُمْ أَهْلَ الْبَیْتِ

فی هذه الفقرة الشریفة من الزیارة مباحث جدیرة بالاهتمام نستعرض فیما یأتی بعضها:

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

ورد ذکر هذه الفقرة فی عدة زیارات أخری نذکر منها علی سبیل المثال ما یأتی:

منها: ما ورد فی زیارة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه فی أول یوم من رجب ولیلته ولیلة النصف من شعبان والتی جاء فیها: (بابی أنت وأمی ونفسی یا أبا عبد الله لقد عظمت المصیبة وجلت الرزیة بک علینا وعلی جمیع أهل الإسلام فلعن الله أمة أسست أساس الظلم والجور علیکم أهل البیت ولعن الله أمة دفعتکم عن مقامکم وأزالتکم عن مراتبکم التی رتبکم الله فیها بابی أنت وأمی ونفسی یا أبا عبد الله اشهد لقد اقشعرت لدمائکم أظلة العرش مع أظلة الخلائق وبکتکم السماء والأرض

ص: 272

وسکان الجنان والبر والبحر...)(1).

ومنها: ما ورد فی زیارة الإمام الرضا صلوات الله وسلامه علیه والتی ذکرها الشیخ الصدوق قدس الله روحه بقوله: (باب فی ذکر زیارة الرضا علیه السلام بطوس ذکرها شیخنا محمد بن الحسن فی جامعه فقال : إذا أردت زیارة الرضا علیه السلام بطوس فاغتسل عند خروجک من منزلک...ثم تجلس عند رأسه وتقول: السلام عیک یا ولی الله، السلام علیک یا حجة الله السلام علیک یا نور الله فی ظلمات الأرض... السلام علیک یا أبا الحسن ورحمة الله وبرکاته إنه حمید مجید، لعن الله أمة قتلتک لعن الله أمة ظلمتک لعن الله أمة أسست أساس الظلم والجور والبدعة علیکم أهل البیت)(2).

ومنها: ما فی إقبال الأعمال للسید بن طاوس قدس الله روحه من دعاء الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه فی یوم عرفة:

(...ثم تقول: السلام علیک یا رسول الله، السلام علیک یا نبی الله، السلام علیک یا خیرة الله من خلقه، وأمینه علی وحیه، السلام علیک یا مولای یا أمیر المؤمنین. السلام علیک یا مولای، أنت حجة الله علی خلقه، وباب علمه ووصی نبیه والخلیفة من بعده فی أمته، لعن الله أمة غصبتک حقک، وقعدت مقعدک، أنا بریء منهم، ومن شیعتهم إلیک. السلام علیک یا فاطمة البتول، السلام علیک یا


1- إقبال الأعمال للسید ابن طاوس ج 3 ص 341 __ 342 فصل (53) فیما نذکره من لفظ زیارة الحسین علیه السلام فی نصف شعبان، وراجع أیضا المزار للشهید الأول ص 142 __ 144 زیارة أول یوم من رجب ولیلته ولیلة النصف من شعبان، وراجع أیضا المصباح للکفعمی ص 491 __ 492 زیارة أول لیلة من رجب ویومه ونصفه.
2- عیون أخبار الرضا الشیخ الصدوق ج 1 ص 300 __ 302 باب فی ذکر زیارة الرضا علیه السلام بطوس.

ص: 273

زین نساء العالمین، السلام علیک یا بنت رسول الله رب العالمین صلی الله علیک وعلیه، السلام علیک یا أم الحسن والحسین، لعن الله أمة غصبتک حقک ومنعتک ما جعله الله لک حلالا، أنا بریء إلیک منهم ومن شیعتهم. السلام علیک یا مولای یا أبا محمد الحسن الزکی، السلام علیک یا مولای، لعن الله أمة قتلتک وبایعت فی أمرک وشایعت أنا بریء منهم ومن شیعتهم. السلام علیک یا مولای یا أبا عبد الله الحسین بن علی صلوات الله علیک وعلی أبیک وجدک محمد صلی الله علیه، لعن الله أمة استحلت دمک، ولعن الله أمة قتلتک واستباحت حریمک، ولعن الله أشیاعهم وأتباعهم، ولعن الله الممهدین لهم بالتمکین من قتالکم، أنا بریء إلی الله وإلیک منهم...)(1).

وغیر ذلک الکثیر وقد ترکنا الإطالة رغبة فی الاختصار.

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة
1: فَلَعَنَ اللَّهُ 

اللعن: هو وکما یقول الراغب الأصفهانی: (الطرد والإبعاد علی سبیل السخط، وذلک من الله تعالی فی الآخرة عقوبة وفی الدنیا انقطاع من قبول رحمته وتوفیقه ومن الإنسان دعاء علی غیره)(2).

وقال الطریحی فی مجمع البحرین: (واللعن: الإبعاد، وکانت العرب إذا تمرد الرجل منهم أبعدوه منهم وطردوه لئلا تلحقهم جرائره فیقال: لعن بنی فلان)(3)


1- إقبال الأعمال للسید ابن طاوس ج 2 ص 135.
2- مفردات غریب القرآن للراغب الأصفهانی ص452 کتاب اللام وما یتصل بها.
3- مجمع البحرین للشیخ الطریحی ج4 ص124.

ص: 274

وقال الفراهیدی: (اللعن: التعذیب، والملعن: المعذب...واللعنة: الدعاء علیه. واللعنة: الکثیر اللعن، واللعنة: الذی یلعنه الناس...)(1).

واللعنة من الله سبحانه کما تقدم عن الراغب هو: (فی الآخرة عقوبة وفی الدنیا انقطاع من قبول رحمته وتوفیقه).

2 : أُمَّةً 

وردت لکلمة أمة عدة معانٍ ذکرت فی کتب اللغة منها:

ألف: هی الجماعة من الناس(2) قال تعالی ((وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْیَنَ وَجَدَ عَلَیْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ یَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَیْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُکُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِی حَتَّی یُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَیْخٌ کَبِیرٌ))(3)، أی وجد علی الماء جماعة من الناس.

فیکون بذلک معنی الفقرة التی نحن بصدد شرحها هو: (اللهم اسخط وعذب واطرد من رحمتک الجماعة التی أسست أساس الظلم والجور علی أهل البیت).

باء: وقد تطلق علی الشخص المفرد الذی یدین بدین ما لوحده(4) کما سمی القرآن الکریم إبراهیم الخلیل علیه السلام أمة فی قوله تعالی: ((إِنَّ إِبْرَاهِیمَ کَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِیفًا وَلَمْ یَکُ مِنَ الْمُشْرِکِینَ))(5).

فیصبح معنی الفقرة الشریفة من الزیارة: (اللهم العن واسخط وعذب واطرد من رحمتک الشخص الذی انفرد وأسس أساس الظلم والجور علی أهل البیت). 


1- کتاب العین ج2 ص142.
2- مجمع البحرین ج1 ص106.
3- سورة القصص الآیة 23.
4- لسان العرب لابن منظور ج12 ص27.
5- سورة النحل الآیة رقم 120.

ص: 275

جیم: وقد تطلق علی الطریقة والدین(1)، کما فی قوله تعالی: ((بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَی أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَی آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ))(2)، أی إنا علی دینهم وطریقتهم مهتدون.

فیکون معنی الفقرة فی الزیارة هو:

(اللهم العن الطریقة التی کانت أساسا لظلم أهل البیت علیهم السلام والتی بها خرج حقهم عن موضعه).

والطریقة التی أسست أساس الظلم علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین کما لا یخفی هی التی سماها احد مؤسسیها بفلتة السقیفة، والتی کانت باب کل شر فتح علی اهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وشیعتهم، بل وعلی جمیع أهل الإسلام.

دال: وقد تطلق علی القدوة والإمام(3).

فیکون المعنی هو: (اللهم اطرد من رحمتک واسخط وعذب الذی کان قدوة لغیره وإماما یستن بسنته ویحتذی حذوه فی الظلم والجور لأهل البیت).

 وقد یکون هذا القدوة والإمام فرداً واحداً وقد یکونون جماعة، وهذا هو الفارق بین هذا المعنی والمعنی الثانی.

هاء: وقد تطلق علی الحین والزمان(4) کما فی قوله تعالی: ((وَقَالَ الَّذِی نَجَا مِنْهُمَا وَادَّکَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُکُمْ بِتَأْوِیلِهِ فَأَرْسِلُونِ))(5)، أی وتذکر بعد حین ومدة من الزمن.

ومثل قوله تعالی ((وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَی أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَیَقُولُنَّ مَا یَحْبِسُهُ أَلَا یَوْمَ یَأْتِیهِمْ


1- الصحاح للجوهری ج5 ص1864.
2- سورة الزخرف الآیة رقم 22.
3- معجم مقاییس اللغة ج1 ص27.
4- لسان العرب لابن منظور ج12 ص27.
5- سورة یوسف الآیة رقم 45.

ص: 276

لَیْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا کَانُوا بِهِ یَسْتَهْزِئُونَ))(1) أی أخرنا عنهم العذاب إلی مدة من الزمن محدودة.

فیصبح المعنی: (اللهم أبعد __ لان إحدی معانی اللعن هو الإبعاد __ عن برکتک ورحمتک تلک الحقبة من الزمن وذلک الحین الذی أسس فیه الظلم والجور علی أهل البیت)(2)


1- سورة هود الآیة رقم 8.
2- والسؤال الذی یطرح نفسه هو هل یمکن أن یلعن أو یبعد أو یوصف بالسوء الزمان والحین والأیام، مع أن الأیام لا ذنب لها والذنب ذنب الناس وبعبارة أخری الذنب ذنب المظروف لا ذنب الظرف؟ ویمکن الجواب عن هذا الأمر بان الأیام فی النصوص الشرعیة تکتسب البرکة أو السوء والنحوسة بسبب ما یقع ویحدث فیها، أو بسبب أمر خطیر یقترن بها، ألا تری إلی القرآن کیف یطلق ویصف الیوم الذی اهلک فیه عاد بأنه یوم نحس مستمر ((کَذَّبَتْ عَادٌ فَکَیْفَ کَانَ عَذَابِی وَنُذُرِ *إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَیْهِمْ رِیحًا صَرْصَرًا فِی یَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ)) __ سورة القمر الایة18__19__. ووصف أیام العذاب التی تصیب الکافرین قال تعالی ((وَلا یَزَالُ الَّذِینَ کَفَرُوا فِی مِرْیَةٍ مِّنْهُ حَتَّی تَأْتِیَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ یَأْتِیَهُمْ عَذَابُ یَوْمٍ عَقِیمٍ)) __ سورة الحج الآیة 55 __ وصرحت الروایات الشریفة أیضا بأن بعض الأیام والأزمنة والساعات یمکن ان تکون أیام شؤم ونحس فحینما سُئل أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه عن آخر أربعاء من الشهر لماذا صار یوم نحس وشؤم فقال صلوات الله وسلامه علیه: (آخر أربعاء فی الشهور وهو المحاق وفیه قتل قابیل هابیل أخاه ویوم الأربعاء ألقی إبراهیم علیه السلام فی النار ویوم الأربعاء وضعوه فی المنجنیق ویوم الأربعاء اغرق الله فرعون ویوم الأربعاء جعل الله عز وجل قریة لوط عالیها سافلها ویوم الأربعاء أرسل الله عز وجل الریح علی قوم عاد ویوم الأربعاء أصبحت کالصریم ویوم الأربعاء سلط الله عز وجل علی نمرود البقة ویوم الأربعاء طلب فرعون موسی لیقتله ویوم الأربعاء خر علیهم السقف من فوقهم... ویوم الأربعاء قتل یحیی بن زکریا... ویوم الأربعاء ادخل یوسف علیه السلام السجن ویوم الأربعاء قال الله عز وجل " إنا دمرناهم وقومهم أجمعین " ویوم الأربعاء أخذتهم الصیحة ویوم الأربعاء عقروا الناقة ویوم الأربعاء أمطرت علیهم حجارة من سجیل ویوم الأربعاء شج وجه النبی صلی الله علیه وآله وکسرت رباعیته ویوم الأربعاء أخذت العمالقة التابوت) راجع جامع أحادیث الشیعة للسید البروجردی ج 16 ص 377 __ 378.

ص: 277

3: أَسَّسَتْ أَسَاسَ

وهاتان الکلمتان مأخوذتان من (الأس) وهو کما عرفه الفراهیدی بقوله: (والأس: أصل تأسیس البناء، والجمیع: الأساس، وفی لغة: الأسس، والجمیع: الآساس، ممدود...وأسست دارا : بنیت حدودها، ورفعت من قواعدها)(1).

وقال الجوهری: (الأس: أصل البناء، وکذلک الأساس، والأسس مقصور منه. وجمع الأس إساس مثل عس وعساس، وجمع الأساس أسس مثل قذال وقذل، وجمع الأسس آساس مثل سبب وأسباب. وقد أسست البناء تأسیسا)(2).

فیکون المعنی: (فلعن الله الأمة(3) التی أصّلت منهج الظلم ورفعت قواعد الجور وبنَتْ حدودهما علیکم أهل البیت).

وقد یطلق علی الشیء الوطید الثابت، قال صاحب کتاب معجم مقاییس اللغة: (أس: الهمزة والسین یدل علی الأصل والشیء الوطید الثابت)(4).

فیکون معنی العبارة هو: (فلعن الله امة وطدت لظلم أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وثبتت قواعد الجور علیهم).

4: الظُّلْمِ 

قد یطلق الظلم علی اخذ حق الغیر، قال الفراهیدی: (والظلم: أخذک حق غیرک)(5)


1- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 7 ص 334.
2- الصحاح للجوهری ج 3 ص 903.
3- الأمة بکافة معانیها المتقدمة سواء الجماعة أو القدوة أو الإمام أو الطریقة.
4- معجم مقاییس اللغة لأبی الحسین أحمد بن فارس زکریا ج 1 ص 14.
5- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 8 ص 63.

ص: 278

وقد یراد من الظلم إزالة الحق عن جهته واخذ الإنسان ما لیس له، قال ابن قتیبة فی کتابه غریب الحدیث: (الظالم هو الذی یزیل الحق عن جهته ویأخذ ما لیس له)(1).

وقد یراد منه ما ذکره الجوهری بقوله: (ظلم:...وأصله وضع الشیء فی غیر موضعه...وفی المثل: من استرعی الذئب فقد ظلم)(2).

فیکون معنی العبارة هو: (لعن الله امة أسست أساس إزالة الحق عن أهل البیت، وأخذت منهم ما لیس لها، ووضعته فی غیر موضعه الذی أراده الله سبحانه وأمر به).

5: وَالْجَوْرِ

قد یقصد به ما یکون نقیض العدل، فیکون مرادفا للفظ الظلم، قال الفراهیدی: (الجور: نقیض العدل. وقوم جارة وجورة، أی: ظلمة)(3).

وقد یراد منه السیر علی الطریق غیر السوی، فکل من حاد عن الطریق السوی المستقیم فهو جائر، قال ابن منظور: (والجور: ترک القصد فی السیر، والفعل جار یجور، وکل ما مال، فقد جار. وجار عن الطریق: عدل)(4).

فیکون معنی العبارة هو: (فلعن الله امة أسست أساس الظلم علیکم أهل البیت، وترکت طریقکم طریق الحق والاستقامة، وحادت عنه إلی الطریق الباطل فسارت علی الطریق الجائر غیر السوی). 


1- غریب الحدیث لابن قتیبة ج 1 ص 58.
2- الصحاح للجوهری ج 5 ص 1977.
3- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 6 ص 176.
4- لسان العرب لابن منظور ج 4 ص 153.

ص: 279

وقد یطلق الجور علی أصل الطریق أو الطریقة المائلة عن الاستقامة والموصوفة بالضلالة، قال الزبیدی فی تاج العروس: (والجور: الجائر یقال: طریق جور، أی جائر، وصف بالمصدر. وفی حدیث میقات الحج، وهو جور عن طریقنا، أی مائل عنه لیس علی جادته: من جار یجور، إذا ضل ومال)(1).

فیکون معنی العبارة هو: (فلعن الله امة أسست طریق الضلال المائل عن طریق أهل البیت صلوات الله وسلامه علیه، والذی به هظم حق أهل البیت واستبیحت حرمتهم).

6: أَهْلَ الْبَیْتِ

أطلق لفظ أهل البیت فی اللغة علی من یسکن البیت قال الفراهیدی: (وأهل البیت: سکانه)(2) وکذا قال ابن منظور(3).

ومن المتیقن ان الزیارة لا تقصد من لفظ أهل البیت هذا المعنی اللغوی، لان هذا المعنی قد یدخل فیه أزواج الرجل، وجمیع أولاده، بل وخدامه وعبیده، لان الجمیع یسکن البیت، وهو غیر مراد فی هذه الفقرة حتما.

والمتیقن انها بصدد قصد الخمسة من أهل الکساء المشار إلیهم فی قوله تعالی: ((إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا))(4) وهم کل من النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم والإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب والسیدة فاطمة الزهراء والإمامین الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

فیکون معنی العبارة هو: (فلعن الله امة أسست أساس الظلم والجور علی نبیه


1- تاج العروس للزبیدی ج 6 ص 217.
2- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 4 ص 89.
3- لسان العرب لابن منظور ج 11 ص 29.
4- سورة الأحزاب الآیة 33.

ص: 280

الأعظم ورسوله الأکرم محمد صلی الله علیه وآله وسلم وانتهجت غیر نهجه وجارت عن طریقته وسنته إلی طریقة غیرهما، وابتدعت سنة جائرة حائدة عن الحق مضلة للأمة، وأسست أساس الظلم والجور علی أمیر المؤمنین وزوجته الطاهرة وابنیه الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فسلبتهم حقهم ووضعتهم ووضعت حقوقهم فی غیر مواضعها التی وضعها الله فیها).

وقد یکون المراد من أهل البیت هم کل من ذکر فی الفقرة السابقة إضافة إلی الأئمة التسعة المنصوص علی عصمتهم وإمامتهم من أبناء الحسین بن علی صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین(1).

المبحث الثالث: ماذا یمکن ان یستفاد من هذه الفقرة من الزیارة

من خلال التأمل فی ألفاظ هذه الفقرة من الزیارة یمکن لنا :

أولا: ان هذه الفقرة الشریفة من الزیارة أطلقت لفظ الأمة علی هؤلاء الذین أسسوا أساس الظلم والجور علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وهو لفظ عام یشمل جنس الأمة، لذلک جیء به بصیغة النکرة، للدلالة علی إرادة الشمول لجمیع أفراد الأمة المتصفة بصفة تأسیس الظلم والجور علی أهل البیت علیهم السلام، فیکون اللعن بناءً علی ذلک متوجهاً للأمة بجمیع أفرادها بشرط اتصافها بوصف التأسیس لأساس الظلم والجور علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، بغض النظر عن عددهم وأسمائهم، وبغض النظر أیضا عن کون المشمول بهذا اللعن فرداً وقد أطلق علیه أمة


1- وهم کل من الإمام علی بن الحسین ومحمد بن علی وجعفر بن محمد وموسی بن جعفر وعلی بن موسی ومحمد بن علی الجواد وعلی بن محمد الهادی والحسن بن علی العسکری والحجة المهدی صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

ص: 281

__ لان الفرد کما تقدم یمکن أن یطلق علیه أمة __ أو مجموعة من الأمة أو الأمة بأسرها.

ثانیا: ان هذه الفقرة الشریفة لا تتحدث عن الأمة التی باشرت قتل الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، ولا عن المرحلة الزمنیة التی استشهد فیها أبو الأحرار صلوات الله وسلامه علیه، فهی تتحدث عن حقبة زمنیة سبقت وقعة کربلاء بمدّة زمنیة طویلة، لانها تتحدث عن حقبة زمنیة کان اهل البیت موجودین فیها بأعیانهم وأشخاصهم، بقرینة أنها تأتی بلفظ أهل البیت وهو لفظ یشمل الخمسة أصحاب الکساء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومن ضمنهم السیدة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها، فتکون الحقبة المتیقنة والمقصودة من فقرة الزیارة هذه هی الممتدة من حین استشهاد النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم والتحاقه بالرفیق الأعلی إلی حین استشهاد السیدة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها، وهذا متوافق مع الوثائق التاریخیة المعروفة والتی صرحت بشکل قاطع ان هذه الحقبة بالتحدید هی التی تم تأسیس أساس الظلم والجور فیها علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وان کل المظالم والمآسی التی ابتلی بها أهل البیت فیما بعد کانت مستندة بأسبابها وممتدة جذورها إلی هذه الحقبة بالتحدید.

ثالثا: ان هذه الأمة وان لم تباشر قتل الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه إلا أنها أسست منهجا اقتدی به من جاء بعدها من الأمم، وإحدی خصائص هذا المنهج هو استخفافه بحرمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وتهوین أمرهم وشأنهم فی نظر المسلمین، ومع تطاول زمان انتهاج هذا النهج اعتادت هذه الأمة المؤسسة والأمم التی تلتها علی رؤیة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین مظلومین مقهورین مستهاناً بحقوقهم کأنهم قد اقترفوا جرما أو أتوا بذنب عظیم، فصارت الجرأة علیهم واستباحة حقوقهم والتقلیل من شأنهم مما تعارف أمره عند الناس، وصار المعتدی علیهم لا یلام ولا ینظر إلی اعتدائه مثل ما ینظر إلی الاعتداء علی رموز باقی الصحابة، ونتیجة لهذه النظرة الاستخفافیة وهذا التهاون

ص: 282

الاجتماعی بحقوق أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومظلومیتهم نشأ جیل جدید وأمة جدیدة بعد انقراض تلک الأمة المؤسسة؛ صار یری فی قتل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أمراً لا یعاب علیه، ولا یلاحق علیه من قبل الدولة مثلما یلاحق من یقتل غیرهم من عوام الأمة، بل نری الدولة هی التی تتصدی لقتلهم وسبیهم وإذلالهم.

رابعا: ان اللعن الموجه لهذه الأمة المؤسسة للظلم والجور علی أئمة أهل البیت علیهم السلام هو لعن وجیه ومشروع ومتوافق مع آیات القرآن وقواعد الشریعة المقدسة، وله مبررات منطقیة ومشروعة قد ذکرتها نفس الفقرة الشریفة للزیارة، وهذه المبررات:

ألف: فهم کما وصفتهم الزیارة ممن أسس أساس الظلم علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، والظلم کما لا یخفی من الکبائر التی توعد الله سبحانه علیه بالنار والعذاب، إضافة إلی انه من الأعمال التی عدّها القرآن الکریم سببا من الأسباب التی تستحق اللعن والطرد من الرحمة الإلهیة، کما قال سبحانه: ((وَنَادَی أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّکُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَیْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَی الظَّالِمِینَ))(1).

وقال تعالی: ((یَوْمَ لَا یَنْفَعُ الظَّالِمِینَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ))(2).

وقال سبحانه أیضا: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَی عَلَی اللَّهِ کَذِبًا أُولَئِکَ یُعْرَضُونَ عَلَی رَبِّهِمْ وَیَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِینَ کَذَبُوا عَلَی رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَی الظَّالِمِینَ))(3).

باء: تأسیسهم لمبدأ الجور علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، والجور کما هو


1- سورة الأعراف الآیة رقم 44.
2- سورة غافر الآیة رقم 52.
3- سورة هود الآیة رقم 18.

ص: 283

معلوم من الأمور التی صرحت الأحادیث الشریفة بأنه موجب للدخول والخلود فی النار، فقد أخرج الحاکم النیسابوری فی مستدرکه قال: (أخبرنا أبو بکر بن إسحاق الفقیه أنبأ محمد بن أیوب أنبأ عتبان بن مالک ثنا عیینة بن عبد الرحمن أخبرنی مروان ابن عبد الله مولی صفوان بن حذیفة عن أبیه عن حذیفة بن الیمان رضی الله عنهما قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: أهل الجور وأعوانهم فی النار. هذا حدیث صحیح الإسناد ولم یخرجاه)(1).

وقد لعنوا أیضا بلحاظ آخر علی لسان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم حیث أخرج الحاکم النیسابوری فی المستدرک أیضا: (...عن عائشة رضی الله عنها قالت قال رسول الله صلی الله علیه وآله ستة لعنتهم لعنهم الله وکل نبی مجاب: المکذب بقدر الله والزائد فی کتاب الله والمتسلط بالجبروت لیذل ما أعز الله ویعز ما أذل الله والمستحل لحرم الله والمستحل من عترتی ما حرم الله والتارک لسنتی. هذا حدیث صحیح علی شرط البخاری ولم یخرجاه)(2).

فهم مشمولون بفقرات هذا الحدیث الأخیر، فهی قد استخدمت سلطتها وجبروتها لإذلال آل الرسول صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، الذین أعزهم الله وفضلهم علی العالمین، فاستحلوا من عترة النبی الأعظم صلوات الله وسلامه علیه ما حرم الله سبحانه، فترکوا سنة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم التی کانت جاریة علی إعزاز وإکرام أهل بیته بمختلف وجوه الإکرام، وفی المقابل أعزوا ورفعوا قدر ومنزلة الأراذل من الطلقاء وأبناء الطلقاء، فأذلوا بذلک ما أعز الله وأعزوا ما أذل الله سبحانه، فاستحقوا بأفعالهم هذه اللعنة من الله ومن رسوله ومن کل نبی مستجاب الدعوة. 


1- المستدرک للحاکم النیسابوری ج4 ص89.
2- المصدر السابق ص90.

ص: 284

المبحث الرابع: دلالة اللعن فی المصطلح القرآنی 

 المتتبع لآیات القرآن الکریم یجدها مشحونة بلفظ اللعن، فقد جاء استخدام هذه المفردة فی آیات الکتاب العزیز مع مشتقاتها ما یقارب الست والستین مرة تقریبا، فی ست وستین آیة، وهو عدد لا یستهان به ویستدعی الوقوف عنده والتأمل فی مضامینه واستخراج ما خفی من مکنونه.

ونستطیع من خلال التأمل فی آیات اللعن فی القرآن الکریم أن نکتشف أهدافاً عدیدة قد صیغ من أجلها اللعن فی آیات الذکر الحکیم، ومن هذه الأهداف ما یأتی:

أولا: قد یأتی اللعن فی القرآن الکریم للحکم بالطرد والإبعاد عن الرحمة الإلهیة وعدم شمول اللطف والمغفرة لأفعال معینة لا تنسجم مع الشریعة الإلهیة. أو یأتی اللعن للحکم بالطرد والإبعاد لأشخاص تلبسوا بأفعال غیر مرضیة لله سبحانه.

کما فی قوله سبحانه ((وَمَنْ یَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِیهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَیْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِیمًا))(1)، فهذه الآیة المبارکة تحکم علی من یتلبس بصفة القتل للمؤمن، ویأتی بمثل هذا الفعل الشنیع، بالطرد من ساحة الرحمة واللطف الإلهی، وعدم شمول فعله بقانون المغفرة والرحمة فیکون بناء علی ذلک دخوله فی جهنم وخلوده فیها وبقاؤه فی العذاب العظیم أمرا طبیعیا، لان من لم یدخل فی رحمة الله ولطفه صار إلی عذابه وسخطه، ومن لم یذق طعم نعیم مغفرته ذاق طعم ألیم عذابه ونقمته.

ثانیا: وقد یأتی اللعن لإعلان الموقف العملی والرفض تجاه فکرة منحرفة کقوله تعالی: ((وَقَالَتِ الْیَهُودُ یَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَیْدِیهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ یَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ یُنْفِقُ کَیْفَ


1- سورة النساء ، الآیة 93.

ص: 285

یَشَاءُ))(1)، فاللعن هنا بمنزلة إعلان الرفض القاطع لهذه الفکرة المنحرفة وإبعاد لها عن مقام الرضا الإلهی وطردها عن الفکر الإسلامی حتی لا تلحق الدین ولا المسلمین جرائر هذا القول المنحرف مثلما کانت العرب تلعن وتطرد من یسیء منها ویتمرد حتی لا تلحقهم جرائره.

ثالثا: وقد یأتی اللعن لیکون بمنزلة جرس إنذار للمجتمع المسلم بأن الشخص الملعون فی هذه الآیة هو خطر یحدق بالمجتمع، یمکن أن یفتک به، فالواجب علی الجمیع أخذ الحیطة والحذر منه وتوقیه، کما فی قوله تعالی ((إِنْ یَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ یَدْعُونَ إِلَّا شَیْطَانًا مَرِیدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِکَ نَصِیبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّیَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَیُبَتِّکُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ یَتَّخِذِ الشَّیْطَانَ وَلِیًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِینًا))(2) فهدف الآیة واضح لا یخفی وهو تحذیر للناس من خبث الشیطان وفتکه لعنه الله.

وقد یکون التحذیر من فئة معینة فیصاغ هذا التحذیر علی شکل لعن لهم کما فی قوله تعالی: ((قُلْ یَا أَهْلَ الْکِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَیْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَکْثَرَکُمْ فَاسِقُونَ * قُلْ هَلْ أُنَبِّئُکُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِکَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَیْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِیرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِکَ شَرٌّ مَکَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِیلِ * وَإِذَا جَاءُوکُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْکُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا کَانُوا یَکْتُمُونَ))(3) ففی الآیة تحذیر من الیهود وعدائهم ضد الأهداف الإلهیة وضد الأنبیاء والرسل، ذلک العداء الذی أدی بهم إلی أن مسخوا بأمر الله إلی قردة وخنازیر، لکنهم رغم ذلک لم یتوبوا ولم یرجعوا إلی الحق، وبقیت سیرة النفاق


1- سورة المائدة ، الآیة 64.
2- سورة النساء ، الآیة 117- 119.
3- سورة المائدة ، الآیة 59 -61.

ص: 286

والکذب ملازمة لهم، حتی أن مکرهم قد بلغ إلی درجة أنهم کانوا یأتون الذین آمنوا فیدّعون الإیمان برسالة النبی ودین الإسلام وهم ما زالوا لم یخرجوا من کفرهم وضلالهم.

أو کقوله تعالی: ((لُعِنَ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْ بَنِی إِسْرَائِیلَ عَلَی لِسَانِ دَاوُودَ وَعِیسَی ابْنِ مَرْیَمَ ذَلِکَ بِمَا عَصَوْا وَکَانُوا یَعْتَدُونَ))(1) ففی اللعن هنا تنبیه لکل من یفکر بأن هذه الفئة الخطرة یمکن لها فی یوم من الأیام أن تهتدی إلی الصراط القویم، لان الآیة توضح وبکل صراحة، أن العداء لمنهج الحق، وتکذیب الرسل صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من قبل الیهود، لیس هو ولید الیوم، بل إن لهذا الحقد والعداء جذوره التاریخیة الممتدة إلی زمن نبی الله داود وعیسی بن مریم صلوات الله وسلامه علیهما ومن کثرة أذاهم لعنوا علی لسان هذین النبیین العظیمین صلوات الله وسلامه علیهما، فینبغی والحال هذه أخذ الحیطة والحذر من هذه الفئة الخطیرة، وان لا یتوقع منهم الکثیر من الهدایة والکف عن منهجهم المنحرف، لان من لم یهتد کل تلکم السنین حقیق أن لا یرجی منه الکثیر ولا یؤمن جانبه ساعة من الزمن.

رابعا: وقد یأتی اللعن فی آیات القرآن الکریم لیکشف الآثار التکوینیة للعن علی الشخص الملعون، وانه مسلوب التوفیق للتوبة، محجوب القلب والعقل عن الوصول إلی الحقائق الإلهیة کما فی قوله تعالی: ((وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِکُفْرِهِمْ فَقَلِیلًا مَا یُؤْمِنُونَ))(2) فالکفر والتمادی به یسبب اللعن، واللعن یسبب سلب التوفیق وتغلیف القلب عن نیل المراتب الکمالیة فی المعرفة، لذلک نجدهم قلیلا ما یؤمنون، لان الإیمان یحتاج إلی معرفة ورؤیة واضحة للحق، وهؤلاء المتمادون فی الکفر قد سلب الله منهم


1- سورة المائدة ، الآیة 78.
2- سورة البقرة ، الآیة 88.

ص: 287

ذلک نتیجة أعمالهم التی اختاروها، ووضعوا أنفسهم فی ضمن قانونها.

والآیة المبارکة وان کانت تشیر إلی أن البعض منهم یمکن أن تدرکه الرحمة من جدید ویهتدی بهدی الإیمان فیما لو غیر من مقدمات حیاته لتتغیر تبعا لتلک المقدمات النتائج المترتبة علیها، قال تعالی ((إِنَّ اللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّی یُغَیِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ))(1).

وأخیرا لابد من الإشارة إلی أمر هام هو: ربما تجتمع کل هذه الأسباب الأربعة فی مورد قرآنی معین، وربما تجتمع بعضها دون بعض، وکل ذلک یفهم من القرائن المحیطة بالآیة التی ورد فیها اللعن، کما فی قوله تعالی: ((إِنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ کُفَّارٌ أُولَئِکَ عَلَیْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِکَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِینَ))(2) فهم بسبب لعن الله لهم حکم علیهم بالطرد من الرحمة، ولعنة الناس لهم عبارة عن إعلان موقف عملی واضح تجاه هؤلاء وذلک بطردهم من صفوف المؤمنین والمرحومین، والبراءة من أعمالهم وکفرهم ووقوفهم بوجه الأنبیاء علیهم السلام حتی لا تلحقهم جرائرهم، وأما لعن الملائکة فهو بخذلانهم حال الحیاة وعدم نصرتهم، وأخذهم بأشد العذاب بعد مماتهم.

المبحث الخامس: جزاء من سن سنة حسنة ومن سن سنة سیئة

جرت حکمة الله سبحانه وتعالی علی أن یحصی عمل کل عامل من عباده، قال تعالی: ((وَمَا تَکُونُ فِی شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا کُنَّا عَلَیْکُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِیضُونَ فِیهِ وَمَا یَعْزُبُ عَنْ رَبِّکَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِی الْأَرْضِ وَلَا فِی السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِکَ وَلَا أَکْبَرَ إِلَّا فِی کِتَابٍ مُبِینٍ))(3)


1- سورة الرعد ، الآیة 8.
2- سورة البقرة ، الآیة 161.
3- سورة یونس الآیة رقم 61.

ص: 288

واقتضی عدله سبحانه أن یجزی أهل الإحسان والعمل الصالح بجزاء یتناسب وصلاح عملهم، قال تعالی ((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنْثَی وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْیِیَنَّهُ حَیَاةً طَیِّبَةً وَلَنَجْزِیَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا کَانُوا یَعْمَلُونَ))(1)، ویجزی من عمل من عباده السوء بمثله ((لَیْسَ بِأَمَانِیِّکُمْ وَلَا أَمَانِیِّ أَهْلِ الْکِتَابِ مَنْ یَعْمَلْ سُوءًا یُجْزَ بِهِ وَلَا یَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِیًّا وَلَا نَصِیرًا))(2).

وأن الفعل الصالح یعود بالصلاح علی صاحبه، وکذا الفعل الطالح فلا یحیق ضرره بغیر أهله، لأن الله سبحانه ارفع وأعلی مرتبة من أن یصله خیر عباده أو یتضرر بسوء فعلهم قال تعالی ((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَیْهَا ثُمَّ إِلَی رَبِّکُمْ تُرْجَعُونَ))(3)، وقال سبحانه أیضا: ((وَلَا یَحِیقُ الْمَکْرُ السَّیِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ))(4).

وأوضحت آیات القرآن الکریم أن العباد یوم القیامة علی قسمین، فمنهم من یأتی حاملا وزر نفسه فقط کما قال تعالی: ((قَدْ خَسِرَ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّی إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا یَا حَسْرَتَنَا عَلَی مَا فَرَّطْنَا فِیهَا وَهُمْ یَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَی ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا یَزِرُونَ))(5).

ولکن بعضهم الآخر یأتی یوم القیامة حاملا وزره ووزر غیره، وهؤلاء هم الذین سنوا سنة سیئة فی حیاتهم الدنیا وتبعهم الناس علی ضلالتهم، فهم ضالون بأنفسهم، ومضلون لغیرهم، فیحملوا أوزار أنفسهم وأوزار کل من یقع فی شباک ضلالهم، کما قال تعالی: ((لِیَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ کَامِلَةً یَوْمَ الْقِیَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِینَ یُضِلُّونَهُمْ


1- سورة النحل الآیة رقم 97.
2- سورة النساء الآیة رقم123.
3- سورة الجاثیة الآیة رقم 15.
4- سورة فاطر الآیة رقم 43.
5- سورة الأنعام الآیة رقم 31.

ص: 289

بِغَیْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا یَزِرُونَ))(1)، وقال تعالی: ((وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَکُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِیلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَیْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا کَبِیرًا))(2).

وقد عضدت الروایات الشریفة ما جاء علی لسان الآیات آنفا، فعقدت کتب الحدیث للفریقین أبوابا تضم أحادیث تفصل ما أوجز فی آیات القرآن الکریم، نختار منها ما یأتی:

منها ما أخرجه أحمد بن محمد بن خالد البرقی قدس الله روحه فی کتاب المحاسن عن ابن محبوب، عن إسماعیل الجعفری قال: (سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول: من استن بسنة عدل فاتبع، کان له أجر من عمل بها من غیر أن ینقص من أجورهم شیء، ومن استن بسنة جور فاتبع، کان له مثل وزر من عمل به من غیر أن ینقص من أوزارهم شیء)(3).

وعنه قدس الله روحه أیضا عن أحمد بن محمد بن أبی نصر، قال: (حدثنی أبان بن محمد البجلی، عن العلا بن رزین، عن محمد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام، قال: (من علم باب هدی، کان له أجر من عمل به ولا ینقص أولئک من أجورهم، ومن علم باب ضلال کان علیه مثل وزر من عمل به ولا ینقص أولئک من أوزارهم)(4).

وعن الشیخ الصدوق قدس الله روحه فی کتابه ثواب الأعمال عن أبان عن عبد


1- سورة النحل الآیة رقم 25.
2- سورة الأحزاب الآیة 67 __ 68.
3- المحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقی ج 1 ص 27 ثواب من سن سنة عدل.
4- المصدر السابق ثواب من علم باب هدی، وراجع الکافی للشیخ الکلینی ج1 ص35 باب ثواب العالم والمتعلم الحدیث رقم 4.

ص: 290

الرحمن بن أبی عبد الله قال: (قال أبو عبد الله علیه السلام لا یتکلم الرجل بکلمة حق فأخذ بها إلا کان له مثل أجر من أخذ بها ولا یتکلم بکلمة ضلال یؤخذ بها إلا کان علیه وزر من أخذ بها)(1).

وعنه قدس الله روحه أیضا عن میمون القداح عن أبی جعفر علیه السلام قال: (أیما عبد من عباد الله سن سنة هدی کان له أجر مثل أجر من عمل بذلک من غیر أن ینقص من أجورهم شیء، وأیما عبد من عباد الله سن سنة ضلال کان علیه مثل وزر من فعل ذلک من غیر أن ینقص من أوزارهم شیء)(2).

وعن البخاری فی صحیحه قال: (حدثنا الحمیدی حدثنا سفیان حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله قال: قال النبی صلی الله علیه وسلم لیس من نفس تقتل ظلما إلا کان علی ابن آدم الأول کفل منها وربما قال سفیان من دمها لأنه أول من سن القتل)(3).

وقد عقد الترمذی بابا أسماه (باب فی من دعا إلی هدی فاتبع أو إلی ضلالة) جاء فیه: (حدثنا علی بن حجر، أخبرنا إسماعیل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبیه عن أبی هریرة قال: قال رسول الله صلی الله علیه وسلم: «من دعا إلی هدی کان له من الأجر مثل أجور من یتبعه، لا ینقص ذلک من أجورهم شیئا، ومن دعا إلی ضلالة کان علیه من الإثم مثل آثام من یتبعه لا ینقص ذلک من آثامهم شیئا». هذا حدیث حسن صحیح)(4)


1- ثواب الأعمال للشیخ الصدوق ص 132 ثواب من تکلم بکلمة حق فأخذ بها.
2- المصدر السابق ثواب من سن سنة هدی.
3- صحیح البخاری ج 8 ص 151 باب إثم من دعا إلی ضلالة أو سن سنة سیئة لقول الله تعالی: ومن أوزار الذین یضلونهم بغیر علم الآیة، وراجع أیضا صحیح مسلم ج 5 ص 106 __ 107.
4- سنن الترمذی ج 4 ص 149.

ص: 291

وقال النووی فی شرح صحیح مسلم: (باب بیان إثم من سن القتل قوله صلی الله علیه وسلم: «لا تقتل نفس ظلما إلا کان علی ابن آدم الأول کفل منها لأنه کان أول من سن القتل»...وهذا الحدیث من قواعد الإسلام وهو أن کل من ابتدع شیئا من الشر کان علیه مثل وزر کل من اقتدی به فی ذلک العمل مثل عمله إلی یوم القیامة ومثله من ابتدع شیئا من الخیر کان له مثل أجر کل من یعمل به إلی یوم القیامة، وهو موافق للحدیث الصحیح من سن سنة حسنة ومن سن سنة سیئة، وللحدیث الصحیح: من دل علی خیر فله مثل أجر فاعله، وللحدیث الصحیح: ما من داع یدعو إلی هدی وما من داع یدعو إلی ضلالة والله أعلم)(1).

أقول: لا یشک فی ان الأمة المؤسسة لأساس الظلم والجور علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین مشمولة بما تقدم من الآیات والروایات، وتحمل إضافة إلی أوزارها أوزار کل من عمل بعملها واستن بسنتها إلی یوم القیامة.

المبحث السادس: لا عبرة بالأکثریة والحق هو المدار

غالبا ما یواجه المؤمن الذی یعتقد بفکرة ظلم الأمة لأفراد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بسؤالین من قبل المخالفین:

الأول: هل یمکن ان نتصور أن تتعاضد امة بکاملها وتتفق علی تأسیس وترسیخ الظلم والجور علی خمسة أشخاص من أهل بیت واحد؟.

الثانی: هل یعقل ان تکون هذه الأقلیة هی التی علی الحق والصواب بینما تکون تلک الأمة المترامیة الأطراف فی تعداد أفرادها علی الباطل والخطأ ومجانبة الحق؟. 


1- شرح مسلم للنووی ج 11 ص 166.

ص: 292

ولیس الجواب علی هذین السؤالین بصعب ولا عسیر بعد ان أوضح القرآن الکریم بآیات کثیرة ان أولیاء الله سبحانه کانوا علی مر التاریخ یتصفون بالأقلیة فی مقابل مجتمعاتهم وأممهم، وان هؤلاء الأولیاء مع کونهم أقلیة إلا ان الحق کان معهم وفی صفهم، وتلک المجتمعات مع انها کانت تمثل الأکثریة إلا ان الباطل لم یکن یفارقها وقد تحدثت آیات القرآن بإسهاب عن هذا الموضوع، قال تعالی: ((حَتَّی إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِیهَا مِنْ کُلٍّ زَوْجَیْنِ اثْنَیْنِ وَأَهْلَکَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَیْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِیلٌ))(1).

وقال تعالی: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِیمَ وَجَعَلْنَا فِی ذُرِّیَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْکِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَکَثِیرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ))(2).

وقال تعالی: ((قَالَ الَّذِینَ یَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ کَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِیلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً کَثِیرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِینَ))(3).

ویکفی فی جریان هذه السنة فی امتنا الإسلامیة قوله صلی الله علیه وآله وسلم الذی نقله الهیثمی فی (مجمع الزوائد): (عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلی الله علیه وسلم لترکبن سنن من کان قبلکم شبرا بشبر وذراعا بذراع وباعا بباع حتی لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم وحتی لو أن أحدهم جامع أمه لفعلتم. رواه البزار ورجاله ثقات)(4).

وعن الحاکم النیسابوری فی المستدرک قال: (حدثنا أبو زکریا یحیی بن محمد


1- سورة هود الآیة رقم 40.
2- سورة الحدید الآیة رقم 26.
3- سورة البقرة الآیة 249.
4- مجمع الزوائد للهیثمی ج 7 ص 261.

ص: 293

العنبری ثنا محمد بن عبد السلام ثنا إسحاق بن إبراهیم أنبأ جریر عن الأعمش عن إبراهیم عن همام قال کنا عند حذیفة فذکروا: من لم یحکم بما أنزل الله فأولئک هم الکافرون، فقال رجل من القوم: إن هذا فی بنی إسرائیل فقال حذیفة نعم الأخوة بنو إسرائیل إن کان لکم الحلو ولهم المر کلا والذی نفسی بیده حتی تحذوا السنة بالسنة حذو القذة بالقذة هذا حدیث صحیح علی شرط الشیخین ولم یخرجاه)(1).

وقال صاحب کتاب تحفة الأحوذی: (وفی حدیث أبی سعید عند البخاری لتتبعن سنن من قبلکم شبرا شبرا وذراعا ذراعا حتی لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قلنا یا رسول الله الیهود والنصاری قال فمن، ورواه الحاکم عن ابن عباس وفی آخره وحتی لو أن أحدکم جامع امرأته فی الطریق لفعلتموه. قال المناوی: إسناده صحیح والسنة لغة الطریقة حسنة کانت أو سیئة والمراد هنا طریقة أهل الهواء والبدع التی ابتدعوها من تلقاء أنفسهم بعد أنبیائهم من تغییر دینهم وتحریف کتابهم کما أتی علی بنی إسرائیل حذو النعل بالنعل وقال النووی المراد الموافقة فی المعاصی والمخالفات لا فی الکفر وفی هذا معجزة ظاهرة لرسول الله صلی الله علیه وسلم فقد وقع ما أخبر به صلی الله علیه وسلم)(2).

وبعد هذه المقدمة یصبح لیس عجیبا أن نری امة کاملة تتصف بأنها مسلمة تجتمع علی عداوة وظلم أهل بیت معین یتکون من عدة أشخاص، وفی قصة بنی إسرائیل واجتماعهم علی ظلم موسی وأخیه هارون مع کونهم من أتباعه وأنصاره خیر دلیل علی هذه الحقیقة، الم یعبدوا العجل وکادوا أن یقتلوا هارون بعد أن


1- المستدرک للحاکم النیسابوری ج 2 ص 312.
2- تحفة الأحوذی للمبارکفوری ج 6 ص 339 __340.

ص: 294

استضعفوه(1)، ألم یرفضوا دخول أرض الجبابرة وقالوا لموسی اذهب أنت وربک فقاتلا، حتی اشتکی نبی الله موسی وصرح بأنه لا یملک إلا نفسه وأخاه(2)، وهو یعنی ترک الأمة بأجمعها واجتماعهم علی ظلم هذین النبیین العظیمین صلوات الله وسلامه علیهما.

فلا یستغرب مستغرب بعد کل الذی مر ما صرحت به زیارة عاشوراء من انحراف الأمة الإسلامیة __ إلا ما خرج بالدلیل __ عن الحق ومخالفتها وصایا النبی. وتأسیسها للظلم والجور علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، ولا ینکر ذلک منکر بحجة ان أکثر الأمة لا یمکن ان یجتمع علی خطأ وضلال.

المبحث السابع: الإمام الحسین علیه السلام میزان حساب الأمم 
اشارة

ان لله سبحانه وتعالی فی هذا الکون قوانین خلقها وأوجدها وأودع فیها سرَّ أن تکون کاشفة عن حقائق کونیة أخری، فتمدد الزئبق مثلا دلیل علی ارتفاع درجات


1- تمام القصة مذکورة فی قوله تعالی: ((وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَی مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِیِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ یَرَوْا أَنَّهُ لَا یُکَلِّمُهُمْ وَلَا یَهْدِیهِمْ سَبِیلًا اتَّخَذُوهُ وَکَانُوا ظَالِمِینَ * وَلَمَّا سُقِطَ فِی أَیْدِیهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ یَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَیَغْفِرْ لَنَا لَنَکُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِینَ * وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَی إِلَی قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِی مِنْ بَعْدِی أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّکُمْ وَأَلْقَی الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِیهِ یَجُرُّهُ إِلَیْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِی وَکَادُوا یَقْتُلُونَنِی فَلَا تُشْمِتْ بِیَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِی مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِینَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِی وَلِأَخِی وَأَدْخِلْنَا فِی رَحْمَتِکَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِینَ)) سورة الأعراف الآیة رقم 148 __ 151.
2- کما هو مذکور فی الآیة المبارکة التالیة: ((قَالُوا یَا مُوسَی إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِیهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّکَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّی لَا أَمْلِکُ إِلَّا نَفْسِی وَأَخِی فَافْرُقْ بَیْنَنَا وَبَیْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِینَ)) سورة المائدة الآیة رقم 24 __ 25.

ص: 295

الحرارة، وانقباضه وتقلصه دلیل علی انخفاضها، وبلوغ درجة الماء إلی مئة درجة مئویة دلیل علی غلیانه، کما ان انخفاض درجته إلی الصفر أو اقل دلیل علی انجماده، والمتر وأجزاؤه میزان یقاس به المسافات، وهکذا فی بقیة الأشیاء التی یکون وجودها میزانا یوزن به غیرها ویقاس بالنسبة إلیها بقیة الأشیاء.

أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین موازین رضا الله وغضبه 

ولا تختص هذه الموازین بعالم المادة، وإنما تتعدی لتشمل ما هو غیر مادی کالحب والبغض الإلهی، والرحمة والعذاب الإلهی، والرضا والسخط الإلهی، فإن الله سبحانه وتعالی قد خلق موازین ومقاییس تقاس بها تلک الأشیاء وتوزن، وقد وردت الروایات وتضافرت الأخبار علی ان أهل البیت میزان تقاس به تلک الأمور السابقة، فعن زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام قال: (سألته عن قول الله عز وجل: ((وَمَا ظَلَمُونَا وَلَکِنْ کَانُوا أَنْفُسَهُمْ یَظْلِمُونَ))(1) قال: إن الله تعالی أعظم وأعز وأجل وأمنع من أن یظلم ولکنه خلطنا بنفسه، فجعل ظلمنا ظلمه، وولایتنا ولایته، حیث یقول: ((إِنَّمَا وَلِیُّکُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِینَ آَمَنُوا))(2) یعنی الأئمة منا)(3).

وعن أبی عبد الله علیه السلام فی قول الله عز وجل ((فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِینَ))(4) فقال: إن الله عز وجل لا یأسف کأسفنا ولکنه خلق أولیاء لنفسه یأسفون ویرضون وهم مخلوقون مربوبون، فجعل رضاهم رضا نفسه وسخطهم سخط نفسه، لأنه جعلهم الدعاة إلیه والأدلاء علیه، فلذلک صاروا


1- سورة البقرة الآیة رقم 57.
2- سورة المائدة الآیة رقم 55.
3- الکافی للشیخ الکلینی  ج 1  ص 146.
4- سورة الزخرف الآیة رقم 55.

ص: 296

کذلک ولیس أن ذلک یصل إلی خلقه، لکن هذا معنی ما قال من ذلک وقد قال: من أهان لی ولیا فقد بارزنی بالمحاربة ودعانی إلیها وقال: ((مَنْ یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ))(1) وقال: ((إِنَّ الَّذِینَ یُبَایِعُونَکَ إِنَّمَا یُبَایِعُونَ اللَّهَ یَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَیْدِیهِمْ))(2) فکل هذا وشبهه علی ما ذکرت لک وهکذا الرضا والغضب وغیرهما من الأشیاء مما یشاکل ذلک)(3).

أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه میزان أولاد الحلال ومیزان الإیمان والنفاق

والأدلة الروائیة مثلما جعلت من کافة أفراد أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین والذی من ضمنهم الأئمة التسعة من أولاد الحسین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین کذلک جعلت کل فرد من أفرادها میزاناً بذاته ومیزت کل فرد منهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بمیزة اختص بها، ومن هذه المیزات الخاصة هی جعل الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه میزاناً لمعرفة طیب الأصل وخبثه، وکذلک جعل حبه وموالاته میزانا لتمییز أهل الإیمان وأهل النفاق، وکون حربه حرباً لله ولرسوله، وان الداخل بحزبه داخل بحزب الله ورسوله والخارج عنه خارج عن ذلک، وبهذا الصدد وردت أحادیث لا یمکن استیعابها بهذا المبحث لکننا نذکر بعضاً منها تیمنا بذکر فضائل سید الموحدین وإمام المتقین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه :

منها ما عن جابر بن عبد الله الأنصاری أنه قال: (لقد سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم یقول فی علی خصالا، لو کانت واحدة منها فی جمیع الناس لاکتفوا بها فضلا: قوله صلی الله علیه وآله وسلم: من کنت مولاه فعلی مولاه. وقوله صلی الله علیه وآله وسلم: علی منی


1- سورة النساء الآیة رقم 80.
2- سورة الفتح الآیة رقم 10.
3- الکافی للشیخ الکلینی  ج 1  ص 144 __ 145.

ص: 297

کهارون من موسی. وقوله صلی الله علیه وآله وسلم: علی منی وأنا منه. وقوله صلی الله علیه وآله وسلم: علی منی کنفسی، طاعته طاعتی، ومعصیته معصیتی. وقوله صلی الله علیه وآله وسلم: حرب علی حرب الله، وسلم علی سلم الله. وقوله صلی الله علیه وآله وسلم: ولی علی ولی الله، وعدو علی عدو الله. وقوله صلی الله علیه وآله وسلم: علی حجة الله وخلیفته علی عباده. وقوله صلی الله علیه وآله وسلم : حب علی إیمان، وبغضه کفر. وقوله صلی الله علیه وآله وسلم: حزب علی حزب الله، وحزب أعدائه حزب الشیطان. وقوله صلی الله علیه وآله وسلم: علی مع الحق والحق معه لا یفترقان حتی یردا علی الحوض. وقوله صلی الله علیه وآله وسلم: علی قسیم الجنة والنار. وقوله صلی الله علیه وآله وسلم: من فارق علیا فقد فارقنی، ومن فارقنی فقد فارق الله عز وجل. وقوله صلی الله علیه وآله وسلم: شیعة علی هم الفائزون یوم القیامة)(1).

ومنها ما عن إبراهیم القرشی قال: (کنا عند أم سلمة رضی الله عنها فقالت سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله یقول لعلی صلوات الله وسلامه علیه لا یبغضکم إلا ثلاثة ولد زنا ومنافق ومن حملت به أمه وهی حائض)(2).

عن فضیل بن عثمان، عن أبی الزبیر المکی قال: (رأیت جابرا متوکیا علی عصاه وهو یدور فی سکک الأنصار ومجالسهم وهو یقول: علی خیر البشر فمن أبی فقد کفر یا معشر الأنصار أدبوا أولادکم علی حب علی فمن أبی فانظروا فی شأن أمه)((3).

وعن أبی أیوب الأنصاری انه قال: (اعرضوا حب علی علی أولادکم، فمن أحبه فهو منکم، ومن لم یحبه فاسألوا أمه من أین جاءت به؟ فإنی سمعت رسول الله


1- الأمالی للشیخ الصدوق  ص 149 __ 150.
2- علل الشرائع للشیخ الصدوق  ج 1  ص 142.
3- ()المصدر السابق.

ص: 298

صلی الله علیه وآله یقول لعلی بن أبی طالب: لا یحبک إلا مؤمن ، ولا یبغضک إلا منافق أو ولد زنیة أو حملته أمه وهی طامث)(1).

عن أبی الصلت الهروی قال: قال المأمون یوما للرضا علیه السلام یا أبا الحسن أخبرنی عن جدک أمیر المؤمنین بأی وجه هو قسیم الجنة والنار وبأی معنی فقد کثر فکری فی ذلک؟ فقال له الرضا علیه السلام: یا أمیر المؤمنین ألم ترو عن أبیک عن آبائه عن عبد الله بن عباس أنه قال: سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم یقول: حب علی إیمان وبغضه کفر؟ فقال: بلی فقال الرضا علیه السلام: فقسمة الجنة والنار إذا کانت علی حبه وبغضه فهو قسیم الجنة والنار، فقال المأمون: لا أبقانی بعدک یا أبا الحسن أشهد أنک وارث علم رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم قال: أبو الصلت الهروی: فلما انصرف الرضا علیه السلام إلی منزله أتیته فقلت له: یا بن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ما أحسن ما أجبت به أمیر المؤمنین؟ فقال الرضا علیه السلام: یا أبا الصلت إنما کلمته حیث هو ولقد سمعت أبی یحدث عن آبائه عن علی علیه السلام إنه قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: یا علی أنت قسیم الجنة یوم القیامة تقول للنار: هذا لی وهذا لک)(2).

الزهراء صلوات الله وسلامه علیها میزان غضب الله سبحانه ورضاه

والسیدة الطاهرة فاطمة صلوات الله وسلامه علیها بنت محمد صلی الله علیه وآله وسلم کانت ولا تزال میزان سخط الجبار ورضا الرحمن، وهی صلوات الله وسلامه علیها میزان رضا النبی صلی الله علیه وآله وسلم وغضبه، والتی من یؤذیها فقد آذی الله سبحانه ورسوله صلی الله علیه وآله وسلم، ومن یرضیها فقد أرضی الله سبحانه ورسوله صلی الله علیه وآله وسلم، وبهذا الصدد وردت روایات کثیرة نختار منها: 


1- علل الشرائع للشیخ الصدوق  ج 1  ص 145.
2- عیون أخبار الرضا صلوات الله وسلامه علیه للشیخ الصدوق  ج 1  ص 92.

ص: 299

 عن الإمام الصادق جعفر بن محمد صلوات الله وسلامه علیهما، عن أبیه صلوات الله وسلامه علیه، عن علی بن الحسین صلوات الله وسلامه علیه، عن الحسین بن علی صلوات الله وسلامه علیه، عن علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، أنه قال: (یا فاطمة، إن الله تبارک وتعالی لیغضب لغضبک، ویرضی لرضاک، قال: فجاء صندل، فقال لجعفر بن محمد صلوات الله وسلامه علیهما: یا أبا عبد الله، إن هؤلاء الشباب یجیئونا عنک بأحادیث منکرة فقال له جعفر صلوات الله وسلامه علیه: وما ذاک یا صندل؟ قال: جاءنا عنک أنک حدثتهم أن الله یغضب لغضب فاطمة، ویرضی لرضاها؟ قال: فقال جعفر صلوات الله وسلامه علیه: یا صندل، ألستم رویتم فیما تروون أن الله تبارک وتعالی لیغضب لغضب عبده المؤمن، ویرضی لرضاه؟ قال: بلی. قال: فما تنکرون أن تکون فاطمة صلوات الله وسلامه علیها مؤمنة، یغضب الله لغضبها، ویرضی لرضاها(1) قال: فقال: الله أعلم حیث یجعل رسالته)(2).

وعن الحاکم النیسابوری فی کتابه المستدرک علی صحیح مسلم والبخاری قال: (حدثنا أبو العباس محمد بن یعقوب ثنا الحسن بن علی بن عفان العامری وأخبرنا محمد بن علی بن دحیم بالکوفة ثنا أحمد بن حاتم بن أبی غرزة قالا ثنا عبد الله محمد بن سالم ثنا حسین بن زید بن علی عن عمر بن علی عن جعفر بن محمد عن أبیه عن علی بن الحسین عن أبیه عن علی رضی الله عنه قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم لفاطمة ان الله یغضب لغضبک ویرضی لرضاک. هذا حدیث صحیح الإسناد ولم یخرجاه)(3)


1- هذا الکلام من الإمام صلوات الله وسلامه علیه هو من باب تقریب هذه الحقائق لأذهان العامة الذین یستثقلون مقامات أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومنازلهم التی أنزلهم الله فیها،وإلا فان رضا السیدة الطاهرة صلوات الله وسلامه علیها وغضبها لا یقاس برضا عامة المؤمنین والمؤمنات ورضاهم.
2- الأمالی للشیخ الصدوق  ص 467 __ 468.
3- المستدرک للحاکم النیسابوری  ج 3  ص 153 __ 154.

ص: 300

وقال الهیثمی: (وعن علی قال: قال رسول الله صلی الله علیه وسلم إن الله یغضب لغضبک ویرضی لرضاک. رواه الطبرانی وإسناده حسن)(1).

الحسین صلوات الله وسلامه علیه میزان حساب الأمم یوم القیامة

والإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه فی زیارة عاشوراء یتبین ان له حسابا خاصا، فکما ان مصیبته أعظم من کل المصائب وأجلّ من کل الرزایا، کذلک حسابه ومیزانه یختلف عن کل الموازین، فالله سبحانه سیحاسب بالحسین صلوات الله وسلامه علیه وبدمه ومصیبته ورزیته أمما بأکملها، وزیارة عاشوراء توضح هذه الحقیقة، فستحاسب به أمة أسست أساس الظلم والجور علیه وعلی أهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وأمة دفعته وأهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عن مقاماتهم وأزالتهم عن مراتبهم.

وستحاسب به أمة قتلته وأهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وأمة مهّدت ومکّنت من قتله وقتل أهل بیته وأصحابه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وأشیاعهم وأتباعهم وأولیائهم، وأمة أسرجت وألجمت وتنقبت وتهیأت لقتاله. وسیحاسب الله به بیوتا کاملة من أمثال آل زیاد وآل مروان وبنی أمیة قاطبة، وسیحاسب به أفرادا شارکوا فی أحداث مجزرة عاشوراء من أمثال ابن مرجانة وعمر بن سعد وشمر ویزید وغیرهم من الملعونین.

وسیحاسب به الله سبحانه أمما وجدت بعد استشهاده واستشهاد أهل بیته وأصحابه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین قد رضیت بفعل تلک الأمم السابقة، وبررت فعل أعدائه، وخطأت الحسین صلوات الله وسلامه علیه فی خروجه، ودافعت عن انتهاک حرمته وحرمة أهل بیته وأصحابه یوم عاشوراء وبعده، فقد ورد فی الروایة ان الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه یقتل ذراری قتلة الحسین صلوات الله وسلامه علیه ممن رضی بفعال آبائه، وممن لو


1- مجمع الزوائد للهیثمی  ج 9  ص 203.

ص: 301

کان موجودا فی الطفوف یوم عاشوراء لشارک ضده وعاون علی قتله، فقد روی الشیخ الصدوق قدس الله روحه عن عبد السلام بن صالح الهروی قال: (قلت لأبی الحسن علی ابن موسی الرضا صلوات الله وسلامه علیه یا بن رسول الله ما تقول فی حدیث روی عن الصادق صلوات الله وسلامه علیه أنه قال: إذا خرج القائم قتل ذراری قتلة الحسین صلوات الله وسلامه علیه بفعال آبائها فقال صلوات الله وسلامه علیه هو کذلک فقلت فقول الله عز وجل ((وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَی))(1) ما معناه؟ فقال صدق الله فی جمیع أقواله لکن ذراری قتلة الحسین یرضون أفعال آبائهم ویفتخرون بها ومن رضی شیئا کان کمن أتاه ولو أن رجلا قتل فی المشرق فرضی بقتله رجل فی المغرب لکان الراضی عند الله شریک القاتل وإنما یقتلهم القایم إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم ...)(2).

ولیس إهلاک الأمم لعلة قتلهم للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه أو الرضا بقتله أو مشایعة ومبایعة قتلته أو غیر تلک الأمم والبیوت والأفراد الذین سبق ذکرهم بعزیز علی الله سبحانه، بعد ان ذکر القرآن الکریم إهلاک وعذاب الأمم السابقة بذنوبهم وإسرافهم وقتلهم لأنبیائهم وصلحائهم قال تعالی: ((أَلَمْ یَرَوْا کَمْ أَهْلَکْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَکَّنَّاهُمْ فِی الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَکِّنْ لَکُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَیْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَکْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِینَ))(3).

وقال تعالی: ((وَلَقَدْ أَهْلَکْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِکُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَیِّنَاتِ وَمَا کَانُوا لِیُؤْمِنُوا کَذَلِکَ نَجْزِی الْقَوْمَ الْمُجْرِمِینَ))(4) وقال تعالی: ((وَضُرِبَتْ عَلَیْهِمُ الذِّلَّةُ


1- سورة فاطر الآیة رقم 18.
2- علل الشرائع للشیخ الصدوق  ج 1  ص 229.
3- سورة الأنعام الآیة رقم 6.
4- سورة یونس الآیة رقم 13.

ص: 302

وَالْمَسْکَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ کَانُوا یَکْفُرُونَ بِآَیَاتِ اللَّهِ وَیَقْتُلُونَ النَّبِیِّینَ بِغَیْرِ الْحَقِّ ذَلِکَ بِمَا عَصَوْا وَکَانُوا یَعْتَدُونَ))(1).

ولیس من سبق من الأنبیاء بأعز وأکرم علی الله سبحانه من الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه فإذا جاز إهلاک وعذاب الأمم التی قتلت أنبیاءها وأوصیاءها جاز وحسن إهلاک من سبق ذکره من الأمم لان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین کما ثبت بالدلیل من قبل أکمل من جمیع الأنبیاء والرسل صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فالاعتداء علیه وعلی حرمته یکون أشد وأعظم من الاعتداء علی کل الأنبیاء والرسل،بل ان الاعتداء علیه هو فی حقیقته اعتداء علی کل الأنبیاء والرسل، وعلیه فمن العدل ان یکون الانتصاف له من أعدائه والانتقام له أعظم وأشد وأکبر من کل انتقام قد شهدته الأمم السالفة السابقة التی أهلکت فی أزمنة الأنبیاء السابقین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین. 


1- سورة البقرة الآیة رقم 61.

ص: 303

وَلَعَنَ اللهُ أُمَّةً دَفَعَتْکُمْ عَنْ مَقَامِکُمْ وَأَزَالَتْکُمْ عَنْ مَرَاتِبِکُمُ الَّتِی رَتَّبَکُمُ اللهُ فِیهَا

اشارة

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة المبارکة

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة المبارکة

                     1: وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً دَفَعَتْکُمْ                 2: عَنْ مَقَامِکُمْ                        3: وَأَزَالَتْکُمْ

                     4: عَنْ مَرَاتِبِکُمُ الَّتِی رَتَّبَکُمُ اللَّهُ فِیهَا

المبحث الثالث: تبیان بعض مراتب ومقامات أهل البیت علیهم السلام.

المبحث الرابع: بسبب دفع أهل البیت علیهم السلام وإزالتهم عن مراتبهم

المبحث الخامس: سبب مسارعة الأمة إلی دفع أهل البیت علیهم السلام عن مقاماتهم ومنازلهم. 

ص: 304 

ص: 305

وَلَعَنَ اللهُ أُمَّةً دَفَعَتْکُمْ عَنْ مَقَامِکُمْ وَأَزَالَتْکُمْ عَنْ مَرَاتِبِکُمُ الَّتِی رَتَّبَکُمُ اللهُ فِیهَا فی هذه الفقرة المبارکة من الزیارة مباحث مهمة نستعرضها فیما یأتی من الکلام:

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة المبارکة

تواترت الروایات وأجمعت نصوص الأدعیة والزیارات الشریفة عن النبی الأعظم والأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین علی أن الله سبحانه قد منح لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین مقامات أنزلهم بها ومراتب رتبهم فیها، وقد تم دفعهم عنها وإزالتهم منها، وسنذکر فیما یأتی جملة من تلک النصوص الشریفة:

فمنها ما ورد فی الزیارة الجامعة الکبیرة: (بلغ الله بکم أشرف محل المکرمین وأعلی منازل المقربین وأرفع درجات أوصیاء المرسلین حیث لا یلحقه لاحق ولا یفوقه فائق ولا یسبقه سابق ولا یطمع فی إدراکه طامع، حتی لا یبقی ملک مقرب ولا

ص: 306

نبی مرسل ولا صدیق ولا شهید ولا عالم ولا جاهل ولا دنی ولا فاضل ولا مؤمن صالح ولا فاجر طالح ولا جبار عنید ولا شیطان مرید ولا خلق فیما بین ذلک شهید إلا عرفهم جلالة أمرکم وعظم خطرکم وکبر شأنکم وتمام نورکم وصدق مقاعدکم وثبات مقامکم وشرف محلکم ومنزلتکم عنده وکرامتکم علیه وخاصتکم لدیه وقرب منزلتکم منه)(1).

ومنها ما ورد فی زیارة أئمة البقیع صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین: (یا موالی یا أبناء رسول الله، عبدکم وابن أمتکم، الذلیل بین أیدیکم، والمضعف فی علو قدرکم، والمعترف بحقکم، جاءکم مستجیرا بکم، قاصدا إلی حرمکم، متوسلا إلی مقامکم، متوسلا إلی الله بکم. أأدخل یا موالی، أأدخل یا أمناء الله، أأدخل یا أولیاء الله، أأدخل یا ملائکة الله المحدقین بهذا الحرم، المقیمین بهذا المشهد...)(2).

ومنها زیارة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه فی أول شهر رجب والنصف من شعبان، والتی ذکرها السید ابن طاوس فی إقبال الأعمال حیث قال قدس الله روحه: (فیما نذکره من لفظ زیارة الحسین علیه السلام فی نصف شعبان أقول: إن هذه الزیارة مما یزار بها الحسین علیه السلام أول رجب أیضا، وإنما أخرنا ذکرها فی هذه اللیلة لأنها أعظم، فذکرناها فی الأشرف من المکان، وهی:... بأبی أنت وأمی ونفسی یا أبا عبد الله لقد عظمت المصیبة وجلت الرزیة بک علینا وعلی جمیع أهل الإسلام، فلعن الله أمة أسست أساس الظلم والجور علیکم أهل البیت، ولعن الله أمة دفعتکم عن مقامکم وأزالتکم عن مراتبکم التی رتبکم الله فیها. بأبی أنت وأمی ونفسی یا أبا عبد


1- من لا یحضره الفقیه للشیخ الصدوق ج 2 ص 613__ 614، عیون أخبار الرضا علیه السلام الشیخ الصدوق ج 1 ص 307.
2- المزار لمحمد بن المشهدی ص 88.

ص: 307

الله أشهد لقد اقشعرت لدمائکم أظلة العرش مع أظلة الخلائق، وبکتکم السماء والأرض وسکان الجنان والبر والبحر، صلی الله علیک عدد ما فی علم الله...)(1).

وسیأتی تفصیل الکلام حول بعض مقاماتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وحقیقة إبعاد الأمة لهم عن تلک المراتب والمقامات التی منحها لهم الله سبحانه وتعالی فی مبحث مستقل لاحقا.

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة المبارکة
1: وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً دَفَعَتْکُمْ

قد سبق فی الفقرة السابقة توضیح وتبیان معنی کل من کلمة (لَعَنَ) و (أُمَّةً) وبقی أن نعرف معنی (دَفَعَتْکُمْ) وضمیر الجمع عائد بلا ریب إلی أهل البیت الذین مر ذکرهم فی الفقرة السابقة، أما لفظ (دفع) فقد استعمل بمعان أربعة هی:

الأول: استعمل بمعنی المنع، قال الفراهیدی: (دفع: دفعت عنه کذا وکذا دفعا ومدفعا، أی: منعت)(2). فیصبح معنی العبارة هو (ولعن الله امة منعتکم عن مقاماتکم وأزالتکم عن مراتبکم التی رتبکم الله فیها).

الثانی: وقد یکون الدفع من المدافعة فیکون بمعنی المماطلة، قال الجوهری فی الصحاح: (والمدافعة: المماطلة)(3). وقال ابن منظور: (والمدافعة: المماطلة. ودافع فلان فلانا فی حاجته إذا ماطله فیها فلم یقضها)(4) فیکون المعنی لعن الله أمة ماطلتکم


1- إقبال الأعمال للسید ابن طاوس ج 3 ص 341 __ 342 فصل 53.
2- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 2 ص 45 باب العین والدال والفاء معهما.
3- الصحاح للجوهری ج 3 ص 1208 فصل الدال مادة دفع.
4- لسان العرب ابن منظور ج 8 ص 89.

ص: 308

عن مقامکم ومراتبکم التی رتبکم الله فیها)، أو (لعن الله امة ماطلت دون وصولکم إلی مقاماتکم ومراتبکم التی رتبکم الله فیها).

وأهل البیت وکما هو الثابت فی الآیات والروایات سیرد لهم الله سبحانه هذه المنازل والمراتب فی زمن الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه وستجتمع له السلطة الظاهریة والباطنیة، ولکن بعد مماطلة من الظالمین یطول أمدها، ویهلک فیها الکثیر ممن سار علی نهج تلک الفئة التی جلست فی مجلس أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وغصبت مقامهم، فهم ملعونون مسخوط علیهم بسبب منعهم ومماطلتهم التی تسببت فی إضلال فئة من الناس لیست بالقلیلة، وکذلک تسببت فی تعطیل حدود الله من أن تقام علی أیدی أصحابها الشرعیین، وأیضا أسهمت تلک المماطلة بتکبید أهل البیت علیهم السلام المتاعب والمصاعب والمحن والآلام بل وتکبدوا فی سبیل إعادة السلطة الإلهیة من أیدی الغاصبین إلی التضحیة بدمائهم الزکیة ونفوسهم المقدسة ثمنا لذلک.

الثالث: وقد یکون الدفع بمعنی الإسراع: (دفع دفعت إلی فلان شیئا ودفعت الرجل فاندفع. واندفع الفرس، أی أسرع فی سیره، واندفعوا فی الحدیث)(1).

فیکون معنی العبارة (ولعن الله امة أسرعت فی دفعکم عن مقامکم وأزالتکم عن مراتبکم التی رتبکم الله فیها) وهذا ما حصل فعلا فبمجرد أن مات النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم والتحق بربه سارعت أمته وهو بعد لم یدفن إلی دفع أهل البیت عن مقاماتهم ومراتبهم ومن أجلی مراتبهم ومقاماتهم مقام الولایة ومرتبة الإمامة.

الرابع: وقد یکون بمعنی الإزالة بقوة، قال ابن منظور: (دفع: الدفع: الإزالة


1- الصحاح للجوهری ج 3 ص 1208 فصل الدال مادة دفع.

ص: 309

بقوة. دفعه یدفعه دفعا ودفاعا ودافعه ودفعه فاندفع وتدفع وتدافع)(1). فیکون المعنی (ولعن الله امة أزالتکم بالقوة عن مقامکم ومراتبکم التی رتبکم الله فیها) فیکون هذا المعنی مرادفا للفظ (وأزالتکم) الوارد ذکره فی نفس هذه الفقرة.

وکل هذه المعانی الأربعة محتملة المراد من قبل الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه لان جمیعها قد وقع فی الخارج، فان التاریخ یثبت وبصورة لا تقبل الشک ان الأمة قد منعت وماطلت وأسرعت واستعملت القوة فی إزالة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عن مراتبهم ومنازلهم التی رتبهم الله فیها.

2: عَنْ مَقَامِکُمْ

عَنْ: وردت لها معانِ عدة فی اللغة، والمعنی الأنسب لها فی هذه الفقرة أن تکون بمعنی (من) لأنها إحدی معانیها(2) وهی نظیر قوله تعالی ((وَهُوَ الَّذِی یَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ))(3).

مَقَامِکُمْ: ضمیر الجمع عائد إلی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین الذین ذکرتهم الفقرة السابقة من الزیارة، ولفظ (مقام) جاء فی اللغة بمعنی (موضع)(4) ومنه قوله تعالی: ((وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ یَا أَهْلَ یَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَکُمْ فَارْجِعُوا))(5) أی لا موضع لکم فارجعوا، وقوله تعالی: ((خَالِدِینَ فِیهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا))(6)، أی حسنت مستقرا وموضعا. 


1- لسان العرب ابن منظور ج 8 ص 87.
2- موسوعة معانی الحروف العربیة ص134للدکتور علی سلمان.
3- سورة الشوری الآیة رقم 25.
4- الصحاح للجوهری ج5 ص2017 مادة قوم.
5- سورة الأحزاب الآیة رقم 13.
6- سورة الفرقان الآیة رقم 76.

ص: 310

3: وَأَزَالَتْکُمْ

 الواو کما لا یخفی هنا للعطف والجملة معطوفة علی ما قبلها والمعنی (ولعن الله أمة أزالتکم عن مراتبکم) وضمیر الجمع راجع إلی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، ولفظ (أزال) استعملت فی اللغة بمعان عدة وجمیعها محتملة المراد:

الأول: قد یکون (أزال) من الزوال بمعنی الذهاب أو الاستحالة من شیء إلی شیء أو الاضمحلال، قال ابن منظور: (الزوال: الذهاب والاستحالة والاضمحلال)(1) والاستحالة تشمل کل ما تحول أو تغیر من الاستواء إلی الاعوجاج(2).

فیکون معنی الفقرة من الزیارة هو (ولعن الله امة دفعتکم عن مقامکم، وذهبت بکم عن مراتبکم التی رتبکم الله فیها، وتحول حالها معکم من الاستواء إلی الاعوجاج، فاضمحلت بذلک مراتبکم وذهبت مقاماتکم).

الثانی: وقد یکون من الزوال بمعنی التنحیة والتحریک، قال ابن منظور: (الزول الحرکة، یقال رأیت شبحا ثم زال أی تحرک. وزال القوم عن مکانهم إذا حاصوا عنه وتنحوا)(3).

وقال الشیخ الطریحی فی مجمع البحرین: (ونحی الشیء: أزاله، یقال: نحیته فتنحی ونح هذا عنی أی أزله وأبعده عنی)(4).

فیکون معنی فقرة الزیارة هو: (ولعن الله امة دفعتکم عن مقامکم ونحتکم وحرکتکم عن مراتبکم التی رتبکم الله فیها). 


1- لسان العرب لابن منظور ج 11 ص 313 فصل الزای المعجمة.
2- القاموس المحیط ج3 ص364.
3- لسان العرب لابن منظور ج 11 ص 313 فصل الزای المعجمة.
4- مجمع البحرین للشیخ الطریحی ج 4 ص 284.

ص: 311

4: عَنْ مَرَاتِبِکُمُ الَّتِی رَتَّبَکُمُ اللَّهُ فِیهَا

عَنْ: تقدم الحدیث عن لفظ (عَنْ) وقلنا انها هنا بمعنی (من).

 مَرَاتِبِکُمُ: ضمیر الجمع عائد إلی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، و(مَرَاتِبِ) جمع (رتبة) أو (مرتبة) والمرتبة کما جاء فی اللغة هی المنزلة الرفیعة الثابتة عند الملوک وأشباههم، قال الجوهری: (رتب: الرتبة: المنزلة، وکذلک المرتبة)(1)

وقال ابن منظور: (والرتبة والمرتبة: المنزلة عند الملوک ونحوها. وفی الحدیث: من مات علی مرتبة من هذه المراتب، بعث علیها، المرتبة: المنزلة الرفیعة)(2).

التی: اسم إشارة وضع فی اللغة للدلالة علی المؤنث.

رتبکم الله فیها: وهذه العبارة ترید بیان ان الفاعل والمنزل والواضع والمثبت لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی تلک المراتب والمنازل المتقدمة هو الله سبحانه وتعالی، وبمعنی آخر ان تلک المراتب والمنازل التی ذکرت سابقا لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین هی رتب ومنازل إلهیة ربانیة، وان شرعیتها وأهمیتها مستمدة من الله سبحانه فإذا قبلها الناس فعن الله سبحانه وتعالی یقبلون، وإذا رفضوها فلأمر الله سبحانه وتعالی وحکمه یردون.

المبحث الثالث: تبیان بعض مراتب ومقامات أهل البیت علیهم السلام
اشارة

لابد قبل البدء بالکلام من الاعتراف والتأکید علی مسألة مهمة وهی أن أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لا یعلم بحقیقة مراتبهم ومقاماتهم إلا الله سبحانه، ولا یحصیها إلا هو جل شأنه، فبعضها کشف لنا علی لسان الآیات المبارکة والروایات الشریفة، وکثیر منها قد حجب خبره عنا لأسباب غیبیة ربما، وربما


1- الصحاح للجوهری ج 1 ص 133.
2- لسان العرب لابن منظور ج 1 ص 410 فصل الراء.

ص: 312

لعدم وجود قلوب تسع وتحتمل تلک الحقائق، لأنه وبسبب التربیة الخاطئة للأمة التی أخذت أکثر تعالیمها من مناوئی أهل البیت وأعدائهم والذین کانوا سببا أساسیا فی طمس تلک المنازل والتکتم علی تلک المراتب، صار علماء الإمامیة رضوان الله تعالی علیه وأتباعهم یرمون بالکفر والشرک والخروج عن جادة الحق والإسلام لأدنی تصریح بأدنی مرتبة من مراتبهم ومقاماتهم ومنازلهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فصار أعداؤهم یحاربون تلک المراتب والمقامات حقدا وبغضا، وصار أولیاؤهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین یکتمونها تقیة وخوفا.

ثم وبسبب طول زمن التقیة والخوف من الظالمین، وبسبب قلة ما یکتب فی مجال مراتب أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومقاماتهم ولاسیما تلک التی تتعلق بمراتبهم ومنازلهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین قبل عالم الدنیا، صار کثیرا من أتباع أهل البیت صلوات الله وسلامه علیه یستثقل ویستغرب أکثر مقامات أئمتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ویعدّها وبسبب الجهل وعدم الاطلاع علی الأحادیث والروایات غلوا ومبالغة.

وربما اعتبر البعض الآخر ومن باب المجاملة والمماشاة للمخالفین من بقیة المذاهب الأخری وغیرهم بان الکلام فی مراتبهم وتوضیح منازلهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لیس مناسبا فی هذا الوقت الذی تعیش فیه الأمة الحساسیة والاحتقان السیاسی والمذهبی، متناسین باجمعهم أن السکوت والتأجیل وعدم توضیح مقامات أهل البیت ومراتبهم التی رتبهم الله فیها خیانة عظمی ومشارکة من حیث یعلمون أو لا یعلمون فی مخطط القضاء والإقصاء والدفع لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عن مقاماتهم، وان السکوت وعدم تبیان هذه المقامات والمنازل لعوام الشیعة وبسطائهم تعد معونة مجانیة لأولئک المزیلین لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عن مراتبهم التی رتبهم

ص: 313

الله فیها وخصهم بها.

لذلک یجب علی کل من له القدرة والقوة، تبیان ما یقدر علی تبیانه من تلک المراتب والمقامات، نصرة ودفاعا عن أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی حربهم مع من حاول ویحاول إلی الآن دفع وإزالة أهل البیت عن مراتبهم الإلهیة، وإخفاء وطمس منازلهم الربانیة، وما هذه الوریقات فی هذا المبحث وغیره إلا تطبیق وعمل بما أسلفت من وجوب النصرة والتصریح علی کل من یقدر علی ذلک ویستطیع.

 ونحن قد أوضحنا فی مبحث سابق جملة من منازلهم وما خصهم الله سبحانه وتعالی به قبل الخلق وفی عالم الأصلاب والأرحام، وسنکمل للقارئ العزیز جملة أخری من تلک المراتب التی دفعوا صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عنها وأزیلوا منها.

المرتبة الأولی: مرتبة الاصطفاء علی جمیع العالمین
اشارة

هنالک سنن وقوانین خلق الله سبحانه وتعالی علی أساسها الکون، وبها یدار نظام الحیاة، وواحدة من تلک السنن الکثیرة هی سنة الاصطفاء وقانون الاختیار، فالله سبحانه وتعالی کامل لیس لکماله حد والکمال صفة من صفاته الذاتیة، فلا عجب والحال هذه أن یصطفی ویختار کل ما هو کامل فی عالم الوجود ویفضله بعد أن یختاره ویصطفیه علی من هو اقل منه کمالا ومرتبة، ونستطیع فیما یأتی ان نستفید من هذه القاعدة لإثبات أن الله سبحانه خص أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بمرتبة الاصطفاء علی جمیع الموجودات وأنزلهم منزلة لا یطمع فی إدراکها طامع لعلوها ورقیها، وذلک من خلال الخطوات التالیة: 

ص: 314

ألف: اصطفاء الإنسان علی بقیة موجودات الأرض

ومن دقق النظر فی هذا الکون بکل جزئیاته یجده قائما علی أساس الاصطفاء والاختیار للأکمل فالأکمل، والإنسان له من الکمال ما یفوق ویعلو علی باقی الموجودات علی هذه الأرض، فهو الأفضل وهو المصطفی وهو المختار من قبل الله سبحانه دونها، بل لأجله قد خلق کل ما علی الأرض، ولولا وجوده لما أوجدها قال تعالی: ((هُوَ الَّذِی خَلَقَ لَکُمْ مَا فِی الْأَرْضِ جَمِیعًا ثُمَّ اسْتَوَی إِلَی السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمٌ))(1)، وفی الآیة المبارکة تصریح بأن کل ما فی الکون قد خلق لأجل هذا الإنسان لأنه أکملها وسیدها فهو علة وجودها(2) وتحققها فی الخارج.

باء: اصطفاء الأکمل من بین أفراد الإنسان

وقانون الاصطفاء والاختیار جار علی أفراد الإنسان أیضا، لأن أفراد الإنسان لیسوا کلهم علی وتیرة واحدة من الکمال والنقاوة، ففیهم الکامل وفیهم الأکمل، کما ان فیهم السیئ وفیهم الأسوأ، فلما کان الله سبحانه کاملاً ومن صفاته الکمال فمن الطبیعی انه سیختار الکامل من جنس الإنسان بل الأکمل ویفضله من بعد أن یصطفیه علی بقیة خلقه، قال تعالی: ((قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَی عِبَادِهِ الَّذِینَ اصْطَفَی آَللَّهُ خَیْرٌ أَمَّا یُشْرِکُونَ))(3).

وقال تعالی: ((اللَّهُ یَصْطَفِی مِنَ الْمَلَائِکَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِیعٌ بَصِیرٌ))(4).


1- سورة البقرة الآیة رقم 29.
2- المقصود بالعلة هنا هو العلة الغائیة.
3- سورة الأعراف الآیة 128.
4- سورة الحج الآیة رقم 75.

ص: 315

جیم: اصطفاء أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین علی الأنبیاء والرسل

 وقد شاء الله سبحانه أن یصطفی من أهل کل زمان أفضلهم وخیرتهم فیجعلهم رسلا وأنبیاء کما قال تعالی: ((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَی آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِیمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَی الْعَالَمِینَ))(1) فنصبهم سبحانه خلفاء فی أرضه وحججا علی البقیة من عباده.

ثم اختار سبحانه من هؤلاء الصفوة صفوة أخری، ومن هؤلاء الکاملین من هو الأکمل، فکانوا أربعة عشر معصوما هم کما فی الروایات فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها وتسع_ة من ذریة الحسین بن علی صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فهم صفوة الصف_وة، وخ_یرة الخیرة، وقد مر فی بحث سابق إثبات أنهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أفضل وأکمل من جمیع الأنبیاء والمرسلین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومن أممهم أیضا.

دال: اصطفاء النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین

 ثم اختار سبحانه من هؤلاء الأربعة عشر أکثرهم کمالا وارفعهم منزلة فاصطفاه عبدا ورسولا وحبیبا، فکان سید من خلق، وصفوة من اصطفی، وأکرم من اعتمد، قدمه علی أنبیائه وبعثه إلی الثقلین من عباده.

 فإذا کان هؤلاء الأربعة عشر معصوما صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أکمل من جمیع الأنبیاء والمرسلین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فالنبی الأعظم محمد صلی الله علیه وآله وسلم أکمل هؤلاء الأربعة عشر معصوما.

 وإذا کان هؤلاء الأربعة عشر معصوما صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین هم صفوة الصفوة کما بینا، فنبینا الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم صفوة هؤلاء الصفوة، فلذلک صار أهلا لان تختم بنبوته النبوات، وبشریعته الشرائع، وقد ورد فی الحدیث المشهور عند السنة والشیعة


1- سورة آل عمران الآیة 33.

ص: 316

ما یؤید هذا المعنی ویؤکده، فعن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم انه قال: (إن الله اصطفی من ولد إبراهیم إسماعیل واصطفی من ولد إسماعیل بنی کنانة واصطفی من بنی کنانة قریشا واصطفی من قریش بنی هاشم واصطفانی من بنی هاشم)(1).

هاء: اصطفاء الله سبحانه من أفراد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین الأکمل فالأکمل

ثم اختار سبحانه من بعد النبی الخاتم صلی الله علیه وآله وسلم أکمل الثلاثة عشر صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فاختار أمیر المؤمنین علیا صلوات الله وسلامه علیه، فجعله کنفس رسوله دمه من دمه، ولحمه من لحمه، ثم اختار له کفؤا ونظیرا وزوجه من فاطمة صلوات الله وسلامه علیها من فوق سبع سماوات، کما هو مروی فی الحدیث عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم حینما خاطب ابنته الصدیقة بقوله: (إن الله اطلع علی أهل الأرض إطلاعة فاختار منهم أباک فجعله نبیا، واطلع علی علیهم ثانیة فاختار منهم بعلک(2) فجعله وصیا، وأوحی إلی أن انکحه، أما علمت یا فاطمة انک بکرامة الله إیاک زوجتک أعظمهم حلما، وأکثرهم علما)(3).

 فکانا صلوات الله وسلامه علیهما سببا لإیجاد خیرة الأوصیاء بعد أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، فولدا الحسن صلوات الله وسلامه علیه، ثم تبعه الحسین صلوات الله وسلامه علیه، ثم شاء سبحانه وتعالی ولحکمة هو أعلم بها، أن یجعل امتداد الإمامة والوصایة علی الأمة فی ذریة الحسین بن علی صلوات الله وسلامه علیهما فکانوا تسعة لا یغیب منهم نجم إلا وطلع نجم آخر


1- سنن الترمذی ج5 ص243 ، المصنف لابن أبی شیبة ج7 ص 430 ، الدر المنثور ج3 ص294 ، الطبقات الکبری لابن سعد ج1 ص20.
2- النص إلی هنا منقول فی کتاب المواقف للایجی ج3 ص634، ومثله فی کنز العمال للمتقی الهندی ج11 ص605.
3- إعلام الوری بأعلام الهدی للشیخ الطبرسی ج1 ص317.

ص: 317

مکانه، حتی لا تخلو الأرض من حجة، إقامة لدینه وحجة علی عباده، ولئلا یزول الحق عن مقره، ویغلب الباطل علی أهله، ولکی لا یقول أحد من العباد لولا أرسلت إلینا إماما منذرا، وأقمت لنا علما هادیا فنتبعه من قبل أن نذل ونخزی.

واو: علة اصطفاء الله سبحانه لهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین

ولا یظن ظان أو یتوهم متوهم بأن هذا الاصطفاء الإلهی کان عفویا ومن غیر حکمة وموازین اقتضت هذا التفضیل، فالله سبحانه وتعالی لیس بینه وبین احد من العباد قرابة ولا نسب، وکل العباد بالنسبة إلیه سبحانه وتعالی من حیث الخَلق والعبودیة علی حد سواء، فهو الخالق وهم المخلوقون، وهو السید ومالک الملک والملکوت وهم عبید لا یملکون إلا ما ملکه لهم سیدهم وخالقهم.

والمیزان فی التفاضل والتکامل عند الله سبحانه وتعالی قد تم إیضاحه فی قوله سبحانه وتعالی: ((یَا أَیُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَأُنْثَی وَجَعَلْنَاکُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاکُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ))(1)، فالتقوی والذوبان فی الطاعة والخضوع لله سبحانه وتعالی هی میزان الفضل وعلیها الاعتماد فی رفع الدرجات والمنازل عنده سبحانه، فأکمل العباد أتقاهم، وأرفعهم أکثرهم ذوبانا فی طاعته وأشدهم سعیا فی مرضاته.

 والتفضیل للرسل والأنبیاء والأوصیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین علی بقیة الناس لیس بخارج عن هذه القاعدة، فهم الأفضل لتفاضلهم بتقواهم وترفعهم عن هذه الدنیا الدنیة وذوبانهم فی العبودیة الخالصة لله سبحانه وتعالی، وهو السبب من وراء اصطفائهم واختیارهم.

واصطفاء أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین علی بقیة الأنبیاء والمرسلین والأوصیاء


1- سورة الحجرات الآیة رقم 13.

ص: 318

صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ناتج أیضا عن أنهم الأکمل فی مقام العبودیة والطاعة والذوبان فی الله سبحانه وتعالی، وهم الأشد زهدا وترفعا عن هذه الدنیا وزبرجها وزخرفها، ولشدة تعلق قلوبهم بالله.

وفی الدعاء المعروف بدعاء الندبة الشریف الذی یقرأ فی زمن الغیبة، توضیح جلی لهذه الحقیقة، ففی بدایة فقرات هذا الدعاء تصریح واضح لسبب اجتباء أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین واصطفائهم حیث ورد فیه: (اللهم لک الحمد علی ما جری به قضاؤک فی أولیائک، الذین استخلصتهم لنفسک ودینک، إذ اخترت لهم جزیل ما عندک من النعیم المقیم، الذی لا زوال له ولا اضمحلال، بعد أن شرطت علیهم الزهد فی درجات هذه الدنیا الدنیة، وزخرفها وزبرجها، فشرطوا لک ذلک وعلمت منهم الوفاء به. فقبلتهم وقربتهم وقدرت لهم الذکر العلی والثناء الجلی، وأهبطت علیهم ملائکتک، وکرمتهم بوحیک ورفدتهم بعلمک، وجعلتهم الذریعة إلیک والوسیلة إلی رضوانک)(1).

المرتبة الثانیة: مرتبة الوصایة والخلافة للنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم
ألف: الوصایة خاضعة لقانون تقدیم الأفضل علی الفاضل

قد تبین لنا فیما مر أن النظام الکونی قائم علی تقدیم الأکمل علی الکام_ل، والأف_ضل علی الفاضل، ومسألة الوصایة والخلافة لیست بخارجة عن هذا القانون، ومن تتبع آیات القرآن الکریم یجدها صریحة فی جعل خلافة الرسل والأنبیاء خاضعة لنظام الاصطفاء، فیختار سبحانه وتعالی من کل أمة الأفضل من بینهم فیرسله نبیا، فإذا مات أو قتل ناب عنه الأکمل من أهل ذلک الزمان. 


1- المزار لمحمد بن المشهدی ص574 الدعاء للندبة.

ص: 319

 إلی أن وصلت النبوة والإمامة والخلافة إلی نبی الله إبراهیم علیه السلام فجعل الله سبحانه النبوة والتوحید الخالص فی ذریته کما قال تعالی: ((وَجَعَلَهَا کَلِمَةً بَاقِیَةً فِی عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُونَ))(1)، وقال ابن العربی فی کتابه أحکام القرآن: (الکلمة وهی النبوة فی قول والتوحید فی قول آخر ولا جرم لم تزل النبوة باقیة فی ذریة إبراهیم والتوحید هم أصله وغیرهم فیه تبع لهم)(2).

باء: استمرار النبوة فی ذریة نبی الله إبراهیم صلوات الله وسلامه علیه

واستمر الأنبیاء والأوصیاء من ولد إبراهیم یتلو بعضهم بعضا یتوارثون الکتاب والنبوة علی حسب نظام الاصطفاء والکمال قال تعالی: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتَابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَیْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِکَ هُوَ الْفَضْلُ الْکَبِیرُ))(3).

جیم: وصایة نبی الله إسماعیل صلوات الله وسلامه علیه ومحمد صلی الله علیه وآله وسلم 

 إلی أن وصلت النبوة إلی إسماعیل صلوات الله وسلامه علیه فصارت النبوة فی عقبة وولده وذریته، وکانت کنانة أفضل بیوت ذریته، فانتقلت إلیها النبوة دون غیرها، وکانت قریش أفض_ل بیت فی کنانة فخصهم الله سبحانه بالاصطفاء وجعل فیهم النبوة دون غیرها من سائر بیوت کنانة، ثم کان بیت هاشم بن عبد المطلب هو أکمل بیت فی قریش وأفضلها، فاختصه الله سبحانه بالنبوة دون سائر بیوت قریش، ثم کان نبینا محمد بن عبد الله صلی الله علیه وآله وسلم أفضل بنی هاشم فاختاره سبحانه للنبوة دونهم وأورثه


1- سورة الزخرف الآیة 28.
2- أحکام القرآن لابن عربی ج4 ص 102.
3- سورة فاطر الآیة 32.

ص: 320

الکتاب علی وفق نظام الاستحقاق والأفضلیة، وقد روی واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ما یؤکد هذا المعنی حیث قال: (إن الله اصطفی کنانة من ولد إسماعیل واصطفی قریشا من کنانة واصطفی من قریش بنی هاشم واصطفانی من بنی هاشم)(1).

وقال ابن عبد البر فی الاستیعاب: (قد ذکرنا بالأسانید الحسان والطرق الصحاح قوله صلی الله علیه وسلم: إن الله اصطفی کنانة من ولد إسماعیل واصطفی قریشا من کنانة واصطفی من قریش بنی هاشم واصطفانی من بنی هاشم)(2).

إذن فالنبی صلی الله علیه وآله وسلم ووفقا لهذه الروایة قد استحق الوصایة عن نبی الله إسماعیل صلوات الله وسلامه علیه بشیئین:

الأول: کونه صلی الله علیه وآله وسلم من بنی هاشم الذین هم أفضل ولد نبی الله إسماعیل صلوات الله وسلامه علیه.

الثانی: کونه صلی الله علیه وآله وسلم الإنسان الأفضل والأکمل من بنی هاشم.

دال: حتمیة وصایة الإمام علی صلوات الله وسلامه علیه بعد النبی صلی الله علیه وآله وسلم 

فلما جاء وعد الله سبحانه ونزل بالنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ما نزل بکل الأنبیاء والرسل، وحان وقت استشهاده ورحیله إلی خالقه، ولم یکن من المعقول أن یتوقف نظام الوصایة الذی امتد منذ نزول آدم صلوات الله وسلامه علیه إلی وقت نبینا الأعظم


1- صحیح مسلم ج 7 ص 58 باب فضل نسب النبی صلی الله علیه وسلم وتسلیم الحجر علیه قبل النبوة.
2- الاستیعاب لابن عبد البر ج 1 ص 26 __ 27.

ص: 321

صلی الله علیه وآله وسلم، فکان ولابد ووفقا ل_((سُنَّةَ اللَّهِ فِی الَّذِینَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِیلًا))(1) ان یستمر وجود الأوصیاء وأن لا یترک العباد من غیر حجة ودلیل یستدلون به علیه، فکان لابد أن ینوب عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم من یؤدی دور الحجة علی الناس، ولکی لا یقول العباد ((رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَیْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَیَاتِکَ وَنَکُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ))(2).

ولکن یبقی السؤال المهم هو: من الذی سیقوم بدور الخلیفة والحجة ویؤدی دور ومهام النبی صلی الله علیه وآله وسلم؟.

ولا اعتقد ان هنالک صعوبة فی تعیین من هو ذلک الخلیفة فیما لو طبقنا القاعدتین المتقدمتین اللتین علی أساسهما استحق النبی صلی الله علیه وآله وسلم مرتبة الوصایة عن أبیه إسماعیل صلوات الله وسلامه علیه واللتین تقدم ذکرهما آنفا.

فوفقا للقاعدة الأولی: یجب أن یکون هذا الخلیفة من ذریة نبی الله إبراهیم صلوات الله وسلامه علیه ومن کنانة بالتحدید، ثم من قریش ومن بنی هاشم علی وجه الخصوص.

ووفقا للقاعدة الثانیة: یجب أن یکون هذا الخلیفة والحجة من المصطفین حتی یمکن له أن یرث الکتاب وفقا لقوله تعالی: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتَابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنَا مِنْ عِبَادِنَا))(3).

ولو تتبعنا أحوال الصحابة وحواریی الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لما وجدنا من یشتمل علی تلک المیزتین غیر الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه فهو من آل إبراهیم صلوات الله وسلامه علیه، وهو من کنانة، ومن قریش ومن بنی هاشم،


1- سورة الأحزاب الآیة رقم 62.
2- سورة القصص الآیة رقم 48.
3- سورة فاطر الآیة 32.

ص: 322

فیکون هو المتعین دون غیره من الذین اعتلوا کرسی الحکم بعد استشهاد النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم.

وهو صلوات الله وسلامه علیه ممن اصطفی الله سبحانه وتعالی وممن عنده علم الکتاب وهو المقصود بقوله سبحانه وتعالی: ((وَیَقُولُ الَّذِینَ کَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ کَفَی بِاللَّهِ شَهِیدًا بَیْنِی وَبَیْنَکُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْکِتَابِ))(1)، فقد تواتر الخبر عند الشیعة الإمامیة تبعا لائمتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بان المقصود من قوله سبحانه وتعالی: ((وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْکِتَابِ)) هو أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه.

 فعن محمد بن الحسن الصفار وغیره قال: (...عن عبد الله بن بکیر عن أبی عبد الله علیه السلام قال کنت عنده فذکروا سلیمان وما أعطی من العلم وما أوتی من الملک فقال لی وما أعطی سلیمان بن داود إنما کان عنده حرف واحد من الاسم الأعظم وصاحبکم الذی قال الله ((قُلْ کَفَی بِاللَّهِ شَهِیدًا بَیْنِی وَبَیْنَکُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْکِتَابِ)) وکان والله عند علی علیه السلام علم الکتاب فقلت صدقت والله جعلت فداک)(2).

وعن علی بن الحسن بن علی بن فضال عن أبیه عن إبراهیم الأشعری عن محمد بن مروان عن نجم عن أبی جعفر صلوات الله وسلامه علیه فی قول الله سبحانه وتعالی ((قُلْ کَفَی بِاللَّهِ شَهِیدًا بَیْنِی وَبَیْنَکُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْکِتَابِ)) قال: (صاحب علم الکتاب علی علیه السلام)(3)


1- سورة الرعد الآیة رقم 43.
2- بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار ص 232 باب مما عند الأئمة علیهم الصلاة والسلام من اسم الله الأعظم وعلم الکتاب الحدیث رقم 1.
3- بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار ص 234 باب مما عند الأئمة علیهم الصلاة والسلام من اسم الله الأعظم وعلم الکتاب الحدیث رقم6.

ص: 323

وقد وافق الإمامیة من ان المقصود من قوله سبحانه وتعالی: ((وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْکِتَابِ))، هو أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه الثعلبی فی تفسیره، حیث أخرج حدیثین ذکر فیهما ان المراد من صاحب علم الکتاب هو ما ذکرنا(1).

وکذلک وافقنا الحاکم الحسکانی(2)حیث أخرج فی کتابه شواهد التنزیل(3) مجموعة کبیرة من الأحادیث تنص بأجمعها علی أن صاحب علم الکتاب هو أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه.

فیکون أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه مشتملا علی کونه من بنی هاشم وعنده علم الکتاب فیکون هو المصطفی من بین جمیع الصحابة للوصایة والخلافة والنیابة عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم.

هاء: حتمیة وصایة الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بعد الإمام علی صلوات الله وسلامه علیه

ویمکن لنا أن نسیر بنفس هذا الطریق لإثبات إمامة ووصایة کل من الإمامین الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما، فهما من بنی هاشم فلا یجوز تقدیم أحد علیهما حتی وان کان من قریش، لان بنی هاشم اصطفاهم الله سبحانه علی قریش.

وهما صلوات الله وسلامه علیهما ممن اصطفاهما الله سبحانه وتعالی علی بقیة بنی هاشم بنص آیة التطهیر فیکونان من ورثة الکتاب ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتَابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنَا مِنْ عِبَادِنَا))(4)،


1- تفسیر الثعلبی ج 5 ص 302 __ 303 فی تفسیر سورة الرعد الآیة رقم 43.
2- قال عنه الذهبی فی تذکرة الحفاظ ج 3 ص 1200: (الحسکانی القاضی المحدث أبو القاسم عبید الله بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن حسکان القرشی العامری النیسابوری الحنفی الحاکم ویعرف بابن الحذاء شیخ متقن ذو عنایة تامة بعلم الحدیث، وهو من ذریة الأمیر عبد الله بن عامر بن کریز الذی افتتح خراسان زمن عثمان وکان معمرا عالی الإسناد).
3- شواهد التنزیل الحاکم الحسکانی ج 1 ص 400 __ 405.
4- سورة فاطر الآیة 32.

ص: 324

فتکون الوصایة لهما من بعد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وبعد أبیهما صلوات الله وسلامه علیه بلا منازع، وذلک بغض النظر عن کل النصوص الأخری التی بینت فضلهما ومنزلتهما من الله سبحانه ومن رسوله صلی الله علیه وآله وسلم.

وبنفس هذه الطریقة أیضا نستطیع أن نثبت إمامة الأئمة التسعة من ذریة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین واحدا بعد واحد، فهم من بنی هاشم وهم أفضلهم، فتکون الوصایة ووراثة الکتاب حقا طبیعیا لهم، وبهذا المعنی وردت الأخبار عن أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فعن أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه فی قول الله سبحانه: ((قُلْ کَفَی بِاللَّهِ شَهِیدًا بَیْنِی وَبَیْنَکُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْکِتَابِ)) قال: (إیانا عنی وعلی علیه السلام أولنا وأفضلنا وخیرنا)(1).

وعن عمر بن أذینة عن برید بن معاویة قال قلت لأبی جعفر صلوات الله وسلامه علیه: ((قُلْ کَفَی بِاللَّهِ شَهِیدًا بَیْنِی وَبَیْنَکُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْکِتَابِ)) قال: (إیانا عنی وعلی علیه السلام أولنا وعلی أفضلنا وخیرنا بعد النبی صلی الله علیه وآله)(2).

المرتبة الثالثة: مرتبة تربیة الأمة عقائدیا وتزکیتهم روحیا
اشارة

إن واحدة من أعظم التکالیف التی کلف بها النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم هی مرتبة تربیة الأمة وتعلیمها والأخذ بیدها إلی سبیل الاستقامة والصلاح قال الله سبحانه: ((هُوَ الَّذِی بَعَثَ فِی الْأُمِّیِّینَ رَسُولًا مِنْهُمْ یَتْلُو عَلَیْهِمْ آَیَاتِهِ وَیُزَکِّیهِمْ وَیُعَلِّمُهُمُ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَإِنْ کَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلَالٍ مُبِینٍ))(3) وقد قام بها علی أحسن وجه وأکمله نبینا الأعظم


1- بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار ص 234 باب مما عند الأئمة علیهم الصلاة والسلام من اسم الله الأعظم وعلم الکتاب الحدیث رقم7.
2- المصدر السابق ص235 الحدیث رقم 12.
3- سورة الجمعة الآیة 2.

ص: 325

صلی الله علیه وآله وسلم فجزاه الله عن أمته أفضل وأحسن جزاء المحسنین.

من سعادة هذه الأمة ان کان مربیها ومعلمها محمد النبی صلی الله علیه وآله وسلم

معلوم بالوجدان أن المعلم کلما کان ارفع درجة کلما کان تعلیمه أرقی وأنفع، وکلما کان زکیا طاهرا کلما کان منهجه أوقع فی القلب وأنجع، وقد کان من سعادة هذه الأمة ان کان المربی والمعلم والمهذب لها هو شخص الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم والذی قد ثبت بالدلیل القطعی انه أکمل البشریة وأرفعهم مقاما. فینبغی علی هذه الأمة أن تقوم بشکر الله سبحانه الذی منّ علیهم بهذه الفضیلة، ووهبهم مثل هذا المعلم والمربی الکامل.

 ولذلک عدّ القرآن الکریم إرسال الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم إلی هذه الأمة فضلا ومنة وینبغی علی الجمیع تذکرها وعدم تجاهلها والتغاضی عنها، قال سبحانه: ((لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ إِذْ بَعَثَ فِیهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ یَتْلُو عَلَیْهِمْ آَیَاتِهِ وَیُزَکِّیهِمْ وَیُعَلِّمُهُمُ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَإِنْ کَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلَالٍ مُبِینٍ))(1).

 فهو صلی الله علیه وآله وسلم الدعوة التی ذخرها نبی الله إبراهیمصلوات الله وسلامه علیه لهذه الأمة المسلمة لما ناجی ربه سبحانه وتعالی بقوله: ((رَبَّنَا وَابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ یَتْلُو عَلَیْهِمْ آَیَاتِکَ وَیُعَلِّمُهُمُ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَیُزَکِّیهِمْ إِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ))(2).

وقد روی عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم انه قال: (أنا دعوة إبراهیم، وکان آخر من بشر بی عیسی بن مریم)(3)


1- سورة آل عمران الآیة 164.
2- سورة البقرة الآیة 129.
3- الجامع الصغیر لجلال الدین السیوطی ج 1 ص 414 __ 415.

ص: 326

شروط ومؤهلات المتصدی لتربیة الأمة 

لابد وبحسب العقل قبل النقل أن یتمتع الشخص المتصدی لتربیة الأمة بشرطین أساسیین لیتسنی له القیام بهذه المهمة الإلهیة العظیمة:

الشرط الأول: أن یکون أفضل من جمیع أفراد الأمة، وتکون مرتبته الکمالیة أعلی کل المراتب الکمالیة فی عالم الوجود، وذلک لان القصد من نصبه مربیا للناس هو الأخذ بأیدیهم إلی أعلی درجات الکمال الذی من أجله خلقوا، وما لم یکن ذلک المربی حائزا لذلک الکمال، وجامعا لکل تلک الرتب، فانه لا یتمکن من الأخذ بید غیره لیوصله إلی ذلک الکمال وتلک المراتب، لان فاقد الشیء لا یعطیه.

الشرط الثانی: لابد لهذا المربی قبل أن یعلم الأمة الکتاب والحکمة أن یکون هو وبالدرجة الأولی عالما بهذا الکتاب متبحراً فیه ومطلعاً علی کل أسراره وجمیع غوامضه، لعدم إمکان أن یکون هذا المربی یعلم غیره ما لا یعلمه، ولا أن یلقی من الحکمة ما لا یحسنه، وفقا لقاعدة فاقد الشیء لا یعطیه بحال من الأحوال.

هذه الشروط لا تتوفر بعد النبی إلا فی أمیر المؤمنین علی صلوات الله وسلامه علیه

ولا خلاف بین المسلمین فی أن النبی صلی الله علیه وآله وسلم کان یجمع بین کلا الشرطین أیام حیاته المبارکة، ولکن الکلام فیمن یجمع هاتین المنزلتین بعد موته صلی الله علیه وآله وسلم وارتحاله إلی الرفیق الأعلی.

 والنبوة وان انتهت بموته صلی الله علیه وآله وسلم إلا أن الأمة ما زالت بعد بحاجة إلی المربی والمعلم والمزکی من بعده، لأنها لم تبلغ مرحلة العصمة والکمال فی حیاة الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم حتی یمکن أن تستغنی وتترک من دون مرب ومعلم وقائد یضع

ص: 327

لها الحلول لمشاکلها المادیة والمعنویة، لذلک یصبح من اللازم والضروری وجود من یخلف النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فی مقام التربیة والتزکیة لهذه الأمة، ویلزم کذلک أن یتمتع هذا الخلیفة المربی بالشرطین السابقین اللذین بیناهما آنفا ولنفس السبب الذی تم ذکره من قبل.

وبناء علی ما تقدم شرحه فی المرتبتین الأولی والثانیة(1) من مراتب أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لا نجد صعوبة فی تحدید الذی یستحق أن یکون خلیفة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فی تولی مرتبة التزکیة والتربیة والتعلیم للأمة.

 فأمیر المؤمنین علی صلوات الله وسلامه علیه هو الأکمل وهو الأفضل علی الإطلاق من بعد شخص الرسول الأعظمصلی الله علیه وآله وسلم، وبهذا یتحقق الشرط الأول من شروط المتصدی لتربیة الأمة.

وکذلک هو الأعلم من بین کل الصحابة بالقرآن وأحکامه ولطائفه ودقائق ترکیبته، وهو الأکثر إحاطة بأسرار الشریعة وأحکامها، فینحصر مقام المربی به دون غیره من الصحابة أجمعین.

حدیث (أنا مدینة العلم وعلی بابها) یشهد بذلک

ویشهد بأعلمیة أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه بالقرآن والشریعة قول النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بحقه: (أنا مدینة العلم وعلی بابها فمن أراد العلم فلیأته من بابه)((2)


1- الأولی هی مرتبة الاصطفاء والثانیة هی مرتبة الوصایة والخلافة.
2- ()المعجم الکبیر للطبرانی ج11 ص55، الاستیعاب لابن عبد البر ج3 ص1102، فیض القدیر للمناوی ج1 ص49 ، تفسیر القرطبی ج9 ص633.

ص: 328

وقد أخرج الحاکم النیسابوری فی المستدرک علی الصحیحین خمسة أحادیث حکم علیها بالصحة تنص بأجمعها علی أن أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه هو باب علم المصطفی صلی الله علیه وآله وسلم فراجع(1).

وقال الفتنی فی تذکرة الموضوعات ردا علی من أنکر صحة الحدیث وحکم بضعفه: (أنا مدینة العلم وعلی بابها أورده من حدیث علی وابن عباس وجابر، قلت: قد تعقب العلائی علی ابن الجوزی فی حکمه بوضعه فإنه ینتهی بطرقه إلی درجة الحسن فلا یکون ضعیفا فضلا عن أن یکون موضوعا، وقال ابن حجر صححه الحاکم وخالفه ابن الجوزی فکذبه، والصواب خلاف قولهما والحدیث حسن لا صحیح ولا کذب)(2).

وقال المناوی فی الفیض القدیر: (وقال ابن معین: لا أصل له. وقال الدارقطنی: غیر ثابت وقال الترمذی عن البخاری: منکر، وتعقبه جمع أئمة منهم الحافظ العلائی فقال: من حکم بوضعه فقد أخطأ والصواب أنه حسن باعتبار طرقه لا صحیح ولا ضعیف ولیس هو من الألفاظ المنکرة التی تأباها العقول...وقال الزرکشی: الحدیث ینتهی إلی درجة الحسن المحتج به ولا یکون ضعیفا فضلا عن کونه موضوعا، وفی لسان المیزان هذا الحدیث له طرق کثیرة فی المستدرک أقل أحواها أن یکون للحدیث أصل فلا ینبغی إطلاق القول علیه بالوضع... ورواه الخطیب فی التاریخ باللفظ المزبور من حدیث ابن معاویة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس ثم قال: قال القاسم: سألت ابن معین عنه فقال: هو صحیح. قال الخطیب: قلت أراد أنه صحیح من حدیث أبی معاویة ولیس بباطل إذ رواه غیر واحد عنه وأفتی


1- المستدرک للحاکم النیسابوری ج 3 ص 126 __ 127 أنا مدینة العلم وعلی بابها.
2- تذکرة الموضوعات للفتنی ص 95.

ص: 329

بحسنه ابن حجر وتبعه البخاری فقال: هو حدیث حسن)(1).

وقال المناوی أیضا: (قال الراغب: والباب یقال لمدخل الشیء وأصله مداخل الأمکنة کباب الدار والمدینة ومنه یقال فی العلم باب کذا وهذا العلم باب إلی کذا أی منه یتوصل إلیه ومنه خبر: «أنا مدینة العلم وعلی بابها » أی به یتوصل)(2).

وقال فی موضع آخر: (أنا مدینة العلم وعلی بابها فمن أراد العلم فلیأت الباب فإن المصطفی صلی الله علیه وسلم المدینة الجامعة لمعانی الدیانات کلها، ولا بد للمدینة من باب فأخبر أن بابها هو علی کرم الله وجهه فمن أخذ طریقه دخل المدینة ومن أخطأه أخطأ طریق الهدی وقد شهد له بالأعلمیة الموافق والمخالف والمعادی والمحالف، خرج الکلاباذی أن رجلا سأل معاویة عن مسألة فقال: سل علیا هو أعلم منی فقال: أرید جوابک قال: ویحک کرهت رجلا کان رسول الله صلی الله علیه وسلم یعزه بالعلم عزا وقد کان أکابر الصحب یعترفون له بذلک وکان عمر یسأله عما أشکل علیه، جاءه رجل فسأله فقال: ههنا علی فاسأله فقال: أرید أسمع منک یا أمیر المؤمنین قال:لا أقام الله رجلیک ومحی اسمه من الدیوان)(3).

ویشهد بذلک أیضا قول عمر بن الخطاب: (علی أقضانا)(4) والقضاء کما لا یخفی یستلزم علوما کثیرة یجب أن یحیط بها القاضی ومن أهم تلک العلوم علم الکتاب وجمیع تفاصیل أحکامه وغوامض أسراره. 


1- فیض القدیر شرح الجامع الصغیر للمناوی ج 3 ص 61.
2- المصدر السابق: ج 1 ص 49.
3- المصدر السابق: ج 3 ص 60 __ 61.
4- مسند احمد بن حنبل ج5 ص113 ، فتح الباری لابن حجر ج7 ص 60 ، الاستیعاب لابن عبد البر ج1 ص17 ، تفسیر ابن کثیر ج1ص155.

ص: 330

وبنفس هذه الطریقة من الاستدلال وبالاستفادة مما سبق یمکن إثبات أحقیة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لتولی منصب التربیة والتعلیم والأخذ بید الأمة نحو أعلی مراتب الکمال، بوصفهم الأکمل والأعلم.

صعوبة القیام بمهمة التربیة وحساسیتها

ولا یتوهم بأن مرتبة تربیة الأمة وتزکیتها یمکن أن تمنح لکل من هب ودب من البشر، وذلک لعظیم أهمیتها وجسیم خطرها، ولأنه لا یجیدها غیر أربابها الشرعیین ومن جعلت له من الله علی نحو الاصطفاء والاختیار.

والنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم علی عظیم منزلته وکماله وشدید تحمله کان یضیق صدره فی بعض الأحیان کما قال الله ((وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّکَ یَضِیقُ صَدْرُکَ بِمَا یَقُولُونَ))(1) فکان غالبا ما یواسیه الله سبحانه ویوصیه بالصبر والثبات کما فی قوله تعالی: ((فَاصْبِرْ عَلَی مَا یَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّکَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّیْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّکَ تَرْضَی))(2)، وقال سبحانه وتعالی ((فَاصْبِرْ کَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ کَأَنَّهُمْ یَوْمَ یَرَوْنَ مَا یُوعَدُونَ لَمْ یَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ یُهْلَکُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ))(3)، فإذا کان صدر النبی صلی الله علیه وآله وسلم یضیق ویستدعی المواساة والوصیة بالصبر فکیف حال من هو غیر معصوم ولا مؤید ومسدد من قبل الله سبحانه وتعالی.

وأمر التربیة والتزکیة والتوجیهات یسیر به المعصوم نبیا کان أو إماما علی وفق برنامج محدد ومعین ووفق نظام وإشراف الهی لا یزید المعصوم صلوات الله وسلامه علیه من تلقاء نفسه شیئا إلا علی وفق إذن خاص ولو حاد عن هذا النهج __ وحاشاه أن یحید __


1- سورة الحجر الآیة 97.
2- سورة طه الآیة رقم 130.
3- سورة الأحقاف الآیة رقم 35.

ص: 331

لتعرض من الله سبحانه وتعالی إلی ما أشارت له الآیة المبارکة ((وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَیْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِیلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْیَمِینِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِینَ * فَمَا مِنْکُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِینَ * وَإِنَّهُ لَتَذْکِرَةٌ لِلْمُتَّقِینَ))(1)، فکیف یکون یا تری حال من یتسلق إلی هذا المنصب ویتصدی له من دون أن یکون لذلک أهلا.

ولا یخفی أیضا ما للتربیة من اثر سلبی أو ایجابی بحسب جنسها فإن تولاّها أولیاء الله الکاملون المعصومون المطهرون من کل رجس وعیب فإن أثرها سیکون ایجابیا تنمو به الأمة وتتکامل وترقی فی سلم الفضائل، أما لو تصدی لتربیة الأمة غیر المعصوم والخائن والغاصب والمداهن والمقصر فان أثره سیکون وخیما وسوف لن تؤول أمور الأمة إلی أکثر من أن یصبح حال أفرادها عین حال ذلک المربی وأوصافهم أوصافه ومعائبهم معائبه، فیقع ذلک المربی فی محذور حمل أثقاله وأوزاره وإثم تولیه وتقدمه علی الأنبیاء والأوصیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بغیر حق، وأثقال وأوزار من یسقط فی حبال اتباعه وطاعته.

إذن فمسألة تولی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لمقاماتهم ومراتبهم التی رتبهم الله فیها، ودفع أعداء أهل البیت لهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عن تلک المراتب والمنازل وتسلطهم علیها ظلما وعدوانا هی مسألة غایة فی الأهمیة وعلی أساسها یترتب هلاک الأمة أو صلاحها، وعلی اتباع احد الفریقین(2) یتوقف رضوان الله والجنة أو غضبه والنار فلینظر کل مسلم ومؤمن فی أی رکاب یضع قدمه.

وهنالک مقامات ومراتب لأهل البیت علیهم السلام أعرضنا عن الخوض فی تفاصیلها طلبا للاختصار. 


1- سورة الحاقة الآیة 44 _ 46.
2- الفریق الأول هم أهل البیت صلوات الله وسلامه علیه، والثانی هم الذین غصبوا مراتبهم ونزوا علی مواضعهم.

ص: 332

المبحث الرابع: بسبب دفع أهل البیت علیهم السلام وإزالتهم عن مراتبهم
محق الدین وتحریف الأحکام

من یتابع التاریخ الإسلامی ویمعن النظر فی مرحلة ما بعد وفاة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم یجد أنّ کارثة عظیمة ورزیة جلیلة قد حلت بالدین الإسلامی وأحکامه، وهذه الکارثة هی ما یمکن أن نسمیها بکارثة محق الدین وتحریف معالم الإسلام وأحکامه.

 فجمیع المسلمین مجمعون علی أن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لم یرحل عن هذه الدنیا إلا بعد أن أکمل مهمته فی التبلیغ وإکمال الدین، وهو ما نص علیه القرآن الکریم بقوله: ((الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَرَضِیتُ لَکُمُ الْإِسْلَامَ دِینًا))(1)، وعلیه فإذا کان الله سبحانه وتعالی قد أکمل دینه الذی ارتضاه للناس، والنبی صلی الله علیه وآله وسلم قد أدی جمیع ذلک بکل إخلاص وحرص إلی أمته، فما الذی جری لینقلب هذا الدین الکامل التام الذی لا یشوبه نقص ولا یعتریه اعوجاج وخلال بضع سنین لیتحول إلی دین مشوه لا روح له، ویصبح المجتمع الإسلامی وخلال مدّة قصیرة لا یتذکر ولا یعرف أوضح الأحکام الشرعیة التی جاء بها النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، والتی مارسها هو وأصحابه ولسنین عدیدة، کالصلاة والصیام وغیرها من الأحکام الواضحة التی کان من المفترض أن تکون بدیهیة لجمیع أفراد الصحابة، فهذه ظاهرة جدیرة بالبحث والتمحیص لمعرفة الأسباب التی أدت إلی هذا الانقلاب السریع والواسع لمبادئ وأسس الشریعة والنظام فی المجتمع الإسلامی بعد رحیل النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وسنثبت فیما یأتی بما لا


1- سورة المائدة الآیة 3.

ص: 333

یقبل الشک ان السبب الأساس لهذا الانقلاب الخطیر هو دفع أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عن مقاماتهم وإزالتهم عن مراتبهم التی رتبهم الله فیها، وفیما یأتی تفصیل لهذه الحقیقة.

هل فی هذه الحقیقة افتراء علی الصحابة؟ 
اشارة

ولیس فیما تقدم أی نوع من أنواع الافتراء والتجنی علی الصحابة، لان ما ذکرناه آنفا لیس من الأشیاء الخفیة، وکل ما قلناه مبنی علی الاعترافات الکثیرة التی شهد بها الصحابة أنفسهم علی أنفسهم، أو علی بعضهم البعض، أو علی حقبة هم عاشوا أیامها ونقلوا لنا حقائقها المریرة.

 فالصحابة أنفسهم قد اعترفوا وبمناسبات شتی بوقوع هذا المحق والتحریف الذی طرأ علی الإسلام وأحکامه وتشریعاته، ولا یخفی أن شهادة الصحابة علی أنفسهم، أو شهادتهم علی بعضهم البعض، أو شهادتهم علی عصرهم الذی عاشوا فیه وشهدوا أیامه، تعدّ مهمة وخطیرة فی نفس الوقت، لأنها شهادة حضور ودرایة ومعایشة للواقع الذین عاشته الأمة الإسلامیة فی تلک المرحلة المهمة من مراحل التاریخ الإسلامی والتی تعدّ مرحلة تأسیس وتأصیل بالنسبة لما بعدها من المراحل.

ولکی لا یکون کلامنا مجرد إدعاء، فاننا نقدم للقارئ العزیز بعض تلک الشهادات التی عکست وبشکل لا یقبل التأویل فداحة تلک الفاجعة، وبشاعة تلک المصیبة التی نزلت علی الإسلام وأهله، وقد اخترنا علی عجل مجموعة من الشواهد لأفراد عاشوا تلک الأیام وسجلوا شهاداتهم ومعایناتهم تارة بأسلوب الحسرة والألم علی ما فات وتمنی أن یعود ما قد کان، وتارة بأسلوب الرفض والنقمة علی الواقع

ص: 334

الذی وصلت إلیه الأمة، وغالبا ما تصاحب هذه الشهادات دموع تجری علی خدود الشهود علها تمسح عنهم بعض الشعور بوخز الضمیر لمشارکتهم بنحو أو بآخر فی إیجاد هذا الواقع المریر.

وسنترک التعلیق علی تلک الشهادات والاعترافات، لأنها وحدها کافیة فی إیضاح الصورة وبشکل لا یقبل الشک.

الشاهد الأول: انس بن مالک یعترف بأنه لم یبق من الدین شیئا حتی الصلاة

قال البخاری فی صحیحه: (حدثنا موسی بن إسماعیل قال حدثنا مهدی عن غیلان عن أنس قال: ما أعرف شیئا مما کان علی عهد النبی صلی الله علیه وسلم؟ قیل: الصلاة، قال: ألیس ضیعتم ما ضیعتم فیها)؟!(1).

 وقال أیضا: (حدثنا عمرو بن زرارة قال أخبرنا عبد الواحد بن واصل أبو عبیدة الحداد عن عثمان بن أبی رواد أخو عبد العزیز قال سمعت الزهری یقول دخلت علی أنس بن مالک بدمشق وهو یبکی فقلت له ما یبکیک فقال لا أعرف شیئا مما أدرکت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضیعت)(2).

الشاهد الثانی: أبو الدرداء یغضب لعدم بقاء شیء من أمر محمد صلی الله علیه وآله وسلم 

 وقال البخاری أیضا: (حدثنا عمر بن حفص قال حدثنا أبی قال حدثنا الأعمش قال سمعت سالما قال سمعت أم الدرداء تقول دخل علی أبو الدرداء وهو مغضب، فقلت: ما أغضبک؟ فقال: والله ما اعرف من أمة محمد صلی الله علیه


1- صحیح البخاری ج 1 ص 134 باب تضییع الصلاة عن وقتها.
2- صحیح البخاری ج 1 ص 134 باب تضییع الصلاة عن وقتها.

ص: 335

وسلم شیئا إلا أنهم یصلون جمیعا)(1).

الشاهد الثالث: سهیل بن مالک یعترف أیضا

وروی الإمام مالک بن أنس بن مالک فی کتابه الموطأ: (حدثنی یحیی عن مالک، عن عمه أبی سهیل بن مالک، عن أبیه، أنه قال: ما أعرف شیئا مما أدرکت علیه الناس، إلا النداء بالصلاة)(2).

الشاهد الرابع: البراء بن عازب یعترف بان الصحابة أحدثوا بعد النبی صلی الله علیه وآله وسلم

وعن البخاری فی صحیحه قال: (حدثنی أحمد بن اشکاب حدثنا محمد بن فضیل عن العلاء بن المسیب عن أبیه قال لقیت البراء بن عازب رضی الله عنهما فقلت طوبی لک صحبت النبی صلی الله علیه وسلم وبایعته تحت الشجرة فقال یا ابن أخی إنک لا تدری ما أحدثنا بعده)(3).

الشاهد الخامس: عبد الله بن عباس یصرح بأن القوم ترکوا السنة بغضا لعلی

أخرج البیهقی فی السنن الکبری: (عن سعید بن جبیر قال کنا عند ابن عباس بعرفة فقال: یا سعید مالی لا أسمع الناس یلبون فقلت یخافون معاویة فخرج ابن عباس من فسطاطه فقال لبیک اللهم لبیک وان رغم أنف معاویة اللهم العنهم فقد ترکوا السنة من بغض علی رضی الله عنه)(4)


1- صحیح البخاری ج 1 ص 159 باب وجوب صلاة الجماعة.
2- کتاب الموطأ للإمام مالک ج 1 ص 72 کتاب الصلاة باب ما جاء فی النداء للصلاة.
3- صحیح البخاری ج 5 ص 65 __ 66 باب غزوة الحدیبیة.
4- السنن الکبری للبیهقی ج 5 ص 113 باب الوقوف بعرفة.

ص: 336

الشاهد السادس: عثمان بن عفان یکتم أحادیث النبی خوف أن یتفرق الناس عنه

أخرج احمد بن حنبل فی مسنده:

(عن أبی صالح مولی عثمان بن عفان قال: سمعت عثمان یقول علی المنبر: أیها الناس إنی کتمتکم حدیثا سمعته من رسول الله صلی الله علیه وسلم کراهیة تفرقکم عنی ثم بدا لی أن أحدثکموه لیختار امرؤ لنفسه ما بدا له سمعت رسول الله صلی الله علیه وسلم یقول: رباط یوم فی سبیل الله تعالی خیر من ألف یوم فیما سواه من المنازل)(1).

لماذا تراجعت الأمة هذا التراجع الخطیر والسریع؟

والسؤال الذی یجب أن نبحث له عن إجابة حقیقیة هو: ما الذی جری علی الصحابة حتی تغیروا وتبدلت أحوالهم بهذه السرعة المذهلة؟ ففقد النبی صلی الله علیه وآله وسلم لم تمض علیه إلا سنوات معدودات، ومع ذلک ماتت سنته وأحکامه، بل مات الإسلام وشرعه، بشهادة من کان یعیش من الصحابة فی تلک الأیام.

 ولا نجد جوابا یمکن أن نرکن إلیه سوی أن هذا الانحراف والتردی الذی وقعت فیه الأمة کاب بسبب فقدانها للمربی والمعلم والحافظ للشریعة، وذلک لان النبی صلی الله علیه وآله وسلم کان یمارس هذا الدور طوال مدّة حیاته الطیبة المبارکة، فلما حل اجله ودعاه خالقه سبحانه وتعالی لجواره أوکل هذه المهمة العظیمة والخطیرة إلی أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه ومن بعده إلی الأئمة من أهل بیته، لکن الأمة وبسبب سوء اختیارها قد حالت بینهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وبین هذا المرتبة التی رتبهم الله فیها، فتقمص هذا المنصب من لا أهلیة له لمنصب المربی والمرشد للأمة، وتصدی لهذه المهمة أناس کانوا


1- مسند احمد للإمام احمد بن حنبل ج 1 ص 65 مسند عثمان بن عفان.

ص: 337

بحاجة مستمرة ودائمة إلی هدایة الآخرین وإرشادهم، وهو لیس افتراء منا علی أحد، فقد قال الأول بعد أن صار حاکما: (إنما أنا بشر ولست بخیر من أحد منکم فراعونی فإذا رأیتمونی استقمت فاتبعونی وان رأیتمونی زغت فقومونی واعلموا أن لی شیطانا یعترینی)(1).

فمن یکون بحاجة دائمة إلی مشورة ومساعدة وهدایة الآخرین کیف له أن یهدی أو یرشد غیره؟ وکیف یستطیع أن یهدی إلی الحق من هو محتاج إلی الآخرین لیقوموه إذا زاغ، وکیف یمنع عن الأمة ویدفع عن المسلمین کید الشیطان ومخططاته من کان له شیطان یعتریه ((قُلْ هَلْ مِنْ شُرَکَائِکُمْ مَنْ یَهْدِی إِلَی الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ یَهْدِی لِلْحَقِّ أَفَمَنْ یَهْدِی إِلَی الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ یُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا یَهِدِّی إِلَّا أَنْ یُهْدَی فَمَا لَکُمْ کَیْفَ تَحْکُمُونَ))(2).

فسبب التراجع المستمر والانحطاط المتواصل لمستوی الدین والإسلام هو دفع أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عن مقاماتهم وإزالتهم عن منازلهم، واعتلاء غیرهم ممن لا أهلیة له ولا لیاقة لتلک المناصب والمراتب، ولهذه الحقیقة شاهد من السنة النبویة الشریفة فقد روی عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم انه قال: (إذا أم الرجل القوم وفیهم من هو خیر منه لم یزالوا فی سفال)(3) وفی حدیث آخر عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم أیضا قال: (ما من قوم ولوا أمورهم رجلا وفیهم من هو خیر منه إلا کان أمرهم إلی سفال)(4).


1- الطبقات الکبری لابن سعد ج3 ص212، تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج30 ص303.
2- سورة یونس الآیة رقم 35.
3- المغنی لعبد الله بن قدامة ج2 ص20، والشرح الکبیر لعبد الرحمن بن قدامة ج2 ص20، وکنز العمال للمتقی الهندی ج6 ص78.
4- شرح الأخبار للقاضی النعمان المغربی ج1 ص197.

ص: 338

المبحث الخامس: سبب مسارعة الأمة إلی دفع أهل البیت علیهم السلام عن مقاماتهم ومنازلهم
اشارة

اتّسم النبی صلی الله علیه وآله وسلم فی حیاته الشخصیة بنمط وأسلوب خاصین، فسیرة الزهد والإعراض عن الحیاة الدنیا وملذاتها کانت صفته التی لازمته طوال مدّة بقائه صلی الله علیه وآله وسلم فی دار الدنیا.

حیاة النبی صلی الله علیه وآله وسلم زهد وعفة وصلاح

وقد نقل لنا الصحابة الذین عاشوا أیام حیاته الطیبة المبارکة هذه الحقیقة فعن عائشة قالت: (ما شبع رسول الله صلی الله علیه وسلم من خبز شعیر یومین متتابعین حتی قبض)(1).

وعن ابن عباس قال: (کان رسول الله صلی الله علیه وسلم یبیت اللیالی المتتابعة طاویا وأهله لا یجدون عشاء وکان أکثر خبزهم خبز الشعیر)(2).

وقد أخرج النووی فی ریاض الصالحین عن عبد الله بن مسعود قال: (نام رسول الله صلی الله علیه وسلم علی حصیر فقام وقد أثر فی جنبه. قلنا: یا رسول الله لو اتخذنا لک وطاء. فقال: ما لی وللدنیا ما أنا فی الدنیا إلا کراکب استظل تحت شجرة ثم راح وترکها، رواه الترمذی وقال حدیث حسن صحیح)(3)


1- سنن الترمذی ج4 ص9 ، مسند أبی داود الطیالسی ص198 ، البدایة والنهایة لابن کثیر ج6 ص58.
2- مسند أحمد بن حنبل ج1 ص255 ، سنن الترمذی ج4 ص10 ، المعجم الکبیر للطبرانی ج11 ص259.
3- ریاض الصالحین لیحیی بن شرف النووی ص 269 __ 270.

ص: 339

ولا یتوهم بأن هذا التقشف فی العیش ناتج عن قصور فی منزلة النبی صلی الله علیه وآله وسلم عند الله سبحانه وتعالی أو هوانه فی الملأ الأعلی حاشاه، بل لأجل أن النبی صلی الله علیه وآله وسلم کان ینظر إلی الدنیا بنظر القرآن الکریم وبعین الملأ الأعلی، فکانت عنده وکل ما فیها متاعاً زائلاً، وان من یرکن إلیها ویغتر بها فقد ((أَسَّسَ بُنْیَانَهُ عَلَی شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِی نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا یَهْدِی الْقَوْمَ الظَّالِمِینَ))(1) ولو شاء صلی الله علیه وآله وسلم أن یدعو الله سبحانه وتعالی أن یملأ له الأرض ذهبا لفعل، فقد روی عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم انه قال: (عرض علی ربی لیجعل لی بطحاء مکة ذهبا. قلت: لا یا رب، ولکن أشبع یوما وأجوع یوما...)(2).

الفقر عنوان حب النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم

لم یکتف النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم من جعل الزهد والترفع عن هذه الدنیا ولذاتها شعارا له، حتی جعل میزان القرب والبعد عنه صلی الله علیه وآله وسلم وعن الله سبحانه هو مقدار زهد العبد وترفعه عنها، فأقربهم إلیه أزهدهم فیها، وأغبطهم عنده أشدهم تعلقا بالآخرة لأنها الأبقی، وقد أوضح النبی صلی الله علیه وآله وسلم هذا المیزان بقوله: (إن أغبط أولیائی عندی لمؤمن خفیف الحاذ ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربه وأطاعه فی السر وکان غامضا فی الناس لا یشار إلیه بالأصابع، وکان رزقه کفافا فصبر علی ذلک)(3)


1- سورة التوبة الآیة رقم 109.
2- مسند احمد ج5 ص254 ، فتح الباری لابن حجر ج11 ص250 ، الجامع الصغیر للسیوطی ج2 ص152.
3- تفسیر البغوی ج1 ص177 ، کنز العمال ج3 ص153 ، الجامع الصغیر ج1 ص337 ، سنن الترمذی ج4 ص6.

ص: 340

وفی حدیث آخر جعل صلی الله علیه وآله وسلم الفقر من علامات حبه، فعن الحاکم النیسابوری فی المستدرک علی الصحیحین قال: (فقد حدثنا علی حمشاذ العدل ثنا محمد بن غالب ثنا عفان ثنا همام حدثنی إسحاق بن عبد الله بن أبی طلحة عن أبیه عن أبی ذر رضی الله عنه انه أتی صلی الله علیه وآله فقال إنی أحبکم أهل البیت فقال له النبی صلی الله علیه وآله فأعد للفقر تجفافا فان الفقر أسرع إلی من یحبنا من السیل من أعلی الأکمة إلی أسفلها. هذا حدیث صحیح علی شرط الشیخین(1) ولم یخرجاه)(2)، فجعل صلی الله علیه وآله وسلم وفقا لهذا الحدیث علامة الحب الصادق لشخص النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم هو الفقر، لأنک لا تجد واحدا من الناس سواء من الصحابة أو من بقیة المؤمنین برسالة النبیصلی الله علیه وآله وسلم إلا ویدعی بأنه یحب النبی صلی الله علیه وآله وسلم ولکن لکل شیء علامة وعلامة صدق المحبة هی الفقر والزهد فی هذه الدنیا الدنیة.

وعن النووی فی ریاض الصالحین عن عبد الله بن مغفل قال: (قال رجل للنبی صلی الله علیه وسلم: یا رسول الله والله إنی لأحبک. فقال: انظر ماذا تقول، قال: والله إنی لأحبک «ثلاث مرات) فقال: إن کنت تحبنی فأعد للفقر تجفافا فإن الفقر أسرع إلی من یحبنی من السیل إلی منتهاه، رواه الترمذی وقال حدیث حسن)(3).

تفاعل المسلمین مع نهج النبی صلی الله علیه وآله وسلم ولکن بشکل مؤقت

وقد سار المسلمون علی هذا النهج فی التقشف والزهد وترک الدنیا سنین عدة، حتی إن بعضهم کان یغمی علیه من شدة الجوع والفقر والحاجة، فعن فضالة بن عبید قال: (إن رسول الله صلی الله علیه وسلم کان إذا صلی بالناس یخر رجال من قامتهم


1- یقصد بالشیخین البخاری ومسلم فمع ان الحدیث صحیح وفقا لموازینهما إلا أنهما لم یخرجاه.
2- المستدرک للحاکم النیسابوری ج 4 ص 331.
3- ریاض الصالحین لیحیی بن شرف النووی ص 269.

ص: 341

فی الصلاة من الخصاصة وهم أصحاب الصفة حتی تقول الأعراب هؤلاء مجانین فإذا صلی رسول الله صلی الله علیه وسلم انصرف إلیهم، فقال لو تعلمون: مالکم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة)(1).

 وبروحیة الزهد فی الدنیا والإعراض عن زخارفها کان یخرج أکثر أصحاب النبیصلی الله علیه وآله وسلم للقتال والجهاد فی سبیل الله سبحانه وتعالی، فعن سعد بن مالک قال: (إنی أول رجل من العرب رمی بسهم فی سبیل الله، ولقد رأیتنا نغزو مع رسول الله صلی الله علیه وسلم وما لنا طعام إلا الحبلة وهذا السمر، حتی إن أحدنا لیضع کما تضع الشاة)(2)، وقال سعد بن أبی وقاص أیضا: (ولقد رأیتنی أغزو فی العصابة من أصحاب محمد صلی الله علیه وسلم ما نأکل إلا ورق الشجر والحبلة حتی إن أحدنا لیضع کما تضع الشاة والبعیر)(3).

انقلاب الصحابة علی نهج النبی صلی الله علیه وآله وسلم وغزوة تبوک أعظم دلیل

لم یستمر ولشدید الأسف ذلک الانشداد والعمل والسیر علی نهج النبی صلی الله علیه وآله وسلم من قبل أصحابه سنین طویلة، فقد صار الشعور بعدم کون الدنیا ذات قیمة وأهمیة یضعف یوما بعد یوم فی قلوب الصحابة، وبدأ الصحابة یتجهون اتجاها مادیا دنیویا ولاسیما فی السنین الأخیرة من عمر النبی صلی الله علیه وآله وسلم وخیر شاهد علی


1- صحیح ابن حبان ج2 ص502 ، فیض القدیر فی شرح الجامع الصغیر للمناوی ج5 ص404، المعجم الکبیر ج18 ص310.
2- مسند احمد بن حنبل ج1 ص181 ، سنن الترمذی ج4 ص12 ، السنن الکبری للبیهقی ج1 ص106.
3- صحیح مسلم ج8 ص215 ، مسند احمد بن حنبل ج1 ص174 ، سنن الدارمی ج2 ص208 ، سنن الترمذی ج4 ص11.

ص: 342

هذه الحقیقة هو ما وقع فی السنة التاسعة للهجرة النبویة المبارکة وبالتحدید فی غزوة تبوک.

ففی هذه السنة وبحسب ما یدعی المؤرخون کان المسلمون یمرون بعسرة شدیدة جراء القحط والجفاف الذی أصاب الحجاز حتی أطلق علی ذلک العام بعام العسرة أو سنة العسرة، وسموا جیش تبوک بجیش العسرة، ولعل سبب تسمیته بهذا الاسم یعود إلی تلک المصاعب الجسام التی واجهها النبی صلی الله علیه وآله وسلم لتهیئة هذا الجیش والتی سنعرف قسما منها فی أثناء تسلسل البحث.

سبب غزوة تبوک وحث النبی صلی الله علیه وآله وسلم للناس علی الالتحاق بالجیش

وقد کان سبب الغزوة کما نص علیه المؤرخون هو أنّ النبی صلی الله علیه وآله وسلم قد وصلت إلیه أخبار مفادها أن ملک الروم قد هیأ جیشا عظیما لغزو المسلمین؛لأنهم وبحسب رؤیته القاصرة صاروا یشکلون تهدیدا حقیقیا للدولة الرومانیة، بسبب ان دعوة النبی صلی الله علیه وآله وسلم والمد الإسلامی وصل إلی أرض الشام التی کانت مستعمرة من مستعمرات الدولة الرومانیة فی ذلک الوقت، فقرر ملک الروم بسبب هذا التهدید غزو الجزیرة العربیة وإخضاعها للسلطة الرومانیة والقضاء علی الدولة الإسلامیة فی نفس الوقت، فحشد جیوشه فی منطقة تبوک المتاخمة لأرض الحجاز، لیبدأ من هنالک الجیش المعتدی بالتحرک.

فرأی النبی صلی الله علیه وآله وسلم ان فی مثل هذا التحرک تهدیداً لأساس الدولة التی شیدت بدماء الشهداء والمضحین والمخلصین من الصحابة، والتی بذل النبی وأهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین الغالی والنفیس من اجل إرساء قواعدها، لذلک قرر مواجهة هذا التهدید بنفسه الشریفة، وان یحشد لمواجهة الجیش الرومانی اکبر عدد ممکن من

ص: 343

المسلمین وحلفائهم.

فأرسل النبی صلی الله علیه وآله وسلم رسله إلی القبائل العربیة وصرح لهم بأنه یرید غزو الروم، خلافا لعادته صلی الله علیه وآله وسلم فی سائر غزواته وحروبه التی سبقت تبوک، إذ لم یکن صلی الله علیه وآله وسلم یخبر عن مقصده إلا خواص أصحابه، حتی لا یتسرب الخبر إلی مسامع العدو، ولیس هذا التصریح بالمقصد إلا من اجل أن یضع النبی الجمیع علی محک الاختبار کی یتبعه من یتبعه علی بینة، ویتخلف من یتخلف عنه عن بینة أیضا، ولیکشف، من ثم، إلی الأجیال وعلی امتداد العصور تلک الظروف القاسیة التی کانت تحیط به وبدعوته، ولیبین لنا وللأجیال زیف تلک الأمة المتسترة بلباس الإسلام والإیمان والتی متی ما محصت بالبلاء والاختبار ظهرت حقیقتها جلیة واضحة للعیان.

کیف استجاب الصحابة لدعوة النبی صلی الله علیه وآله وسلم بالالتحاق بجیش تبوک

بعدما دعا الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم الناس للتجهز وإعداد العدة للمسیر إلی تبوک لقتال الروم استقبل الناس هذه الدعوة علی ثلاثة أقسام نستطیع أن نجمل حولهم القول فیما یأتی:

القسم الأول: وهم الذین استجابوا لدعوة الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله بنفس مطمئنة وقلب عامر بالإیمان تارکین من خلفهم النساء والأطفال امتثالا لأمر النبی صلی الله علیه وآله وسلم وهؤلاء ولشدید الأسف القلة القلیلة من ذلک الجیش کما سنعرف.

القسم الثانی: وهم الذین تجهزوا واستجابوا لدعوة النبی صلی الله علیه وآله وسلم کرها وبلا أدنی رغبة للخروج والشخوص لمواجهة العدو وترک المدینة، وهذه الشریحة من الناس کانت تمثل الطبقة الکبری من الجیش، والذین تشبثوا بمختلف الأعذار

ص: 344

والحجج فی سبیل التخلف عن الجیش، فتجهزوا یوم تجهزوا وهم کارهون.

 وهذه الحقیقة المرة صرح بها المؤرخون أمثال ابن هشام فی سیرته، إذ قال: (إن رسول الله أمر بالتهیؤ لغزو الروم وذلک فی زمن من عسرة الناس وشدة من الحر وجدب فی البلاد، وحین طابت الثمار والناس یحبون المقام فی ثمارهم وظلالهم ویکرهون الشخوص)(1).

وقال ابن الأثیر فی تاریخه: (وکانت الثمار قد طابت فأحب الناس المقام فی ثمارهم فتجهزوا علی کره)(2).

وقال المقریزی وغیره من المؤرخین: (وکان الناس فی حر شدید وحین طابت الثمار وأحبت الظلال والناس یحبون المقام ویکرهون الشخوص عنها...)(3).

من هم المعبر عنهم بلفظ الناس فی القسم الثانی
اشارة

ویظهر من النصوص السابقة عدة من الحقائق المهمة:

1: إن عدد الکارهین للخروج والرافضین للاستجابة لأمر النبی صلی الله علیه وآله وسلم قد بلغ مقدارا کبیرا جدا بحیث استدعی المؤرخین إلی وصفهم بکلمة الناس، فقال عنهم ابن هشام (والناس یحبون المقام... ویکرهون الشخوص) وقال ابن الأثیر (فأحب الناس المقام... فتجهزوا علی کره) وقال المقریزی (والناس یحبون المقام ویکرهون الشخوص) فإطلاق اسم الناس علیهم دلیل علی أن اغلب من التحق بجیش العسرة


1- السیرة النبویة لابن هشام ج4 ص943 ، السیرة الحلبیة ج3 ص99 ، الدر المنثور للسیوطی ج3 ص248 ، تاریخ الإسلام للذهبی ج2 ص627.
2- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج2 ص 277.
3- إمتاع الأسماع ج2 ص48 ، تاریخ الطبری ج2 ص366 ، الدر المنثور ج3 ص248 ، تاریخ مدینة دمشق ج2 ص33.

ص: 345

کان موصوفاً بالتثاقل والکراهیة للشخوص والامتثال لأمر النبی صلی الله علیه وآله وسلم، إذ لو کان الرافض والمتثاقل فئة قلیلة محدودة لما صح وصفهم بالناس، إذ إن إطلاق لفظ الناس یقتضی الأعم الأغلب من سکان المدینة المنورة لا فئة قلیلة منهم، وعلی هذا جرت عادة العرب فی کلامهم، وهو فی آیات القرآن الکریم من الوضوح بمکان قال سبحانه وتعالی: ((یَا أَیُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّکُمُ الَّذِی خَلَقَکُمْ وَالَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ))(1)، وقال سبحانه وتعالی أیضا: ((وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِی هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ کُلِّ مَثَلٍ فَأَبَی أَکْثَرُ النَّاسِ إِلَّا کُفُورًا))(2)، وقال سبحانه وتعالی أیضا: ((یَا أَیُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّکُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَیْءٌ عَظِیمٌ))(3).

 2: وکذلک یظهر من النصوص السابقة، ان العدد الغالب من الصحابة بدأ یتجه اتجاها دنیویا محضاً غیر ما کان یعهده الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم منهم، فقد کانت غایة کل واحد منهم فیما سبق من الأیام، أن ینال الثواب والأجر الذی وضعه الله سبحانه وتعالی للمجاهدین، فکانوا فیما سبق علی استعداد لترک الدنیا وما فیها من أهل وولد وأموال وثمار من اجل النبیصلی الله علیه وآله وسلم والقتل فی سبیل الله والجنة. أما الیوم وفی تبوک بالذات وبعد طول المدة واشتداد المحنة قست القلوب فتثاقلوا عن النصرة ورضوا بالعرض الأدنی وحلت الدنیا فی أعینهم.

القسم الثالث: العاصون لأمر النبی صلی الله علیه وآله وسلم من الصحابة 

وهم المتخلفون الذین واجهوا أمر النبی بالتجهیز لجیش العسرة بالعصیان والتحدی، وهم ما بین الثلاثین ألفا والسبعین ألفا من المقاتلین، قال جلال الدین السیوطی: (قال ابن إسحاق کانوا ثلاثین ألفا وقال أبو زرعة الرازی کانوا سبعین


1- سورة البقرة الآیة رقم 21.
2- سورة الإسراء الآیة رقم 89.
3- سورة الحج الآیة رقم 1.

ص: 346

ألفا)(1).

وقد نص المؤرخون علی ان عدد المتخلفین عنه صلی الله علیه وآله وسلم فی غزوة تبوک (هم لیسوا بأقل العسکرین)(2) أی إن عدد من خرج مع رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فی عسکره کان مساویاً لعدد من تخلف، فإذا عرفنا أنّ عدد من خرج مع النبی صلی الله علیه وآله وسلم کان یتراوح ما بین الثلاثین والسبعین ألف مقاتل علی اختلاف التقادیر، فیصبح عدد المتخلفین عنه صلی الله علیه وآله وسلم یتراوح ما بین الثلاثین والسبعین ألف متخلف.

أفعال یستنکرها الدین ویندی لها جبین الأحرار من أهل الإیمان

لم یکتف هذا القسم الثالث من العاصین بمخالفة الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وعدم التهیؤ والاستعداد للخروج معه حتی تعدی خبثهم الحد، وبدأ وضعهم یأخذ أبعادا جدیدة وخطیرة لیست فی صالح النبی صلی الله علیه وآله وسلم ولا الرسالة، فتشکلت بعض الجماعات المناوئة لتحرکات النبی صلی الله علیه وآله وسلم کان هدفها الوقوف بوجه مخططاته وإفشال مساعیه لجمع الجیش وتجهیزه.

منهم الذین اجتمعوا فی بیت من بیوت المدینة یثبطون الناس ویخوفونهم من لقاء الروم حتی اضطر النبی صلی الله علیه وآله إلی ان یبعث إلیهم من یفرقهم ویحرق البیت علیهم وینهی اجتماعهم(3).

ومنهم الجد بن قیس الذی کان یحرض الناس علنا ویخوفهم قتال الروم


1- الدیباج علی مسلم لجلال الدین السیوطی ج 6 ص 120.
2- الطبقات الکبری لابن سعد ج2 ص165، تاریخ الطبری ج2 ص368، البدایة والنهایة ج5 ص11، السیرة النبویة ج4 ص12، تاریخ الإسلام للذهبی ج2 ص631.
3- السیرة النبویة لابن هشام ج4 ص944 ، البدایة والنهایة لابن کثیر ج5 ص7 ، السیرة النبویة لابن کثیر ج4 ص6.

ص: 347

ویثبطهم عن الالتحاق بالنبی صلی الله علیه وآله وسلم.

ومنهم الذین کانوا یشیعون بین المسلمین ان لا تنفروا فی فصل الصیف وحره وانتظروا فصل الشتاء وطیب جوه فأنزل الله سبحانه وتعالی فیهم قوله: ((فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَکَرِهُوا أَنْ یُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِی الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ کَانُوا یَفْقَهُونَ (81) فَلْیَضْحَکُوا قَلِیلًا وَلْیَبْکُوا کَثِیرًا جَزَاءً بِمَا کَانُوا یَکْسِبُونَ))(1).

وأضمر کثیر من هؤلاء المتخلفین بل وحتی کثیر من الملتحقین علی کره وإجبار ما فی نفوسهم من العداوة والنفاق والتثاقل مخافة أن ینزل فیهم قرآن یتلی یخبر الناس بحقیقة ضمائرهم ویکشف الستار عن مکنون سرائرهم وهم الذین وصفهم الله سبحانه وتعالی بقوله ((یَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَیْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِی قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ))(2).

وأنت خبیر بحکمة نزول القرآن الکریم فی کل حدث فی هذه الأیام وفی کل فعل بل وحتی فی کل ضحکة لهؤلاء المتمردین کما فی قوله تعالی ((فَلْیَضْحَکُوا قَلِیلًا وَلْیَبْکُوا کَثِیرًا))(3) فهو دلیل علی أن تلک الأقوال والأفعال وحتی الضحکات کانت تجد لها أرضا خصبة تؤثر فیها، وهو دلیل علی أن هذه الجماعات المتمردة کان لها نفوذ واسع وقوی وکلمة مسموعة فی صفوف تلک الأمة، وإلا کیف استطاعوا التأثیر فی الأمة وإقناع ثلاثین ألفا أو سبعین ألفا.

وعلی أی حال فقد کانت هذه الظاهرة من العصیان الجماعی لأوامر النبی صلی الله علیه وآله وسلم والوقوف العلنی بوجهه صلی الله علیه وآله وسلم هی بدایة تحول جدید للصحابة وهو ما


1- البدایة والنهایة ج5 ص6 ، إمتاع الأسماع للمقریزی ج8 ص392 ، السیرة الحلبیة ج3 ص 103.
2- سورة التوبة الآیة رقم 64.
3- سورة التوبة الآیة رقم 82.

ص: 348

یمکن أن نعدّه بدایة ظهور الردة العلنیة والجماعیة التی أعقبتها فتنٌ بعدها فتناً وردات.

ولیست هذه الحادثة الشاهد الوحید الذی یبین هذا التحول والتبدل فإن شئت فتأمل فی بعث النبی صلی الله علیه وآله وسلم لجیش أسامة وتخلفهم عن الجیش ورفضهم تسییره حتی لعنهم النبی صلی الله علیه وآله وسلم وغیرها من الحوادث التی تجعل الحق أمامک کالشمس.

نتائج مهمة نختم بها هذا المبحث
اشارة

یمکن ومن خلال ما مر أن نخلص إلی عدة نتائج مهمة یتضح من خلالها علة مسارعة الأمة بعد الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بتنحیة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عن مقاماتهم ومراتبهم التی رتبهم الله فیها، ومن هذه النتائج ما یأتی:

الأولی: انهم ملوا سیرة النبی صلی الله علیه وآله وسلم ومنهجه فی الزهد وترک الدنیا

 ان کراهة المسلمین للقتل والقتال والتثاقل عن التضحیة والرکون إلی الدنیا وکراهیة خروجهم مع الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فی تبوک وغیرها(1) والتخلف عنه بحجة ان الثمار قد طابت والظلال قد حلت فی أعینهم وغیر ذلک من الأسباب التافهة، کل هذه الحجج والأعذار توضح ان المسلمین قد ملوا فی السنوات الأخیرة


1- منها: أنهم کرهوا الجهاد وجادلوا رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فی ترکه ورغبوا فی الدنیا وزهدوا فی ثواب الآخرة وبخلوا بأنفسهم عن نصره حتی أنزل الله تعالی فیهم قرآنا، فقال تعالی: «کما أخرجک ربک من بیتک بالحق وإن فریقا من المؤمنین لکارهون * یجادلونک فی الحق من بعد ما تبین کأنما یساقون إلی الموت وهم ینظرون» سورة الأنفال 5 __ 6.  ومنها: أن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم أمرهم بالخروج إلی بدر فتثاقلوا عنه واحتجوا علیه ودافعوه عن الخروج معه فأنزل الله تعالی فیهم: (ألم تر إلی الذین قیل لهم کفوا أیدیکم وأقیموا الصلاة وآتوا الزکاة فلما کتب علیهم القتال إذا فریق منهم یخشون الناس کخشیة الله أو أشد خشیة وقالوا ربنا لم کتبت علینا القتال لولا أخرتنا إلی أجل قریب) راجع کتاب وقفة مع الدکتور البوطی لهشام آل قطیط ص149.

ص: 349

من حیاة النبی صلی الله علیه وآله وسلم من الفقر وحیاة التقشف التی کان یمتاز بها النبی صلی الله علیه وآله وسلم ویشجع المجتمع علیها، وخافوا من القتل والقتال فی سبیل الله سبحانه.

 ونفس هذا السبب قد شارک ولحد بعید فی انقلاب الناس وإعراضهم عن بیعة الإمام علی صلوات الله وسلامه علیه بعد وفاة الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فانهم قد تیقنوا بأن علیا صلوات الله وسلامه علیه لو قدر له أن یصل إلی الخلافة بعد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فانه سیسیر فیهم بنفس سیرة النبی صلی الله علیه وآله وسلم وسیستمر من ثم فی جهاد الکفار والمنافقین وسیستمر علی نفس المنهج فی التقشف والزهد، فکرهوا ذلک وأحبوا الراحة وطمحوا إلی الدعة والترف فی العیش، وأحبوا الدنیا التی هی رأس کل خطیئة ورکنوا إلیها، وضربوا بکل وصایا الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم عرض الحائط.

فالأمة جمیعا إلا ما خرج بالدلیل کانت تتمنی أن یتغیر الحال الذی کان علی عهد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، لذلک ما إن بادر جمع منهم إلی تنحیة الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عن مقامهم ومراتبهم التی رتبهم الله فیها حتی أطاعتهم الأمة بکل أفرادها، وهو ما یدلل علی وجود تواطؤ اجتماعی علی غصب حق أهل البیت صلی الله علیه وآله وسلم ورفض ولایتهم وکراهیة أمرهم، ولکن لم یکن للبعض الجرأة علی المبادرة فی التغییر والرفض، وما إن تجرأ بعضهم وأسس هذا الأساس حتی عمه الجمیع بالرضا والقبول فعمهم الله سبحانه باللعن والسخط.

الثانیة: دور المتخلفین عن غزوة تبوک فی دفع أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عن مراتبهم

لقد حاول البعض ان یضع ذلک العدد الضخم من المتخلفین عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم فی غزوة تبوک فی خانة (عبد الله بن أُبی) المنافق تمویها وطمسا للحقیقة(1)،


1- قال ابن کثیر فی السیرة النبویة ج4 ص11 __ 12: (قال یونس بن بکیر عن ابن إسحاق : ثم استتب برسول الله صلی الله علیه وسلم سفره وأجمع السیر، فلما خرج یوم الخمیس ضرب عسکره علی ثنیة الوداع ومعه زیادة علی ثلاثین ألفا من الناس، وضرب عبد الله بن أبی عدو الله عسکره أسفل منه وما کان فیما یزعمون بأقل العسکرین. فلما سار رسول الله صلی الله علیه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبی فی طائفة من المنافقین وأهل الریب).

ص: 350

والتحقیق یکشف لنا ان العدد الأکبر منهم کان من المهاجرین والأنصار من غیر جماعة عبد الله بن أُبی، ویدل علی ذلک روایة کلثوم بن الحصین لما سأله النبی عن أقوام قد تخلفوا عنه صلی الله علیه واله، فقال صلی الله علیه وآله لکلثوم وقلبه یعتصر ألما: (ما منع احد أولئک حین تخلف أن یحمل علی بعیر من إبله امرأ نشیطا فی سبیل الله، ثم قال صلی الله علیه وآله وسلم: إن أعز أهلی علی أن یتخلف عنی المهاجرون والأنصار وغفار وأسلم)((1).

وقال الثعلبی فی تفسیر قوله سبحانه وتعالی: ((یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا مَا لَکُمْ إِذَا قِیلَ لَکُمُ انْفِرُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَی الْأَرْضِ أَرَضِیتُمْ بِالْحَیَاةِ الدُّنْیَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَیَاةِ الدُّنْیَا فِی الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِیلٌ))(2): (الآیة فیها حث من الله سبحانه لأصحاب رسول الله صلی الله علیه وسلم علی غزوة تبوک، وذلک أن رسول الله صلی الله علیه وسلم لما رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم، وذلک فی زمان عسرة من الناس وجدب من البلاد وشدة من الحر فأحرقت النخل وطابت الثمار وعظم علی الناس غزوة الروم، وأحبوا الظلال والمقام فی المسکن والمال، فشق علیهم الخروج إلی القتال)(3) فالآیة باعتراف الثعلبی فیها حث لأصحاب رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وهم من عظم


1- () صحیح ابن حبان ج16 ص 248، المعجم الکبیر للطبرانی ج19 ص 186، موارد الظمآن للهیثمی ج5 ص355 ، البدایة والنهایة ج5 ص24، السیرة النبویة لابن هشام ج4 956، السیرة النبویة لابن کثیر ج4 ص34، المستدرک للحاکم النیسابوری ج3 ص594.
2- سورة التوبة الآیة رقم 38.
3- تفسیر الثعلبی ج 5 ص 46 تفسیر سورة التوبة الآیة 38.

ص: 351

وشق علیهم الخروج إلی القتال.

وقال السمعانی فی تفسیر هذه الآیة: (نزلت الآیة فی غزوة تبوک، وکانت الغزوة فی حارة القیظ حین أینعت الثمار وطابت الظلال فشق علی المسلمین مشقة شدیدة وتخلف بعضهم بالعذر، وتخلف بعضهم بلا عذر، فأنزل الله تعالی هذه الآیة. وقوله: «اثاقلتم إلی الأرض» أی: تثاقلتم؛ وحقیقة المعنی: قعدتم عن الغزو وکرهتم الخروج)(1). وقوله: فشق علی المسلمین، وقوله: وتخلف بعضهم، أی بعض المسلمین بعذر، وقوله: وتخلف بعضهم، أی بعض المسلمین بلا عذر، فیه إشارة واضحة لما قدّمنا.

والمهم أنْ نعرف أنّ هذه التکتلات المتمردة من المهاجرین والأنصار وغفار وأسلم کان لها الأثر البالغ فی سلب البیعة من الإمام أمیر المؤمنین علی صلوات الله وسلامه علیه وإنکار الوصیة له، لان من لا یطیع الرسول صلی الله علیه وآله وسلم بتجهیز غزوة، کیف یعقل أن یطیعه فی تولیة الإمام علی صلوات الله وسلامه علیه من بعده، والذی یعلم الجمیع بأنه صلوات الله وسلامه علیه نسخة منه صلی الله علیه وآله وسلم لا بل هو نفسه.

الثالثة: تقهقر الأنصار عن نصرة النبی صلی الله علیه وآله وسلم أدی إلی انقلاب موازین الصراع 

 إن الأنصار بوصفهم قد بایعوا النبی صلی الله علیه وآله وسلم علی النصرة والمؤازرة وردع کل من یح_اول تثبیط الناس عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، ولکنهم فی تبوک بالذات صار یعصی النبی صلی الله علیه وآله وسلم بمرأی ومسمع منهم دون أن یحرکوا ساکنا، فلم یتکلف واحد منهم الرد علی التحریض العلنی للجد بن قیس، أو غیره من الذین اجتمعوا فی بیت من بیوت المدینة، یحرضون الناس علی التخلف حتی أحرق النبی صلی الله علیه وآله وسلم


1- تفسیر السمعانی ج 2 ص 309.

ص: 352

علیهم البیت، وهذا السکوت إن دل علی شیء، فإنه یدل علی أن الأنصار قد تنصلوا عن البیعة، وتخاذلوا عن النصرة، فلم یعودوا یردّون جورا ولا هم ینصرون، حتی إن کثیرا منهم بقی مع القواعد والمتخلفین عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.

وهذا التخاذل والنکث للبیعة والنصرة للنبی صلی الله علیه وآله وسلم کان له الأثر البالغ فی سلب أهل البیت حقهم وتنحیتهم عن مراتبهم وإزالتهم عن مقامهم الذی أقامهم الله سبحانه وتعالی فیه، لان الأنصار لو کان قد قدر لهم أن یقفوا مع أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لما کان لأحد القدرة علی منازعة أهل البیت حقهم ولما طمع فی إزالتهم عن مراتبهم طامع.

من هذا المنطلق نفهم سبب قیام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه بحمل السیدة الطاهرة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها لیلا لیطوف وإیاها علی مجالس الأنصار یسألانهم النصرة علی من ظلمها وظلم أهل بیتها، وإلقاء الحجة علیهم ووضعهم أمام مسؤولیاتهم وشروطهم التی اشترطوها علی أنفسهم یوم بایعوا النبی صلی الله علیه وآله وسلم ووعدوه النصرة لدینه، لکنهم وبعد کل مرة یطلب منهم ذلک یجیبون: (یا بنت رسول الله قد مضت بیعتنا لهذا الرجل ولو أن زوجک وابن عمک سبق إلینا قبل أبی بکر ما عدلنا به فقال لهم علی علیه السلام: أفکنت ادع رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فی بیته لم ادفنه وأخرج أنازع سلطانه؟ فقالت لهم فاطمة صلوات الله وسلامه علیها: ما صنع أبو الحسن إلا ما کان ینبغی له ولقد صنعوا ما الله حسیبهم وطالبهم)(1) ولم یکن جوابهم هذا بمستغرب بعد أن سبق وشرحنا حالهم وتثاقلهم عن النبی ونصرته، فکیف یا تری ینصرون علیا وأهل بیته وهم قد ملوا أیام رسول الله وکل شیء یمکن أن یذکرهم أیامه ویعید علیهم سنته.


1- الإمامة والسیاسة لابن قتیبة ج1 ص19 تحقیق الزینی ، شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج6 ص13، غایة المرام للسید هاشم البحرانی ج6 ص 18، شرح إحقاق الحق للسید المرعشی ج10 ص295.

ص: 353

وَلَعَنَ اللهُ أُمَّةً قَتَلَتْکُمْ

اشارة

المبحث الأول: إثبات الصدور لهذه الفقرة الشریفة

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه العبارة الشریفة

                     1: وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً

                     2: قَتَلَتْکُمْ

المبحث الثالث: اللعن یتعدد بتعدد السبب الموجب له

المبحث الرابع: هل یمکن أن تکون لأبدان أهل البیت علیهم السلام قابلیة البقاء والخلود

المبحث الخامس: أدلة إثبات قتل الأمة لأهل البیت علیهم السلام

المبحث السادس: أدلة جواز لعن قتلة أهل البیت علیهم السلام 

ص: 354 

ص: 355

وَلَعَنَ اللهُ أُمَّةً قَتَلَتْکُمْ فی هذه الفقرة الشریفة کغیرها من الفقرات مباحث مهمة نستعرضها فیما یأتی:

المبحث الأول: إثبات الصدور لهذه الفقرة الشریفة

تواتر اللعن علی قتلة أهل البیت عامة وعلی قتلة الإمام أبی عبد الله الحسین صلوات الله وسلامه علیه خاصة فی متون الزیارات والروایات اخترنا منها ما یأتی:

عن صفوان الجمال قال: (استأذنت الصادق علیه السلام لزیارة مولانا الحسین علیه السلام، فسألته أن یعرفنی ما أعمل علیه...ثم تأتی باب القبة وقف من حیث یأتی الرأس وقل: السلام علیک یا وارث آدم صفوة الله السلام علیک یا وارث نوح نبی الله... فلعن الله أمة قتلتک ولعن الله أمة ظلمتک ولعن الله أمة سمعت بذلک فرضیت به یا مولای یا أبا عبد الله أشهد أنک کنت نورا فی الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة لم تنجسک الجاهلیة بأنجاسها ولم تلبسک من مدلهمات ثیابها، وأشهد أنک من دعائم الدین وأرکان المؤمنین...)(1)


1- مصباح المتهجد للشیخ الطوسی- ص 717 __ 721

ص: 356

ومنها ما عن یونس بن عبد الرحمن انه قال للإمام الصادق: (جعلت فداک إنی کثیرا ما أذکر الحسین صلوات الله وسلامه علیه فأی شیء أقول؟ فقال: قل صلی الله علیک یا أبا عبد الله تعید ذلک ثلاثا فإن السلام یصل إلیه من قریب ومن بعید، ثم قال: إن أبا عبد الله الحسین صلوات الله وسلامه علیه لما قضی بکت علیه السماوات السبع والأرضون السبع وما فیهن وما بینهن ومن ینقلب فی الجنة والنار من خلق ربنا وما یری ومالا یری... ثم امش إلیه حتی تأتیه من قبل وجهه فاستقبل وجهک بوجهه وتجعل القبلة بین کتفیک ثم قل: السلام علیک یا حجة الله وابن حجته، السلام علیک یا قتیل الله وابن قتیله... لعنت أمة قتلتکم وأمة خالفتکم وأمة جحدت ولایتکم وأمة ظاهرت علیکم وأمة شهدت ولم تستشهد، الحمد لله الذی جعل النار مثواهم وبئس ورد الواردین وبئس الورد المورود والحمد لله رب العالمین وصلی الله علیک یا أبا عبد الله أنا إلی الله ممن خالفک بریء)(1).

وعن الإمام أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه أیضا قال: (إذا دخلت الحائر فقل: اللهم ان هذا مقام أکرمتنی به وشرفتنی به، اللهم فأعطنی فیه رغبتی علی حقیقة إیمانی بک وبرسلک، سلام الله علیک یا ابن رسول الله... ثم کبر سبع تکبیرات، ثم تمشی قلیلا، ثم تستقبل القبر وتقول: الحمد لله الذی لم یتخذ ولدا ولم یکن له شریک فی الملک وخلق کل شیء فقدره تقدیرا، اشهد انک دعوت إلی الله والی رسوله، ووفیت لله بعهده، وقمت لله بکلماته، وجاهدت فی سبیل الله حتی أتاک الیقین لعن الله أمة قتلتک، ولعن الله أمة خذلتک، ولعن الله أمة خذلت عنک)(2)


1- الکافی للشیخ الکلینی ج 4 ص 575 __ 577.
2- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص 358 __ 362 الباب 79 زیارات الحسین بن علی صلوات الله وسلامه علیها.

ص: 357

وعن أبان بن عثمان، عن أبی همام، عن أبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه، قال: (إذا أتیت قبر الحسین صلوات الله وسلامه علیه فقل: السلام علیک یا أبا عبد الله، لعن الله من قتلک، ولعن الله من شرک فی دمک، ومن بلغه ذلک فرضی به، وأنا إلی الله منهم بریء)(1).

وعن الحسین بن عطیة أبی ناب بیاع السابری قال: سمعت أبا عبد الله صلوات الله وسلامه علیه وهو یقول: (من أتی قبر الحسین صلوات الله وسلامه علیه کتب الله له حجة وعمرة وعمرة وحجة، قال: قلت: جعلت فداک فما أقول إذا أتیته، قال: تقول: السلام علیک یا أبا عبد الله، السلام علیک یا ابن رسول الله، السلام علیک یوم ولدت ویوم تموت ویوم تبعث حیا، اشهد انک حی شهید ترزق عند ربک، وأتوالی ولیک وأبرأ من عدوک، وأشهد أن الذین قاتلوک و انتهکوا حرمتک ملعونون علی لسان النبی الأمی)(2).

ولو أردنا الاستقصاء لکل ما ورد من لعن للأمة التی قتلت أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین والإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه لطال بنا المقام وفیما قدمنا کفایة لمتدبر.

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه العبارة الشریفة
1: وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً

 الواو عاطفة وما بعدها معطوف علی ما سبق، وقد مر فی الفقرات السابقة معنی اللعن والأمة، فراجع(3).


1- المصدر السابق ص 392 __ 393.
2- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص 390 __ 391.
3- راجع شرح عبارة (فَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً أَسَّسَتْ أَسَاسَ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ عَلَیْکُمْ أَهْلَ الْبَیْتِ) المتقدم شرحها.

ص: 358

2: قَتَلَتْکُمْ

 القتل: وهو کما عرفه الفراهیدی بقوله: (قتله إذا أماته بضرب أو جرح أو علة)(1).

وهو کما فی الجواهر: (إزهاق النفس المعصومة وإخراجها من التعلق بالبدن)(2).

وقال أبو هلال العسکری فی الفرق ما بین القتل والموت: (القتل هو نقض البنیة الحیوانیة ولا یقال له قتل فی أکثر الحال إلا إذا کان من فعل آدمی...والموت عرض أیضا یضاد الحیاة...ولا یکون إلا من فعل الله...والموت ینفی الحیاة مع سلامة البنیة، ولابد فی القتل من انتقاض البنیة)(3).

والقتل غالبا ما یصحبه إذلال حین الإماتة، قال صاحب معجم مقاییس اللغة: (قتل: القاف والتاء واللام أصل صحیح یدل علی إذلال وإماتة یقال قتله قتلا)(4).

وضمیر الجمع فی (قَتَلَتْکُمْ) یعود إلی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین والجملة معطوفة علی ما قبلها.

المبحث الثالث: اللعن یتعدد بتعدد السبب الموجب له

کثیرا ما نری فی زیارة عاشوراء أن اللعن للشخص الواحد أو للفئة الواحدة یتکرر لأکثر من مرة، وعلیه فربما یتصور البعض بأن هذا التکرار یعد غیر منسجم مع البلاغة ومع ما عرف من فصاحة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین. 


1- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 5 ص 127 باب القاف والتاء واللام معهما.
2- جواهر الکلام للشیخ الجواهری ج 42 ص 11.
3- الفروق اللغویة لأبی هلال العسکری ص 420 تحت رقم 1688 الفرق بین القتل والموت.
4- معجم مقاییس اللغة لأبی الحسین أحمد بن فارس زکریا ج 5 ص 56.

ص: 359

 والصحیح انه لیس کل أقسام وأنواع التکرار یعدّ لغوا وغیر منسجم مع البلاغة، لان التکرار الذی یکون من ورائه هدف یستدعی التکرار یستثنی من اللغو وعدم البلاغة. والقرآن الکریم ملیء بالآیات المکررة کقوله سبحانه وتعالی ((فَبِأَیِّ آَلَاءِ رَبِّکُمَا تُکَذِّبَانِ)) فقد تکرر ذکرها فی سورة الرحمن واحداً وثلاثین مرة، ولا یوجد قائل من المسلمین یقول بزیادتها ولغویتها والعیاذ بالله بحجة تکرارها وذلک لان فی تکرارها، هدفاً یصحح هذا التکرار.

وتکرار اللعن للأمة أو غیرها من المفردات التی کررت أو ستکرر لاحقا فی فقرات الزیارة لیس بخارج عن مثل هذا التکرار الهادف، ومن أهم أهداف تکرار اللعن فی الزیارة هو تبیان الأدوار المتعددة التی قامت بها تلک الجماعات والشخصیات الملعونة، والتی أوجبت تعدد اللعن وتکراره.

فقد تلعن الأمة نتیجة تأسیسها للظلم والجور علی أهل البیت صلی الله علیه وآله وسلم، فتستحق بذلک الشمول بالغضب والطرد من الرحمة الإلهیة، وقد تلعن تارة أخری ومن منظور آخر ولسبب ثانٍ یستوجب اللعن، کمثل أن یکونوا من الدافعین لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عن مقاماتهم ومراتبهم التی رتبهم الله فیها أو بسبب قتلهم لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أو غیر ذلک.

وقد یلعن الفرد بصفته فردا ضمن أمة ارتکبت فعلا موجبا للعن، کأن یکون ممن شارک فی قتل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، أو یکون ممن مهد ومکن الآخرین من قتلهم، وقد یلعن بصفته فرداً ینتمی إلی بیت من البیوت الملعونة کآل أمیة وغیرهم، وقد یلعن کفرد بقطع النظر عن ارتباطه بالأمة أو بالبیت الذی ینتمی إلیه، فیلعن

ص: 360

علی اعتبار ان له دوراً شخصیاً مهماً فی معرکة کربلاء کما لعن الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله وأمثاله.

فیتبین مما سبق ان لتکرار بعض فقرات وألفاظ زیارة عاشوراء هدفاً مهماً للغایة، فبالتکرار نکتشف الأدوار المتعددة التی قامت بها تلک الشخصیات والجماعات التی کان لأفعالهم وأقوالهم تأثیر مباشر أو غیر مباشر فی إحداث فاجعة کربلاء.

المبحث الرابع: هل یمکن أن تکون لأبدان أهل البیت علیهم السلام قابلیة البقاء والخلود
اشارة

الظاهر لمن تأمل فی نصوص الروایات الشریفة الواردة عن المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین هو أن الله سبحانه وتعالی خلق النبی صلی الله علیه وآله وسلم وأئمة أهل البیت والصدیقة الطاهرة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بحیث میزهم عن باقی العالمین، وقد مر بعض التفصیل فی مبحث (سلامتهم علیهم السلام فی عالم الطینة)، وسنضیف هنا میزة أخری وهی: ان الله سبحانه قد خلق أبدانهم من طینة قابلة للبقاء والاستمرار الوجودی ما لم یحُلْ بین هذا البقاء والاستمرار حائل، ویمکن أن نستدل علی هذه الحقیقة بما یأتی:

أولا: لعدم وجود مانع عقلی من ذلک

العقل لا یمنع من خلق الله سبحانه وتعالی لبدن النبی صلی الله علیه وآله وسلم وأبدان بقیة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بالکیفیة التی تقبل البقاء والاستمرار الوجودی. وذلک لان القدرة الإلهیة غیر محدودة ولا مقیدة بقید، إلا أن یکون ذلک القید مستحیل التحقق

ص: 361

عقلا، وخلق النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بتلک الکیفیة مما لا یستحیله العقل، فیکون داخلاً فی نطاق القدرة الإلهیة، فعلینا حینئذ ان نبحث فی الأدلة الشرعیة والروائیة لنتأکد هل وقعت وتحققت تلک المسألة فی الخارج أم لا، وهو ما سیتبین فی الأدلة اللاحقة.

ثانیا: وجود المقتضی لذلک 
اشارة

وإضافة إلی عدم وجود المانع العقلی الذی أوضحناه سابقا، یمکن ان نجد مقتضیا أو عدة مقتضیات ترجح خلق بدن النبی صلی الله علیه وآله وسلم وباقی أبدان الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بحیث یکون لها قابلیة البقاء والاستمرار الوجودی، ومن هذه المقتضیات والمرجحات ما یأتی:

المرجح الأول: لإظهار فضلهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین واختصاصهم وتقدمهم علی کل البشر

 جرت سنة الله سبحانه وتعالی أن یظهر عظیم شأن أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی کل مراحل وأطوار الخلق، وقد مر علینا سابقا عنایته سبحانه لهم فی عالم الأشباح والظلال والذر والأصلاب وغیرها من العوالم، فیکون خلقهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وخلق أبدانهم فی عالم الدنیا علی الکیفیة التی تقدمت داخلاً تحت عنوان إظهار الفضل والاختصاص والامتیاز علی بقیة أفراد البشر.

وهذا مقصد مقبول عقلا ونقلا، أما العقل فلعدم وجود المانع، وأما النقل فقد وردت الروایات والزیارات علی أن کثیرا من الألطاف الإلهیة تعطی لهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بعلة تبیان منازلهم وقربهم واختصاصهم بالله سبحانه وتعالی ویکفی أن نستعرض ما جاء فی الزیارة الجامعة الشریفة وبالتحدید عند قوله صلوات الله وسلامه علیه: (...فبلغ الله بکم أشرف محل المکرمین وأعلی منازل المقربین وأرفع درجات المرسلین

ص: 362

حیث لا یلحقه لاحق ولا یفوقه فائق ولا یسبقه سابق ولا یطمع فی إدراکه طامع حتی لا یبقی ملک مقرب ولا نبی مرسل ولا صدیق ولا شهید ولا عالم ولا جاهل ولا دنی ولا فاضل ولا مؤمن صالح ولا فاجر طالح ولا جبار عنید ولا شیطان مرید ولا خلق فیما بین ذلک شهید إلا عرفهم جلالة أمرکم وعظم خطرکم وکبر شأنکم وتمام نورکم وصدق مقاعدکم وثبات مقامکم وشرف محلکم ومنزلتکم عنده وکرامتکم علیه وخاصتکم لدیه وقرب منزلتکم منه بأبی أنتم وأمی وأهلی ومالی وأسرتی...)(1).

المرجح الثانی: لمعاصرة أکبر عدد من المکلفین لهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین

ان فی نعمة بقائهم وطول عمرهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ودیمومة وجودهم فائدة لأکبر عدد ممکن من المکلفین وعلی اختلاف العصور والأزمان، لان فی وجودهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فوائد لا تحصی ولا تعد، ویمکن لنا اختیار بعض فوائد وجودهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین:

ألف: أنهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أمان لأهل الأرض من العذاب، کما قال سبحانه وتعالی بخصوص النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم: ((وَمَا کَانَ اللَّهُ لِیُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِیهِمْ وَمَا کَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ یَسْتَغْفِرُونَ))(2)، وعن الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه قال: (قال رسول صلی الله علیه وآله : النجوم أمان لأهل السماء فإذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء، وأهل بیتی أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بیتی ذهب أهل


1- عیون أخبار الرضا علیه السلام للشیخ الصدوق ج 1 ص 307 ما یجزی من القول عند زیارة جمیع الأئمة علیهم السلام عن الرضا علیه السلام ذکر الزیارة الجامعة الکبیرة. وراجع نفس المصدر ج2 ص613 الزیارة الجامعة.
2- سورة الأنفال الآیة رقم 33.

ص: 363

الأرض)(1)، وعن جابر بن یزید الجعفی قال: (قلت لأبی جعفر محمد بن علی الباقر علیهما السلام: لأی شیء یحتاج إلی النبی صلی الله علیه وآله والإمام ؟ فقال لبقاء العالم علی صلاحه وذلک أن الله عز وجل یرفع العذاب عن أهل الأرض إذا کان فیها نبی أو أمام قال الله عز وجل: وما کان الله لیعذبهم وأنت فیهم، وقال النبی صلی الله علیه وآله: النجوم أمان لأهل السماء وأهل بیتی أمان لأهل الأرض فإذا ذهبت النجوم أتی أهل السماء ما یکرهون وإذا ذهب أهل بیتی أتی أهل الأرض ما یکرهون)(2).

باء: وهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وسیلة من وسائل قبول التوبة والاستغفار لعامة المخطئین والعاصین من أفراد الأمة، وقد صرح القرآن الکریم بهذه الحقیقة فیما یخص نبینا الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بقوله سبحانه: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِیمًا))(3)، وفیما یخص باقی أفراد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین روی أبو ذر الغفاری قوله: (سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله یقول: إنما مثل أهل بیتی فیکم مثل سفینة نوح من رکب فیها نجی ومن تخلف عنها غرق إنما مثل أهل بیتی فیکم باب حطة من دخله غفر له ومن لم یدخل لم یغفر له)(4).

وفی روایة جابر بن یزید الجعفی قال: (قلت لأبی جعفر محمد بن علی الباقر علیهما السلام: لأی شیء یحتاج إلی النبی صلی الله علیه وآله والإمام ؟ فقال...


1- کمال الدین وتمام النعمة للشیخ الصدوق ص 205.
2- علل الشرائع للشیخ الصدوق ج 1 ص 123 __ 124.
3- سورة النساء الآیة رقم 66.
4- بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار ص 317.

ص: 346

وبهم یمهل أهل المعاصی ولا یعجل علیهم بالعقوبة والعذاب...)(1).

جیم: أهمیة وجودهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من الناحیة التشریعیة، فباستمرار وجود النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم یستمر نزول القرآن، ویستمر الممثل الحقیقی والمرجع الحقیقی للسماء علی الأرض، ولا یحتاج الناس إلی اخذ معالم دینهم وأحکام شریعتهم بالقیاس والاستحسان بل وحتی بالاجتهاد.

أقول: وتوجد فوائد أخری لوجودهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین یطول استقصاؤها فی هذه العجالة، وقد وردت بأجمعها فی کتب الحدیث ومتون الزیارات(2).

وبناء علی ما تقدم ففی طول بقائهم ودوام وجودهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فرصة لأکبر عدد ممکن من المکلفین للاستفادة والانتفاع من هذه النعمة العظیمة، التی لا تخفی علی أولی الألباب، ولو کان للنبی وأهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین الیوم وجود بین الناس، لکان للحیاة طعم آخر وقیمة أخری، ولمنعوا بوجودهم کثیراً من المظالم والمآسی، ولما انتکست أحوال الأمة هذا الانتکاس الرهیب.


1- علل الشرائع للشیخ الصدوق ج 1 ص 124.
2- راجع علی سبیل المثال ما ورد فی الزیارة الجامعة التی رواها الشیخ الصدوق فی (من لا یحضره الفقیه ج 2 ص 615) (وأنتم نور الأخیار ، وهداة الأبرار ، وحجج الجبار ، بکم فتح الله وبکم یختم وبکم ینزل الغیث ، وبکم یمسک السماء أن تقع علی الأرض إلا بإذنه وبکم ینفس الهم ویکشف الضر). وما رواه الشیخ الصدوق فی (الأمالی ص 252 __ 253) (عن سلیمان بن مهران الأعمش ، عن الصادق جعفر بن محمد ، عن أبیه محمد بن علی ، عن أبیه علی بن الحسین «علیهم السلام»، قال : نحن أئمة المسلمین ، وحجج الله علی العالمین ، وسادة المؤمنین ، وقادة الغر المحجلین ، وموالی المؤمنین ، ونحن أمان أهل الأرض کما أن النجوم أمان لأهل السماء ، ونحن الذین بنا یمسک الله السماء أن تقع علی الأرض إلا بإذنه ، وبنا یمسک الأرض أن تمید بأهلها ، وبنا ینزل الغیث ، وبنا ینشر الرحمة ، ویخرج برکات الأرض ، ولولا ما فی الأرض منا لساخت بأهلها).

ص: 365

ثالثا: وجود الروایات الدالة علی وقوع ذلک
اشارة

وردت روایات عدیدة فیها إشارات واضحة علی مسألة خلق أبدان أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بحیث یکون لها قابلیة الخلود والبقاء والاستمرار ما دام للدنیا وجود، نختار فیما یأتی عدة شواهد روائیة مع مراعاة المهم منها:

ألف: روایات الطینة تدل علی ذلک

عن محمد بن مروان، عن أبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه قال: سمعته یقول: (إن الله خلقنا من نور عظمته، ثم صور خلقنا من طینة مخزونة مکنونة من تحت العرش، فأسکن ذلک النور فیه، فکنا نحن خلقا وبشرا نورانیین لم یجعل لأحد فی مثل الذی خلقنا منه نصیبا، وخلق أرواح شیعتنا من طینتنا و أبدانهم من طینة مخزونة مکنونة أسفل من ذلک الطینة ولم یجعل الله لأحد فی مثل الذی خلقهم منه نصیبا إلا للأنبیاء، ولذلک صرنا نحن وهم: الناس، وصار سائر الناس همجاً، للنار وإلی النار)(1).

ومنها ما عن أبی حمزة الثمالی قال: سمعت أبا جعفر صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین یقول: (إن الله خلقنا من أعلی علیین وخلق قلوب شیعتنا مما خلقنا، وخلق أبدانهم من دون ذلک، فقلوبهم تهوی إلینا، لأنها خلقت مما خلقنا...)(2).

ویمکن لنا ان نستنتج من هذین الحدیثین حقیقتین مهمتین هما:

أولا: ان أرواح النبی صلی الله علیه وآله وسلم وأئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین خلقت من نور عظمة الله سبحانه وتعالی، وهو شیء لم یشارکهم فیه أحد.

ثانیا: وأما أبدانهم الشریفة فخلقت من طینة مخزونة مکنونة من تحت العرش،


1- الکافی للشیخ الکلینی ج 1 ص 389.
2- المصدر السابق ج 1 ص 390.

ص: 366

وان أرواح شیعتهم وقلوبهم قد خلقت من نفس طینة أبدان الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، لم یشارکهم فی ذلک أحد غیر الأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

وعلیه فأبدان الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لها مجانسة ومشابهة وسنخیة مع أرواح شیعتهم، وبما أن واحدة من صفات الأرواح هی قابلیة الاستمرار والخلود والبقاء الوجودی، فیکون لأبدانهم الشریفة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین نفس هذه الخاصیة لوجود حالة السنخیة بینهما کما تقدم.

وقد أشار إلی ذلک المولی محمد صالح المازندرانی فی شرح الروایة الأولی حیث قال ما نصه: (قوله «وخلق أرواح شیعتنا من طینتنا» فیه دلالة علی أن جسدهم جسد روحانی وبدنهم بدن نورانی حتی أنه اشتق منه الروح المجرد الصرف...وأنت إذا تأملت فیما ذکر علمت أن بین أبداننا وأبدانهم مباینة فی المادة مقارنة فی المحل وکذا بین أرواحنا وأرواحهم ویظهر بواقی النسب بالتأمل الصادق إن شاء الله تعالی)(1).

باء: حدیث أبی مویهبة من کتب أهل السنة یدل علی ذلک أیضا

ذکر الطبرانی فی کتابه المعجم الکبیر: (عن أبی مویهبة مولی رسول الله صلی الله علیه وسلم قال: طرقنی النبی صلی الله علیه وسلم ذات لیلة فقال: أبا مویهبة انطلق فإنی قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقیع، فانطلقت أو قال فانطلقنا فلما توسط البقیع استغفر لأهل المقابر، ثم قال: لیهن لکم ما أصبحتم فیه لو تدرون مما نجاکم الله منه أقبلت الفتن کقطع اللیل المظلم یتبع آخرها أولها الآخرة شر من الأولی، ثم قال: یا أبا مویهبة هل علمت أن الله خیرنی أن یؤتینی خزائن الأرض والخلد فیها ثم الجنة وبین لقاء ربی قال: قلت بأبی أنت وأمی فخذ مفاتیح خزائن


1- شرح أصول الکافی للمولی محمد صالح المازندرانی ج 6 ص 395.

ص: 367

الأرض والخلد فیها، قال: کلا یا أبا مویهبة لقد اخترت لقاء ربی، ثم استغفر لأهل المقابر وانصرف فلما انصرف بدأه شکواه الذی قبض فیه صلی الله علیه وسلم)(1).

وقوله: (هل علمت أن الله خیرنی أن یؤتینی خزائن الأرض والخلد فیها ثم الجنة وبین لقاء ربی) دال دلالة واضحة علی انه صلی الله علیه وآله وسلم لو اختار البقاء والخلود فی الدنیا لکان له ذلک، وهذا البقاء والخلود لا یکون إلا بوجود قابلیة لبدنه الشریف لهذا الخلود والاستمرار، ولا یقال ان ذلک ربما یحصل بمعجزة، لان المعجزة لا یصل الأمر إلیها ما دام القانون الطبیعی کافیاً فی تحقیق الغرض، وقد ثبت بالعقل والنقل إمکان ان یحدث ذلک بصورة طبیعیة من خلال خلق بدنه الشریف من طینة قابلة للدوام والبقاء والاستمرار، فلا تصل النوبة حینئذ إلی المعجزة.

جیم: حدیث عائشة من مصادر أهل السنة یدل علی ذلک أیضا

أخرج احمد بن حنبل فی مسنده: (عن عائشة قالت کان رسول الله صلی الله علیه وسلم کثیرا مما أسمعه یقول إن الله لم یقبض نبیا حتی یخیره قالت فلما حضر رسول الله صلی الله علیه وسلم کان آخر کلمة سمعتها منه وهو یقول بل الرفیق الأعلی من الجنة قالت قلت إذا والله لا یختارنا وقد عرفت انه الذی کان یقول لنا ان نبیا لا یقبض حتی یخیر) (2).


1- المعجم الکبیر للطبرانی ج 22 ص 347، وراجع ایضا سنن الدارمی لعبد الله بن بهرام الدارمی ج1 ص 36 __ 37، وأیضا راجع مسند احمد لأحمد بن حنبل ج 3 ص 488 __ 489.
2- نحن لا نتفق مع عائشة فی ان کل الأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین کان لهم میزة الاختیار ما بین البقاء فی الدنیا والرحیل إلی الرفیق الأعلی، لما صح فی روایاتنا التی ورد ذکر بعض منها من ان هذه المرتبة والمیزة خص بها أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ونبینا الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم علی رأسهم دون جمیع العالمین، لکن عائشة وغیرها دأبوا علی أن لا یجعلوا لرسول الله وأهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین خصوصیة یتفردون بها ویمتازون بها عن غیرهم.

ص: 368

ویعلق علی هذه الروایة بنفس ما مر فی روایة أبی مویهبة خادم النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم السابقة الذکر.

فائدة الخوض فی هذا البحث
اشارة

بسبب عدم تذوق مباحث مهمة کهذه، وبسبب ضعف التوجه العقائدی لدی الکثیر من متفلسفة هذا العصر، وبسبب غلبة بعض التوجهات المعاصرة التی تحاول بکل حدها وحدیدها تسطیح المفاهیم العقائدیة ولاسیما تلک التی تتعلق بأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومقاماتهم ومراتبهم ومنازلهم، بسبب کل ذلک وغیره ربما یعترض البعض علی إثارة مثل هذه المباحث التی تکاد تندرس فی کتابات المعاصرین، وربما یحلو للبعض الآخر بسبب الجهل وقلة الإکتراث لحقوق أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین المغصوبة المهضومة أن یری ترک الخوض فی هذه المباحث وأمثالها، لأنها غیر مألوفة ولا متداولة عند العوام، وربما تثیر سخریة أو استهزاء بعض المذاهب الإسلامیة الأخری أو حتی بعض الأدیان السماویة الأخری، وعلیه فیجب بحسب نظر أولئک القاصر ترک البحث وضرب الجهد عن مثلها صفحا، والالتفات إلی المباحث التی تحمل سمة الحداثة والعصرنة والتی تحاول تقریب وجهات النظر الإسلامیة بعضها من البعض الآخر، من دون الإساءة إلی مشاعر الآخرین واستجلاب سخریتهم.

ویمکن ان یجاب هؤلاء وأمثالهم بما یأتی:

أولا: ان عدم مألوفیة هذه المباحث عند العوام وباقی المذاهب والأدیان لا یعدّ دلیلا کافیا للإعراض والخجل من ذکر وإیراد مثل هذه المباحث، لان العوام والبسطاء من الناس لیسوا میزانا لتبیین الحقائق وعدمها، بل ان عدم معرفة العوام بهذه المباحث یکون دلیلا إضافیا یستدعی نشر هذه المباحث الشریفة لیستفید منها من

ص: 369

لا یعرف ویتعلم منها من لیس له القدرة علی البحث والتحلیل.

ثانیا: ان إثارة هذه المباحث للسخریة والاستهزاء والاستهجان علی فرض تحققه من بقیة الأدیان والمذاهب الأخری لا یعد مبررا لرفض هذا المبحث وأمثاله، لأننا لو جعلنا المیزان فی ذکر الحقائق هو سخریة الآخرین وعدمها لما أمکن لمؤلف شیعی ان یکتب کتابا واحدا، لان جمیع أفکار الشیعة الإمامیة تستدعی السخریة والاستهزاء من وجهة نظر الآخرین، وعلیه یجب ان یکسر علماء الشیعة أقلامهم ویترکوا البحث والکتابة والنقاش لان کل ما یتم کتابته من قبلهم یستهزأ به ویستهجن من قبل الآخرین، ولا یوجد عاقل یقول بمثل هذا الرأی.

بل یجب أیضا إلغاء القرآن والشریعة الإسلامیة بکاملها لان الغرب وباقی الدیانات تشنع علیه وتستهجنه ویجب ان یلغی الحجاب وتشیع الفاحشة وتباع الخمور علی الأرصفة لان الغرب وباقی الدیانات ترتاح لذلک، وقد صدق الله سبحانه وتعالی حیث قال ((وَلَنْ تَرْضَی عَنْکَ الْیَهُودُ وَلَا النَّصَارَی حَتَّی تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَی اللَّهِ هُوَ الْهُدَی وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِی جَاءَکَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَکَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِیٍّ وَلَا نَصِیرٍ))(1).

ثالثا: لا یجوز التحجج بالوحدة بین الأدیان أو بین باقی المذاهب الإسلامیة لرفض هذه المباحث المهمة، لان الوحدة إذا صارت علی حساب إنکار مبادئ أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین والتعتیم علی حقوقهم ومقاماتهم ومراتبهم التی رتبهم الله فیها فستتحول حینئذ إلی أداة تهدیم لأرکان المذهب، لان من یبدأ برفض هذه المباحث بسبب الوحدة، فانه سوف لن یقف عند حد، فسیستتبعها یقینا نکران الشهادة الثالثة فی الأذان، وبعدها ستمحی الشهادة بحی علی خیر العمل، وبعدها سیلغی السجود علی التربة، وبعدها ستلغی وتحارب زیارات أهل البیت


1- سورة البقرة الآیة رقم 120.

ص: 370

صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وشعائرهم ومراسم عزائهم، وهکذا ستستمر سیاسة الإلغاء حتی یمسخ الدین وتضمحل الحقائق، کل ذلک بسبب شعار الوحدة، أو بسبب الفهم الخاطئ أو التطبیق الخاطئ لشعار الوحدة، حتی نصبح وبالتدریج ممن یشارک فی غصب أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین حقوقهم، ودفعهم بقصد أو بغیر قصد عن مراتبهم ومقاماتهم التی ابعدوا عنها.

إضافة إلی کل ما سبق فان البحث فی هذا الموضوع یستبطن عدة من الفوائد الکبیرة، وله نتائج یمکن الاستفادة منها فی إثبات مباحث عقائدیة أخری کما سنری، وفیما یأتی نختار فائدتین یمکن أن تترتب علی هذا المبحث، ونترک البقیة الأخری موکولة إلی القارئ وفطنته.

الفائدة الأولی: تضع توضیحا شافیا لطول عمر الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه

ان طول عمر الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه هو من المباحث التی طال الکلام حولها، وتعددت مشارب الباحثین فی کیفیة تقریبه للأذهان من جهة، واثبات إمکان وقوعه وحدوثه من جهة أخری، لکن جمیعهم أکدوا علی أن طول بقائه صلوات الله وسلامه علیه وامتداد وجود شخصه المقدس راجع إلی قانون المعجزة، وعلی هذا الأمر بنیت الأدلة وأسست الحجج.

غیر ان هذا المبحث الذی أثبتنا من خلاله أن أبدان أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، __ والإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه واحد منهم __ بذاتها قابلة للبقاء والاستمرار والخلود سیکون بمنزلة تغییر جذری لمسألة العلة الحقیقیة التی من اجلها استمر وامتد عمر الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه إلی وقتنا هذا بل إلی الیوم الموعود، وستخرج هذه المسألة من کونها مسألة إعجازیة غیبیة إلی مسألة طبیعیة، علی اعتبار ان البقاء والخلود من

ص: 371

خواص بدنه المقدس، ما لم یحُلْ دون ذلک حائل، وإذا کان لبدنه الشریف صفة البقاء والخلود فلا تبقی أی حاجة للتدخل الإعجازی، لان المعجزة کما هو ثابت فی محله، لا یصار إلیها إلا بعد انسداد وقصور الأسباب الطبیعیة، وهذا الشرط منفی هنا، لإمکان تحقق طول البقاء بالطرق الطبیعیة وبالتوضیح السابق، فلا یلجأ إلی المعجزة بحال من الأحوال.

الفائدة الثانیة: لتبیان الجریمة النکراء التی حالت دون التمتع بوجودهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین

ان أصل وجود النبی صلی الله علیه وآله وسلم وأهل بیته الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بغض النظر عن أی حیثیة أخری هو نعمة إلهیة یجب علی الجمیع معرفتها والإقرار بها، إذ ان وجود الأبرار والصالحین والأخیار ومن فضلهم الله سبحانه وتعالی علی جمیع العالمین من الأولین والآخرین لهو نعمة ومنة، لا ینکرها إلا من عمیت بصیرته، فکیف لو اقترنت بوجودهم فوائد عظیمة ومنن إضافیة جسیمة، فان المنة ستکون ولا ریب أعظم والنعمة أتم، وقد بینا آنفا ان وجودهم وسیلة یستجلب بها کل خیر ویدفع بهم کل سوء وشر.

وعلیه فأعظم جریمة وقعت فی تاریخ المسلمین هی إزهاق تلک الأرواح الطاهرة والحیلولة دون ان تستفید الأمة من نعمة خلود هؤلاء الأطهار بین صفوفها، فالأمة التی أزهقت أرواح أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وحالت دون استمرار وجودهم ودون فرصة الاستفادة من ثمرات بقائهم وخلودهم تستحق اللعن والطرد والإبعاد عن الرحمة الإلهیة، وتتحمل جمیع التبعات المترتبة علی ذلک، وکذلک تتحمل جمیع المفاسد التی ترتبت علی فقد أولئک الأطهار، والتی منها انقطاع الوحی والتشریع عن أهل الأرض، وتشتت کلمة الأمة وتشعبهم شیعا وأحزابا، وما نتج عن ذلک من فساد فی الأرض وإراقة للدماء. 

ص: 372

المبحث الخامس: أدلة إثبات قتل الأمة لأهل البیت علیهم السلام
اشارة

ان ضمیر الجمع فی کلمة (قتلتکم) فی فقرة (ولعن الله امة قتلتکم) کما أوضحنا فی المعنی اللغوی راجع إلی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وشامل للخمسة أصحاب الکساء، وهذا الإطلاق فی العبارة یدل وبوضوح علی أن جمیع أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین قد تعرضوا للقتل وما مات منهم احد حتف انفه.

وتطبیق تعریف القتل الذی هو بمعنی: (الإماتة بضرب أو جرح أو سم أو علة...إذا کان من فعل آدمی)((1) واضح فی مورد أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، والإمامین الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما فان موتهم کان بفعل الغیر، وإذا کان بفعل الغیر فهو داخل فی معنی القتل، وتواتر وقوعه خارجا أشهر من ان یستدل علیه بدلیل.

الأدلة علی قتل النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم واستشهاده
اشارة

یمکن لنا أن نقدم عدة أدلة علی أن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لم یخرج عن هذه الدنیا إلا مقتولا شهیدا، نخص بالذکر منها ما یأتی:

الدلیل الأول: قابلیة بدنه الشریف للخلود والبقاء الوجودی تدل علی ذلک

بناء علی ما تقدم فی المبحث السابق من ان بدن النبی صلی الله علیه وآله وسلم وأبدان بقیة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین قد خلقت بطریقة قابلة للخلود والاستمرار الوجودی، ما لم یحُل بوجه هذا الخلود والاستمرار حائل، فیصبح واضحا ان النبی صلی الله علیه وآله وسلم لما لم یستمر وجوده المقدس فهذا یعنی ان حائلا قد حال دون ذلک، وان هذا الحائل من


1-  :() لسان العرب لابن منظور ج11 ص547 ، کتاب العین للفراهیدی ج5 ص127.

ص: 373

فعل آدمی لان الله سبحانه وتعالی خلقه صلی الله علیه وآله وسلم وله قابلیة الاستمرار فمن غیر المعقول أن یکون ذلک الحائل حائلا إلهیا، وإذا لم یکن إلهیا لابد أن یکون آدمیا، وبه یتحقق معنی القتل.

الدلیل الثانی: تسالم قتله فی مذهب أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین

تسالم عند علماء مذهب أهل البیت رضوان الله تعالی علیهم قتل النبی صلی الله علیه وآله وسلم مسموما، وبهذا الصدد یقول الشیخ الطوسی قدس الله روحه: (قبض رسول الله صلی الله علیه وآله مسموما للیلتین بقیتا من صفر سنة عشر من الهجرة)(1).

وقال الشیخ المفید قدس الله روحه: (وقبض صلی الله علیه وآله بالمدینة مسموما یوم الاثنین للیلتین بقیتا من صفر سنة عشر من هجرته، وهو ابن ثلاث وستین سنة)(2).

الدلیل الثالث: روایات أهل السنة تشهد بقتله صلی الله علیه وآله وسلم واستشهاده

قد اشتهر فی کتب العامة بأنه صلی الله علیه وآله وسلم مات مسموما، فعن احمد بن حنبل عن عبد الله بن مسعود قال: (لان أحلف تسعا أن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم قتل قتلا أحب إلی من أن أحلف واحدة أنه لم یقتل، وذلک إن الله اتخذه نبیا واتخذه شهیدا)(3)، قال الهیثمی معلقا علی هذا الحدیث: (رواه أحمد ورجاله رجال الصحیح)(4).

 وقد کان الشعبی یقول: (والله لقد سم رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وسم أبو بکر


1- تهذیب الأحکام للشیخ الطوسی ج6 ص2 ، وأیضا بحار الأنوار للمجلسی ج22 ص514 ،
2- المقنعة للشیخ المفید ص456 ، وراجع أیضا منتهی المطلب للعلامة الحلی ج2 ص891.
3- مسند احمد بن حنبل ج1 ص408 مسند عبد الله بن مسعود.
4- مجمع الزوائد للهیثمی ج9 ص341.

ص: 374

وقتل عمر بن الخطاب صبرا وقتل عثمان بن عفان صبرا وقتل علی بن أبی طالب صبرا وسم الحسن بن علی وقتل الحسین)(1).

 والذی یتبین من کلام الطبری وغیره ان مسألة موت النبی صلی الله علیه وآله وسلم بفعل الغیر هو مما کان مشتهرا أمره بین کافة أفراد المسلمین من الصحابة وغیرهم حیث قال فی تاریخه: (وکان المسلمون یرون أن رسول الله صلی الله علیه وسلم قد مات شهیدا، مع ما أکرمه الله به من النبوة)(2).

من الذی قتل النبی صلی الله علیه وآله وسلم

 علی الرغم من إجماع المسلمین تقریبا علی استشهاده صلی الله علیه وآله وسلم بالسم، إلا أن الاختلاف قد وقع بینهم فی تحدید الجهة التی قامت بسمه وإزهاق روحه المقدسة، فالعامة تروی بأنه صلی الله علیه وآله وسلم قد سم من قبل الیهود قبل سنتین من وفاته صلی الله علیه وآله وسلم حینما قامت یهودیة بتقدیم شاة مشویة ومسمومة إلی النبی صلی الله علیه وآله وسلم فأکل منها لقمة فبقی أثر هذه اللقمة یتکرر کل عام علیه بالأذی ورووا عنه انه صلوات الله وسلامه علیه قال: (ما زالت أکلة خیبر تعتادنی کل عام حتی کان هذا أوان قطع أبهری __ شریانی __)(3).

وأما علماء الخاصة فقد تباینت آراؤهم فی سبب موت النبی صلی الله علیه وآله وسلم، فمنهم من ذهب إلی ما یذهب إلیه أبناء العامة، ومنهم من ذهب إلی ان النبی صلی الله علیه وآله وسلم قد سم علی ید بعض المقربین من الصحابة. 


1- المستدرک علی الصحیحین للحاکم النیسابوری ج3 ص59.
2- تاریخ الطبری ج2 ص303 ، تفسیر الثعلبی ج9 ص53 ، تفسیر البغوی ج4 ص198.
3- الجامع الصغیر لجلال الدین السیوطی ج2 ص497 ، وقریب منه فی مسند احمد ج6 ص18 ، المحلی لابن حزم ج11 ص27 ، معرفة السنن والآثار للبیهقی ج7 ص298.

ص: 375

ولیس هنا محل تحقیق ذلک إلا ان فقرة (ولعن الله امة قتلتکم) فیها تصریح واضح بان الأمة التی قتلت أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین هی بذاتها التی قتلت النبی صلی الله علیه وآله وسلم، إضافة إلی وجود روایات تؤکد علی ان النبی صلی الله علیه وآله وسلم لم یأکل من الطعام المسموم الذی قدم له بخیبر، قال الطبری: (فلاک صلی الله علیه وآله وسلم منها مضغة فلم یسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور الأنصاری من بنی سلمة من الخزرج قدّ منها کما أخذ رسول الله صلی الله علیه وسلم، فأما بشر فأساغها، وأما رسول الله صلی الله علیه وسلم فلفظها ثم قال: إن هذا العظم لیخبرنی انه مسموم)(1).

فمن هذا وغیره استبعد بعض الباحثین أن یکون الیهود هم من قام بسم النبی صلی الله علیه وآله وسلم، لیس من باب تبرئتهم، فهم أهل لکل سوء، وکهف لکل نفاق ومؤامرة، ولکن الإنصاف فی البحث وحق النبی صلی الله علیه وآله وسلم وحرمته تستدعی أن یزاح الستار عن الفاعل الحقیقی لهذه الفاجعة النکراء والجریمة الشنعاء، وأصابع الاتهام تشیر إلی بعض الأطراف القریبة من النبی صلی الله علیه وآله وسلم إما مستقلة وإما متعاونة مع أطراف یهودیة أخری.

الأدلة علی قتل السیدة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها
اشارة

اجتمعت کلمة العامة والخاصة علی أن السیدة الطاهرة فاطمة بنت محمد صلوات الله وسلامه علیها قد ماتت وهی بعمر الثمانیة عشر سنة، ولکن اختلفوا فی أن موتها هل کان بفعل الغیر أم لا، ونحن وبسبب ما بین أیدینا من أدلة روائیة نقطع بموتها بسبب فعل الغیر، ولنا علی ذلک عدة من الأدلة نستعرض بعضها فیما یأتی: 


1- تاریخ الطبری ج2 ص303، السیرة النبویة لابن هشام ج3 ص801، البدایة والنهایة لابن کثیر ج4 ص240.

ص: 376

الدلیل الأول: قابلیة بدنها الشریف للخلود والبقاء الوجودی یدل علی ذلک

تقدم فیما سبق طریقة الاستدلال بهذا الدلیل علی حتمیة قتل النبی صلی الله علیه وآله وسلم وإماتته بفعل الغیر ونفس الطریقة تلک یمکن تطبیقها هنا لتنتج عین ما نتج سابقا.

الدلیل الثانی: قصر عمرها یدل علی ذلک 

إن قصر عمر السیدة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها((1) یدل وبغض النظر عن کل دلیل روائی أو تاریخی علی ان وفاتها صلوات الله وسلامه علیها کانت بفعل فاعل، إذ انه وبحسب ما اعتاده الناس فی الحیاة العامة لا یکون موت الإنسان وهو بمثل هذه السن إلا لأحد سببین:

الأول: أن یکون المرض هو الذی یعجل بموت من یکون بهذا العمر.

الثانی: تعرضه للاعتداء والقتل من قبل إنسان آخر.

والثابت تاریخیا إن کلا الأمرین قد اجتمعا فی موت السیدة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها، فقد تعرضت للضرب والاعتداء المباشر من قبل بعض الصحابة، ونتیجة لهذا الاعتداء مرضت واعتلت وبقیت فی علة دائمة إلی أن ماتت روحی فداها.

والأفظع من هذا وبحسب ما یفهم من عبارة (ولعن الله امة قتلتکم) هو أن تشترک الأمة جمیعها بقتلها تارة بالمباشرة، وأخری بتهیئة الأسباب والمقدمات لقتلها


1- () قال الشیخ الکلینی فی کتاب الکافی ج1 ص458: (ولدت فاطمة علیها وعلی بعلها السلام بعد مبعث رسول الله صلی الله علیه وآله بخمس سنین وتوفیت علیها السلام ولها ثمان عشرة سنة وخمسة وسبعون یوما وبقیت بعد أبیها صلی الله علیه وآله خمسة وسبعین یوما).

ص: 377

وهضمها، أو بالسکوت علی الاعتداء علی حرمتها وعدم الاکتراث لما جری علیها، وفی قول أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام تصریح بهذه الحقیقة فبعدما فرغ من دفنها روحی فداها وقف مخاطبا الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بقوله: (وستنبئک ابنتک بتظافر أمتک علی هضمها فأحفها السؤال واستخبرها الحال، فکم من غلیل معتلج بصدرها لم تجد إلی بثه سبیلا... ولولا غلبة المستولین لجعلت المقام واللبث لزاما معکوفا ولأعولت إعوال الثکلی علی جلیل الرزیة، فبعین الله تدفن ابنتک سرا وتهضم حقها وتمنع إرثها ولم یتباعد العهد ولم یخلق منک الذکر وإلی الله یا رسول الله المشتکی وفیک یا رسول الله أحسن العزاء صلی الله علیک وعلیها السلام والرضوان)(1).

الدلیل الثالث: النصوص التاریخیة والروائیة تدل علی ذلک أیضا

والأخبار عن الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین مجمعة علی أن السیدة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها قد ماتت بفعل الغیر، حتی اشتهرت بلقب الشهیدة فی متون الروایات والزیارات الشریفة منها:

أولا: ما روی عن الإمام موسی بن جعفر صلوات الله وسلامه علیهما انه قال: (ان فاطمة علیها السلام صدیقة شهیدة)(2).

قال المولی محمد صالح المازندرانی فی شرحه لهذا الحدیث: (والشهید من قتل من المسلمین فی معرکة القتال المأمور به شرعا، ثم اتسع فأطلق علی کل من قتل منهم


1- روضة الواعظین للفتال النیسابوری ص152 ، شرح أصول الکافی للمولی محمد صالح المازندرانی ج7 ص214.
2- الکافی للشیخ الکلینی ج 1 ص 458.

ص: 378

ظلما کفاطمة علیها السلام إذ قتلوها بضرب الباب علی بطنها وهی حامل فسقط حملها فماتت لذلک)(1).

وقال العلامة المجلسی قدس الله روحه فی تعلیقه علی الخبر السابق: (ثم إن هذا الخبر یدل علی أن فاطمة صلوات الله علیها کانت شهیدة، وهو من المتواترات. وکان سبب ذلک: أنهم لما غصبوا الخلافة، وبایعهم أکثر الناس بعثوا إلی أمیر المؤمنین لیحضر للبیعة، فأبی. فبعث عمر بنار لیحرق علی أهل البیت بیتهم، وأرادوا الدخول علیه قهرا، فمنعتهم فاطمة عند الباب، فضرب قنفذ غلام عمر الباب علی بطن فاطمة، فکسر جنبها، وأسقط لذلک جنینا کان سماه رسول الله محسنا. فمرضت لذلک، وتوفیت صلوات الله علیها فی ذلک المرض)(2).

وفی روایة ثانیة ان عمر بن الخطاب هو الذی ضربها فماتت صلوات الله وسلامه علیها متأثرة بضربته، فقد أخرج الشیخ المفید فی کتاب الاختصاص: (فمضت ومکثت خمسة وسبعین یوما مریضة مما ضربها عمر)(3).

وقال شیخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسی قدس الله روحه: (ومما أنکر علیه: ضربهم لفاطمة علیها السلام. وقد روی أنهم ضربوها بالسیاط. والمشهور الذی لا خلاف فیه بین الشیعة: أن عمر ضرب علی بطنها حتی أسقطت، فسمی السقط محسنا، والروایة بذلک مشهورة عندهم. وما أرادوا من إحراق البیت علیها، حین التجأ إلیها قوم، وامتنعوا من بیعته. ولیس لأحد أن ینکر الروایة بذلک، لأنا قد بینا الروایة الواردة من جهة العامة، من طریق البلاذری، وغیره وروایة الشیعة مستفیضة


1- شرح أصول الکافی ج7 ص 213.
2- مرآة العقول ج5 ص392.
3- الاختصاص للشیخ المفید ص185 حدیث بنی ساعدة بعد وفاة النبی صلی الله علیه وآله وسلم.

ص: 379

به، لا یختلفون فی ذلک)(1).

وقال الشیخ محمد حسین کاشف الغطاء: (طفحت واستفاضت کتب الشیعة، من صدر الإسلام والقرن الأول، مثل کتاب سلیم بن قیس، ومن بعده إلی القرن الحادی عشر وما بعده بل وإلی یومنا هذا، کل کتب الشیعة التی عنیت بأحوال الأئمة، وأبیهم الآیة الکبری، وأمهم الصدیقة الزهراء صلوات الله علیهم أجمعین، وکل من ترجم لهم، وألف کتابا فیهم، وأطبقت کلمتهم تقریبا أو تحقیقا فی ذکر مصائب تلک البضعة الطاهرة، أنها بعد رحلة أبیها المصطفی صلی الله علیه وآله وسلم ضرب الظالمون وجهها، ولطموا خدها، حتی احمرت عینها وتناثر قرطها، وعصرت بالباب حتی کسر ضلعها، وأسقطت جنینها، وماتت وفی عضدها کالدملج. ثم أخذ شعراء أهل البیت سلام الله علیهم هذه القضایا والرزایا ونظموها فی أشعارهم ومراثیهم، وأرسلوها إرسال المسلمات: من الکمیت والسید الحمیری، ودعبل الخزاعی، والنمیری، والسلامی، ودیک الجن، ومن بعدهم، ومن قبلهم إلی هذا العصر. وتوسع أعاظم شعراء الشیعة فی القرن الثالث عشر، والرابع عشر، الذی نحن فیه، کالخطی، والکعبی، والکوازین، وآل السید مهدی الحلیین، وغیرهم ممن یعسر تعدادهم، ویفوق الحصر جمعهم وآحادهم. وکل تلک الفجائع والفظائع، وإن کانت فی غایة الفظاعة والشناعة، ومن موجبات الوحشة والدهشة، ولکن یمکن للعقل أن یجوزها، وللأذهان والوجدان أن تستسیغها، وللأفکار أن تقبلها، وتهضمها، ولا سیما وأن القوم قد اقترفوا فی قضیة الخلافة، وغصب المنصب الإلهی من أهله ما یعد أعظم وأفظع)(2).


1- تلخیص الشافی ج3 ص156.
2- جنة المأوی ص78 __ 81.

ص: 380

ثانیا: ما تواتر فی زیارتها صلوات الله وسلامه علیها من إطلاق لقب الشهیدة علیها، فقد أخرج الشیخ الصدوق زیارة لها صلوات الله وسلامه علیها جاء فیها: (السلام علیک یا أم الحسن والحسین سیدی شباب أهل الجنة، السلام علیک أیتها الصدیقة الشهیدة، السلام علیک أیتها الرضیة المرضیة السلام علیک أیتها الفاضلة الزکیة...)(1).

 ومنها ما ذکره الشیخ المفید قدس الله روحه فی کتاب المزار قال: (فإذا أردت زیارتها فقف بالروضة وقل: السلام علیک یا رسول الله صلی الله علیه وآله، السلام علی ابنتک الصدیقة الطاهرة السلام علیک یا فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وآله یا سیدة نساء العالمین أیتها البتول الشهیدة الطاهرة، لعن الله مانعک إرثک ودافعک عن حقک والراد علیک قولک لعن الله أشیاعهم وأتباعهم وألحقهم بدرک الجحیم صلی الله علیک وعلی أبیک وبعلک وولدک الأئمة الراشدین وعلیهم السلام ورحمة الله وبرکاته)(2).

وقد أخرج العلامة المجلسی قدس الله روحه زیارة أخری لها صلوات الله وسلامه علیها جاء فیها: (اللهم صل علی السیدة المفقودة، والکریمة المحمودة، والشهیدة العالیة)(3).

وبهذا وغیره مما لم نذکره لمراعاة الاختصار نستطیع أن نقطع بأن أفراد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین الذین شملتهم آیة التطهیر کلهم قد تعرض للقتل وما مات منهم احد حتف أنفه، فلعنت امة قتلتهم ولعنت امة أعانت علی قتلهم ولعنت امة رضیت بقتلهم إلی یوم القیامة. 


1- من لا یحضره الفقیه للشیخ الصدوق ج 2 ص 573.
2- المزار للشیخ المفید ص 179مختصر زیارة أخری لها صلوات الله وسلامه علیها.
3- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج99 ص220 الباب التاسع زیارتهم علیهم السلام فی أیام الأسبوع والصلاة علیهم مفصلا.

ص: 381

المبحث السادس: أدلة جواز لعن قتلة أهل البیت علیهم السلام
اشارة

قد یجد البعض فی نفسه بعض الحرج من اللعن الوارد فی زیارة عاشوراء وغیرها فی حق قتلة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین متناسیا أنّ أئمة أهل البیت لا یلعنون جزافا وان مسلکهم مسلک رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ومسلک القرآن الکریم الذی لا یلعن إلا من یستحق اللعن، ولا یطرد من الرحمة إلا من أساء وطرد نفسه منها بسوء عمله واختیاره، ونستطیع فیما یأتی ان نستعرض وعلی عجالة ستة أدلة تدل علی جواز لعن قتلة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وهی کما یأتی:

الدلیل الأول: القاتل للنفس المؤمنة کافر والکافر یجوز لعنه إجماعا 

وفی هذا المعنی آیات کریمة وأحادیث شریفة کثیرة تطبق بأجمعها علی أن القاتل للنفس المؤمنة عن عمد وإصرار خارج عن الإیمان داخل فی سلک الکفار، ومن هذه النصوص الشریفة ما یأتی:

قال الله سبحانه وتعالی: ((وَمَنْ یَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِیهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَیْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِیمًا))(1)، والخلود فی النار لا یکون إلا مع عدم الإیمان، لان المؤمن حتی لو دخل النار فانه لا یخلد فیها، والإیمان فی الآخرة لا یقابله إلا الکفر، فمن لم یکن مؤمنا لا یکون إلا کافرا(2).

وفی الحدیث عن نافع عن ابن عمر عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم انه قال: (من قتل


1- سورة النساء الآیة رقم 93.
2- لا یخفی ان قوانین الدنیا تختلف اختلافا جذریا عن قوانین الآخرة، ففی القوانین الدنیویة یوجد إسلام وإیمان وکفر ونفاق، وفی الدنیا جعلوا الإسلام مقابلاً للکفر، وصیروا الإیمان مقابلاً للنفاق، وهذا التفریق بین الإسلام والإیمان فی عالم الدنیا هو لأسباب غیر خافیة علی النبیه الفطن، أما فی الآخرة فلا یوجد غیر الإیمان ویقابله الکفر، فمن لم یکن مؤمنا کان کافرا.

ص: 382

مؤمنا متعمدا فقد کفر بالله)(1).

وعن النبی صلی الله علیه وآله وسلم أیضا قال: (من أعان علی قتل امرئ مسلم بشطر کلمة لقی الله مکتوبا بین عینیه آیس من رحمة الله)(2) والیأس من رحمة الله وروحه لا یکون إلا من صفات الکافرین کما قال الله سبحانه وتعالی: ((إِنَّهُ لَا یَیْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْکَافِرُونَ))(3)، ویمکن لنا الاستفادة من هذا الحدیث بعدة أوجه، منها ان ما ورد فی الحدیث الشریف هو جزاء لمن أعان علی قتل المسلم فیکون القاتل للمسلم مشمولا بالکفر من باب أولی، هذا أولا، وثانیا: هذا الحدیث الشریف لا یجوّز لنا لعن القاتل لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فقط بل ویجوّز لنا لعن من أعان علی قتلهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

وعن ابن مسعود عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم انه قال: (أیها الناس لا ترجعوا بعدی کفارا، یضرب بعضکم رقاب بعض، ولا یؤخذ الرجل بجریرة أبیه ولا بجریرة أخیه)(4).

والأحادیث فی هذا المعنی کثیرة وفیما قدمنا کفایة لمتدبر وبه نستطیع إثبات ان القاتل للنفس المؤمنة عن عمد کافر والکافر یکون مشمولا بقوله سبحانه وتعالی ((فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَی الْکَافِرِینَ)) فیجوز حینئذ لعن کل قاتل، ویکون أولی الناس باللعن من قتل خیرة المؤمنین وسادة المسلمین وصفوة الناس أجمعین من الأولین والآخرین فلو کان هنالک وصف أشد من الکفر لما ترددنا فی إطلاقه علیهم لعظیم ما جنوه وفداحة ما اقترفوه. 


1- میزان الاعتدال للذهبی ج2 ص100، تفسیر ابن کثیر ج1 ص549، الکامل لابن عدی ج3 ص203.
2- مسند أبی یعلی لأبی یعلی الموصلی ج10 ص308.
3- سورة یوسف الآیة رقم 87.
4- مجمع الزوائد للهیثمی ج6 ص283 باب لا یجنی أحد علی أحد ولا یؤخذ أحد بجریرة غیره، وقال الهیثمی بعد إیراده: (رواه البزار ورجاله رجال الصحیح).

ص: 383

الدلیل الثانی: إن قتل أهل البیت إفساد فی الأرض والمفسد فی الأرض ملعون

قال الله سبحانه وتعالی ((فَهَلْ عَسَیْتُمْ إِنْ تَوَلَّیْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَکُمْ * أُولَئِکَ الَّذِینَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَی أَبْصَارَهُمْ))(1) فبین تعالی ان الإفساد فی الأرض یستتبع اللعن والطرد من الرحمة الإلهیة، وقد اتفقت الروایات الشریفة علی أن القتل هو من مصادیق الإفساد فی الأرض، وقد ورد فی الحدیث الشریف أن السماوات والأرض وما فیهن لا تعدل عند الله سبحانه وتعالی نفساً مظلومة تزهق بباطل.

فعن النبی صلی الله علیه وآله وسلم انه قال: (والذی نفس محمد بیده لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدن_ی_ا)(2). وعنه صلی الله علیه وآله وسلم قال: (لزوال الدنیا وما فیها أهون علی الله من قتل مسلم بغیر حق)(3). وفی حدیث آخر عنه صلی الله علیه وآله وسلم قال: (لزوال الدنیا جمیعا أهون علی الله من دم یسفک بغیر حق)(4).

 فإذا کان القتل من مصادیق الإفساد فی الأرض وموجبا للعن فإن قتل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من اکبر وأعظم مصادیق ذلک الإفساد وصاحبه یستحق أغلظ درجات اللعن وأشدها.

وقد یکون للفساد وجه تحقق آخر، وهو أن فی قتل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین إفناء وإبادة للأخیار وإبقاء للأشرار والمفسدین، وهو من باب رفع أحد النقیضین


1- سورة محمد الآیة 22.
2- کنز العمال للمتقی الهندی ج15 ص32 ، الدر المنثور لجلال الدین السیوطی ج2 ص198 ، المجموع لمحیی الدین النووی ح18 ص345 ، مغنی المحتاج لمحمد بن احمد الشربینی ج4 ص2 ، إعانة الطالبین للبکری الدمیاطی ج4 ص124.
3- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج65 ص193 ، کنز العمال للمتقی الهندی ج15 ص32.
4- کنز العمال للمتقی الهندی ج15 ص32 ، الکامل لعبد الله بن عدی ج3 ص145 ، تهذیب الکمال للمزی ج9 ص237.

ص: 384

واثبات الآخر، وهذا الإفناء والإبادة للأخیار وإبقاء الفجار والأشرار وهو من أعظم الفساد فی الأرض والمفسد یصح لعنه والتبرّؤ منه بنص کتاب الله سبحانه وتعالی.

الدلیل الثالث: فی قتلهم نقض للعهد وقطعا لما أمر الله به أن یوصل

قال الله سبحانه وتعالی فی محکم کتابه ((وَالَّذِینَ یَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِیثَاقِهِ وَیَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ یُوصَلَ وَیُفْسِدُونَ فِی الْأَرْضِ أُولَئِکَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ))(1).

ویمکن أن نتصور لنقض العهد وقطع ما أمر الله سبحانه وتعالی به أن یوصل عدة صور:

ألف: ان القاتل لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ناقض للعهد الذی أخذه الله سبحانه وتعالی علی العباد، لأنه سبحانه وتعالی قد أمر عباده بحفظ النفس وأخذ علیهم العهد والمیثاق أن لا یقتلوا أنفسهم ولا أولادهم ولا غیرهم من بنی جنسهم قال سبحانه وتعالی ((وَإِذْ أَخَذْنَا مِیثَاقَکُمْ لَا تَسْفِکُونَ دِمَاءَکُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَکُمْ مِنْ دِیَارِکُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ))(2). وقال سبحانه وتعالی أیضا ((وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِی حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ))(3) وقال سبحانه وتعالی فی آیة ثالثة ((مِنْ أَجْلِ ذَلِکَ کَتَبْنَا عَلَی بَنِی إِسْرَائِیلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَیْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِی الْأَرْضِ فَکَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِیعًا))(4) فالقاتل لأهل البیت ناقض لجمیع هذه العهود والمواثیق المأخوذة من قبل الله سبحانه وتعالی علی عباده وناقض العهد والمیثاق یجوز لعنه قال الله سبحانه وتعالی ((فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِیثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِیَةً))(5)


1- سورة الرعد الآیة رقم 25.
2- سورة البقرة الآیة رقم 84.
3- سورة الإسراء الآیة رقم 33.
4- سورة المائدة الآیة 32.
5- سورة المائدة الآیة رقم 13.

ص: 385

باء: إن الله سبحانه وتعالی أوجب علی الناس مودة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بقوله: ((قُلْ لَا أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی))(1) وقد بین النبی صلی الله علیه وآله وسلم قرباه حینما سأله المسلمون: (من قرابتک هؤلاء الذین وجبت علینا مودتهم فقال صلی الله علیه وآله:علی وفاطمة وابناهما)(2) وقاتل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین قاطع لهذه المودة حتما فیکون مشمولا بقوله سبحانه وتعالی ((وَالَّذِینَ یَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِیثَاقِهِ وَیَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ یُوصَلَ وَیُفْسِدُونَ فِی الْأَرْضِ أُولَئِکَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ))(3) فیجوز حینئذ لعنهم لهذه العلة.

جیم: إن النبی صلی الله علیه وآله وسلم لم یخرج من الدنیا حتی اخذ علی المسلمین العهد والمیثاق والبیعة للإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه فی یوم غدیر خم عند رجوعه من حجة الوداع حیث ارتقی منبرا اعد له وصاح فی الناس: (... یا أیها الناس إن الله مولای وأنا مولی المؤمنین وأنا أولی بهم من أنفسهم، من کنت مولاه فهذا مولاه اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. ثم قال: أیها الناس إنی فرطکم وإنکم واردون علی الحوض، حوض أعرض مما بین بصری وصنعاء، فیه آنیة عدد النجوم قدحان من فضة، وإنی سائلکم حین تردون علی عن الثقلین فانظروا کیف تخلفونی فیها الثقل الأکبر کتاب الله سبب طرفه بید الله وطرف بأیدیکم فاستمسکوا به، لا تضلوا ولا تبدلوا، والثقل الأصغر عترتی أهل بیتی فإنه قد نبأنی اللطیف الخبیر إنهما لن یفترقا حتی یردا علی الحوض)(4)


1- سورة الشوری الآیة 23.
2- المعجم الکبیر للطبرانی ، تفسیر الکشاف للزمخشری ج3 ص467، تفسیر الثعلبی ج8 ص37، شواهد التنزیل للحاکم الحسک_انی ج2 ص194، تفسیر النسفی ج4 ص101، تفسیر الرازی ج27 ص166، تفسیر ابن عربی لابن العربی ج2 ص219، فتح القدیر للشوکانی ج4 ص537.
3- سورة الرعد الآیة رقم 25.
4- المعجم الکبیر للطبرانی ج3 ص180، کنز العمال للمتقی الهندی ج1 ص189 وج5 ص289، تاریخ دمشق لاب_ن ع_ساک_ر ج42 ص220، البدایة والنهایة لابن کثیر ج7 ص386.

ص: 386

ومهما فهمنا من کلمة الولی فلإن معانیها تجمع علی ضرورة رعایة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وحفظ عهد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فیهم الذی هو عهد الله سبحانه وتعالی، والقاتل لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ناقض لهذا العهد ناکث للمیثاق فیکون مشمولا بقول الله سبحانه وتعالی ((وَالَّذِینَ یَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِیثَاقِهِ وَیَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ یُوصَلَ وَیُفْسِدُونَ فِی الْأَرْضِ أُولَئِکَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ))(1).

الدلیل الرابع: ان فی قتلهم إیذاءً للنبی ومؤذی النبی ملعون

قد اتفقت کلمة المسلمین ومن دون مخالف علی ان أذی النبی صلی الله علیه وآله وسلم حرام قلیله وکثیره، قال الحطاب الرعینی نقلا عن القرطبی فی شرح صحیح مسلم: (یحرم علینا کل فعل یؤذیه وإن کان فی أصله مباحا لکنه إذا أدی إلی أذی النبی صلی الله علیه وآله وسلم ارتفعت الإباحة وحصل التحریم)(2).

وقال الشیخ الطبرسی: (والأذی قد یکون بالفعل، وقد یکون بالقول)(3)، وقد أفتی علماء العامة قبل الخاصة بکفر من آذی النبی صلی الله علیه وآله وسلم وأوجبوا قتله منهم:

ابن حزم حیث قال: (إن کل من آذی رسول الله صلی الله علیه وسلم فهو کافر مرتد یقتل ولا بد وبالله تعالی التوفیق)(4). وقال ابن حجر: (إن من آذی النبی صلی الله علیه وسلم بقول أو فعل یقتل)(5). وقال ابن تیمیة: (من آذی الرسول فقد آذی الله لان حق الله وحق رسوله متلازمان وفی هذا وغیره بیان لتلازم الحقین، وأن جهة حرمة الله


1- سورة الرعد الآیة رقم 25.
2- مواهب الجلیل للحطاب الرعینی ج5 ص12.
3- تفسیر مجمع البیان للشیخ الطبرسی ج5 ص79.
4- المحلی لابن حزم ج 11 ص 414.
5- فتح الباری ابن حجر ج 8 ص 369.

ص: 387

تعالی ورسوله جهة واحدة، فمن آذی الرسول فقد آذی الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله، لأن الأمة لا یصلون ما بینهم و بین ربهم إلا بواسطة الرسول، لیس لأحد منهم طریق غیره، ولا سبب سواه، وقد أقامه الله مقام نفسه فی أمره ونهیه وإخباره وبیانه، فلا یجوز أن یفرق بین الله و رسوله فی شیء من هذه الأمور)(1).

ودلیل الجمیع هو قوله سبحانه وتعالی ((إِنَّ الَّذِینَ یُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِی الدُّنْیَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِینًا))(2) وقوله سبحانه وتعالی ((وَمِنْهُمُ الَّذِینَ یُؤْذُونَ النَّبِیَّ وَیَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَیْرٍ لَکُمْ یُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَیُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِینَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِینَ آَمَنُوا مِنْکُمْ وَالَّذِینَ یُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ))(3).

ویلزم من حرمة إیذاء النبی صلی الله علیه وآله وسلم حرمة من یتأذی النبی صلی الله علیه وآله وسلم بأذیتهم وقد ثبت علی نحو القطع انه صلی الله علیه وآله وسلم یؤذیه ما یؤذی أهل بیته وعترته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فقد ورد فی الحدیث عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم انه قال: (إن الله عز وجل اشتد غضبه علی الیهود أن قالوا عزیر ابن الله، واشتد غضبه علی النصاری أن قالوا المسیح ابن الله، وأن الله اشتد غضبه علی من أراق دمی وآذانی فی عترتی)(4).

 وقد ورد أیضا انه صلی الله علیه وآله وسلم قال فی حق ابنته السیدة فاطمة بنت محمد صلوات الله وسلامه علیها: (فاط_مة بضعة منی من آذاها فقد آذانی)(5).

 وقد قال صلی الله علیه وآله وسلم فی حق أخیه أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب


1- الصارم المسلول لابن تیمیة ص 40-41.
2- سورة الأحزاب الآیة 57.
3- سورة التوبة الآیة 61.
4- الدر المنثور لجلال الدین السیوطی ج3 ص230، والکامل لعبد الله بن عدی ج6 ص302.
5- المجموع لمحیی الدین النووی ج20 ص244، شرح الأخبار للقاضی النعمان المغربی ج3 ص30، السنن الکبری للبیهقی ج10 ص202، شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج16 ص273.

ص: 388

صلوات الله وسلامه علیه: (من آذی علیا فقد آذانی)(1).

وعن أنس بن مالک قال: (بینا رسول الله صلی الله علیه وسلم راقد فی بعض بیوته علی قفاه إذ جاء الحسن یدرج حتی قعد علی صدر النبی صلی الله علیه وسلم ثم بال علی صدره فجئت أمیطه عنه فاستنبه رسول الله صلی الله علیه وسلم فقال ویحک یا أنس دع ثمرة فؤادی فإن من آذی هذا فقد آذانی ومن آذانی فقد آذی الله)(2).

وقد خرج النبی صلی الله علیه وآله وسلم یوما من بیت عائشة فمر علی فاطمة صلوات الله وسلامه علیها فسمع حسینا یبکی فقال صلی الله علیه وآله وسلم: (ألم تعلمی إن بکاءه یؤذینی)(3).

فإذا کان بکاء الحسین صلوات الله وسلامه علیه یؤذی النبی صلی الله علیه وآله وسلم فکیف یا تری لو رآه علی الرمضاء مقتولا، ورأسه علی الرمح مشهورا، یطاف به وبحریمه من بلد إلی بلد. وإذا کان الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه ثمرة فؤاد النبی صلی الله علیه وآله وسلم یؤذیه ما یؤذیه فکیف به لو رآه یتلوی من السم یخرج کبده قطعة بعد قطعة، أم ماذا یقول صلی الله علیه وآله وسلم لو شاهد جنازته صلوات الله وسلامه علیه ترمی بالسهام والحجارة لیس من ذنب إلا لأنه أراد أن یدفن قرب جده رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، أم کیف یصبر قلبه صلی الله علیه وآله وسلم وهو یری المسمار یخترق قلب التقی ویکسر صدر الهدی ویقع فی صدر ابنته الطاهرة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها، أم کیف للنبی صلی الله علیه وآله وسلم أن لا یتأذی من أمته ولا یلعنها وهو یراها تجرع ابن عمه ووصیه أنواع المحن وألوان الرزایا.


1- مسند احمد بن حنبل ج3 ص484، صحیح ابن حبان ج15 ص367، الاستیعاب لابن عبد البر ج3 ص1183، الجامع الصغیر لجلال الدین السیوطی ج2 ص547، التاریخ الکبیر للبخاری ج6 ص307، الإصابة لابن حجر ج4 ص534، تاریخ الإسلام للذهبی ج3 ص631.
2- المعجم الکبیر للطبرانی ج3 ص43، کنز العمال للمتقی الهندی ج12 ص125.
3- المعجم الکبیر ج3 ص116، تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج14 ص171، ترجمة الإمام الحسین لابن عساکر ص190.

ص: 389

الدلیل الخامس: فی قتل أهل البیت إیذاء للمؤمنین ومؤذیهم ملعون

قال تعالی ((وَالَّذِینَ یُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِینَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَیْرِ مَا اکْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِینًا))(1) وقد ورد عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم قال: (من آذی مسلما فقد آذانی ومن آذی مسلما فقد آذی الله)(2)، وقال صلی الله علیه وآله وسلم أیضاً: (من آذی مسلما فقد آذانی ومن آذانی فقد آذی الله)(3) وقد مر فی الدلیل السابق ان أذی النبی صلی الله علیه وآله وسلم محرم وانه من الأفعال التی تستوجب اللعن.

وفی قتل احد أفراد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أذی له علی المستوی الشخصی، وهو مؤمن ومسلم، بل من سادة المسلمین وخیرة المؤمنین، فیکون أذاه بوصفه واحدا من المسلمین أذی للنبی صلی الله علیه وآله وسلم ومؤذی النبی صلی الله علیه وآله وسلم یستحق اللعن.

وفی قتل احد أفراد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین کذلک أذی لبقیة أفراد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من المؤمنین فیکون مؤذیهم ملعوناً قد احتمل بهتانا وإثما مبینا.

وفی قتل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین إیذاء لبقیة المؤمنین من غیر أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فإن نار مصابهم باقیة فی قلوب المؤمنین منذ یوم مقتلهم إلی یوم الناس هذا بل إلی یوم القیامة، والمتسبب فی إیذاء المؤمنین عامة یستحق أشد درجات اللعن والطرد من الرحمة الإلهیة.


1- سورة الأحزاب الآیة 58.
2- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج42 ص201.
3- کنز العمال للمتقی الهندی ج16 ص10 ، الجامع الصغیر لجلال الدین السیوطی ج2 ص547 ، البدایة والنهایة لابن کثیر ج7 ص383.

ص: 390

الدلیل السادس: فی قتل أهل البیت قطع للأرحام وحکم بغیر ما انزل الله 

قال سبحانه وتعالی:

((فَهَلْ عَسَیْتُمْ إِنْ تَوَلَّیْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَکُمْ (22) أُولَئِکَ الَّذِینَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَی أَبْصَارَهُمْ))(1)، وقال سبحانه وتعالی أیضاً ((وَمَنْ لَمْ یَحْکُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِکَ هُمُ الْکَافِرُونَ))(2).

وهذه الآیات الکریمة تتحدث عن أولئک الذین یتولون الحکم وإدارة أمور الناس فیستغلون هذه المناصب لیفسدوا فی الأرض بالظلم والجور، فتکون إحدی نتائج ظلمهم وفسادهم قطعهم للأرحام وحکمهم بما لم ینزل الله سبحانه وتعالی، فیکون فعلهم هذا مستوجبا للعن والطرد والإبعاد من الرحمة الإلهیة.

وقد تقدم ان قتل النفس المحترمة من أوضح مصادیق الظلم والفساد، وأعظم منه قتل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فیکون فاعله مشمولا بقوله سبحانه وتعالی ((أُولَئِکَ الَّذِینَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَی أَبْصَارَهُمْ)).

والقتل هو أیضا حکم بما لم ینزل الله سبحانه، فالله سبحانه وتعالی قد انزل بشریعته حفظ النفس والرحم ووصلهما وعدم قطیعتهما، وهؤلاء الظالمون قد حکموا علی العباد بإزهاق النفوس وقطع الأرحام فیکون حکمهم غیر مطابق لحکم الله سبحانه فیصح حینئذ لعنهم بهذا السبب.

کما أنّ الله سبحانه وتعالی قد انزل فی جمیع شرائعه وجوب حفظ النفس والرحم ووصلهما وعدم قطیعتهما، فیکون الحکم بقتل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من قبل الحکام الظالمین غیر مطابق لحکم الله سبحانه وتعالی فیصح حینئذ لعنهم بهذا السبب.


1- سورة محمد الآیة 22 و23.
2- سورة المائدة الآیة 44.

ص: 391

وَلَعَنَ اللهُ الْمُمَهِّدِینَ لَهُمْ بِالتَّمْکِینِ مِنْ قِتَالِکُمْ

اشارة

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

1: وَلَعَنَ اللَّهُ الْمُمَهِّدِینَ               2: لَهُمْ بِالتَّمْکِینِ                                             3: مِنْ قِتَالِکُمْ

المبحث الثالث: امتداد التمهید لقتل أهل البیت جیلا بعد جیل

اجتماع السقیفة لیس أول إجتماع لغصب الخلافة

فاطمة ومحسنها صلوات الله وسلامه علیهما أول ضحایا تمهید یوم السقیفة

التمهید لعمر بن الخطاب ومن بعده لأبی عبیدة بن الجراح

تبدل المخطط السابق وظهور عثمان بن عفان علی الساحة

الشوری مخطط لإیصال آل أمیة وإقصاء آل البیت علیهم السلام

لماذا شارک أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه بهذه الخدعة وهو یعلم بنتائجها؟

محاولة انتزاع الإمارة من آل أمیة وإرجاعها للمهاجرین مرة أخری

دور معاویة بن أبی سفیان فی مقتل عثمان بن عفان

دور الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه فی هذا الصراع

رجوع الخلافة إلی أصحابها الشرعیین

أسباب إشعال الفتنة ونار الحرب بوجه أمیر المؤمنین

عائشة بنت أبی بکر تقود تمرد الناکثین

القاسطون والمارقون امتداد لمسلسل التمهید لقتلة أهل البیت علیهم السلام

ص: 392 

ص: 393

وَلَعَنَ اللهُ الْمُمَهِّدِینَ لَهُمْ بِالتَّمْکِینِ مِنْ قِتَالِکُمْ

 وفی هذه الفقرة مباحث مهمة کما فی غیرها من فقرات الزیارة الشریفة نستعرضها فیما یأتی:

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة 

قد ورد لعن الممهدین والممکنین من قتال أهل البیت فی متون الزیارات الشریفة والأحادیث النبویة تارة بشکل صریح وتارة مع ضم بعض المقدمات، نذکر فیما یأتی نبذة منها:

منها ما عن السید ابن طاوس قدس الله روحه فی إقبال الأعمال قال: (عن أبی عبد الله جعفر بن محمد الصادق علیهما السلام قال: سمعته یدعو فی یوم عرفة فی الموقف بهذا الدعاء، فنسخته: تقول إذا زالت الشمس من یوم عرفة وأنت بها... السلام

ص: 394

علیک یا رسول الله، السلام علیک یا نبی الله... السلام علیک یا أم الحسن والحسین، لعن الله أمة غصبتک حقک ومنعتک ما جعله الله لک حلالا، أنا بریء إلیک منهم ومن شیعتهم. السلام علیک یا مولای یا أبا محمد الحسن الزکی، السلام علیک یا مولای، لعن الله أمة قتلتک وبایعت فی أمرک وشایعت أنا بریء منهم ومن شیعتهم. السلام علیک یا مولای یا أبا عبد الله الحسین بن علی صلوات الله علیک وعلی أبیک وجدک محمد صلی الله علیه، لعن الله أمة استحلت دمک، ولعن الله أمة قتلتک واستباحت حریمک، ولعن الله أشیاعهم وأتباعهم، ولعن الله الممهدین لهم بالتمکین من قتالکم، أنا بریء إلی الله والیک منهم...)(1).

ومنها ما عن جعفر بن محمد بن قولویه قدس الله روحه فی کتابه المزار قال: (حدثنی أبو عبد الرحمان محمد بن أحمد بن الحسین العسکری ومحمد بن الحسن جمیعا، عن الحسن بن علی بن مهزیار، عن أبیه علی بن مهزیار، عن محمد بن أبی عمیر، عن محمد بن مروان، عن أبی حمزة الثمالی، قال: قال الصادق صلوات الله وسلامه علیه: إذا أردت المسیر إلی قبر الحسین صلوات الله وسلامه علیه فصم یوم الأربعاء والخمیس والجمعة... وتقول: صلی الله علیک یا أبا عبد الله ثلاثا، وعلی روحک وبدنک، لعن الله قاتلیک، ولعن الله سالبیک ولعن الله خاذلیک، ولعن الله من شایع علی قتلک ومن أمر بذلک وشارک فی دمک، ولعن الله من بلغه ذلک فرضی به أو سلم إلیه، أنا أبرأ إلی الله من ولایتهم وأتولی الله ورسوله وآل رسوله... وتقول: لعن الله من رماک، لعن الله من طعنک، لعن الله من اجتز رأسک، لعن الله من حمل رأسک، لعن الله من نکت بقضیبه بین ثنایاک، لعن الله من أبکی نساءک. لعن الله من أیتم أولادک، لعن الله من أعان علیک، لعن الله من سار إلیک، لعن الله من منعک ماء الفرات، لعن الله من


1- إقبال الأعمال للسید ابن طاوس ج 2 ص 135.

ص: 395

غشک وخلاک، لعن الله من سمع صوتک فلم یجبک. لعن الله ابن آکلة الأکباد، ولعن الله ابنه وأعوانه وأتباعه وأنصاره وابن سمیة، ولعن الله جمیع قاتلیک وقاتلی أبیک ومن أعان علی قتلکم، وحشی الله أجوافهم وبطونهم وقبورهم نارا، وعذبهم عذابا ألیما...قتل الله من قتلکم بالأیدی والألسن)(1).

ویمکن أیضا ان نستفید من المبحث السابع من مباحث الفقرة السابقة للزیارة والذی هو بعنوان (أدلة جواز لعن قتلة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین) فی إثبات جواز لعن الممهدین والممکنین من قتال أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فالإعانة والتمهید والتمکین من قتل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین إفساد فی الأرض والمفسد فی الأرض یجوز لعنه بنص الکتاب العزیز ((فَهَلْ عَسَیْتُمْ إِنْ تَوَلَّیْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَکُمْ * أُولَئِکَ الَّذِینَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَی أَبْصَارَهُمْ))(2).

وکذلک فان الممکّن والممهّد والمعین علی قتلهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین مؤذٍ للنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ومؤذی النبی صلی الله علیه وآله وسلم یصح لعنه بصریح قوله سبحانه وتعالی ((إِنَّ الَّذِینَ یُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِی الدُّنْیَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِینًا))(3).

وهو داخل أیضا فی باب أذی المؤمنین والمسلمین ومؤذیهم ملعون لقوله سبحانه وتعالی ((وَالَّذِینَ یُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِینَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَیْرِ مَا اکْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِینًا))(4).

وتوجد إضافة إلی ذلک أدلة أخری کثیرة ترکناها طلبا للاختصار. 


1- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص393 __ 414.
2- سورة محمد الآیة 22.
3- سورة الأحزاب الآیة 57.
4- سورة الأحزاب الآیة 58.

ص: 396

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة
1: وَلَعَنَ اللَّهُ الْمُمَهِّدِینَ

(وَلَعَنَ اللَّهُ) الواو هنا عاطفة وما بعده معطوف علی ما سبق ذکره فی فقرات الزیارة السابقة، و(الْمُمَهِّدِینَ) جمع (مُمَهِّد) من (التمهید) والمشتق من (المهد) أو (المهاد)، واصله من التهیئة والتسویة والتوطئة للشیء قال الفراهیدی: (مهد: المهد: الموضع یهیأ لینام فیه الصبی. والمهاد اسم أجمع من المهد، کالأرض جعلها الله مهادا للعباد...ومهدت لنفسی خیرا، أی: هیأته ووطأته)(1).

وقال الشیخ الطریحی قدس الله روحه فی مجمع البحرین: (ومهدت الأمر تمهیدا: وطأته وسهلته. والمهد: الموضع یهیأ للصبی ویوطأ)(2).

وقد یطلق أیضا علی الارتفاع ومنه قولهم: (وامتهد سنام البعیر وغیره ارتفع)(3)فیصبح کل من رفع غیره فقد مهد له.

والتمهید یکون تارة للموضع وتارة أخری للعذر، قال الجوهری وابن منظور وغیرهم: (وتمهید الأمور: تسویتها وإصلاحها: وتمهید العذر: بسطه وقبوله)(4).

2: لَهُمْ بِالتَّمْکِینِ

لَهُمْ: والضمیر عائد إلی قتلة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین المذکورین فی الفقرة السابقة (وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً قَتَلَتْکُمْ). 


1- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 4 ص 31 __ 32 باب الهاء والتاء والراء هتر، هرت، تره.
2- مجمع البحرین للشیخ الطریحی ج 4 ص 242 مادة (م ه_ د).
3- معجم مقاییس اللغة لأبی الحسین أحمد بن فارس زکریا ج 5 ص 280.
4- الصحاح للجوهری ج 2 ص 541.

ص: 397

بالتمکین: قد یأتی التمکین بمعنی الإقدار علی الشیء قال الشیخ الطریحی فی مجمع البحرین: (ومکنته من الشیء تمکینا: جعلت له علیه سلطانا، وقدرا، فتمکن منه. واستمکن الرجل من الشیء، وتمکن منه بمعنی، أی قدر علیه)(1).

وقد یکون بمعنی توفیر الوسائل والعدد ورفع کل الموانع، قال الشیخ الطبرسی فی تفسیر مجمع البیان: (التمکین: إعطاء ما یصح به الفعل مع رفع المنع، لأن الفعل کما یحتاج إلی القدرة، فقد یحتاج إلی آلة، وإلی دلالة، وإلی سبب، ویحتاج إلی ارتفاع المنع، فالتمکین عبارة عن جمیع ذلک)(2).

 وقال أبو هلال العسکری فی الفروق اللغویة: (إن التمکین إعطاء ما یصح به الفعل کائنا ما کان من الآلات والعدد والقوی)(3).

3: مِنْ قِتَالِکُمْ

مِنْ: وهی لتبیان الغایة، فقد وردت لحرف الجر (مِنْ) معانٍ عدة، وأحد معانیها الموضوعة لها فی اللغة هی لتبیان الغایة(4)، فتکون (مِنْ) فی هذه الفقرة الشریفة من الزیارة هو لتبیان ان غایة الممهدین من تمهیدهم وتمکینهم للآخرین هو قتال أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین. وقد تکون (مِنْ) بمعنی (علی) للاستعلاء لأنه احد معانیها(5).

قِتَالِکُمْ: لا یخفی ان ضمیر الجمع راجع إلی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، ولفظ (قِتَال) وهو بکسر القاف مصدر قاتل، وسنورد فیما یأتی عدة معانٍ محتملة المراد


1- مجمع البحرین للشیخ الطریحی ج 4 ص 221 باب المیم مادة (م ک ن).
2- تفسیر مجمع البیان للشیخ الطبرسی ج 4 ص 222.
3- الفروق اللغویة لأبی هلال العسکری ص 142 الفرق بین التمکین والإقدار.
4- راجع الجنی الدانی فی حروف المعانی الباب الثانی فی الثنائی (من) المعنی الثامن ص313.
5- المصدر السابق المعنی التاسع.

ص: 398

للإمام صلوات الله وسلامه علیه منها:

ألف: قال محمد القلعجی: (القتال بکسر القاف مصدر قاتل، ویقصد به الحرب والمدافعة بالسلاح)(1) فیشمل هذا الوصف علی وفق هذا التعریف کل من رفع السلاح بوجه أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ودافعهم بحرب أو غیرها، سواء أدی هذا الرفع للسلاح أو تلک المدافعة إلی قتلهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أو لم یؤدِّ، لان القتال اعم من القتل قال ابن منظور فی لسان العرب: (ولیس کل قتال بمعنی القتل)(2).

باء: وقد یکون قتالهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بمعنی إنزالهم بمنزلة المقتول الهالک لا یعتد بوجودهم ولا یؤخذ بقولهم، وبمعنی آخر یتم إلغاؤهم اجتماعیا، ومنه قول عمر بن الخطاب فی حق سعد بن معاذ کما نقله ابن الأثیر وعلق علیه بقوله: (وفی روایة «إن عمر قال یوم السقیفة : اقتلوا سعدا قتله الله» أی اجعلوه کمن قتل واحسبوه فی عداد من مات وهلک، ولا تعتدوا بمشهده ولا تعرجوا علی قوله. ومنه حدیث عمر أیضا «من دعا إلی إمارة نفسه أو غیره من المسلمین فاقتلوه» أی اجعلوه کمن قتل ومات، بأن لا تقبلوا له قولا ولا تقیموا له دعوة. وکذلک الحدیث الآخر «إذا بویع الخلیفتین فاقتلوا الآخر منهما» أی أبطلوا دعوته واجعلوه کمن مات)(3).

جیم: وقد یأتی القتال بمعنی القتل، واللعن، والإبعاد(4).

 فیصبح معنی قول الإمام صلوات الله وسلامه علیه (وَلَعَنَ اللَّهُ الْمُمَهِّدِینَ لَهُمْ بِالتَّمْکِینِ مِنْ


1- معجم لغة الفقهاء لمحمد القلعجی ص357.
2- لسان العرب لابن منظور ج11 ص549 ، تاج العروس للزبیدی ج15 ص609 ، النهایة فی غریب الحدیث لابن الأثیر ج4 ص13.
3- النهایة فی غریب الحدیث لابن الأثیر ج 4 ص 13 باب القاف مع التاء.
4- المصدر السابق.

ص: 399

قِتَالِکُمْ) وفقا للمعنی اللغوی الذی تقدم هو: (ولعن الله المهیئین لقتلة أهل البیت وظالمیهم والموطئین لهم العذر والموضع الذی من خلاله استطاعوا مدافعة أهل البیت علیهم السلام بالسلاح وغیره، فسفکوا دماءهم، وأنزلوهم منزلة الهالک الذی لا یعتد بوجوده ولا یؤخذ بقوله، فبإقدارهم علی ذلک وتوفیر الوسائل والعدد لهم ورفع الموانع عن طریقهم استحقوا اللعن من الله ومن الزائرین لقبر سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه).

المبحث الثالث: امتداد التمهید لقتل أهل البیت جیلا بعد جیل 
اشارة

إن ما وقع من انقلاب بعد استشهاد النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لم یکن ولید الصدفة ومن دون میعاد، لان أی تحول تاریخی لابد وان تکون له جذور قدیمة، وأسباب لیست ولیدة لحظة ذلک التحول، ولابد أیضا أن تکون له عقول تدبر ذلک التحول، وتخطط له، وتتحین الفرصة، وتمهد الصعوبات التی تحول دون تحقیق ذلک التغییر.

وتحول التاریخ الإسلامی بعد یوم السقیفة لیس بخارج عن هذه القاعدة، فقد کانت له أسباب استعرضنا بعضها فی مبحث سابق، أما الأشخاص فلا نجد صعوبة فی التعرف علیهم، لان إلقاء نظرة سریعة علی الأحداث التی سبقت السقیفة أو التی تلتها، کافیة لإیضاح أن هنالک أفرادا کانوا یشکلون تکتلات صغیرة أو کبیرة یعین بعضهم بعضا، ویشد بعضهم علی أیدی البعض الآخر، ویمهد بعضهم للبعض الآخر، وقد کان لهذه التکتلات الأثر البالغ فی تغییر مسار التاریخ الإسلامی، ولیس هذا القول من محض الخیال أو مما ینکره التاریخ الإسلامی، لان أخبار التأریخ ملیئة بذکر الشواهد القاطعة بصحة وجود مثل هذه التکتلات وتأثیرها فی مسار المسلمین،

ص: 400

وفیما یأتی جملة من الأخبار المؤکدة والموضحة لبعض تحرکات هذه التکتلات وکیف شارک بعضهم لتمهید الأمر للبعض الآخر وکیف شارک الجمیع فی تمهید الأمر لقتلة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

اجتماع السقیفة لیس أول إجتماع لغصب الخلافة

یوجد توهم تاریخی وقع فیه کل من کتب وحلل أحداث ووقائع تلک الأیام التی أعقبت استشهاد النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، لان کل من کتب حول سقیفة بنی ساعدة وبیعة أبی بکر فیها، أکد علی أن الأنصار کانوا أول من بادر إلی إخراج الإمامة والخلافة عن أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، ومن ثم وکردة فعل أو تتمیما لهذا الاجتماع حضر أبو بکر وعمر بن الخطاب وثلة أخری سیأتی ذکرها فی طیات هذا البحث فصار بینهم وبین الأنصار ما صار.

ولکن الحقیقة غیر ذلک، فوفقا لعدة شواهد تاریخیة یتضح بما لا یقبل الشک أن اجتماع الأنصار لم یکن إلا رد فعل علی تجمع آخر کان معقودا لغصب الخلافة من قبل بعض الشخصیات المهاجرة الذین تذکر الروایة التالیة عن عمر بن الخطاب بعضا منهم، حیث قال: (...وإنه کان من خبرنا حین توفی الله نبیه صلی الله علیه وسلم أن علیا والزبیر ومن معهما تخلفوا عنا فی بیت فاطمة وتخلفت عنا الأنصار بأسرها واجتمع المهاجرون إلی أبی بکر فقلت لأبی بکر انطلق بنا إلی إخواننا هؤلاء من الأنصار فانطلقنا نؤمهم فلقینا رجلان صالحان قد شهدا بدرا فقالا أین تریدون یا معشر المهاجرین فقلنا نرید إخواننا من الأنصار قالا فارجعوا فاقضوا أمرکم بینکم فقلنا والله لنأتینهم قال فأتیناهم وهم مجتمعون فی سقیفة بنی ساعدة قال وإذا بین أظهرهم رجل مزمل قال قلت من هذا قالوا سعد بن عبادة فقلت ما شأنه قالوا وجع 

ص: 401

فقام رجل منهم فحمد الله وقال أما بعد فنحن الأنصار وکتیبة الإسلام وأنتم یا معشر قریش رهط نبینا وقد دفت إلینا من قومکم دافة فلما رأیتهم یریدون أن یختزلونا من أصلنا ویغصبونا الأمر...)(1).

وعن البخاری فی صحیحه عن عمر بن الخطاب قال: (انه قد کان من خبرنا حین توفی الله نبیه صلی الله علیه وسلم أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم فی سقیفة بنی ساعدة وخالف عنا علی والزبیر ومن معهما واجتمع المهاجرون إلی أبی بکر فقلت لأبی بکر یا أبا بکر انطلق بنا إلی إخواننا هؤلاء من الأنصار فانطلقنا نریدهم فلما دنونا منهم لقینا رجلان منهم صالحان فذکرا ما تمالی علیه القوم فقالا أین تریدون یا معشر المهاجرین فقلنا نرید إخواننا هؤلاء من الأنصار فقالا لا علیکم أن لا تقربوهم اقضوا أمرکم فقلت والله لنأتینهم فانطلقنا حتی أتیناهم فی سقیفة بنی ساعدة فإذا رجل مزمل بین ظهرانیهم فقلت من هذا قالوا هذا سعد بن عبادة فقلت ماله قالوا یوعک فلما جلسنا قلیلا تشهد خطیبهم فأثنی علی الله لما هو أهله ثم قال أما بعد فنحن أنصار الله وکتیبة الإسلام وأنتم معشر المهاجرین رهط وقد دفت دافة من قومکم فإذا هم یریدون أن یختزلونا من أصلنا وان یحضنونا من الأمر فلما سکت أردت أن أتکلم وکنت زورت مقالة أعجبتنی أرید أن أقدمها بین یدی أبی بکر وکنت إداری منه بعض الحد فلما أردت أن أتکلم قال أبو بکر علی رسلک)(2).

وفی هذه الروایات مجموعة من الأمور المهمة التی تتضح من خلال تحلیل الروایة وتبیان ما وراء سطورها فیما یأتی: 


1- تاریخ الطبری ج 2 ص 446 __ 447 حدیث السقیفة، والبدایة والنهایة لابن کثیر ج5 ص266 قصة سقیفة بنی ساعدة وغیر ذلک.
2- صحیح البخاری ج 8 ص 26 __ 27 کتاب المحاربین من أهل الکفر والردة.

ص: 402

أولا: ان أحداث هذه الروایة کانت بعد استشهاد النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بدلیل قول عمر بن الخطاب (وإنه کان من خبرنا حین توفی الله نبیه صلی الله علیه وسلم).

ثانیا: ان الناس یومئذ کانوا علی ثلاثة أصناف ومشارب، فالإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه والزبیر وبقیة بنی هاشم کانوا فی دار فاطمة مجتمعین لتجهیز النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ودفنه.

وأما الأنصار فقد اجتمعوا فی سقیفة بنی ساعدة، وهنالک صنف ثالث من الصحابة اجتمعوا فی مکان لم یصرح به عمر بن الخطاب، ویظهر من قوله (واجتمع المهاجرون إلی أبی بکر) إن هذا الصنف هم من المهاجرین حصرا، وان هدفهم من الاجتماع کان تنصیبهم لأبی بکر أمیرا من دون علم کل من الأنصار ومن کان موجودا فی دار فاطمة صلوات الله وسلامه علیها.

ثالثا: وفی عبارة (...قالا فارجعوا فاقضوا أمرکم بینکم فقلنا والله لنأتینهم) دلیل قاطع علی ان اجتماع المهاجرین فی ذلک المکان کان قبل اجتماع الأنصار فی سقیفتهم، ولکن القوم لما سمعوا بان الأنصار قد عقدوا اجتماعا ثانیا لتنصیب أحدهم قرروا المضی نحوهم ونقض ما هموا به وعزموا علیه.

رابعا: وفی قول خطیب الأنصار حینما قال (...فنحن أنصار الله وکتیبة الإسلام وأنتم معشر المهاجرین رهط وقد دفت دافة من قومکم فإذا هم یریدون ان یختزلونا من أصلنا وان یحضنونا من الأمر) تصریح آخر علی أن تحرک الأنصار واجتماعهم فی سقیفة بنی ساعدة إنما جاء نتیجة تخوفهم من اجتماع آخر عقده بعض المهاجرین ومن بینهم عمر بن الخطاب وأبو بکر وآخرون أرادوا منه ان یختزلوا الأنصار عن أصلهم، ویستبدوا بالإمارة دون مشورتهم. 

ص: 403

فکان هذا الیوم أول یوم مهد فیه لقتل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، لان الخلافة حالما خرجت عن أهلها الشرعیین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین دخلت فی أیدی أناس کانوا مستعدین لفعل أی عظیم فی سبیل الحفاظ علیها، ولو أدی هذا الحفاظ إلی رفع السیف بوجه أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وسفک دمهم الطاهر، وهذا ما حصل بالفعل.

فاطمة ومحسنها صلوات الله وسلامه علیهما أول ضحایا تمهید یوم السقیفة

قد مر فی مبحث سابق ان السیدة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها ونتیجة للتنازع والفتنة التی حصلت بعد یوم السقیفة ضربت وألقت جنینا کان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم سماه محسنا، فکانت أول شهیدة طالتها ید التمهید والتمکین الذی أسس أساسه فی یوم السقیفة.

ونحن فی هذا المبحث لا نرید ان نعید ما سبق ذکره، وإنما نرید الإجابة عن تساؤل حاول البعض إثارته مرات عدیدة محاولة منه إسقاط کل التهم التی تدین قتلتها صلوات الله وسلامه علیها بحجة (إن الناس کانوا یحترمونها ویجلونها، ولن یکون من السهل القیام بأی عمل ضدها) أو ان المعاصرین لها صلوات الله وسلامه علیها (کانت قلوبهم مملوءة بحبها فکیف نتصور أن یهجموا علیها).

والجواب ان هذه الکلمات مجرد ادعاءات صیغت بإسلوب نثری یمکن التأثیر به فی مشاعر البسطاء من العامة الذین تؤثر فیهم الشعارات والکلمات الخلابة البراقة، إلا أنها لا یمکن أن تصمد أمام الحقیقة التاریخیة بحال من الأحوال، فلیت الأمر کما قال هذا البعض، ولیت الحقیقة کما صورها، ولیت قلوب الأمة کانت بالفعل مملوءة بحبها صلوات الله وسلامه علیها مما یمنعهم من الهجوم علی دارها وإحراق بابها وقتل جنینها، ولیت احترامهم وإجلالهم لهذا الموجود الملکوتی منعهم من القیام بأی عمل ضدها، ولکن

ص: 404

الحقیقة أمر بکثیر مما یحاول البعض تصویره، بل کل ما کتب حول تلک الفجیعة العظیمة والذی یستعظمه البعض ویستبعد وقوعه لم یکشف النقاب بشکل مفصل ولا صور ما وقع تلک الأیام علی نحو دقیق یعکس الحقیقة کما هی، لان المنقول لنا مجرد ألفاظ وکلمات، والألفاظ والکلمات تبقی عاجزة ومحدودة بحدودها الضیقة، فکیف یا تری یمکن للکلمات أن توصل إلینا الألم واللوعة وحرارة المسمار الذی اخترق أضلاع الزهراء صلوات الله وسلامه علیها، وکیف یمکن لهذه الألفاظ والکلمات أن تعکس لنا حالات الهلع والدهشة لسکان ذلک البیت الطاهر وهم ینظرون إلی النار تشتعل فی باب الدار، وأنی لهذه الألفاظ أن تحکی لنا ألم السوط الذی لوعت به خیرة النسوان فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها، وأنی للکلمات ان تنقل لنا بکاء الحسنین صلوات الله وسلامه علیهما ودهشة زینب صلوات الله وسلامه علیها وصبر الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وهو یری کل تلک الانتهاکات وکلمات النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم تدوی فی مسامعه وهو یوصیه بالصبر والتحمل فی سبیل حفظ أهل هذا البیت الذین بحفظهم سیحفظ الإسلام.

ثم کیف یستبعد ان تعتدی الأمة علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وتردی البضعة الطاهرة وجنینها صلوات الله وسلامه علیهما قتیلین شهیدین بعد ان صار من بدیهیات التاریخ ان انهارا من الدم قد سالت وان اکبر المجازر قد ارتکبت فی سبیل ترسیخ إمارة أبی بکر ومن جاء بعده، وان القوم الممهدین کانوا علی استعداد لسحق کل من یقف أمامهم ویمنع تقدمهم، وما محاولة قتل سعد بن عبادة فی نفس اجتماع السقیفة إلا خیر دلیل علی ما أوضحنا، فقد روی البخاری فی صحیحه عن عمر بن الخطاب قال وهو یتحدث عن أحداث یوم السقیفة: (کثر اللغط وارتفعت الأصوات حتی فرقت من الاختلاف فقلت ابسط یدک یا أبا بکر فبسط یده فبایعته وبایعه المهاجرون ثم بایعته الأنصار ونزونا علی سعد بن عبادة فقال قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة فقلت

ص: 405

قتل الله سعد بن عبادة)(1) وقوله ونزونا علی سعد دلیل علی ان عمر بن الخطاب کان متعمدا لقتل سعد بن عبادة بحجة الزحام وارتفاع الأصوات واللغط لولا أن بعض قومه قد تنبه لذلک.

وعن الیعقوبی فی تاریخه قال: (وقال عمر: اقتلوا سعدا، قتل الله سعدا)(2).

وعن ابن حبان فی صحیحه قال: (ونزونا علی سعد بن عبادة فقال قائل من الأنصار قتلتم سعدا قال عمر فقلت وأنا مغضب قتل الله سعدا فإنه صاحب فتنة وشر)(3).

وقال الطبری فی تاریخه: (فأقبل الناس من کل جانب یبایعون أبا بکر وکادوا یطؤون سعد بن عبادة فقال ناس من أصحاب سعد اتقوا سعدا لا تطؤوه فقال عمر اقتلوه قتله الله ثم قام علی رأسه فقال لقد هممت أن أطأک حتی تندر عضوک فأخذ سعد بلحیة عمر فقال والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفی فیک واضحة فقال أبو بکر مهلا یا عمر الرفق ههنا أبلغ فأعرض عنه عمر وقال سعد أما والله لو أن بی قوة ما أقوی علی النهوض لسمعت منی فی أقطارها وسککها زئیرا یحجرک وأصحابک أما والله إذا لألحقنک بقوم کنت فیهم تابعا غیر متبوع احملونی من هذا المکان فحملوه)(4).

وفی نص آخر عن الطبری قال: (وقال قائل حین أوطئ سعد قتلتم سعدا فقال عمر قتله الله إنه منافق)(5)


1- صحیح البخاری ج 8 ص 27 __ 28 کتاب المحاربین من أهل الکفر والردة.
2- تاریخ الیعقوبی ج 2 ص 124.
3- صحیح ابن حبان ج 2 ص 157.
4- تاریخ الطبری ج 2 ص 458 __ 459.
5- المصدر السابق ص 459.

ص: 406

فإراقة الدم والحکم بالنفاق والدعوة إلی القتل بل والإقدام علیه کانت أسهل بکثیر علی الممهدین من ضیاع الإمارة وعودة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین الی مقاماتهم ومراتبهم التی رتبهم الله فیها.

وإزهاق دم الزهراء صلوات الله وسلامه علیها وقتل المحسن بن علی صلوات الله وسلامه علیهما کان رسالة واضحة لأمیر المؤمنین وأهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وجمیع من یوالیه بان هذه الدولة الجدیدة کانت علی أتم الاستعداد لسحق أی تمرد وقمع أی صوت معارض وان قتل السیدة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها ما هو إلا بدایة یتبعها بدایات أخری ودماء ثانیة لو أراد أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه الاستمرار بمعارضته ولیس بمستثنی من ذلک حتی الأطفال والنساء.

وأمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه قد فهم هذه الرسالة جیدا فأغضی علی القذی وصبر من کظم الغیظ علی أمر من العلقم، فترک الأمة وما اختارته وأصبح جلیس بیته والمحراب حفظا للبقیة الباقیة من آل محمد صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من ان تسفک دماؤهم فتخلو الأرض من نسل النبی الأعظم محمد صلی الله علیه وآله وسلم، فتکون الخسارة بذلک أکبر والضرر بفقدهم أعظم من موادعة الغاصبین ومجاراة الممهدین، وهذه الحقیقة صرح بها أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه علی منبر الکوفة یوم صار مبسوط الید واللسان بعد خلافته حیث قال: (فاصبر کمدا أو مت أسفا وحنقا، فنظرت فإذا لیس معی رافد ولا ذاب ولا ناصر ولا مساعد إلا أهل بیتی فضننت بهم عن المنیة فأغضیت علی القذی وتجرعت ریقی علی الشجی وصبرت من کظم الغیظ علی أمر من العلقم وآلم للقلب من حز الشفار)(1)


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید المعتزلی ج11 ص109 خطبة رقم 211 من کلام له علیه السلام یشکو فیه أمر قریش معه.

ص: 407

التمهید لعمر بن الخطاب ومن بعده لأبی عبیدة بن الجراح

نصت المصادر التاریخیة علی ان کلاً من أبی بکر وعمر بن الخطاب وأبی عبیدة ابن الجراح وآخرین قد حضروا اجتماع الأنصار، ویومها اقترح أبو بکر علی الأنصار أن یبایعوا أحد الرجلین عمر أو أبا عبیدة، قال ابن سعد فی طبقاته: (فقال أبو بکر لا ولکنا الأمراء وأنتم الوزراء هم أوسط العرب دارا وأکرمهم أحسابا یعنی قریشا فبایعوا عمر أو أبا عبیدة فقال عمر بل نبایعک أنت فأنت سیدنا وأنت خیرنا وأحبنا إلی نبینا صلی الله علیه وسلم فأخذ عمر بیده فبایعه، فبایعه الناس فقال قائل قتلتم سعد بن عبادة فقال عمر قتله الله...)(1).

ولم یکن قول أبی بکر وتقدیمه لأحد الرجلین، ومن ثم تقدیم عمر بن الخطاب لأبی بکر بتلک الحجج مجرد صدفة، بل کان أمراً دبر بلیل، فبوصول کل من أبی بکر وعمر بن الخطاب وأبی عبیدة بن الجراح تباعا إلی الإمارة أخذت العهود وأبرمت المواثیق.

ولم یکن الأمر المدبر بخاف عن المجتمع الإسلامی وبالخصوص علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، ففی محاورة جرت ما بین أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه وعمر بن الخطاب قال له الإمام صلوات الله وسلامه علیه: (إحلب حلبا لک شطره(2)، أشدد له الیوم لیرد علیک غدا)(3).

وقال صلوات الله وسلامه علیه فی خطبته الشقشقیة ما نصه: (فیا عجبا بینا هو یستقیلها فی


1- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 2 ص269.
2- قال الجوهری فی الصحاح ج2 ص697 فصل الشین: (شطر الشیء: نصفه وفی المثل احلب حلبا لک شطره).
3- الاحتجاج للشیخ الطبرسی ج 1 ص 96.

ص: 408

حیاته إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشد ما تشطرا ضرعیها)(1) فالإعانة والتمهید والنصرة من أجل تشاطر الإمارة والزعامة مما لیس خبره بمحجوب.

وعلی هذا التسلسل والترتیب __ أبو بکر ثم عمر ثم أبو عبیدة __ سخرت جهود الرواة الذین کانوا یقتاتون علی مائدة السلطة لتغطیة هذه الفکرة إعلامیا من أجل ترویض النفوس وتمهید الطریق أمامها، وقد لعبت عائشة بنت أبی بکر وأبو هریرة وابن عمر وغیرهم دورا هاما فی هذه التغطیة والتمهید، فعن ابن أبی ملیکة قال (سمعت عائشة وسئلت من کان رسول الله صلی الله علیه وسلم مستخلفا لو استخلفه قالت أبو بکر فقیل لها ثم من بعد أبی بکر قالت عمر ثم قیل لها من بعد عمر قالت أبو عبیدة بن الجراح ثم انتهت إلی هذا)(2).

وعن الترمذی فی سننه قال: (عن عبد الله بن شقیق قال: قلت لعائشة أی أصحاب النبی صلی الله علیه وسلم کان أحب إلی رسول الله صلی الله علیه وسلم؟ قالت أبو بکر، قلت ثم من؟ قالت عمر. قلت ثم من؟ قالت ثم أبو عبیدة بن الجراح، قال قلت ثم من؟ قال فسکتت. هذا حدیث حسن صحیح)(3).

وعن أبی هریرة قال: قال رسول الله صلی الله علیه وسلم : (نعم الرجل أبو بکر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبیدة بن الجراح هذا حدیث حسن)(4).

ویوجد کم هائل من الأحادیث والشواهد التی توضح وتؤکد ذلک الترتیب الذی تحدثنا عنه، وفعلا فقد جاء هذا المخطط التمهیدی لاستخلاف عمر بن الخطاب


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج1 ص162.
2- صحیح مسلم ج 7 ص 109 __ 110 باب فی فضائل أبی بکر.
3- سنن الترمذی ج 5 ص 268 مناقب أبی بکر.
4- سنن الترمذی ج 5 ص 317 مناقب أبی عبیدة بن الجراح.

ص: 409

بثمرته المرجوة، وتم له ولهم ما تمناه وتمنوه، وکتبت الوصیة فی الساعات الأخیرة من حیاة أبی بکر باستخلاف عمر بن الخطاب علی رغم الصیحات المستغیثة التی أطلقت من قبل بعض الصحابة المقربین من الدولة یومئذ، فقد أخرج محمد بن سعد فی الطبقات الکبری: (... وسمع بعض أصحاب النبی صلی الله علیه وسلم بدخول عبد الرحمن وعثمان علی أبی بکر وخلوتهما به، فدخلوا علی أبی بکر، فقال له قائل منهم ما أنت قائل لربک إذا سألک عن استخلافک عمر علینا وقد تری غلظته...)(1).

ویوجد نص آخر فیه تصریح بان عثمان بن عفان هو الذی قد کتب اسم عمر ابن الخطاب فی وصیة أبی بکر عندما کان أبو بکر مغمی علیه، قال محمد بن سعد: (قال بعضهم لما أملی أبو بکر صدر هذا الکتاب بقی ذکر عمر فذهب به قبل أن یسمی أحدا فکتب عثمان إنی قد استخلفت علیکم عمر بن الخطاب ثم أفاق أبو بکر فقال اقرأ علی ما کتبت فقرأ علیه ذکر عمر فکبر أبو بکر وقال أراک خفت إن أقبلت نفسی فی غشیتی تلک یختلف الناس فجزاک الله عن الإسلام وأهله خیرا والله إن کنت لها لأهلا)(2).

 وعن عائشة قالت: (لما حضرت أبا بکر الوفاة استخلف عمر فدخل علیه علی وطلحة فقالا من استخلفت قال عمر قالا فماذا أنت قائل لربک قال أبالله تفرقانی لأنا أعلم بالله وبعمر منکما أقول استخلفت علیهم خیر أهلک)(3).

وبهذا التمهید والتخطیط وصل عمر بن الخطاب إلی کرسی الإمارة لتبدأ بعد ذلک مرحلة جدیدة من مراحل التمهید والتوطئة، وهذا ما سنعرفه فیما یأتی من الکلام. 


1- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 3 ص 199 __ 200.
2- المصدر السابق ص201.
3- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 3 ص 274.

ص: 410

تبدل المخطط السابق وظهور عثمان بن عفان علی الساحة

فی حادث لم یکن متوقعا من قبل الممهدین مات أبو عبیدة بن الجراح فی أیام إمارة عمر بن الخطاب فی طاعون عمواس الذی ظهر فی الشام سنة ثمانی عشرة للهجرة وهو ابن ثمان وخمسین سنة(1)، وقد خلق موت أبی عبیدة مشکلة حقیقیة للخلیفة الجدید، علی اعتبار ان المخطط السابق والقاضی بإمارة أبی بکر ثم عمر ثم أبی عبیدة قد مهد له ولسنوات وبذلت لأجله الجهود وصرفت الأموال، وصارت النفوس مهیأة لاستقباله، وأصبح من الثوابت.

وهذا التغییر المفاجئ استدعی بطبیعة الحال تغییرا فی مخططات الدولة وتحشید الجهود من قبلها لإیجاد البدیل الذی یقوم مقام ولی العهد المیت، ولکن یجب ان تتوفر فی هذا البدیل عدة شروط تؤهله من أهمها أن یکون هذا البدیل منسجما مع منهج دولة السقیفة ومخططاته المستقبلیة، وان یکون قویا ومقتدرا وله من الشکیمة ما یمنع رجوع الإمارة إلی علی بن أبی طالب أو احد أولاده صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، لان إخراجها منهم تطلب من المجهود ما لا یخفی وقد سفکت فی سبیل ذلک الدماء واشتریت الذمم فمن غیر المعقول أن تقبل الدولة بعد کل هذا الجهد أن ترجع الخلافة إلیهم، وتضیع کل تلک الأتعاب وکأن شیئا لم یکن.

وقد کان أمام الدولة عدة خیارات وعدة شخصیات من الصحابة، منهم علی ابن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، ومنهم طلحة بن عبید الله، ومنهم الزبیر بن العوام، ومنهم سعد بن أبی وقاص، ومنهم عثمان بن عفان، ومنهم عبد الرحمن بن عوف، ولکن کل واحد من هؤلاء الستة کانت عند عمر بن الخطاب تحفظات تجاهه، وکل واحد من تلک التحفظات کان کافیاً فی عدم الإقدام علی استخلافه، وسیأتی


1- راجع المعجم الکبیر للطبرانی ج1 ص155 سن أبی عبیدة ووفاته.

ص: 411

ذکر هذه التحفظات لاحقا.

ولکن کان هنالک خیارٌ یلبی طموحات الدولة، وهو المتمثل بإیصال آل أمیة وبالتحدید معاویة بن أبی سفیان إلی دکة الحکم بعد عمر بن الخطاب، ومن راجع کلمات عمر بن الخطاب حول معاویة بن أبی سفیان یجدها واضحة الدلالة علی ان عمر بن الخطاب کان یهدف التأسیس والتأهیل لدولة معاویة الجدیدة، فعلی سبیل المثال لا الحصر نراه یقول بحقه حینما دخل الشام ورأی معاویة (هذا کسری العرب)(1)، وذم جماعة معاویة عند عمر بن الخطاب فقال لهم عمر: (دعونا من ذم فتی قریش ومن یضحک فی الغضب، ولا ینال ما عنده من الرضا، ولا یؤخذ ما فوق رأسه إلا من تحت قدمیه)(2)، وعن سعید المقبری قال: (قال عمر بن الخطاب تذکرون کسری وقیصر ودهاءهما وعندکم معاویة)(3).

ولکنّ عقبة کؤوداً کانت تحول دون إیصال معاویة بن أبی سفیان إلی الإمارة کخلیفة ینوب عن عمر بن الخطاب بعد موته، وهذه العقبة هی ان عمر بن الخطاب کان علی یقین بان الأمة الإسلامیة لن تسلم مقالید أمورها وأزمة أمورها إلی معاویة ابن أبی سفیان، وفیهم کبار رجالات ورموز الصحابة، لان الأمة الإسلامیة کانت فی وقت عمر بن الخطاب وقبله تنظر إلی معاویة بن أبی سفیان بل وإلی جمیع آل أبی سفیان وبنی أمیة بعین الاحتقار والامتهان، وما تزال منزلته عندهم منزلة ا لطلیق ابن الطلیق واللعین ابن اللعین، فکان علی عمر بن الخطاب والحال هذه ان یجد حلقة


1- الاستیعاب لابن عبد البر ج3 ص1418، أسد الغابة لابن الأثیر ج4 ص386، الإصابة لابن حجر ج6 ص121.
2- الاستیعاب لابن عبد البر ج3 ص1418، البدایة والنهایة ج8 ص133 وهذه ترجمة معاویة.
3- تاریخ الطبری ج 4 ص 244.

ص: 412

وصل بین إمارته وإمارة معاویة بن أبی سفیان، وکان عثمان بن عفان هو هذه الحلقة، والذی یحقق وجوده أمرین مهمین:

الأمر الأول: ان عثمان بن عفان کیفما یکنا فان حاله فی نظر المسلمین والصحابة علی وجه الخصوص أفضل بکثیر من معاویة بن سفیان، فانه أسلم فی مکة، وشارک فی غزوات النبی صلی الله علیه وآله وسلم، وان کان نصیبه فی أکثر تلک الغزوات الفرار إلا انه یبقی الأفضل، فیکون أکثر قبولا عند المسلمین، ووجوده یمکن أن یروض النفوس ویمهد الأجواء لقبول الدولة الأمویة الجدیدة.

الأمر الثانی: ان عمر بن الخطاب کان متیقنا بان عثمان بن عفان لو قدر له أن یصل إلی الإمارة فانه سیستعین بآل أمیة وسیبقی معاویة بن أبی سفیان علی ولایة الشام، وان الأمة وخلال مدة طویلة ستعتاد علی رؤیة معاویة أمیرا للشام، وبعد ذهاب الجیل الأول للصحابة ومجیء الجیل الأول من التابعین الذین سیعتاد احدهم ومنذ طفولته علی رؤیة معاویة ملکا علی الشام ککسری وقیصر، فلا غرابة لو رأوه بعد ذلک ملکا علی جمیع أرجاء المملکة الإسلامیة، لا سیما إذا فتح هذا الجیل من التابعین أعینهم ومنذ طفولتهم ورأی تأیید عمر المطلق له وإیحاءه بأنه ککسری وقیصر بل هو أفضل منهما وانه سید قریش وغیر ذلک.

وتبدلت وفقا لهذا التغیر الجدید التغطیة الإعلامیة للدولة وشمر الرواة سواعدهم لإخراج اکبر عدد من الروایات التی ترفع اسم أبی عبیدة بن الجراح لتضع مکانه اسم عثمان بن عفان وکثرة هذه الأحادیث أکثر من ان تستقصی، ولکن إتماما للفائدة نأتی علی ذکر بعضها، فعبد الله بن عمر قال: (کنا نقول ورسول الله حی: أفضل أمة رسول الله بعده أبو بکر ثم عمر ثم عثمان)(1)


1- سنن الترمذی ج5 ص292، المعجم الکبیر للطبرانی ج12 ص212.

ص: 413

وعن أبی موسی (انه کان مع النبی صلی الله علیه وآله وسلم فی حائط من حیطان المدینة وفی ید النبی صلی الله علیه وآله وسلم عود یضرب به بین الماء والطین فجاء رجل یستفتح فقال النبی صلی الله علیه وسلم افتح وبشره بالجنة فذهبت فإذا أبو بکر ففتحت له وبشرته بالجنة فاستفتح رجل آخر فقال افتح له وبشره بالجنة فإذا عمر ففتحت له وبشرته بالجنة ثم استفتح رجل آخر وکان متکئا فجلس فقال افتح وبشره بالجنة علی بلوی تصیبه أو تکون فذهبت فإذا عثمان ففتحت له وبشرته بالجنة فأخبرته بالذی قال...)(1).

الشوری مخطط لإیصال آل أمیة وإقصاء آل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین

طعن عمر بن الخطاب بعد ان بقی فی الحکم ما یقارب عشر سنوات، فلما أیقن بالموت أراد ان یتمم ما هم به من قبل وخطط، ولکن کان یجب علیه ان یتخطی خمسة من الصحابة یتزعم کل واحد منهم تکتلا معینا یمکن ان یعرقل المخطط الجدید، وهؤلاء الخمسة هم کل من الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، وطلحة بن عبید الله، والزبیر بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبی وقاص، فوضع عمر بن الخطاب من اجل أن یتخطاهم ویمرر إمارة عثمان من بعده مخططا عرف بعد ذلک بمخطط الشوری، وضم معهم عثمان بن عفان لیکونوا بذلک ستة هم أصحاب الشوری، والذین زعم عمر بن الخطاب ان النبی مات وهو راض عنهم.

وقد جری فی تلک الشوری هنات وهنات وقد فصل القول فی أحداثها وما وقع خلالها جملة من علماء الطائفة الأعلام فأغنونا عن الخوض فی دقائق تفاصیلها، وسنقتصر علی إیراد جملة من الأحادیث الموضحة لتمهید بعض أهل الشوری


1- صحیح البخاری ج7 ص123 باب نکت العود فی الماء والطین.

ص: 414

لبعضهم الآخر إما عصبیة أو طمعا فی صیرورة الإمارة إلیهم بعد عثمان بن عفان، ومن هذه الأحادیث ما یأتی:

 قول أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه: (إلی أن حضرته الوفاة فجعلها شوری بین جماعة زعم أنی أحدهم. فیا للشوری ولله هم، متی اعترض الریب فی مع الأولین منهم حتی صرت الآن أقرن بهذه النظائر لکنی أسففت إذ أسفوا وطرت إذ طاروا، صبرا علی طول المحنة وانقضاء المدة، فمال رجل لضغنه، وصغا آخر لصهره، مع هن وهن)(1) قال الشریف المرتضی: (وإنما أراد المائل إلی صهره عبد الرحمن بن عوف الزهری، فإنه کان بینه وبین عثمان مصاهرة معروفة(2)، فعقد له الأمر ومال إلیه بالمصاهرة، والذی مال إلیه لضغنه إنما هو سعد بن أبی وقاص الزهری(3)، فإنه کان منحرفا عن أمیر المؤمنین علیه السلام، وهو أحد من قعد عن بیعته فی وقت ولایته) (4).

وروی الشیخ المفید قدس الله روحه فی کتابه الإرشاد: (عن أبی صادق قال: لما جعلها عمر شوری فی ستة، وقال: إن بایع اثنان لواحد واثنان لواحد، فکونوا مع الثلاثة الذین فیهم عبد الرحمن، واقتلوا الثلاثة الذین لیس فیهم عبد الرحمن، خرج أمیر المؤمنین علیه السلام من الدار وهو معتمد علی ید عبد الله بن العباس فقال له: یا ابن عباس، إن القوم قد عادوکم بعد نبیکم کمعاداتهم لنبیکم صلی الله علیه


1- الإرشاد للشیخ المفید ج 1 ص 288 خطبته المسماة بالشقشقیة.
2- عبد الرحمن کان صهرا لعثمان لأن زوجته أم کلثوم بنت عقبة بن أبی معیط کانت أختا لعثمان من أمه.
3- وکان سعد من بنی عم عبد الرحمن کلاهما من بنی زهرة وکان فی نفسه شیء من علی کرم الله وجهه من قبل أخواله لأن أمه جنة بنت سفیان بن أمیة بن عبد شمس ولعلی صلوات الله وسلامه علیه فی قتل صنادیدهم ما هو معروف مشهور.
4- رسائل المرتضی، للشریف المرتضی: ج2، ص111.

ص: 415

وآله فی حیاته، أم والله، لا ینیب بهم إلی الحق إلا السیف. فقال له ابن عباس: وکیف ذاک؟ قال: أما سمعت قول عمر: إن بایع اثنان لواحد واثنان لواحد، فکونوا مع الثلاثة الذین فیهم عبد الرحمن، واقتلوا الثلاثة الذین لیس فیهم عبد الرحمن؟ قال ابن عباس بلی قال: أفلا تعلم أن عبد الرحمن ابن عم سعد، وأن عثمان صهر عبد الرحمن. قال: بلی، قال: فإن عمر قد علم أن سعدا و عبد الرحمن وعثمان لا یختلفون فی الرأی، وإنه من بویع منهم کان الاثنان معه، فأمر بقتل من خالفهم ولم یبال أن یقتل طلحة إذا قتلنی وقتل الزبیر)(1).

وروی الشیخ المفید قدس الله روحه أیضا عن عمرو بن سعید، عن حنش الکنانی قال: (لما صفق عبد الرحمن علی ید عثمان بالبیعة فی یوم الدار، قال له أمیر المؤمنین علیه السلام: حرکک الصهر وبعثک علی ما صنعت، والله ما أملت منه إلا ما أمل صاحبک من صاحبه، دق الله بینکما عطر منشم)(2).

وقال الذهبی: (ثم نودی الصلاة جامعة وخرج عبد الرحمن علیه عمامته التی عممه بها رسول الله صلی الله علیه وسلم. متقلدا سیفه، فصعد المنبر ووقف طویلا یدعو سرا، ثم تکلم فقال...قم إلی یا علی، فقام فوقف بجنب المنبر فأخذ بیده وقال: هل أنت مبایعی علی کتاب الله وسنة نبیه وفعل أبی بکر وعمر قال: اللهم لا ولکن علی جهدی من ذلک وطاقتی، فقال: قم یا عثمان، فأخذ بیده فی موقف علی فقال: هل أنت مبایعی علی کتاب الله وسنة نبیه وفعل أبی بکر وعمر قال: اللهم نعم، قال فرفع رأسه إلی سقف المسجد ویده فی یده ثم قال: اللهم اشهد اللهم إنی قد جعلت ما فی رقبتی من ذلک فی رقبة عثمان. فازدحم الناس یبایعون حتی


1- الإرشاد للشیخ المفید ج 1 ص 285 __ 286.
2- المصدر السابق ص 286 __ 287.

ص: 416

غشوه عند المنبر وأقعدوه علی الدرجة الثانیة، وقعد عبد الرحمن مقعد رسول الله صلی الله علیه وسلم من المنبر. قال: وتلکأ علی، فقال عبد الرحمن: فمن نکث فإنما ینکث علی نفسه ومن أوفی بما عاهد علیه الله فسیؤتیه أجرا عظیما. فرجع علی یشق الناس حتی بایع عثمان وهو یقول: خدعة وأیما خدعة)(1).

فوصل بهذه اللعبة والخدعة عثمان بن عفان الذی فتح للدولة الأمویة بابا لم یغلق حتی أحدث فی الإسلام ثلمة لم تسد إلی یوم الناس هذا.

لماذا شارک أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه بهذه الخدعة وهو یعلم بنتائجها؟

 والسؤال الذی یطرح نفسه هنا هو: ان الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه کان یمتلک من العلم والعصمة والتسدید ما یعلم به ان نتیجة الشوری ستکون سلبیة وستزید فی إقصاء أهل البیت صلوات الله وسلامه علیه وتمکین مناوئیهم، فلماذا شارک الإمام صلوات الله وسلامه علیه فی هذه التوطئة التی هو قال عنها خدعة وأیما خدعة؟.

وقد أجاب عن هذه الشبهة العلماء الأعلام رضوان الله تعالی علیهم بعدة إجابات نختار أهمها:

أولا: ما أورده الشیخ الطوسی قدس الله روحه بقوله: (إنه إنما دخل فیها تقیة وخوفا، ولو لم یدخلها لقتل، إنما یمتنع ذلک لتوهم أن الحق لک فحمله علی الدخول فیها ما حمله علی البیعة للمتقدمین)(2).

ثانیا: وقال قدس الله روحه أیضا: (إنه إنما دخلها لیتمکن من إیراد حججه وفضائله ونصوصه، لأنه أورد فی ذلک الیوم جل مناقبه، ولو لم یدخلها لما أمکنه ذلک،


1- تاریخ الإسلام للذهبی ج 3 ص 305.
2- الاقتصاد للشیخ الطوسی ص 211، الرسائل العشر للشیخ الطوسی ص 125 __ 126.

ص: 417

فدخلها لیؤکد الحجة علیهم)(1).

وقال قدس الله روحه فی موضع آخر: (فجعل علیه السلام الدخول فیها ذریعة إلی التنبیه علی الحق بحسب الإمکان، علی ما وردت به الروایة، فإنها وردت بأنه علیه السلام عدد فی ذلک الیوم جمیع فضائله ومناقبه أو أکثرها)(2).

ثالثا: وقال قدس الله روحه: (إنه إنما دخلها تجویزا لأن یختاروه فیتمکن من القیام بالأمر، ومن له حق له أن یتوصل إلیه بجمیع الوجوه)(3).

رابعا: ما ذکره الشیخ الصدوق قدس الله روحه فی کتاب علل الشرائع عن أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه قال:

 (لما کتب عمر کتاب الشوری بدأ بعثمان فی أول الصحیفة وأخر علیا أمیر المؤمنین فجعله فی آخر القوم، فقال العباس: یا أمیر المؤمنین یا أبا الحسن أشرت علیک فی یوم قبض رسول الله أن تمد یدک فنبایعک فإن هذا الأمر لمن سبق إلیه فعصیتنی حتی بویع أبو بکر وأنا أشیر علیک الیوم ان عمر قد کتب اسمک فی الشوری وجعلک آخر القوم وهم یخرجونک منها فأطعنی ولا تدخل فی الشوری فلم یجبه بشیء فلما بویع عثمان قال له العباس: ألم أقل لک، قال له یا عم انه قد خفی علیک أمر، أما سمعت قوله علی المنبر ما کان الله لیجمع لأهل هذا البیت الخلافة والنبوة فأردت أن یکذب نفسه بلسانه فیعلم الناس أن قوله بالأمس کان کذبا باطلا وإنا نصلح للخلافة، فسکت العباس)(4)


1- الاقتصاد للشیخ الطوسی ص 211.
2- الرسائل العشر للشیخ الطوسی ص 125 __ 126.
3- الاقتصاد للشیخ الطوسی ص 211.
4- علل الشرائع للشیخ الصدوق ج 1 ص 170 __ 171 الباب 134 العلة التی من أجلها دخل أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه فی الشوری.

ص: 418

محاولة انتزاع الإمارة من آل أمیة وإرجاعها للمهاجرین مرة أخری 

لم تکن خلافة عثمان بن عفان خلافة شخص واحد، بل کانت خلافة تیار بأکمله، تیار لا یقیم للدین والشریعة وزنا، ولا للصحابة الأوائل قدرا، تیار یعدّ الخلافة کالکرة یتلقفها سفهاؤهم وصبیانهم، وهو ما صرح به أبو سفیان فی أول یوم من أیام إمارة عثمان بن عفان، فقد روی ابن عبد البر فی کتاب الاستیعاب قال: (ان أبا سفیان دخل علی عثمان حین صارت الخلافة إلیه فقال قد صارت إلیک بعد تیم وعدی فأدرها کالکرة واجعل أوتادها بنی أمیة فإنما هو الملک ولا أدری ما جنة ولا نار فصاح به عثمان قم عنی فعل الله بک وفعل، وله أخبار من نحو هذا ردیة ذکرها أهل الأخبار لم أذکرها وفی بعضها ما یدل علی أنه لم یکن إسلامه سالما)(1).

وقد مر أبو سفیان بقبر حمزة أسد الله وأسد رسوله (وضربه برجله، وقال: یا أبا عمارة إن الأمر الذی اجتلدنا علیه بالسیف أمسی فی ید غلماننا الیوم یتلاعبون به)(2).

اقول: وعثمان بن عفان وان رفض قول أبی سفیان فی الظاهر إلا أن سیرته وسیاسته فی إدارة شؤون المملکة الإسلامیة ینطبق علیها قول أبی سفیان انطباقا تاما، وأخبار استئثاره وبنی قومه بأموال العباد ومقدرات البلاد تملأ بطون الکتب من الفریقین، ولا نری ضرورة فی تسوید صفحات هذا الکتاب بها وستأتی بعض أخبارهم فی شرح الفقرات الخاصة بهم ضمن زیارة عاشوراء، وسنقتصر علی ما یرتبط بمسألة التمهید والتوطئة لقتلة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

وقد سبق ان عرفنا ان لأصحاب الشوری باستثناء أمیر المؤمنین علی بن أبی


1- الاستیعاب لابن عبد البر ج 4 ص 1679.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 16 ص 136.

ص: 419

طالب صلوات الله وسلامه علیه الفضل الکبیر فی إیصال عثمان بن عفان إلی کرسی الإمارة، واشترطوا علیه المضی والسیر علی سنة کل من أبی بکر وعمر بن الخطاب، ما یعنی ضمان مصالحهم والتمتع بنفس الامتیازات التی کانت لهم طوال مدّة إمارة الأول والثانی، إلا أن أحلام أصحاب الشوری(1) وعائشة وحفصة وأمثالهم ممن کان یتمتع ببحبوحة إمارة السابقین تبددت بمجرد أن وصل عثمان إلی الإمارة، فقد اکتشف الجمیع بان عثمان کان مغالیا فی تقریب آل أمیة، وانه لم یکن یقیم وزنا إلا لمصالحهم، وان جمیع الامتیازات والمناصب والغنائم قد صارت حکرا له ولهم دون المسلمین عموما ودون أصحاب الشوری وأمثالهم علی وجه الخصوص، وهو ما أثار حفیظة جمیع المسلمین ولا سیما أصحاب الشوری.

فتیقن أصحاب الشوری ومعهم عائشة بنت أبی بکر ومن لف لفهم ان النهج الاستبدادی الذی انتهجه عثمان بن عفان لو استمر علی ما هو علیه فسیفلت زمام الأمور من أیدیهم ویرجعون من بعد عزهم وسیادتهم سوقة من عوام الناس وهم الذین بقوا متصدرین للساحة الإسلامیة سنینا طویلة، فلم یکونوا لیسمحوا والحال هذه ان یخلوا ساحة الصراع لآل أبی سفیان وآل مروان، فقرروا المواجهة وإرجاع الأمور إلی سابق عهدها وسالف أیامها، وبما ان المتسبب الرئیس فی کل هذه الفوضی هو عثمان بن عفان فان الضربة ستکون موجهة له وبشکل شخصی لان الإطاحة به کانت تمثل إطاحة بکل أتباعه وبنی قومه.

فبدأ المعنیون بالأمر من أصحاب الشوری ومن لف لفهم العمل الجاد والمنظم فی سبیل الإطاحة بالدولة العثمانیة، وکان أفضل طریق لذلک هو إثارة الساحة


1- لا یدخل أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه فی قصدنا (أصحاب الشوری) لا هنا ولا فی العبارات القادمة فتنبه.

ص: 420

الداخلیة بوجهه وإشعال فتیل الاضطرابات والنزاعات وإثارة فئات المجتمع ضده، ولم یجد القوم صعوبة کبیرة فی تحقیق هذه الغایة، لان عثمان بن عفان کان له أخطاء عظام وزلات جسام، وکل واحدة من هذه الأخطاء والزلات کانت کافیة فی إضعاف موقفه الدفاعی وتقلیل فرص استمرار ولایته المتخلخلة.

وقد لعبت عائشة بنت أبی بکر دورا عظیما فی الإطاحة بعثمان فقد کانت تتحین کل فرصة وتستغل کل حدث فی سبیل إثارة النفوس علیه وإسقاطه فی أعین المجتمع، قال ابن أبی الحدید المعتزلی: (قال کل من صنف فی السیر والأخبار إن عائشة کانت من أشد الناس علی عثمان، حتی إنها أخرجت ثوبا من ثیاب رسول الله صلی الله علیه وآله، فنصبته فی منزلها، وکانت تقول للداخلین إلیها: هذا ثوب رسول الله صلی الله علیه وسلم لم یبل، وعثمان قد أبلی سنته)(1).

وقال الیعقوبی: (وکان بین عثمان وعائشة منافرة وذلک أنه نقصها مما کان یعطیها عمر بن الخطاب، وصیرها أسوة بغیرها من نساء رسول الله، فإن عثمان یوما لیخطب إذ دلت عائشة قمیص رسول الله، ونادت: یا معشر المسلمین هذا جلباب رسول الله لم یبل، وقد أبلی عثمان سنته فقال عثمان: رب اصرف عنی کیدهن إن کیدهن عظیم)(2).

وعن الرازی قال: (ان عثمان آخر عن عائشة بعض أرزاقها فغضبت ثم قالت یا عثمان أکلت أمانتک وضیعت الرعیة وسلطت علیهم الأشرار من أهل بیتک والله لولا الصلوات الخمس لمشی إلیک أقوام ذوو بصائر یذبحونک کما یذبح الجمل فقال عثمان ضرب الله مثلا للذین کفروا امرأة نوح وامرأة لوط الآیة فکانت عائشة تحرض


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 6 ص 215.
2- تاریخ الیعقوبی ج 2 ص 175.

ص: 421

علیه جهدها وطاقتها وتقول أیها الناس هذا قمیص رسول الله صلی الله علیه وسلم لم یبل وقد بلیت سنته اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا)(1)، وقد نقل تحریضها علی قتل عثمان وقولها (اقتلوا نعثلا فقد کفر) کل من الطبری فی تاریخه(2)، وابن الأثیر فی الکامل(3) والحلبی فی سیرته الحلبیة(4).

وقد ساعدها علی هذا المخطط وأعانها علیه کل من طلحة والزبیر فقد کانا من اشد الناس علیه بعد عائشة، حتی ان طلحة کان یوم قتل عثمان یرمی دار عثمان بالسهام قال ابن أبی الحدید: (وروی الناس الذین صنفوا فی واقعة الدار أن طلحة کان یوم قتل عثمان مقنعا بثوب قد استتر به عن أعین الناس، یرمی الدار بالسهام. ورووا أیضا أنه لما امتنع علی الذین حصروه الدخول من باب الدار، حملهم طلحة إلی دار لبعض الأنصار، فأصعدهم إلی سطحها، وتسوروا منها علی عثمان داره فقتلوه. ورووا أیضا أن الزبیر کان یقول: اقتلوه فقد بدل دینکم. فقالوا: إن ابنک یحامی عنه بالباب، فقال: ما أکره أن یقتل عثمان ولو بدئ بابنی، إن عثمان لجیفة علی الصراط غدا)(5).

وقد بلغت شدة تألیب طلحة علی عثمان مقدارا جعل عثمان یدعو علیه بقوله: (اللهم اکفنی طلحة بن عبید الله فإنه حمل علی هؤلاء وألبهم والله إنی لأرجو أن یکون منها صفرا وأن یسفک دمه انه انتهک منی ما لا یحل له)(6)


1- المحصول للرازی ج 4 ص 343.
2- تاریخ الطبری ج 3 ص 476 __ 477
3- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج 3 ص 206.
4- السیرة الحلبیة ج 3 ص 356.
5- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 9 ص 35 __ 36.
6- تاریخ الطبری ج 3 ص 411 ذکر الخبر عن ذکر قتل عثمان بن عفان، الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج 3 ص 174 ذکر مقتل عثمان.

ص: 422

وبعد مدة لیست بالطویلة وکنتیجة طبیعیة لکل هذا التحریض والتألیب قتل عثمان بن عفان وبدأت بعد مقتله مرحلة جدیدة من مراحل التاریخ.

دور معاویة بن أبی سفیان فی مقتل عثمان بن عفان

لم یکن موقف معاویة بن أبی سفیان یختلف مع موقف أصحاب الشوری من حیث الجوهر وان کان مختلفا من حیث الأداء فالکل کان یسعی ویهدف إلی قتل عثمان والإطاحة به إلا أن الأسلوب الذی اتبع لأجل تحقیق ذلک کان مختلفا.

فمع ان السبب الرئیس لمقتل عثمان کان تقدیم أقاربه وإغداق الخیرات علیهم وحرمان بقیة المسلمین منها، الا انه لم یشفع لعثمان عند معاویة، لان معاویة بن أبی سفیان أصبح یری من عثمان وبالخصوص فی أیامه الأخیرة ورقة محروقة قد استنفذت کل أغراضها التی بیناها سابقا، فمعاویة الآن صاحب جیش جرار وقوی ومقتنع اقتناعا تاما بان معاویة بن أبی سفیان هو من له الأمر والنهی لا غیر حتی لو کان هذا الغیر هو شخص الخلیفة __ وسیأتی الشاهد علی هذه الحقیقة __، وهو أیضا صاحب أموال وثروات ضخمة تکدست عنده طوال مدة إمارة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان تکفی لتمویل أکبر حرب فیما لو اضطر إلی خوضها، وتلبی احتیاجات شراء الذمم للمعارضین لإمارته وإسکاتهم، وتکفی لاستئجار الرواة من أجل تغطیة تحرکاته وسفکه للدماء تغطیة شرعیة.

لذلک کان معاویة بن أبی سفیان یری أنّ الأزمة التی کان یعیشها عثمان کانت تصب فی مصلحته، وان کل یوم یعیش فیه عثمان بن عفان کان یؤخر وصوله إلی کرسی الإمارة، وان التعجیل بالقضاء علیه هو تعجیل بتحقیق أمنیاته، لذلک تأخر معاویة بن أبی سفیان حینما طلب عثمان منه النصرة بان یمدده بجیش یتقوی به علی

ص: 423

مصیبته، قال ابن شبة النمیری: (حدثنا جویریة قال: أرسل عثمان إلی معاویة یستمده، فبعث معاویة یزید بن أسد جد خالد القسری وقال له: إذا أتیت ذا خشب فأقم بها ولا تتجاوزها، ولا تقل الشاهد یری ما لا یری الغائب قال: أنا الشاهد وأنت الغائب. فأقام بذی خشب حتی قتل عثمان. فقلت لجویریة: لم صنع هذا؟ قال: صنعه عمدا لیقتل عثمان فیدعو إلی نفسه)(1)، وهذا التلکؤ والتثاقل من جیش معاویة بن أبی سفیان حقق هدفین مهمین شارک کل واحد منهما بالتعجیل فی القضاء علی حیاة عثمان وإمارته:

الهدف الأول: ان بإرساله للجیش قد اقنع عثمان بن عفان بان النصر آت لا محالة، وان تلک الجحافل ستکسر عنه الحصار المضروب من قبل المعارضین، مما جعل عثمان بن عفان یصر علی مواقفه أکثر ویؤکد علی عدم الرضوخ لمطالب الثوار.

الهدف الثانی: الإیحاء للثوار بان فرصة القضاء علی عثمان ستفلت من بین أیدیهم إذا ما وصل جیش الشام، وقد افلح هذا الإیحاء إلی حد بعید، فتسلق بعض الثوار سطح داره ودخلوا علیه وقتلوه.

دور الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه فی هذا الصراع 

لم یکن الوضع السائد تلک الأیام والاضطرابات التی منیت بها الأمة بخافیة عن أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، فقد کان علی علم بان کل هذه الجلبة والمؤامرات والاضطرابات والصراعات التی یخوضها عثمان مع عائشة وطلحة والزبیر وعبد الرحمن بن عوف وأشباههم ما هی إلا صراعات مصالح، وان ذلک التهریج الذی تقوم به عائشة ومناصروها من ورائه أهداف وغایات وأهواء لا یراد الله سبحانه وتعالی بها ولا یقصد منها فائدة المجتمع وأهل الإیمان. 


1- تاریخ المدینة لابن شبة النمیری ج 4 ص 1288 __ 1289.

ص: 424

وکذلک کان أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه یعلم بحراجة الموقف وحساسیة تلک اللحظات وان کل موقف منه وکل کلمة تصدر عنه ستؤثر فی مجریات الأحداث مستقبلا، فلهذا اتخذ أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه جانب الحیطة والحذر، وقرر ان لا یدخل طرفا فی هذا الصراع مهما حصل، وإذا ما اضطر للتدخل فانه یتدخل بعنوان الناصح المرشد لا المحرض المناوئ، والأدلة علی ذلک کثیرة لیس یمکن إحصاؤها فی هذه العجالة، وخلاصة موقفه من قتل عثمان قد لخصه أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه بقوله: (والذی فلق الحبة وبرأ النسمة ما قتلته ولا أمرت بقتله وما سرنی)(1)، وقوله صلوات الله وسلامه علیه : (والله ما قتلته ولا مالأت علی قتله)(2)، فهو من رد الناس عنه وارجع الثوار مرات عدیدة، وهو الذی أوصل إلیه الماء بعدما قطعه عنه طلحة والزبیر کما قال ابن حبان: (أشرف علیهم(3) فقال أفیکم علی قالوا لا قال أفیکم سعد قالوا لا، فقال أذکرکم بالله هل تعلمون أن رومة لم یکن یشرب منها أحد إلا بشیء فابتعتها من مالی وجعلتها للغنی والفقیر وابن السبیل، فقالوا نعم، قال فاسقونی منها، ثم قال ألا أحد یبلغ علیا فیسقینا ماء، فبلغ ذلک علیا فبعث إلیه بثلاث قرب مملوءة)(4).

 وقال ابن الأثیر: (منع عثمان الماء فقال علی لطلحة أرید أن تدخل علیه الروایا وغضب غضبا شدیدا حتی دخلت الروایا علی عثمان)(5)، ومواقفه النبیلة تجاه عثمان لا ینکرها إلا من أعمی الله بصیرته وکان فی قلبه مرض. 


1- المصنف لابن أبی شیبة الکوفی ج 8 ص 684 ما ذکر فی عثمان.
2- المصدر السابق.
3- أی اشرف عثمان علی من حاصره ومنع عنه الماء.
4- الثقات لابن حبان ج 2 ص 261.
5- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج 3 ص 166ذکر مقتل عثمان.

ص: 425

رجوع الخلافة إلی أصحابها الشرعیین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین

ان من السنن الإلهیة التی لا تتبدل والتی تحکم جمیع المجتمعات قدیما وحدیثا، ان أی امة من الأمم أو مجتمع من المجتمعات إنما یحصد ما زرعه، ویقطف ما غرسه، وقد زرعت هذه الأمة منذ الیوم الأول لرحیل النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ومرورا بإمارة الذین سبقوا خلافة أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه الفتنة والظلم وسیاسة التمییز العرقی والطبقی، وقد حان وقت جنی ثمرة عملهم وحصد نتیجة أتعابها، فکان الوقت الذی أعقب موت عثمان بن عفان هو وقت ظهور تلک النتائج، وهو ما بینه أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه حینما دخل علی عثمان بن عفان قبل مقتله وقال له: (وإنی أحذرک الله وأحذرک سطوته ونقماته فان عذابه شدید ألیم وأحذرک أن تکون إمام هذه الأمة المقتول فإنه یقال یقتل فی هذه الأمة إمام فیفتح علیها القتل والقتال إلی یوم القیامة وتلبس أمورها علیها ویترکهم شیعا فلا یبصرون الحق لعلو الباطل یموجون فیها موجا ویمرجون فیها مرجا...)(1).

ولکن الذی یحزن القلب ویدمیه هو ان ظهور نتائج أفعال الأمة قد صادفت مع بدایة تشکیل الدولة العلویة، والذی اثر تأثیرا کبیرا فیما بعد فی ثبات واستقرار هذه الدولة المبارکة ، وهذا ما لم یکن خافیا عن شخص أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، فحینما أراد الناس بیعته تمنّع مرات عدة وکان یخاطبهم بقوله: (دعونی والتمسوا غیری، فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت علیه العقول. وإن الآفاق قد أغامت، والمحجة قد تنکرت. واعلموا أنی إن أجبتکم رکبت بکم ما أعلم، ولم أصغ إلی قول القائل، وعتب العاتب، وإن ترکتمونی فأنا


1- تاریخ الطبری ج 3 ص 376 تکاتب المنحرفین عن عثمان للاجتماع لمناظرته فیما کانوا یذکرون أنهم نقموا علیه وخبر الجرعة.

ص: 426

کأحدکم، ولعلی أسمعکم وأطوعکم لمن ولیتموه أمرکم، وأنا لکم وزیرا، خیر لکم منی أمیرا)(1).

ولولا الإصرار العظیم للأمة وإلحاحهما الکبیر علی أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه لما قبل خلافتهما، ولکنه صلوات الله وسلامه علیه لما علم من الأمة اجتماعها واختیارها لمنهج التغییر والرجوع إلی الجادة المستقیمة رضی ببیعتهم التی بلغ مقدار الإصرار علیها من قبل الأمة مبلغا وصفه الإمام صلوات الله وسلامه علیه بقوله: (وبسطتم یدی فکففتها، ومددتموها فقبضتها، ثم تداککتم علی تداک الإبل الهیم علی حیاضها یوم وردها; حتی انقطعت النعل، وسقط الرداء، ووطئ الضعیف، وبلغ من سرور الناس ببیعتهم إیای أن ابتهج بها الصغیر، وهدج إلیها الکبیر، وتحامل نحوها العلیل، وحسرت إلیها الکعاب)(2).

وقال صلوات الله وسلامه علیه فی خطبة أخری: (ثم جئتمونی لتبایعونی فأبیت علیکم، وأمسکت یدی فنازعتمونی ودافعتمونی، وبسطتم یدی فکففتها، ومددتموها فقبضتها، وازدحمتم علی حتی ظننت أن بعضکم قاتل بعضکم، أو أنکم قاتلی، فقلتم: بایعنا لا نجد غیرک، ولا نرضی إلا بک بایعنا لا نفترق ولا تختلف کلمتنا. فبایعتکم ودعوت الناس إلی بیعتی، فمن بایع طوعا قبلت، ومن أبی لم أکرهه وترکته. فبایعنی فیمن بایعنی طلحة والزبیر، ولو أبیا ما أکرهتهما، کما لم أکره غیرهما)(3)


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 7 ص 33 خطبة رقم 91 من کلام له علیه السلام لما أراده الناس علی البیعة بعد قتل عثمان.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 13 ص 3 الخطبة رقم 224 من کلام له علیه السلام فی وصف بیعته بالخلافة.
3- المصدر السابق ج 6 ص 96 __ 97 خطبة علی بعد مقتل محمد بن أبی بکر.

ص: 427

فقبل الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه البیعة نتیجة لهذا الإصرار الکبیر، علی علم منه بان الأیام القادمة ستحمل بین طیاتها فتناً وأحداثاً لا تثبت علیها القلوب ولا العقول، وان مناوئیه سیحاولون بکل وسیلة وطریقة رد الأمور علی أدبارها، لیعود الجور إلی أوطانه ویرجع الباطل إلی نصابه.

أسباب إشعال الفتنة ونار الحرب بوجه أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه

لم یکن یشک أصحاب الشوری الذین مهدوا لقتل عثمان فی أنّ مقالید الأمور ستعود إلیهم بمجرد الإطاحة بعرش عثمان، وعلی هذا الأساس بنیت قناعاتهم الشخصیة، لذلک نری عائشة بنت أبی بکر لما بلغها مقتل عثمان رددت کلمات تنم عن یقینها بان الأمة سوف لن تبایع إلا طلحة بن عبید الله، قال الیعقوبی فی تاریخه: (وکانت عائشة بمکة، خرجت قبل أن یقتل عثمان، فلما قضت حجها انصرفت راجعة، فلما صارت فی بعض الطریق لقیها ابن أم کلاب، فقالت له: ما فعل عثمان؟ قال: قتل، قالت: بعدا وسحقا، قالت: فمن بایع الناس قال: طلحة. قالت: أیها ذو الإصبع(1). ثم لقیها آخر، فقالت: ما فعل الناس؟ قال: بایعوا علیا. قالت: والله ما کنت أبالی أن تقع هذه علی هذه(2). ثم رجعت إلی مکة...)(3).

وقال البلاذری: (...أبو یوسف الأنصاری أنه سمع أهل المدینة یتحدثون ان الناس لما بایعوا علیا علیه السلام بالمدینة بلغ عائشة أن الناس بایعوا لطلحة، فقالت: إیه ذا الإصبع لله أنت، لقد وجدوک لها محشا وأقبلت جذلة مسرورة حتی إذا انتهت


1- تقصد بذلک طلحة بن عبید الله.
2- أی والله ما کنت أبالی ان تقع السماء علی الأرض.
3- تاریخ الیعقوبی ج 2 ص 180خلافة أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب.

ص: 428

إلی سرف استقبلها عبید بن مسلمة اللیثی الذی یدعی ابن أم کلاب فسألته عن الخبر، قال: قتل الناس عثمان. قالت: نعم ثم صنعوا ماذا؟ قال صنعوا خیرا، حارت بهم الأمور إلی خیر محار بایعوا ابن عم نبیهم علیا. فقالت: أو فعلوها؟ وددت أن هذه أطبقت علی هذه إن تمت الأمور لصاحبک الذی ذکرت، فقال لها: ولم والله ما أری الیوم فی الأرض مثله فلم تکرهین سلطانه فلم ترجع إلیه جوابا وانصرفت إلی مکة فأتت الحجر فاستترت فیه وجعلت تقول: إنا عتبنا علی عثمان فی أمور سمیناها له ووقفناه علیها فتاب منها واستغفر ربه فقبل المسلمون منه ولم یجدوا من ذلک بدا، فوثب علیه من إصبع من أصابع عثمان خیر منه فقتله، فقتل وقد ماصوه کما یماص الثوب الرحیض وصفوه کما یصفی القلب)(1).

وهذا الاطمئنان هو الذی حدا بطلحة بن عبید الله ان یأخذ وبمجرد ان قتل عثمان مفاتیح بیت المال وأشیاء أخری وما ردها إلا بعد یأسه من صیرورة الإمارة إلیه ومبایعة الناس لأمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، وفی هذا الصدد یقول ابن أبی الحدید المعتزلی: (وروی المدائنی فی کتاب الجمل، قال: لما قتل عثمان، کانت عائشة بمکة، وبلغ قتله إلیها وهی بشراف، فلم تشک فی أن طلحة هو صاحب الأمر، وقالت: بعدا لنعثل وسحقا، إیه ذا الإصبع، إیه أبا شبل، إیه یا بن عم، لکأنی أنظر إلی إصبعه وهو یبایع له: حثوا الإبل ودعدعوها. قال: وقد کان طلحة حین قتل عثمان أخذ مفاتیح بیت المال، وأخذ نجائب کانت لعثمان فی داره، ثم فسد أمره، فدفعها إلی علی بن أبی طالب علیه السلام)(2)


1- انساب الأشراف للبلاذری ص 217 __ 218.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 6 ص 215 أخبار عائشة فی خروجها من مکة إلی البصرة بعد مقتل عثمان.

ص: 429

وسبب هذا الانقلاب فی موقف عائشة وبقیة أصحاب الشوری هو تیقنهم بأن کل المساعی التی بذلوها للإطاحة بعثمان قد تبددت وصارت هواء فی شبک، وان خلافة طلحة أو احد أصحاب الثورة قد فلت زمامها من أیدیهم، واستقر بید مناوئهم ومنافسهم، ومن بذلت الجهود ولسنین مدیدة فی سبیل إقصائه وبنیه عن الخلافة، وان خلافة الإمام علی صلوات الله وسلامه علیه التی بانت طلائعها کانت تعنی بالنسبة إلیهم رجوع الحال إلی ما کان علی عهد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وهو یعنی عودة أصحاب الشوری کسائر الناس وعوامهم لیس لهم فضل علیهم إلا بالتقوی.

إضافة إلی ان أصحاب الشوری وعائشة ومن لف لفهم کانوا علی یقین بأن الخلافة ما دامت قد دخلت فی صف الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه فلن تخرج منه ومن أهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ثانیة ولا سیما بعد أن بایعه عامة الناس بکافة طوائفهم ومیولهم ما یعنی ان أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه لم یعد وحده فی ساحة الصراع کسابق عهده وهو الیوم یتمتع بحمایة اجتماعیة وله أنصار ومریدون من جمیع أطراف المملکة الإسلامیة.

فنتیجة لما سبق وغیره حاول هؤلاء ضرب هذه الخلافة الجدیدة والإطاحة بها وقتلها فی مهدها قبل أن یصلب عودها وتقوی شوکتها وتمتد جذورها وتثبت فروعها فیصعب علیهم حینئذ اقتلاعها، فأوقدوا نار الفتنة، وأشعلوا فتیل الحرب منذ اللحظة الأولی لخلافة سید الوصیین وإمام المتقین صلوات الله وسلامه علیه، تلک الحرب التی انتهت بحمد الله سبحانه وتعالی بقتل رموز قادة النکث وهزیمة جیش البغی، ولم یحصلوا علی مرادهم ولا وصلوا إلی غایاتهم. 

ص: 430

عائشة بنت أبی بکر تقود تمرد الناکثین 

قد تبنت عائشة بنت أبی بکر قیادة التمرد علی الدولة الفتیة، عائشة التی کانت تمثل رأس الحربة التی مزقت حقوق أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین قبل خلافة أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وبعدها، عائشة التی أججت حربا ضروساً أکلت الأخضر والیابس، عائشة التی استطاعت أن تضعف الدولة العلویة عن طریق قتل خیرة أصحاب الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وأنصاره والمدافعین عنه فی حرب الجمل، والذین کان أمیر المؤمنین یبنی علیهم الآمال ویشد بهم أرکان دولته الفتیة، عائشة التی کانت بحق أعنف خصم واجهته الدولة الجدیدة، لان أفعالها وأقوالها وجمیع تصرفاتها کانت تؤثر فی العوام والسطحیین من المسلمین، ممن أدهشتهم هالة لقب أم المؤمنین، عائشة التی بلغ تقدیس البسطاء لها درجة تحیر ذوی الألباب، حتی صاروا یتبرکون ببول وبعر جملها الذی کانت توجه الناکثین من فوق ظهره، کما قال الطبری: (طافت ضبة والأزد بعائشة یوم الجمل وإذا رجال من الأزد یأخذون بعر الجمل فیفتونه ویشمونه ویقولون بعر جمل أمنا ریحه ریح المسک)(1)وقد استفادت عائشة من أمومتها للمؤمنین وبرعت فی استغلال هذه المنزلة فی قتل المؤمنین.

لکن عائشة مع کل ما کانت تتمتع به من قوة وقداسة وشعبیة إلا أنها کانت ضعیفة أمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه ومنزلته وقداسته فی نفوس المسلمین لا سیما أولئک الذین عاصروا النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وسمعوا منه فی حق أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه ما لا یحصی من المناقب والفضائل، وهذا الأمر کان یشعر عائشة بالضعف وخفة موازینها أمام ثقل موازین أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، فهی


1- تاریخ الطبری ج 3 ص 530 خبر وقعة الجمل من روایة أخری، الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج3 ص247 ذکر مسیر علی إلی البصرة والوقعة.

ص: 431

باتت متأکدة بان حربها مع أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه تختلف عن معرکتها مع عثمان ابن عفان، فهی مع عثمان بن عفان کانت تتحرک من موقع القوة والقدرة أمام ضعف عثمان وکفته الخاویة الخالیة من معظم امتیازات عائشة، أما فی حربها مع أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه فإنها تتحرک من موقع الضعف، ولأجل الخروج من هذا الضعف ومعادلة موازین القوی بینها وبین أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه کان علیها أن تکسب تأییدات جدیدة تقوی بها شرعیة تحرکاتها، وتثقل بها کفة الصراع، لذا حاولت وبکل ما أوتیت من قوة ودهاء جر أرجل بعض الشخصیات وإقحامها فی الصراع، فنجحت فی إقناع البعض وفشلت فی إقناع آخرین.

فدعت کلاً من حفصة وأم سلمة زوجتی النبی صلی الله علیه وآله وسلم، فنجحت مع حفصة لولا أن أخاها وقف بوجهها وصدها عن الخروج، فبقیت فی بیتها علی کره وقلبها مع عائشة فی کل خطوة تخطوها، قال الطبری: (وأرادت حفصة الخروج فأتاها عبد الله بن عمر فطلب إلیها أن تقعد فقعدت وبعثت إلی عائشة أن عبد الله حال بینی وبین الخروج فقالت یغفر الله لعبد الله)(1).

لکن عائشة فشلت فی استقطاب تأیید أم سلمة رضوان الله تعالی علیها المعروفة بولائها لأمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، قال ابن أعثم الکوفی: (وأقبلت عائشة حتی دخلت علی أم سلمة زوجة النبی صلی الله علیه وسلم وهی یومئذ بمکة، فقالت لها: یا بنت أبی أمیة إنک أول ظعینة هاجرت مع رسول الله صلی الله علیه وسلم، وأنت کبیرة أمهات المؤمنین وقد کان رسول الله صلی الله علیه وسلم یقسم لنا بین بیتک، وقد خبرت أن القوم استتابوا عثمان بن عفان حتی إذا تاب وثبوا علیه فقتلوه، وقد أخبرنی عبد الله بن عامر أن بالبصرة مائة ألف سیف یقتل فیها بعضهم بعضا، فهل لک أن


1- تاریخ الطبری ج 3 ص 470.

ص: 432

تسیری بنا إلی البصرة لعل الله تبارک وتعالی أن یصلح هذا الأمر علی أیدینا قال: فقالت لها أم سلمة رحمة الله علیها: یا بنت أبی بکر بدم عثمان تطلبین والله لقد کنت من أشد الناس علیه، وما کنت تسمیه إلا نعثلا، فما لک ودم عثمان وعثمان رجل من عبد مناف وأنت امرأة من بنی تیم بن مرة، ویحک یا عائشة أعلی علی وابن عم رسول الله صلی الله علیه وسلم تخرجین وقد بایعه المهاجرون والأنصار ثم جعلت أم سلمة رحمة الله علیها تذکر عائشة فضائل علی رضی الله عنه وعبد الله ابن الزبیر علی الباب یسمع ذلک کله، فصاح بأم سلمة وقال: یا بنت أبی أمیة إننا قد عرفنا عداوتک لآل الزبیر، فقالت أم سلمة: والله لتوردنها ثم لا تصدرنها أنت ولا أبوک أتطمع أن یرضی المهاجرون والأنصار بأبیک الزبیر وصاحبه طلحة وعلی بن أبی طالب حی وهو ولی کل مؤمن ومؤمنة فقال عبد الله بن الزبیر: ما سمعنا هذا من رسول الله صلی الله علیه وسلم ساعة قط، فقالت أم سلمة رحمة الله علیها: إن لم تکن أنت سمعته قد سمعته خالتک عائشة وها هی فاسألها فقد سمعته صلی الله علیه وسلم یقول:علی خلیفتی علیکم فی حیاتی ومماتی فمن عصاه فقد عصانی. أتشهدین یا عائشة بهذا أم لا فقالت عائشة: اللهم نعم قالت أم سلمة رحمة الله علیها: فاتقی الله یا عائشة فی نفسک واحذری ما حذرک الله ورسوله صلی الله علیه وسلم، ولا تکونی صاحبة کلاب الحوأب، ولا یغرنک الزبیر وطلحة فإنهما لا یغنیان عنک من الله شیئا. قال: فخرجت عائشة من عند أم سلمة وهی حنقة علیها، ثم إنها بعثت إلی حفصة فسألتها أن تخرج معها إلی البصرة، فأجابتها حفصة إلی ذلک)(1).

ولا یکاد یخفی سبب دعوة عائشة لکل من أم سلمة وحفصة، فإضافة إلی إفضاء الشرعیة علی تمردها فانها کانت تهدف أیضا إلی إسکات المعترضین علی


1- کتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الکوفی ج 2 ص 454 __ 455.

ص: 433

خروجها من بیتها تلملم الکتائب وتحضر مجالس الرجال تحرضهم ویحضر الرجال مجلسها، هاجرة لبیتها الذی قد أمرها الله سبحانه وتعالی أن تقر فیه بقوله: ((یَا نِسَاءَ النَّبِیِّ لَسْتُنَّ کَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَیْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَیَطْمَعَ الَّذِی فِی قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِی بُیُوتِکُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِیَّةِ الْأُولَی وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِینَ الزَّکَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا))(1).

وعلی أی الأحوال فقد استطاعت عائشة أن تجمع حولها أهل الشقاق والنفاق من أهل مکة الذین لم یستقر الإسلام فی قلوبهم یوما ولا لیلة، والذین طالما رفعوا السیف بوجه رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وها هی الیوم تستعین بهم علی قتال أخیه أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، والتف حولها جمع کبیر من رعاع الأمة وأعرابها الذین مردت قلوبهم علی النفاق، فشقت بهم عصا المسلمین ونکثت بیعة أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وسفکت دماء الآلاف من المسلمین لا لشیء إلا لان قلبها لم یکن یحب أمیر المؤمنین الذی حبه إیمان وبغضه نفاق، ولان ابن عمها طلحة بن عبید الله لم یصل إلی الکرسی کما أرادت من قبل وخططت.

القاسطون والمارقون امتداد لمسلسل التمهید لقتلة أهل البیت

 لقد کانت خلافة الإمام أمیر المؤمنین مرة ثقیلة علی جمع کبیر من أهل الأهواء والطمع، إلا أنها کانت أمر وأثقل علی آل أمیة عموما وآل أبی سفیان علی وجه الخصوص، لأسباب لا تخفی علی القارئ اللبیب، وقد تعمد الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه ومنذ الیوم الأول لبیعة الناس له بالخلافة التعامل معهم بطریقة حازمة شدیدة، لعلمه صلوات الله وسلامه علیه بأن آل أمیة کالخلیة السرطانیة فی جسد الإسلام، فإذا ما سمح لها بالبقاء فإنها ستنتعش وتتوسع وتقضی علی سائر الخلایا الصالحة ثم لا تتوقف


1- سورة الأحزاب الآیة 32 __ 33.

ص: 434

إلی أن یموت الإسلام وتعود الأصنام علی ظهر الکعبة تعبد من دون الله سبحانه وتعالی.

فقرر صلوات الله وسلامه علیه __ وهو الحق __ أن یستأصل هذا العضو الفاسد الذی جعل مال الله دولا وعباده خولا، فعزلهم عن کل ولایة کانت قد أوکلها إلیهم من قبل الأمیر المخلوع عثمان بن عفان، ولم یقبل مشورة المغیرة بن شعبة بإبقائهم کلهم أو إبقاء معاویة بن أبی سفیان لوحده إلی ان یتمکن من إدارة الدولة، فإذا تمکن استبدل من شاء وأبقی من شاء، وأجابه بقوله: (لا أداهن فی دینی ولا أعطی الریاء فی أمری)(1)، لان إبقاء عمال عثمان من آل أمیة ولو لیوم واحد کان یعد فی نظر أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه إقراراً بأفعالهم ومشارکة فی ظلمهم وهو ما لا یمکن ان یصدر عن أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه.

واستطاع أمیر المؤمنین أن یعزل جمیع ولاة عثمان إلا معاویة بن أبی سفیان فانه رفض الانصیاع لقرار العزل والبیعة بالخلافة، وقد ساعده علی تمرّده هذا قیام حرب الجمل وانشغال أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه عنه، فحاول معاویة وباسلوبه الشیطانی المعهود أن یؤجج نار الجمل أکثر فأکثر، وان یمد فی أمدها ما استطاع إلی ذلک سبیلا، فأرسل إلی الزبیر سرا یحرضه للخروج عن بیعة علی ونکثها وقال له کما روی ذلک ابن أبی الحدید المعتزلی: (بسم الله الرحمن الرحیم، لعبد الله الزبیر أمیر المؤمنین من معاویة بن أبی سفیان: سلام علیک، أما بعد، فإنی قد بایعت لک أهل الشام، فأجابوا واستوسقوا، کما یستوسق الجلب، فدونک الکوفة والبصرة، لا یسبقک إلیها ابن أبی طالب، فإنه لا شیء بعد هذین المصرین، وقد بایعت لطلحة بن عبید الله من بعدک، فأظهرا الطلب بدم عثمان، وادعوا الناس إلی ذلک، ولیکن منکما الجد والتشمیر، أظفرکما الله، وخذل مناوئکما فلما وصل هذا الکتاب إلی الزبیر سر به،


1- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج3 ص197 ذکر بیعة أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب.

ص: 435

وأعلم به طلحة وأقرأه إیاه، فلم یشکا فی النصح لهما من قبل معاویة، وأجمعا عند ذلک علی خلاف علی علیه السلام)(1).

وکتب فی نفس الوقت إلی طلحة ما نصه: (أما بعد، فإنک أقل قریش فی قریش وترا، مع صباحة وجهک وسماحة کفک، وفصاحة لسانک. فأنت بإزاء من تقدمک فی السابقة، وخامس المبشرین بالجنة، ولک یوم أحد وشرفه وفضله، فسارع رحمک الله إلی ما تقلدک الرعیة من أمرها مما لا یسعک التخلف عنه، ولا یرضی الله منک إلا بالقیام به، فقد أحکمت لک الأمر قبلی، والزبیر فغیر متقدم علیک بفضل، وأیکما قدم صاحبه فالمقدم الإمام، والأمر من بعده للمقدم له، سلک الله بک قصد المهتدین، ووهب لک رشد الموفقین. والسلام)(2) فجعل معاویة بفعله هذا کلاًّ من طلحة والزبیر یری الإمارة من حقه ویتشوقها لنفسه ویعتقد بأنه المبایع له والمرغوب فیه دون صاحبه.

وقد کان معاویة بن أبی سفیان یهدف من وراء إشعال الفتنة ما یأتی:

أولا: إشغال أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه عن المطالبة له بالبیعة والتنحی عن ملک الشام ووضع العقبات بوجهه ریثما یعد العدة لمواجهة أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه.

ثانیا: ان معاویة بن أبی سفیان لعنه الله کان یرجو ویحتمل ان یلقی علی حتفه فی حرب الجمل، وهذا اکبر نصر لمعاویة وبه ستنحل أصل المشکلة.

ثالثا: قدر معاویة بن أبی سفیان وقد ساء ما قدر ان أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه حتی لو خرج من معرکة الجمل ناجیا بنفسه ولم یلق حتفه فانه


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 1 ص 231.
2- المصدر نفسه ج 10 ص 235 __ 236.

ص: 436

سیخرج علی أقل التقادیر منهکا ضعیفا منکسرا وحینها یستطیع معاویة القضاء علی ما أبقته معرکة الجمل بسهولة.

لکن الریاح لم تجر بما تشتهی سفن معاویة بن أبی سفیان، فقد نصر الله أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه علی أعدائه، وقتل ابرز قادة التمرد، وانهزمت قائدة الجیش التی جاءت للمعرکة علی جمل وخرجت منها بلا جمل ولا عزة، وانصرف جیش أمیر المؤمنین وقائده العظیم صلوات الله وسلامه علیه بمعنویات عالیة وبخسائر اقل من المتوقع بکثیر، فتیقن معاویة الطلیق ابن الطلیق ان أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه أقوی مما کان یتوقع هو وأتباعه، وانه صلوات الله وسلامه علیه بعد حرب الجمل سیتفرغ له، وسیرغمه علی التنحی، وان بعض الناس إذا کان قد دخلها الشک فی قتال أصحاب الجمل لان عائشة فی ضمن صفوفهم فانهم بالنسبة إلی قتاله لن یزدادوا إلا یقینا وبصیرة علی یقینهم وبصیرتهم، وان أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وأفراد جیشه سوف لن یترددوا لحظة فی قتله وقتل جمیع من لا یرضی الانصیاع للحق من أهل بیته، لذلک سعی لتحشید کل داهیة حوله ووظفهم للخلاص من سیف علی وسطوته من جهة والاحتفاظ بملک الشام والارتقاء منه إلی ملک جمیع بلاد المسلمین من جهة أخری، فالتف حوله عمرو بن العاص ومروان بن الحکم وبقیة الناجین من حرب الجمل، وأسس حلفاء فی الکوفة نظیر الأشعث بن قیس وأمثاله، لان المسألة کانت بالنسبة لمعاویة بن أبی سفیان مسألة حیاة أو موت.

واستمرت الکتب والمراسلات بین أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه ومعاویة بن أبی سفیان وبذل الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه غایة جهده لإعادة هؤلاء القاسطین إلی رشدهم وتجنیب الأمة کارثة دمویة، لکن معاویة بذل غایة مجهوده للوقوف بوجه الحق واللجاجة والعناد وعدم الرضوخ لصوت العقل والسلم، فقرر أمیر المؤمنین

ص: 437

صلوات الله وسلامه علیه مواجهته وسحق کبریائه واستئصال هذا العضو الفاسد.

فکانت المواجهة فی صفین حیث جرت بین جیش الحق وجمع الباطل حربا طاحنة استمرّت أربعة عشر شهرا، قتل فیها والتحق بالنار تسعون ألف مقاتل من جیش معاویة، واستشهد من أصحاب أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه عشرون ألف مقاتل خمسة وعشرون منهم من الصحابة، وتفاصیل ما حدث فیها مذکورة فی کتب التاریخ غیر خافیة، ولکن الذی یهمنا منها ان هذه الحرب الأمویة التی فرضت علی أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه قد کانت سببا رئیسا فی نشوء فتنة التحکیم الشهیرة، ونتیجة لهذه الفتنة ظهرت فئة جدیدة علی الساحة الإسلامیة سموا بعد ذلک بالخوارج علیهم لعائن الله.

الخوارج الذین کانوا یمثلون انتکاسة واضحة عن الطریق المستقیم، الخوارج الذین کانوا یقرأون القرآن ولا یزیدهم ذلک الا بعدا عن الله سبحانه وتعالی لانهم لم یتعلموا من القرآن إلا الحروف، الخوارج الذین کانت جباههم سوداً من اثر السجود لکن قلوبهم خالیة خاویة من خوف الله سبحانه وتعالی وحب أولیاء الله، الخوارج الذین لم یستحلوا قتال أهل الشام لأنهم رفعوا القرآن علی المصاحف لکنهم استحلوا ان یخوضوا معرکة النهروان ضد القرآن الناطق أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، الخوارج الذین أراقوا دم أمیر المؤمنین بضربة غادرة علی رأسه خضبت منها شیبة لحیته المقدسة فارتکبوا بذلک أکبر فاجعة عرفتها البشریة بعد فاجعة فقد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، الخوارج الذین بفعلهم فقدت الأمة ثالث شخص من أشخاص أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فحققوا بذلک آمال وأحلام وأمنیات أصحاب السقیفة وأصحاب الشوری وأصحاب الجمل وصفین. 

ص: 438

ثم تولی الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه بعد أبیه أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه الخلافة، وبطریقة أوضحنا بعض تفاصیلها سابقا(1)، واضطر صلوات الله وسلامه علیه إلی ترک منصب الخلافة الظاهریة بعد أن أصرت الأمة وللمرة الرابعة بعد حادثة السقیفة علی رفض المسیر خلف أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، ومهدت بذلک لقیام الدولة الأمویة التی کان الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه أول ضحایاها، وتبعه الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه لتکون نهایة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعینعلی أیدیهم الآثمة.

وبهذا التفصیل المتقدم نستطیع ان نفهم کیف سارت عملیة التمهید لقتل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین والتمکین من قتلهم واحدا بعد واحد، والذی بقیت آثاره إلی یوم الناس هذا، فکل دم من دماء الأئمة التسعة من ذریة الحسین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وکل دم أریق لشیعتهم ومحبیهم کان سببه وأساسه هو ذلک التمهید السابق ذکره، والکل مشارک فیه وللکل نصیب منه ((سَنَکْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِیَاءَ بِغَیْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِیقِ (181) ذَلِکَ بِمَا قَدَّمَتْ أَیْدِیکُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَیْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِیدِ))(2).


1- فی شرح عبارة (السلام علیک یا ابن سید الوصیین) تحت عنوان کیف اثر لقب أمیر المؤمنین علی استشهاد الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه.
2- سورة آل عمران الآیة رقم 181 __ 182.

ص: 439

بَرِئْتُ إِلی اللهِ وَإِلَیْکُمْ مِنْهُمْ 

اشارة

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

المبحث الثانی: المعنی اللغوی والاصطلاحی لهذه الفقرة الشریفة

                     1: بَرِئْتُ                                          

                     2: إِلَی اللَّهِ

                     3: وَإِلَیْکُمْ

                     4: مِنْهُمْ

المبحث الثالث: تسعة معان محتملة لهذه الفقرة الشریفة

المبحث الرابع: فی علة التبرؤ من هذه الأمم السالفة الذکر

المبحث الخامس: أمن فروع الدین الولایة والبراءة أم من أصوله؟ 

ص: 440 

ص: 441

بَرِئْتُ إِلی اللهِ وَإِلَیْکُمْ مِنْهُمْ  وفی هذه الفقرة الشریفة من الزیارة مباحث مهمة نستعرضها فیما یأتی من الکلام.

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

وردت النصوص الشریفة عن المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین مصرحة بالبراءة من قتلة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومن أشیاعهم ومن أتباعهم ومن أولیائهم وأنصارهم وفیما یأتی جملة من تلک النصوص الشریفة الدالة علی صدق ما ورد فی هذه الفقرة الشریفة من زیارة عاشوراء.

منها ما رواه الکفعمی قدس الله روحه فی المصباح حیث قال: (فی زیارة عرفة وأما زیارة لیلة عرفة ویومها وزیارة لیلة الأضحی ویومه فقل بعد الغسل والاستیذان ان کانت الزیارة من قرب: الله أکبر کبیراً والحمد لله حمدا کثیرا... سلام الله وسلام ملائکته وأنبیائه و رسله والصالحین من عباده وجمیع خلقه ورحمته وبرکاته علی محمد وأهل بیته وعلیک یا مولای الشهید المظلوم لعن الله قاتلک وخاذلک برئت إلی الله عز وجل منهم ومن أفعالهم وممن شایع ورضی به واشهد أنهم کفار مشرکون

ص: 442

والله ورسوله منهم براء)(1).

ومنها ما رواه العلامة المجلسی قدس الله روحه فی بحار الأنوار: (عن الصادق علیه السلام قال: إذا وصلت إلی الفرات فاغتسل والبس أنظف ثوب تقدر علیه، ثم صر إلی القبر حافیا وعلیک السکینة والوقار، وقف بالباب وکبر أربعا وثلاثین تکبیرة وقل: السلام علیک یا وارث آدم فطرة الله...لعن الله قاتلک وخاذلک، برئت إلی الله عز وجل منهم ومن فعالهم، وممن شایع ورضی به، وأشهد أنهم کفار مشرکون، والله و رسوله براء منهم)(2).

وقد أصبحت مسألة البراءة من ظالمی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وقتلتهم وأشیاعهم وأتباعهم وأولیائهم جزءاً لا یمکن ان یتجزأ من العقیدة المجمع علیها فی مذهب الإمامیة الإثنی عشریة، حتی ان بقیة أجزاء الإیمان لا تقبل من دونها ولا یستغنی عنها بسواها، وفی هذا الصدد یقول الشیخ الصدوق قدس الله روحه: (ویجب أن یتبرأ إلی الله عز وجل من الأوثان الأربعة، والإناث الأربعة، ومن جمیع أشیاعهم وأتباعهم، ویعتقد فیهم أنهم أعداء الله وأعداء رسوله، وأنهم شر خلق الله، ولا یتم الإقرار بجمیع ما ذکرناه إلا بالتبری منهم)(3).

وقال قدس الله روحه أیضا: (واعتقادنا فی البراءة أنها واجبة من الأوثان الأربعة ومن الأنداد الأربعة ومن جمیع أشیاعهم وأتباعهم، وأنهم شر خلق الله. ولا یتم الإقرار بالله وبرسوله وبالأئمة إلا بالبراءة من أعدائهم واعتقادنا فی قتلة الأنبیاء وقتلة الأئمة أنهم کفار مشرکون مخلدون فی أسفل درک من النار. ومن اعتقد فیهم غیر ما ذکرناه


1- المصباح للکفعمی ص 501 __ 502 زیارة لیلة عرفة ویومها وزیارة لیلة الأضحی ویومه.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج 98 ص 230 __ 231.
3- الهدایة للشیخ الصدوق ص 45 __ 46.

ص: 443

فلیس عندنا من دین الله فی شیء)(1).

فعبارة (بَرِئْتُ إِلَی اللَّهِ وَإِلَیْکُمْ مِنْهُمْ وَمِنْ أَشْیَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ وَأَوْلِیَائِهِمْ) متوافقة مع النصوص الصادرة عن أهل بیت العصمة والطهارة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وکذلک متوافقة مع المجمع علیه من اعتقاد للفرقة الناجیة.

المبحث الثانی: المعنی اللغوی والاصطلاحی لهذه الفقرة الشریفة
1: بَرِئْتُ

وردت للبراءة معانٍ عدیدة فی کتب اللغة نختار منها ما هو محتمل المراد للإمام صلوات الله وسلامه علیه ویتناسب مع أجواء زیارة عاشوراء.

الأول: بمعنی المفارقة والمباعدة والانفصال قال الشیخ الطوسی فی تفسیر التبیان: (البراءة من الشیء المفارقة والمباعدة عنه: وبرئ الله من الکافر: باعده عن رحمته)(2)، وقال أبو حیان الأندلسی: (تبرّأ: تفعّل، من قولهم: برئت من الدین براءة: وهو الخلوص والانفصال والبعد)((3) وقال الجوهری فی الصحاح: (وبارأت شریکی: إذا فارقته)(4).

الثانی: وقد تأتی بمعنی إزالة الشیء وقطع کل سبب ما بینه وبین النفس، قال ابن العربی فی تفسیر سورة براءة: (فیقال: برئت من الشیء أبرأ براءة فأنا منه بریء


1- الاعتقادات فی دین الإمامیة للشیخ الصدوق ص 105 __ 107.
2- التبیان للشیخ الطوسی ج 1 ص 244 عند تفسیر قوله سبحانه وتعالی (وإذ قال موسی لقومه) من سورة البقرة الآیة 54.
3- () تفسیر البحر المحیط لأبی حیان الأندلسی ج 1 ص 630.
4- الصحاح للجوهری ج1 ص36 فصل التاء.

ص: 444

إذا أزلته عن نفسک وقطعت سبب ما بینه وبینک)((1).

الثالث: وقد تأتی بمعنی انقطاع العصمة، قال الشیخ الطبرسی قدس الله روحه فی تبیان معنی قوله سبحانه وتعالی: ((بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ))(2): (انقطاع للعصمة، ورفع للأمان، وخروج من العهود)(3)، وقال الرازی: (معنی البراءة انقطاع العصمة، یقال: برئت من فلان أبرأ براءة، أی انقطعت بیننا العصمة ولم یبق بیننا علقة)((4).

الرابع: وقد تأتی بمعنی التقصی عن الشیء الذی یکره مجاورته، قال الراغب الأصفهانی: (أصل البرء والبراء والتبری: التقصی مما یکره مجاورته)(5).

2: إِلَی اللَّهِ

ولفظ الجلالة (الله) معلوم المعنی عند کل واحد من المسلمین، و (إِلَی) حرف جر ورد له فی اللغة ثمانیة معانی(6)نختار منها ما هو محتمل المراد من قبل الإمام صلوات الله وسلامه علیه فمنها:

أولا: لانتهاء الغایة الزمانیة أو المکانیة(7)، أما الزمانیة فکقوله سبحانه وتعالی: ((ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّیَامَ إِلَی اللَّیْلِ))(8)، وأما المکانیة فمثل قوله تعالی: ((مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَی الْمَسْجِدِ الْأَقْصَی


1- () أحکام القرآن لابن العربی ج 2 ص 446، تفسیر القرطبی ج 8 ص 63، فتح القدیر للشوکانی ج 2 ص 332.
2- سورة التوبة الآیة رقم 1.
3- تفسیر مجمع البیان للشیخ الطبرسی ج1 ص7.
4- () تفسیر الرازی ج 15 ص 217 عند تفسیر قوله تعالی (براءة من الله ورسوله) المسألة الاولی، تفسیر البحر المحیط لأبی حیان الأندلسی ج 5 ص 6 عند تفسیر سورة براءة.
5- مفردات غریب القرآن للراغب الاصفهانی ص45 کتاب الباء وما یتصل بها.
6- راجع الجنی الدانی فی حروف المعانی للحسن بن قاسم المرادی ص385 الباب الثالث فی الثلاثی.
7- مغنی اللبیب لابن هشام الأنصاری ج 1 ص 74، الإتقان فی علوم القرآن للسیوطی ج1 ص444.
8- سورة البقرة الآیة 187.

ص: 445

الَّذِی بَارَکْنَا))(1) واستعمل لانتهاء الغایة ولکن الاعتباریة والمعنویة منها(2)دون المادیة والزمانیة ومنه قوله سبحانه وتعالی: ((فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّی مُهَاجِرٌ إِلَی رَبِّی إِنَّهُ هُوَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ))(3) فالغایة الزمانیة والمکانیة هنا منتفیة ولا یمکن حمل (إلی) علیها لان کلاًّ من المکان والزمان یختصان بالمادة والله سبحانه وتعالی منزه عن خواص المادة وأعراضها، فلابد من حمل الغایة علی ما هو معنوی غیبی.

ثانیا: وقد یکون حرف الجر (إلی) بمعنی (مع) وذلک إذا ضممت شیئا إلی آخر(4)، نظیر قوله سبحانه وتعالی: ((قَالَ مَنْ أَنْصَارِی إِلَی اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِیُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ))(5)، أی من أنصاری مع الله، وکقوله سبحانه وتعالی: ((فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرَافِقِ))(6).

ثالثا: وقد یکون حرف الجر (إلی) بمعنی (فی)(7) ومنه کما قیل قوله سبحانه وتعالی: ((فَقُلْ هَلْ لَکَ إِلَی أَنْ تَزَکَّی))(8)أی هل لک فی أن تتزکی.

3: وَإِلَیْکُمْ

والواو هنا عاطفة و(إِلَیْکُمْ) معطوفة علی لفظ الجلالة (الله) والمعنی برئت إلی الله سبحانه وتعالی وبرئت إلیکم، وضمیر الجمع فی (إِلَیْکُمْ) عائد إلی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین المذکورین فی الفقرات السابقة لهذه الفقرة الشریفة من الزیارة. 


1- سورة الإسراء الآیة 1.
2- مغنی اللبیب ابن هشام الأنصاری ج 1 ص 75 ، تفسیر القرآن الکریم للسید مصطفی الخمینی ج5 ص 131.
3- سورة العنکبوت الآیة 26.
4- مغنی اللبیب لابن هشام الأنصاری ج 1 ص 74 ، الإتقان فی علوم القرآن للسیوطی ج 1ص 444.
5- سورة آل عمران الآیة 52.
6- سورة المائدة الآیة رقم 6.
7- مغنی اللبیب ابن هشام الأنصاری ج 1 ص75.
8- سورة النازعات الآیة رقم 18.

ص: 446

4: مِنْهُمْ

وضمیر الجمع فی (مِنْهُمْ) یعود إلی کل من (الأمة التی أسست أساس الظلم والجور علی أهل البیت، والأمة التی دفعتهم عن مقامهم وأزالتهم عن مراتبهم التی رتبهم الله فیها، والأمة التی قتلتهم، والممهدین لهم بالتمکین من قتالهم).

وحرف الجر (مِنْ) نوعان فی اللغة زائد وغیر زائد، وغیر الزائد ینقسم إلی أربعة عشر معنی(1)، وسنورد فیما یأتی بعض المعانی المحتملة المراد للإمام صلوات الله وسلامه علیه منها:

أولا: لابتداء الغایة، قال الزبیدی فی تاج العروس: (ومن بالکسر حرف خفض یأتی علی أربعة عشر وجها: الأول: لابتداء الغایة...وقد یجیء لمجرد الابتداء من دون قصد الانتهاء مخصوصا نحو أعوذ بالله من الشیطان الرجیم، فابتداء الاستعاذة من الشیطان مع قطع النظر عن الانتهاء غالبا)((2).

 ثانیا: لتبیان الجنس: (نحو قوله سبحانه وتعالی ((فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ))(3) وعلامتها ان یحسن جعل الذی مکانها، لان المعنی فاجتنبوا الرجس الذی هو وثن ومجیئها لبیان الجنس مشهور)(4).

ثالثا: واستعملت (من) بمعنی (الفصل وهی الداخلة علی ثانی المتضادین کقوله سبحانه وتعالی ((وَاللَّهُ یَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ))(5) وقوله سبحانه وتعالی ((حَتَّی یَمِیزَ الْخَبِیثَ مِنَ


1- الجنی الدانی فی حروف المعانی للحسین بن قاسم المرادی ص308 الباب الثانی فی الثنائی.
2- () تاج العروس للزبیدی ج 18 ص 552 مادة (من) بالکسر.
3- سورة الحج الآیة 30.
4- الجنی الدانی فی حروف المعانی للحسین بن قاسم المرادی ص309 __ 310 الباب الثانی فی الثنائی.
5- سورة البقرة الآیة 220.

ص: 447

الطَّیِّبِ))(1))(2).

رابعا: واستعملت (مرادفة عن کقوله تعالی ((فَوَیْلٌ لِلْقَاسِیَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِکْرِ اللَّهِ))(3)أی عن ذکر الله)(4).

هذه هی أهم المعانی لحرف الجر (من) والتی یمکن أن یحتمل إرادتها من قبل الإمام صلوات الله وسلامه علیه وبها ینتهی هذا المبحث.

المبحث الثالث: تسعة معان محتملة لهذه الفقرة الشریفة

یمکن ومن خلال المعنی اللغوی السابق ان نجد تسعة معانٍ محتملة لقول الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه (بَرِئْتُ إِلَی اللَّهِ وَإِلَیْکُمْ مِنْهُمْ) نستعرضها فیما یأتی:

المعنی الأول: إذا أخذنا بنظر الاعتبار الآتی:

ألف: البراءة بمعنی المفارقة والمباعدة والانفصال.

باء: وأخذنا حرف الجر (إلی) بمعنی انتهاء الغایة.

جیم: وأخذنا حرف الجر (من) بمعنی (عن).

فیصبح معنی (بَرِئْتُ إِلَی اللَّهِ وَإِلَیْکُمْ مِنْهُمْ) هو: (فارقت وتباعدت وانفصلت ببدنی وعقیدتی وکل ما لی من شأن من شؤون دنیای وآخرتی عن الأمة التی أسست أساس الظلم والجور علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وعن الأمة التی دفعتهم عن مقامهم وأزالتهم عن مراتبهم التی رتبهم الله سبحانه وتعالی فیها، وعن الأمة التی قتلتهم


1- سورة آل عمران الآیة 179.
2- تاج العروس للزبیدی ج 18 ص555.
3- سورة الزمر الآیة رقم 22.
4- تاج العروس للزبیدی ج18 ص555 مادة من بالکسر المعنی العاشر.

ص: 448

وعن الممهدین لهم بالتمکین من قتالهم، ومنتهی غایتی ومحض نیتی من مفارقتی لهؤلاء القوم وتباعدی عن هذه الأمم المنحرفة الضالة هو الله سبحانه وتعالی وأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین).

المعنی الثانی: إذا أخذنا بنظر الاعتبار الآتی:

ألف: البراءة بمعنی إزالة الشیء وقطع کل سبب ما بینه وبین النفس.

باء: وأخذنا حرف الجر (إلی) بمعنی انتهاء الغایة.

 فیصبح معنی (بَرِئْتُ إِلَی اللَّهِ وَإِلَیْکُمْ مِنْهُمْ) هو: (قطعت وأزلت عن نفسی کل سبب وطریق وعلقة مادیة أو معنویة یمکن أن تربطنی أو تجمع ما بینی وبین الأمة التی أسست أساس الظلم والجور علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وما بینی وبین الأمة التی دفعتهم عن مقامهم وأزالتهم عن مراتبهم التی رتبهم الله سبحانه وتعالی فیها، وما بینی وبین الأمة التی قتلتهم وما بینی وبین الممهدین لهم بالتمکین من قتالهم، وغایتی بل ومنتهی غایتی من قطع کل سبب وعلاقة مع هؤلاء القوم هو الله سبحانه وتعالی وأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین).

المعنی الثالث: إذا أخذنا بنظر الاعتبار الآتی:

ألف: البراءة بمعنی التنزه عن الشیء فیقال: (برئ إذا تنزه وتباعد)(1).

باء: وأخذنا حرف الجر (إلی) بمعنی انتهاء الغایة أو المعیة.

فیصبح معنی (بَرِئْتُ إِلَی اللَّهِ وَإِلَیْکُمْ مِنْهُمْ) هو: (تنزهت وتکرمت وتعالیت عن ان أکون مؤسسا لظلم أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أو مشارکا، ولأشخاصهم المقدسة قاتلا، وعن مراتبهم ومقاماتهم الشریفة المنیفة دافعا ومزیلا، ولقاتلیهم ممهدا


1- لسان العرب لابن منظور ج1 ص33 فصل الباء الموحدة.

ص: 449

ومعینا، تنزهت منهم ومن أفعالهم وأقوالهم وجرائرهم وجرائمهم، وکل ما صدر عنهم وکان له دخل فی تأسیس الظلم علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أو دفعهم أو قتلهم أو التمهید لقتلهم، وغایتی فی تنزهی عن کل ذلک هو الله سبحانه وتعالی وأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین).

وإذا اتضح لنا ان معنی التنزه هو تکریم النفس عن الشائنات(1) فتکون الزیارة الشریفة بصدد إثبات حقیقتین:

 الأولی: ان هذه الأفعال التی قام بها هؤلاء المؤسسون والدافعون لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین والغاصبون لحقوقهم ومراتبهم والقاتلون لهم والممهدون لقتالهم، هی أفعال مشینة معیبة یجب علی المؤمن التنزه والتباعد عنها وعن أمثالها.

 والثانیة: إن هذه الأفعال المشینة لا تأتی جزافا ولا تصدر إلا ممن خبثت سریرته وکان باطنه مشیناً مثل ظاهره، وان ظهور تلک الأفعال المشینة یکشف عن بواطن أولئک المؤسسین والدافعین والقاتلین والممهدین لقتال أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ویدل علی أن بواطنهم أیضا مشینة، فیجب علی المؤمن أن ینزه داخ_له وباطن_ه من أن یکون هکذا.

وتصریح الزائر بالبراءة منهم هو إعلان منه بأنه طاهر الفعل والقصد تجاه أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وتجاه مقاماتهم ومراتبهم، وانه طاهر النفس عن کل ولیجة دونهم.

المعنی الرابع: وإذا أخذنا بنظر الاعتبار إجماع المسلمین علی ان الله سبحانه وتعالی فرض علی عباده المؤمنین عداوة أعدائه وولایة أولیائه فقال سبحانه وتعالی ((یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا 


1- لسان العرب لابن منظور ج12 ص512 فصل الکاف.

ص: 450

لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَیْهِمْ قَدْ یَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ کَمَا یَئِسَ الْکُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ))(1)، وقال سبحانه وتعالی أیضا: ((لَا تَجِدُ قَوْمًا یُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْیَوْمِ الْآَخِرِ یُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ کَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِیرَتَهُمْ أُولَئِکَ کَتَبَ فِی قُلُوبِهِمُ الْإِیمَانَ وَأَیَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَیُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِینَ فِیهَا رَضِیَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِکَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))(2).

فیصبح معنی (بَرِئْتُ إِلَی اللَّهِ وَإِلَیْکُمْ مِنْهُمْ) هو: (إن براءتی لهؤلاء المؤسسین والدافعین لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عن مقاماتهم ومراتبهم، وقاتلیهم والممهدین لغیرهم من قتالهم، هی فی الله ولله سبحانه وتعالی، وفی أهل البیت ولأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وهی تطبیق عملی لقاعدة الحب والبغض فی الله سبحانه وتعالی، والتزام عملی بتعالیم القرآن الکریم الذی اوجب علی أهل الإیمان أن یتبرؤوا ممن حاد الله سبحانه وتعالی واستجلب غضب الله سبحانه وتعالی بمحاربة أولیائه).

المعنی الخامس: وإذا أخذنا فی نظر الاعتبار ما یأتی:

ألف: البراءة معنی الإعذار والإنذار(3).

باء: وفهمنا من الإعذار والإنذار معنی البلاغ والإعلان((4).

 فیصبح المعنی: (إعلان وبلاغ من قبل الزائر إلی الله سبحانه وتعالی بأنه بریء من هؤلاء الذین تم لعنهم سابقا. وان الزائر فی نفس الوقت یعلن لأولئک الملعونین


1- سورة الممتحنة الآیة رقم 13.
2- سورة المجادلة الآیة رقم 22.
3- لسان العرب لابن منظور ج1 ص33 فصل الباء الموحدة.
4- () هذا المعنی مأخوذ من تفسیر قوله تعالی ((بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَی الَّذِینَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِکِینَ)) وقد فسرت بمعنی بلاغا کائنا من الله أو بلاغا من الله (راجع: تفسیر جامع الجوامع للشیخ الطبرسی ج3 ص658، وتفسیر الرازی ج30 ص165، تفسیر الآلوسی ج29 ص94).

ص: 451

ویبلغهم بأنه لیس منهم، وان العهود والأسباب والعلائق ما بینه وبینهم منقطعة، وانه منذر لهم من مغبة ظلمهم لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وقتلهم، وانه حرب لهم بسبب قطعهم لعهود الله سبحانه وتعالی، وان هذه الحرب والمفارقة والرفض لیست مخبئة مکتومة فی نفس الزائر، کما یکتم الخائف والجبان ما فی نفسه، بل هو موقف صریح معلن، إذ ان النصرة لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین والرفض لمخالفیهم وظالمیهم وقاتلیهم مما لا یستحی منه یخفیه الزائر الموالی، وان القاتل والظالم والممهد لقتل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین هو من یلزمه الاستحیاء والخوف من فعله وموقفه، لأنه من المواقف المشینة التی یتکرم الإنسان المؤمن عن الاتصاف بها).

المعنی السادس: وإذا أخذنا حرف الجر (من) بمعنی ابتداء الغایة من دون قصد الانتهاء، فیکون معنی (بَرِئْتُ إِلَی اللَّهِ وَإِلَیْکُمْ مِنْهُمْ) هو: (ان ابتداء براءتی منهم مع قطع النظر عن الانتهاء لان براءتی لا تتوقف عند هؤلاء البتة، بل سیکون لها استمراریة ودوام لکل من یتصف بأوصافهم ویفعل أفعالهم) .

المعنی السابع: وإذا أخذنا حرف الجر (من) بمعنی تبیان الجنس فیکون قصد الزیارة هو : (برئت إلی الله والیکم من الأمة لکن لا مطلق الأمة بل من الأمة التی أسست أساس الظلم والجور علیکم أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، ومن الأمة التی دفعتهم عن مقاماتهم وأزالتهم عن مراتبهم التی رتبهم الله فیها، ومن الأمة التی قتلتهم ومهدت لقتالهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین).

المعنی الثامن: وإذا أخذنا من حرف الجر (من) معنی الفصل، وهی الداخلة علی ثانی المتضادین فیکون قصد الزیارة هو تبیان ان هنالک طرفین متضادین، الأول هو الله سبحانه وتعالی وأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، والثانی هم کل من الأمة التی أسست أساس الظلم والجور علی أهل البیت والأمة التی دفعتهم عن مقامهم وأزالتهم عن

ص: 452

مراتبهم التی رتبهم الله فیها، والأمة التی قتلتهم ومهدت ومکنت الآخرین من قتالهم، ولابد وحسب القاعدة العقلیة أن یتولی الزائر أحد هذین الطرفین، فإذا تولی أحدهما لزم وبحسب الفرض العقلی ان یتبرأ من الطرف الآخر، لأنهما شیئان متضادان والمتضادان لا یجوز اجتماعهما فی مکان واحد وفی وقت واحد، قال سبحانه وتعالی ((لَا تَجِدُ قَوْمًا یُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْیَوْمِ الْآَخِرِ یُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ کَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِیرَتَهُمْ أُولَئِکَ کَتَبَ فِی قُلُوبِهِمُ الْإِیمَانَ وَأَیَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَیُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِینَ فِیهَا رَضِیَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِکَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))(1).

 المعنی التاسع: وإذا أخذنا بنظر الاعتبار الآتی:

ألف: أخذنا فی البراءة معنی الانفصال عن الشیء.

باء: وأخذنا حرف الجر (من) بمعنی (عن).

جیم: وأخذنا فی نظر الاعتبار تلک الروایات التی تحدثت عن الطینة التی خلق الله سبحانه منها الناس وکیف فصل بین طیبها وخبیثها بحسب الولاء والبغض لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین(2).


1- سورة المجادلة الآیة رقم 22.
2- جاء فی کتاب الکافی للشیخ الکلینی ج 1ص 389: (عن أبی عبد الله علیه السلام قال: إن الله خلقنا من علیین وخلق أرواحنا من فوق ذلک وخلق أرواح شیعتنا من علیین وخلق أجسادهم من دون ذلک، فمن أجل ذلک القرابة بیننا وبینهم وقلوبهم تحن إلینا). وعن أبی حمزة الثمالی قال: سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول:(إن الله خلقنا من أعلی علیین وخلق قلوب شیعتنا مما خلقنا، وخلق أبدانهم من دون ذلک ، فقلوبهم تهوی إلینا، لأنها خلقت مما خلقنا، ثم تلا هذه الآیة: ((کَلَّا إِنَّ کِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِی عِلِّیِّینَ * وَمَا أَدْرَاکَ مَا عِلِّیُّونَ * کِتَابٌ مَّرْقُومٌ * یَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ)) وخلق عدونا من سجین وخلق قلوب شیعتهم مما خلقهم منه، وأبدانهم من دون ذلک، فقلوبهم تهوی إلیهم، لأنها خلقت مما خلقوا منه، ثم تلا هذه الآیة: ((کَلَّا إِنَّ کِتَابَ الفُجَّارِ لَفِی سِجِّینٍ * وَمَا أَدْرَاکَ مَا سِجِّینٌ * کِتَابٌ مَّرْقُومٌ))).

ص: 453

 فیصبح المعنی کالتالی: (انفصلت طینتی التی خلقت منها عند الله فی ابتداء خلق هذا العالم عن طینة هؤلاء الذین قد تم لعنهم فیما سبق وبسبب هذا الانفصال حن قلبی إلی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فلم أصبح لظلمهم مؤسسا ولا لمقاماتهم منکرا ولا لهم عن منازلهم دافعا ولا للغیر فی سبیل قتلهم ممهدا ولا لإراقة دمائهم وإزهاق نفوسهم القدسیة ممکنا).

ولا یخفی ان هذا المعنی یستبطن استذکار هذه النعمة الجلیلة والمنة العظیمة من قبل الزائر والتی تستدعی الشکر للمنعم والشعور بالعطف الإلهی لأتباع أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

ویمکن للقارئ أن یجد معانی أخری لهذه الفقرة من الزیارة فیما لو ضم معنی لغویّاً إلی معنی آخر بالطریقة التی اتبعناها فی شرح هذه الفقرة الشریفة من الزیارة.

المبحث الرابع: فی علة التبرؤ من هذه الأمم السالفة الذکر 
اشارة

لما استعرضت الزیارة فی الفقرات السابقة أحوال الذین قد تم لعنهم، وعرفت الزائر کثیرا من جرائرهم وجرائمهم، صار من اللازم تحدید وتبیان الموقف الشرعی الذی لابد أن یتخذ تجاههم، فصاغت الزیارة هذا الموقف بقالب البراءة والرفض لأشخاص وأفعال أولئک الملعونین، وهذا التبرؤ ورفع الأمان والخروج عن العهود والمواثیق بین الزائر وبین هؤلاء الملعونین لم یکن رفعا جزافیا وإبطالا لغویا من دون سبب یبیحه، وداع یوجبه، ونحن فیما یأتی نستعرض جملة من الأسباب التی جوزت للزائر التبرؤ والخروج عن العهود والمواثیق ورفع الأمان ما بینه وبینهم: 

ص: 454

السبب الأول: لخیانتهم والخائن یجوز نقض عهده والتبرؤ منه

إن الله سبحانه وتعالی قد أجاز التبرؤ ونقض عهد الذین یخاف منهم الخیانة قال تعالی ((وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِیَانَةً فَانْبِذْ إِلَیْهِمْ عَلَی سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا یُحِبُّ الْخَائِنِینَ))(1)، وأولئک الذین أسسوا أساس الظلم والجور علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، والذین دفعوهم عن مقاماتهم ومنازلهم، والذین قتلوهم ومهدوا لقتلهم، لا یخاف منهم الخیانة فحسب بل ان هذه الخیانة قد وقعت منهم فعلا، فجواز النقض فی موردهم واضح لا شک فی جوازه.

وقد عرفنا فی المباحث السابقة ان الله سبحانه وتعالی قد أخذ علی الناس میثاق المحبة والنصرة والدفاع والحفاظ علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وتقدیمهم علی غیرهم فی کل الأمور صغیرها وکبیرها، وعلیه یصبح قتل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وتقدیم غیرهم علیهم وتأخیرهم وإبعادهم عن مراتبهم وإزالتهم عن منازلهم هو نقضاً لذلک العهد وتبرؤا من المیثاق، والناقض للعهد لیس له جزاء إلا نقض بنقضاً، والمتبرئ من المیثاق لا یقابل إلا بالبراءة منه.

السبب الثانی : وجب التبرّؤ منهم لان الله سبحانه وتعالی قد تبرأ منهم

کتب الله سبحانه وتعالی علی نفسه أن لا یظلم من الخلق أحدا، قال سبحانه وتعالی ((وَمَا اللَّهُ یُرِیدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِینَ))(2) وقال سبحانه وتعالی أیضا ((وَمَا اللَّهُ یُرِیدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ))(3) وکتب علی عباده ان لا یظلم بعضهم بعضا، وکتب ان من یتلبس بشیء من الظلم یحکم علیه بالبعد عن


1- سورة الأنفال الآیة 58.
2- سورة آل عمران الآیة 108.
3- سورة غافر الآیة 31.

ص: 455

الرحمة والسخط ما دام مقیما علی ظلمه قال سبحانه وتعالی ((وَاللَّهُ لَا یُحِبُّ الظَّالِمِینَ))(1) فیکون الله سبحانه وتعالی بذلک بریئاً من ظُلم من ظَلم أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وعدوان من اعتدی علیهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، متنزّها عن ان یکون قد أمر به أو رضیه تعالی عن ظلم أولیائه وأصفیائه بل وسائر عباده.

ومن تبرأ منه الله سبحانه وتعالی جاز للعباد التبرؤ منه تخلقا بأخلاق اللهسبحانه وتعالی، وتطبیقا لآیات القرآن الکریم الذی أوجب علی المؤمنین ان یتخذوا الموقف ذاته الذی یتخذه الله سبحانه وتعالی ورسوله صلی الله علیه وآله وسلم تجاه الظالمین والمفسدین والمحاربین والمؤذین لله سبحانه وتعالی ولرسوله الکریم صلی الله علیه وآله وسلم قال سبحانه وتعالی ((لَا تَجِدُ قَوْمًا یُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْیَوْمِ الْآَخِرِ یُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ کَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِیرَتَهُمْ))(2) وکذلک عملا بأقوال أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین القاضیة بوجوب ان یتبرأ المؤمن من کل من یتبرأ الله سبحانه وتعالی منه والی هذا المعنی یشیر الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه بقوله: (اللهم إنی أشهدک بالولایة لمن والیت ووالته رسلک واشهد بالبراءة ممن برئت منه وبرئت منه رسلک ...)(3).

السبب الثالث: وجبت البراءة لتبرؤ النبی صلی الله علیه وآله وسلم منهم

أوجب الله سبحانه وتعالی علی نبیه الکریم صلی الله علیه وآله وسلم أن لا یجامل أهل الظلم والجور والعصیان وان لا یداهنهم فیطمع الذی فی قلبه مرض منهم، وان یقف منهم موقف الحزم والجد والقوة، وان یعلن وعلی رؤوس الأشهاد انه بریء من ظلم کل ظالم، وعصیان کل عاص، حتی لا یحتسب ظلمهم وعصیانهم علی


1- سورة ال عمران الآیة رقم 57.
2- سورة المجادلة الآیة رقم 22.
3- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص362 ، بحار الأنوار للمجلسی ج97 ص301.

ص: 456

الشریعة الإسلامیة الآمرة بالقسط والعدل والإحسان والمنزهة مشرعها ومبلغها عن ظلم الظالمین وعصیان العاصین فقال سبحانه وتعالی مخاطبا رسوله الأکرم ونبیه الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ((فَإِنْ عَصَوْکَ فَقُلْ إِنِّی بَرِیءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ))(1) وقد تکرر ذکر ان أعظم مصادیق الظلم والعصیان لأوامر الشریعة هو القتل وإراقة الدماء التی أمر الله بحفظها، وأقبح القتل وأعظمه هو قتل الأنبیاء والأوصیاء والأئمة الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فیکون داخلا فی العصیان الذی أعلن القرآن براءة النبی الأعظم منه ومن فاعله والمتلبس به.

وکذلک یدخل فی باب معصیة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم کل من أسس أساس الظلم والجور علی أهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وکل من دفعهم عن مقامهم ومنازلهم التی جعلها الله سبحانه وتعالی لهم خاصة دون العالمین، وکل من مهد لقتلهم وقتالهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فقد سمعت الأمة من نبیها الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ولسنین طویلة تأییده المطلق وتقدیمه وإحاطته بالرعایة والحفظ والشفقة لأهل بیته الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فیکون عمل الأمة علی خلاف منهج نبیها صلی الله علیه وآله وسلم فی أهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومخالفة وصیته فیهم من أوضح مصادیق العصیان لأوامر النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فیکون دخوله فی قوله سبحانه وتعالی ((فَإِنْ عَصَوْکَ فَقُلْ إِنِّی بَرِیءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ))(2) ما لا شک فیه ولا ریب.

ومن برئ منه النبی صلی الله علیه وآله وسلم وجب علی المؤمنین التبرؤ منه امتثالا لقوله سبحانه وتعالی ((لَقَدْ کَانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ کَانَ یَرْجُو اللَّهَ وَالْیَوْمَ الْآَخِرَ وَذَکَرَ اللَّهَ کَثِیرًا))(3)


1- سورة الشعراء الآیة 216.
2- سورة الشعراء الآیة 216.
3- سورة الأحزاب الآیة 21.

ص: 457

السبب الرابع: تجب البراءة منهم بقطع النظر عن کل دلیل قرآنی أو روائی

 ان البراءة من مؤسسی الظلم لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین والدافعین لهم عن مقاماتهم ومنازلهم ومراتبهم التی رتبهم الله سبحانه وتعالی فیها، وقتلتهم والممهدین لقتلهم وقتالهم، وجبت لان أفعالهم الشائنة ضد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بحد ذاتها وبقطع النظر عن رأی الشارع المقدس تستحق بل ویجب أن یتبرأ منها، فقد ثبت فی محله ان کلاً من الحسن والقبح عقلیان، فالعقل یحکم وبغض النظر عن رأی الشرع ونصوصه علی حسن الصدق وقبح الکذب وحسن رد الودیعة وقبح خیانة الأمانة، وحسن حفظ النفس المتصفة بالخیر والصلاح وقبح إزهاقها، وحسن رعایة العهود والمواثیق وقبح نقضها، وحسن الرعایة لأهل الکمال والفضل وقبح التخطیط لقتلهم وقتالهم واستبدالهم بالأشرار، ومن کابر فی قبول ذلک فقد أنکر عقله وغالط فطرته السلیمة.

 ولا یشک ذو عقل مستقیم وفطرة سلیمة ان قتل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بوصفهم من أهل الفضل والکمال والصلاح هو من أوضح مصادیق القبح، وکذلک یقبح عند ذوی العقول والألباب دفع أهل الحق عن حقهم، والتمهید للأشرار فی سبیل قتل الأخیار، وتأسیس الظلم والجور علی أهل الصلاح والخیر، وإذا ثبت قبح کل ذلک وجب التنزه عنه، والتکرم والترفع والبراءة منه، وعدم التنزه والترفع عن القبیح بعد معرفته قبیح عقلا.

السبب الخامس: تجب البراءة لأنهم نواصب 

ترددت کلمات الأعلام فی تعریف الناصبی إلی معنیین، الأول هو: الذی ینصب العداوة لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أو لأحدهم ویدین ببغضهم ویستحل

ص: 458

دماءهم ویکره ذکر فضائلهم.

والمعنی الثانی هو: الذی یلحق الضرر بأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وشیعتهم ومحبیهم بسبب حبهم لهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وفی هذا الصدد یقول الشهید الثانی قدس الله روحه: (والمراد به من نصب العداوة لأهل البیت علیهم السلام أو لأحدهم وأظهر البغضاء لهم صریحا أو لزوما ککراهة ذکرهم ونشر فضائلهم والإعراض عن مناقبهم من حیث إنها مناقبهم والعداوة لمحبیهم بسبب محبتهم، وروی الصدوق ابن بابویه عن عبد الله بن سنان عن الصادق علیه السلام قال: «لیس الناصب من نصب لنا أهل البیت لأنک لا تجد أحدا یقول أنا أبغض محمدا وآل محمد ولکن الناصب من نصب لکم وهو یعلم أنکم تتولونا وأنکم من شیعتنا»)(1).

ویقول المحقق المتبحر محمد أمین الأسترآبادی قدس الله روحه: (وقعت مشاجرة عظیمة من غیر فیصل بین المتأخرین من أصحابنا فی تحقیق معنی الناصبی، فزعم بعضهم أن المراد به: من نصب العداوة لأهل البیت علیهم السلام. وذهب بعضهم إلی أن المراد به من نصب العداوة لمذهب الإمامیة. وفی الأحادیث تصریحات بالثانی(2). ومن قال بالأول کان قلیل البضاعة فی أحادیثنا الواردة فی الأصولین. ومن الأحادیث الصریحة فیما اخترناه ما نقله الشیخ الصدوق فی کتاب العلل حیث قال:...عن عبد الله بن سنان، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: لیس الناصب من نصب لنا أهل البیت، لأنک لا تجد رجلا یقول: أنا أبغض محمدا وآل محمد، ولکن الناصب من نصب لکم وهو یعلم أنکم تتولونا وأنکم من شیعتنا...)(3)


1- روض الجنان للشهید الثانی ص157 حکم أسآر الحیوانات.
2- أی بالذی ینصب العداوة لمذهب الإمامیة بشکل عام.
3- الفوائد المدنیة والشواهد المکیة لمحمد أمین الأسترآبادی ص 451 __ 452 تحقیق معنی الناصبی.

ص: 459

ولسنا فی هذه الصفحات بصدد ترجیح احد الأطراف علی الطرف الآخر، بل لتبیان ان أی معنی من معانی النصب أخذنا به فانه یشمل وبوضوح کل من أسس أساس الظلم والجور علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وکذلک یشمل کل من دفعهم وأزالهم عن مراتبهم التی رتبهم الله فیها، وکل من قتلهم ومهد لقتلهم.

والناصبی کافر بإجماع أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وعلماء المذهب الحق وشیعتهم، والکافر یجب البراءة منه ویحرم علی المؤمن مودته وولایته لقوله سبحانه وتعالی: ((لَا یَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْکَافِرِینَ أَوْلِیَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ وَمَنْ یَفْعَلْ ذَلِکَ فَلَیْسَ مِنَ اللَّهِ فِی شَیْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَیُحَذِّرُکُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَی اللَّهِ الْمَصِیرُ))(1)، ولقوله سبحانه وتعالی: ((الَّذِینَ یَتَّخِذُونَ الْکَافِرِینَ أَوْلِیَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ أَیَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِیعًا))(2)، ولقوله: سبحانه وتعالی ((یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْکَافِرِینَ أَوْلِیَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ أَتُرِیدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَیْکُمْ سُلْطَانًا مُبِینًا))(3)، ولقول الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه فی عمل یوم الغدیر: (برئت إلی الله من کل من نصب لهم(4) حربا من الجن والإنس من الأولین والآخرین)(5).

السبب السادس: تجب البراءة منهم حتی لا یشارکهم فی أفعالهم 

وتجب علی المؤمن البراءة من کل من مر لعنه فی الفقرات السابقة للزیارة حتی لا تلحقه جرائرهم ولا یشارکهم فی ظلمهم فتشمله عقوبتهم لقوله صلی الله علیه وآله وسلم: (من أحب قوما حشر معهم، ومن أحب عمل قوم أشرک فی عملهم)((6) ولقوله


1- سورة آل عمران الآیة ٢٨.
2- سورة النساء الآیة 139.
3- سورة النساء الآیة ١٤٤.
4- أی لأهل البیت علیهم السلام.
5- إقبال الأعمال للسید ابن طاوس ج2 ص278 ، بحار الأنوار للمجلسی ج95 ص299.
6- () بحار الأنوار للمجلسی ج65 ص131 ، جامع أحادیث الشیعة للسید البروجردی ج13 ص426.

ص: 460

صلی الله علیه وآله وسلم: (من عمل بالمعاصی بین ظهرانی قوم هو منهم لم یمنعوه من ذلک حتی یغیروا المنکر فقد برئت منهم ذمة الله)(1).

والبراءة نوع من أنواع الإعراض والنهر والرفض لأشخاص وأعمال هؤلاء الملعونین وهو راجح شرعا بل هو واجب فعن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم انه قال: (من اعرض عن صاحب بدعة بغضا له ملأ الله قلبه أمنا وإیمانا ومن انتهر صاحب بدعة آمنه الله یوم الفزع الأکبر ومن أهان صاحب بدعة رفعه الله فی الجنة مائة درجة ومن سلم علی صاحب بدعة أو لقیه بالبشر واستقبله بما یسره فقد استخف بما انزل الله علی محمد)(2).

 وعن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم انه قال: (إذا رأیتم أهل الریب والبدع من بعدی فأظهروا البراءة منهم ...)(3).

والبراءة وعدم تولی أعداء الله سبحانه وتعالی والتنزه عن جرائمهم وجرائرهم بهدف أن لا یشمل بالسخط معهم ویعمه الغضب والعذاب لأجل الرضا بفعالهم هی قاعدة قرآنیة أمر الله سبحانه وتعالی عباده باتباعها وتطبیقها بقوله ((یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْیَهُودَ وَالنَّصَارَی أَوْلِیَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِیَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ یَتَوَلَّهُمْ مِنْکُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا یَهْدِی الْقَوْمَ الظَّالِمِینَ))(4).

وقال سبحانه وتعالی أیضا ((یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْکَافِرِینَ أَوْلِیَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ أَتُرِیدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَیْکُمْ سُلْطَانًا مُبِینًا))(5)


1- المعجم الکبیر للطبرانی ج8 ص186، مسند الشامیین للطبرانی ج1 ص302، کنز العمال للمتقی الهندی ج3 ص83.
2- کنز العمال للمتقی الهندی ج3 ص82.
3- الکافی للشیخ الکلینی ج2 ص375، بحار الأنوار للمجلسی ج71 ص202.
4- سورة المائدة الآیة رقم 51.
5- سورة النساء الآیة رقم 144.

ص: 461

وقال سبحانه ((یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَکُمْ وَإِخْوَانَکُمْ أَوْلِیَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْکُفْرَ عَلَی الْإِیمَانِ وَمَنْ یَتَوَلَّهُمْ مِنْکُمْ فَأُولَئِکَ هُمُ الظَّالِمُونَ))(1).

وقال سبحانه وتعالی ((یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّی وَعَدُوَّکُمْ أَوْلِیَاءَ تُلْقُونَ إِلَیْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ کَفَرُوا بِمَا جَاءَکُمْ مِنَ الْحَقِّ یُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِیَّاکُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّکُمْ إِنْ کُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِی سَبِیلِی وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِی تُسِرُّونَ إِلَیْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَیْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ یَفْعَلْهُ مِنْکُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِیلِ))(2).

وتوجد أدلة أخری ترکناها خوف الإطالة والخروج عن حد الاعتدال، وفیما ذکر فی هذا المبحث کفایة لمن تدبر.

المبحث الخامس: أمن فروع الدین الولایة والبراءة أم من أصوله؟
هل توجد ضابطة لتمییز أصول الدین من فروعه؟
اشارة

 لم نجد فیما تتبعناه ضابطة منطقیة أو عقلیة منصوصة ومتفقاً علیها یمکن أن یعول علیها فی التفریق ما بین أصول الدین وفروعه، اللهم إلا بعض الأمور التی ذکرت هنا وهناک والتی ربما یمکن الرجوع إلیها لتحدید المائز ما بین أصول الدین وفروعه، وسنذکر فیما یأتی بعض ما یمکن ان یکون فارقا ومائزا وعلیها سنعول فی مسألة تصنیف البراءة والولایة تحت مسائل أصول الدین أو فروعه.

أولا: الأصول هی الأسس الفکریة العقائدیة والفروع هی السلوکیات الشرعیة

فقد یکون معنی الأصول هی تلک الأسس الفکریة والعقائدیة للدین الإسلامی، فکل الأمور التی ترتبط بعقیدة الإنسان وسلوکه الفکری تدخل فی


1- سورة التوبة الآیة رقم 23.
2- سورة الممتحنة الآیة رقم 1.

ص: 462

مسائل أصول الدین، أما فروع الدین فهی تلک الأحکام والمسائل التی شُرِّعت لتوجیه سلوک الإنسان العملی والعبادی وتنظیم حیاته الفردیة والاجتماعیة وإرشاده إلی ما فیه خیره وصلاحه.

ثانیا: الأصل هو الذی ان فقد لم یبق للبناء وجود والفرع بعکسه

وقد یکون معنی أصول الدین مأخوذة من أصل البناء والأساس الذی ان فقد لم یبق للبناء وجود، أما الفروع فهی بقیة البناء الذی یعتمد فی وجوده علی وجود تلک الأصول، فالصلاة بکل أحکامها وتفریعاتها وأفعالها تعتمد علی أصل النبوة وکذلک الحال بالنسبة للصیام والحج والعمرة والجهاد وغیره، فلولا وجود النبی والنبوة لما وجد عندنا أمر بالصلاة وغیرها، والذی یستتبع بدوره وجود أحکام ومسائل تشرح وتفصل للمکلف کل ما یتعلق بهذا الأمر الإلهی.

ولنفس الأصول توجد أصول ترجع إلیها، فالإمامة مثلا وان کانت أصلا من أصول الدین إلا أنها متفرعة من أصل آخر هو النبوة، وکذلک النبوة وان کانت أصلا من الأصول إلا أنها متفرعة من أصل وجود خالق للکون عادل حکیم، فلولا وجود الله سبحانه لما وجدت النبوة ولولا النبوة لما وجدت الإمامة، ولولا الکل لما وجد المعاد، فیتلخص مما مر ان للفروع أصولاً ترجع إلیها کما ان لنفس الأصول أصولاً تتفرع عنها.

ثالثا: الأصول هی التی یستدل علی أصل وجودها بالعقل أما الفروع فتثبت بالأدلة الشرعیة

وربما اخذ فی أصول الدین قید ان یکون الدلیل الدال علی أصل وجودها دلیلا عقلیا ولیس شرعیا، علی اعتبار ان الأدلة الشرعیة متأخرة فی الرتبة الوجودیة عن

ص: 463

الأصول الاعتقادیة، فالدلیل القرآنی أو الروائی متفرع عن أصل النبوة أو الإمامة، فلا یمکن ان یستدل به علی إثبات النبوة، أو التوحید، أو العدل، للزوم الدور فی ذلک(1)، فلابد من اعتماد الأدلة العقلیة فی إثبات الأصول الاعتقادیة، ویکون الاستفادة من الدلیل الروائی للتأیید أو لإثبات تفریعات ذلک الأصل، کإثبات کثیر من مسائل المعاد، فأصل المعاد وان کان قد دل العقل علیه إلا أن کثیرا من تفریعاته وتفصیلاته ثبتت بالدلیل النقلی، کوجود الصراط والمیزان والشفاعة وغیر ذلک، وثبوتها بالدلیل النقلی لا یخرجها عن کونها من مسائل أصول الدین.

أما فروع الدین فغیر مأخوذ فیها قید أن یکون الدلیل الدال علی ثبوتها دلیلا عقلیا، وعلیه فیمکن أن یثبت الفروع بالدلیل العقلی والنقلی القطعی أو الظنی علی تفصیل مذکور فی محله.

هل تنطبق الشروط السابقة علی مسألة الولایة والبراءة؟
اشارة

 یمکن لنا ان نجد ثلاثة معان للولایة والبراءة من حیث سعة أو ضیق ما یندرج تحتها من مصادیق:

الأول: الولایة والبراءة بمعناها العام

وبملاحظة ما تقدم یمکن ان نعدّ مسألة البراءة والولایة بمعناها العام مسألة من مسائل أصول الدین لدخولها فی ضمن أصول الدین المجمع علی أصولیتها، فالتوحید لا یتم ما لم یتبرأ المؤمن من کل شریک لله سبحانه وتعالی فی الوجود أو التصرف أو العبادة،


1- یمکن تصویر الدور بهذه الصورة، فإثبات النبوة متوقف علی الدلیل الروائی، واثبات الدلیل الروائی متوقف علی النبوة، فیتوقف إثبات النبوة علی إثبات النبوة، وتوقف الشیء علی نفسه دور صریح.

ص: 464

قال سبحانه وتعالی ((أَئِنَّکُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَی قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِی بَرِیءٌ مِمَّا تُشْرِکُونَ))(1)، بل ان شهادة التوحید (أشهد ان لا اله إلا الله) هی عبارة عن شقین شق براءة وشق ولایة، ولا یتم هذا الأصل من أصول الدین إلا بهما، فلا تردد حینئذ من دخولهما __ الولایة والبراءة __ فی جملة مسائل أصل التوحید، بل هما جوهر هذا الأصل ولبه، وکذلک أصل النبوة والإمامة والمعاد لا یتم ولا یکتمل الاعتقاد به إلا بتفعیل مسألة الولایة والبراءة.

الثانی والثالث: الولایة بمعناها الخاص والأخص

أما البراءة والولایة بمعناها الخاص القاضی بولایة عموم أولیاء الله سبحانه وتعالی والبراءة من عموم أعداء الله سبحانه وتعالی، أو الولایة بمعناها الأخص والقاضی بولایة أولیاء أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین والبراءة من أعدائهم، فإنها وبلا أدنی شک جزء لا یتجزأ من أصلی النبوة والإمامة، وقد وردت أقوال الأعلام رضوان الله تعالی علیهم صحیحة صریحة بان جمیع الأصول الاعتقادیة لا تتم إلا بالتولی والتبری، وفی هذا الصدد یقول الشیخ الصدوق قدس الله روحه: (ولا یتم الإقرار بالله وبرسوله وبالأئمة إلا بالبراءة من أعدائهم)(2)وما لا یتم الأصل إلا به فهو أصل أیضا.

الدلیل العقلی یثبت ضرورة الاعتقاد بمسألتی الولایة والبراءة

ذکرنا فیما سبق ان أصول الدین مأخوذ فیها قید ان یکون الدلیل الدال علی أصل وجودها دلیلا عقلیا ولیس شرعیا، ومسألتا الولایة والبراءة، تدخلان فی ضمن هذا القانون، وقد تقدم فی المبحث الرابع وفی ضمن السبب الرابع من أسباب البراءة


1- سورة الأنعام الآیة رقم 19.
2- الاعتقادات فی دین الإمامیة للشیخ الصدوق ص 105 __ 107.

ص: 465

من الأمم التی لعنت فی فقرات زیارة عاشوراء، أن العقل ومن دون الاعتماد علی أی دلیل شرعی یستقل بالحکم علی لزوم تولی الصالحین والتبرؤ من الطالحین، أو وجوب تولی الحق وأهله، والبراءة من الباطل وأهله، وما دل علی وجوب ذلک من الأدلة الشرعیة یکون مؤیدا ومنطبقا مع حکم العقل وأدلته.

القرآن صنّف الولایة والبراءة من أجزاء الإیمان والإیمان یتعلق بالأصول 

تقدم فیما سبق ان إحدی الفوارق التی علی أساسها یمکن التمییز بین أصول الدین وفروعه هی ان الأصول عبارة عن تلک الأسس الفکریة والعقائدیة للدین الإسلامی، فکل الأمور التی ترتبط بعقیدة الإنسان وسلوکه الفکری تدخل فی مسائل أصول الدین، والقرآن الکریم فی آیاته المبارکة جعل الولایة والبراءة جزءاً من أجزاء الإیمان، وبین وبکل وضوح ان الإیمان الذی لا ترافقه البراءة والولایة إیمان ناقص بل إیمان لا یعتد به قال سبحانه وتعالی ((لَا تَجِدُ قَوْمًا یُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْیَوْمِ الْآَخِرِ یُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ کَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِیرَتَهُمْ))(1).

وقال سبحانه وتعالی ((وَلَوْ کَانُوا یُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِیِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَیْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِیَاءَ وَلَکِنَّ کَثِیرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ))(2).

الأحادیث الشریفة جعلت الولایة والبراءة من دعائم الإسلام 

تقدم ان معنی أصول الدین مأخوذ من أصل البناء والأساس الذی إن فقد لم یبق للبناء وجود، والأحادیث الشریفة عن المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین جعلت مسألة البراءة والولایة من دعائم الإسلام وقرنوها بالشهادة لله سبحانه وتعالی بالوحدانیة وللنبی


1- سورة المجادلة الآیة رقم 22.
2- سورة المائدة الآیة رقم 81.

ص: 466

صلی الله علیه وآله وسلم بالرسالة وللائمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بالإمامة، فعن عیسی بن السری قال: (قلت لأبی عبد الله علیه السلام: حدثنی عما بنیت علیه دعائم الإسلام إذا أنا أخذت بها زکی عملی ولم یضرنی جهل ما جهلت بعده، فقال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلی الله علیه وآله، والإقرار بما جاء به من عند الله وحق فی الأموال من الزکاة(1)، والولایة التی أمر الله عز وجل بها ولایة آل محمد صلی الله علیه وآله، فإن رسول الله صلی الله علیه وآله قال: من مات ولا یعرف إمامه مات میتة جاهلیة، قال الله عز وجل: «أطیعوا الله وأطیعوا الرسول وأولی الأمر منکم» فکان علی علیه السلام، ثم صار من بعده حسن ثم من بعده حسین ثم من بعده علی بن الحسین، ثم من بعده محمد بن علی، ثم هکذا یکون الأمر، إن الأرض لا تصلح إلا بإمام ومن مات لا یعرف إمامه مات میتة جاهلیة وأحوج ما یکون أحدکم إلی معرفته إذا بلغت نفسه ههنا قال: وأهوی بیده إلی صدره یقول حینئذ: لقد کنت علی أمر حسن)(2).

وعن إسماعیل الجعفی قال: (سألت أبا جعفر علیه السلام عن الدین الذی لا یسع العباد جهله، فقال: الدین واسع ولکن الخوارج ضیقوا علی أنفسهم من جهلهم، قلت: جعلت فداک فأحدثک بدینی الذی أنا علیه؟ فقال: بلی، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله والإقرار بما جاء من عند الله وأتولاکم وأبرأ من عدوکم ومن رکب رقابکم وتأمر علیکم وظلمکم حقکم، فقال: ما جهلت شیئا هو والله الذی نحن علیه، قلت: فهل سلم أحد لا یعرف هذا الأمر؟ فقال: لا إلا المستضعفین، قلت من هم؟ قال: نساؤکم وأولادکم)(3)


1- لعل المقصود من الزکاة هنا هو أصل الاعتقاد بها لا أداؤها الذی هو من الفروع.
2- الکافی للشیخ الکلینی ج 2 ص 21 باب دعائم الإسلام الحدیث رقم 9.
3- المصدر السابق ص 405 باب المستضعف الحدیث رقم 6.

ص: 467

قال الشیخ الأنصاری قدس الله روحه بعد ذکر هذا الحدیث: (فإن فی قوله علیه السلام «ما جهلت شیئا» دلالة واضحة علی عدم اعتبار الزائد فی أصل الدین)(1) وکلامه قدس الله روحه صریح فی إدراج کل واحد من الأمور التی ذکرت فی الروایة فی ضمن أصول الدین، والولایة والبراءة منها فیشملهما حکمه السابق قدس الله روحه.

تصریح جملة من العلماء بکون الولایة والبراءة من مسائل أصول الدین 

ویدل علی کون البراءة والتولی من مسائل أصول الدین لا فروعه إضافة إلی قول الشیخ الأنصاری قدس الله روحه والذی تقدم کلامه آنفا، ما صرح به العلامة المجلسی قدس الله روحه عند تعلیقه علی الروایة التالیة: (عن الفضیل بن یسار قال : سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الحب والبغض أمن الإیمان هو فقال: وهل الإیمان إلا الحب والبغض، ثم تلا هذه الآیة ((وَلَکِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَیْکُمُ الْإِیمَانَ وَزَیَّنَهُ فِی قُلُوبِکُمْ وَکَرَّهَ إِلَیْکُمُ الْکُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْیَانَ أُولَئِکَ هُمُ الرَّاشِدُونَ))(2).

قال العلامة المجلسی قدس الله روحه : (تبیان: «عن الحب والبغض» أی حب الأئمة علیهم السلام وبغض أعدائهم أو الأعم منهما ومن حب المؤمنین والطاعة، وبغض المخالفین والمعصیة، والغرض من السؤال إما استعلام أن الاعتقاد بإمامة الأئمة علیهم السلام ومحبتهم، والتبری عن أعدائهم هل هما من أجزاء الإیمان وأصول الدین کما هو مذهب الإمامیة؟ أو من فروع الدین والواجبات الخارجة عن حقیقة الإیمان کما ذهب إلیه المخالفون...)(3)


1- فرائد الأصول للشیخ الأنصاری ج1 ص564 عدم اعتبار معرفة التفاصیل فی الإسلام والإیمان للأخبار الکثیرة.
2- سورة الحجرات الآیة 7.
3- بحار الأنوار - العلامة المجلسی - ج 66 - ص 241.

ص: 468

انتهی محل الشاهد من کلامه رفع الله فی الجنة مقامه، وفیه ما لا یخفی من جعل مسألتی الولایة والبراءة من مسائل الأصول ونسب القول بأصولیتهما إلی مذهب الإمامیة، واعتبر القول بعدّهما من الفروع والواجبات الخارجیة هو مذهب العامة المخالفین لمذهب أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

وقد عد الشیخ المفید قدس الله روحه مسألتی الولایة والبراءة فی کتابه (المقنعة) من مسائل أصول الدین، فقد قسم کتابه علی شکل أبواب بدأها بالباب الأول وتحت عنوان (ما یجب من الاعتقاد فی إثبات المعبود وصفاته) ثم عطف علیه الباب الثانی تحت عنوان (ما یجب من الاعتقاد فی أنبیاء الله ورسله) وتبعه بالباب الثالث الذی سماه (ما یجب فی اعتقاد الإمامة) وتبعة بالباب الرابع الذی وضع له عنوان (ما یجب من ولایة أولیاء الله) ثم تبعه بالباب الخامس تحت عنوان (ما یجب من اعتقاد المعاد والجزاء) ثم وبعد ان استوفی الکلام حول الأصول الاعتقادیة شرع فی الباب السادس وتحت عنوان (ما یجب معرفته والعمل به من شرائع الإسلام) وجعل الکلام فی الباب السابع حول أول تلک التکالیف والأحکام وسماه (فرض الصلاة) وهکذا ترقی فی بحث بقیة أحکام الشریعة وأجزاء فروع الدین.

ومحل الشاهد فی ذکر هذا التفصیل هو جعل الشیخ المفید قدس الله روحه مسألة الولایة أولیاء الله والتبری من أعداء الله بین أصلین من أصول الدین، بین الإمامة والمعاد ولم یذکرهما فی ضمن مسائل فروع الدین أو ما سماه قدس الله روحه ب_(ما یجب معرفته والعمل به من شرائع الإسلام) فلو کان قدس الله روحه یعتقد بدخولهما ضمن فروع الدین لما کان یحسن منه ذکرهما ضمن الأصول الاعتقادیة، فیکون ذکرهما فی الأصول دلیلاً علی عدّه قدس الله روحه واعتقاده بأنهما من مسائل أصول الدین فتأمل.

ص: 469

لماذا عدّ البعض مسألتی الولایة والبراءة من فروع الدین؟

اتضح مما سبق ان الولایة والبراءة فکر وعقیدة قبل أن یکونا فعلاً من أفعال الجوارح، وهما منهج عقلی وفکری قبل ان یکونا منهجاً عملیاً خارجیاً، ولعل نظر بعض الأعلام فی تصنیف الولایة والبراءة فی مسائل فروع الدین ناظر إلی ارتباط وانعکاس هاتین المسألتین __ التولی والتبری __ علی أفعال الإنسان الخارجیة المحکومة بواحد من الأحکام الخمسة(1)، إذ إن لکل مبدأ فکری عقائدی تطبیقات خارجیة تکون داخلة یقینا تحت حکم من تلک الأحکام الخمسة، فالاعتقاد بالصلاة بکونها أمراً جاء به النبی الأعظم من عند الله سبحانه وتعالی داخل تحت أصل النبوة والتصدیق بکل ما جاء به، أما انعکاس هذا الاعتقاد علی أفعال الإنسان یستلزم قیام الإنسان المصلی بأفعال وأعمال خارجیة کالوضوء والتوجه نحو القبلة والقراءة والرکوع والسجود وغیر ذلک، ویستلزم کذلک تحصیل بعض الشروط کخلو البدن ولباس المصلی عن النجاسة وغیر ذلک، کل هذه الأفعال والمقدمات والشروط الخارجیة حینما تتجسد فی الخارج تدخل فی ضمن مسائل فروع الدین، لیحکم علی کل واحد منها بأحد الأحکام الخمسة.

فمسألتا الولایة والبراءة ما دامتا اعتقاداً یسکن الروح ویقطن فی عقل الإنسان وقلبه أمکن وبلا أدنی شک عدّهما من مسائل أصول الدین، أما حینما تنعکس هاتان المسألتان علی سلوک الفرد وأفعاله الخارجیة فأنهما تدخلان وبلا أدنی شک فی مسائل فروع الدین وتلحقهما إحدی الأحکام الخمسة.


1- الأحکام الخمسة هی الوجوب والحرمة والاستحباب والکراهة والإباحة.

ص: 470 

ص: 471

المحتویات

نص زیارة عاشوراء. 5

مقدمة اللجنة العلمیة. 8

المقدمة. 11

منهجنا فی البحث.. 21

فتاوی مراجع الدین العظام وأقوالهم بخصوص زیارة عاشوراء

1: فتوی آیة الله العظمی السید السیستانی دام ظله بخصوص سند الزیارة 25

2: فتوی أخری مهمة لآیة الله العظمی السید السیستانی دام ظله. 27

3: فتوی آیة الله السید محمد سعید الحکیم دام ظله. 29

4: فتوی أخری لآیة الله العظمی السید محمد سعید الحکیم دام ظله. 31

5: فتوی لآیة الله العظمی الشیخ جواد التبریزی رحمه الله تعالی.. 32

6: فتوی أخری لآیة الله العظمی الشیخ جواد التبریزی رحمه الله تعالی.. 33

7: فتوی لآیة الله العظمی السید الروحانی دام ظله. 34

8: فتوی أخری لآیة الله السید الروحانی دام ظله. 35

ص: 472

9: السید الروحانی: قراءة عاشوراء کل یوم لها الأثر البالغ علی الجنین.. 36

10: السید الروحانی: ما ذکر فی فضیلة زیارة عاشوراء یحیر العقول. 37

11: السید الروحانی: لا یجوز الصلاة خلف من یقول بان زیارة عاشوراء مزورة 39

السَّلامُ عَلَیْکَ یَا أَبَا عَبْدِ اللهِ

المبحث الأول: إثبات صحة صدور هذه الفقرة الشریفة. 43

المبحث الثانی: تبیان معنی السلام وفوائده وعلة بدء الزیارة به. 45

المحور الأول: معنی السلام. 45

1: بمعنی التحیة وعلامة من علامات الأمن.. 45

2: بمعنی التسلیم والانقیاد له فی جمیع شؤونه. 47

3: بمعنی التذکیر بالمیثاق والدعاء بتعجیل الفرج والنصر. 47

4: شهادة من الزائر لإمامه بأداء أمر الله وإقامة سنة نبیه الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم.. 48

المحور الثانی: علة بدء الزیارة بلفظ السلام علی أبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه. 49

المبحث الثالث: سر السلام علی الإمام بکنیة أبی عبد الله.. 49

المدلول الأول: تعلیم الزائر أدب الخطاب مع إمامه. 50

المدلول الثانی: الخطاب بالکنیة دلیل علی حضور المخاطب وحیاته. 53

1: آیات القرآن الکریم تتحدث عن أن للأموات شعوراً وحیاة وتفاعلاً مع العالم الخارجی.. 55

2: إجماع روایات أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین علی سماع الأموات وحیاتهم وفرحهم وحزنهم.. 56

3: روایات أهل السنة فی صحاحهم وأسانیدهم وسماعهم لمن ینادیهم ویزورهم.. 57

4: علماء السنة یصرحون بحیاة الأموات وسماعهم وتعقلهم لما یدور حولهم.. 59

المدلول الثالث: توجیه نظر الزائر إلی مصیبة الطفل الرضیع.. 60

ص: 473

السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة 65

المبحث الثانی: لماذا التأکید علی کون الحسین علیه السلام ابن رسول الله قدس الله روحه. 66

جذور هذه المسألة. 68

لیس للنبی صلوات الله وسلامه علیه من قرابة غیر بنی أمیة. 70

نظرة العباسیین لمسألة القرابة. 71

أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین کانوا حجر العثرة بوجه ذلک المخطط... 72

محاولات أصحاب السقیفة القضاء علی هذه العقبة. 76

استمرار المحاولات علی أیدی الأمویین والعباسیین... 77

موقف أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من هذا المخطط... 80

المبحث الثالث: سر السلام علی الحسین بابن رسول الله.. 84

المدلول الأول: تبیان أسباب قتل الأمة للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه. 85

المدلول الثانی: تبیان موجبات زیارة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه. 86

المدلول الثالث: تبیان الفارق ما بین القاتل والمقتول.. 88

المدلول الرابع: الوقوف بوجه مخطط أصحاب السقیفة وأشیاعهم.. 89

السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ابْنَ أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ وَابْنَ سَیِّدِ الْوَصِیِّینَ

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة 93

المبحث الثانی: تبیان السبب الثانی من أسباب واقعة عاشوراء. 95

ص: 474

اختصاص لقب أمیر المؤمنین بالإمام علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه. 96

ابتزاز هذا اللقب من الإمام علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه. 98

کیف اثر لقب أمیر المؤمنین فی استشهاد الحسین صلوات الله وسلامه علیه. 107

المبحث الثالث: تبیان السبب الثالث من أسباب فاجعة عاشوراء. 115

ابتزاز لقب الوصی من الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه. 116

أدلة أفضلیة أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه علی بقیة الأوصیاء. 119

الدلیل الأول.. 119

الدلیل الثانی.. 120

الدلیل الثالث... 122

المبحث الرابع: من هم الأوصیاء المقصودون فی هذه العبارة 125

ملاحظة لابد منها. 129

السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ابْنَ فَاطِمَةَ سَیِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِینَ

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة من الزیارة 132

المبحث الثانی: تبیان السبب الرابع من أسباب فاجعة عاشوراء. 132

الأول: ان اسمها المقدس ووجودها صلوات الله وسلامه علیهما مذکر بالنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم.. 133

الثانی: ان اسمها المقدس کان علی الدوام یذکر الأمة بأعظم رزیة ومصیبة. 136

المبحث الثالث: سر السلام علی الإمام الحسین بابن سیدة النساء. 139

ص: 475

السَّلامُ عَلَیْکَ یَا ثَارَ اللهِ وَابْنَ ثَأرِهِ وَالْوِتْرَ الْمَوْتُورَ

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة. 145

المبحث الثانی: معنی کون الحسین علیه السلام ثار الله.. 146

المعنی الأول: قد یطلق الثار علی الدم. 147

المعنی الثانی: وقد یطلق الثار علی الطلب بالدم. 150

المعنی الثالث: وقد یطلق الثار علی الثائر الذی لا یبقی شیئاً حتی یأخذ بثاره. 151

المبحث الثالث: معنی کون الإمام الحسین علیه السلام ابن ثار الله.. 153

المبحث الرابع: الدعاء لفرج الإمام المهدی عجل الله تعالی فرجه الشریف یعجل بأخذ ثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه. 156

المبحث الخامس: معنی وصف الحسین علیه السلام بالوتر الموتور. 159

المعنی الأول: قد یطلق الوتر ویراد به المتفرد فی الکمال.. 159

المعنی الثانی: وقد یطلق الموتور علی من قُتِلَ حمیمُه واُفرِد. 163

المعنی الثالث: وقد یطلق الموتور علی من قتل له قتیل ولم یدرک بدمه. 164

السَّلامُ عَلَیْکَ وَعَلَی الأَرْوَاحِ الَّتِی حَلَّتْ بِفِنَائِکَ وَأَنَاخَتْ بِرَحْلِک

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة من الزیارة 169

المبحث الثانی: تبیان ألفاظ هذا المقطع من الزیارة 173

أولا: السَّلامُ عَلَیْکَ..... 173

ثانیا: وَعَلَی الأَرْوَاحِ... 173

1: الإنسان.. 174

ص: 476

2: الملائکة. 175

3: الجن.. 176

ثالثا: الَّتِی حَلَّتْ بِفِنَائِکَ..... 176

رابعا: وأناخت برحلک..... 177

المبحث الثالث: فضل السلام وفوائد تکراره 178

الفائدة الأولی: السلام سبب من أسباب المغفرة. 179

الفائدة الثانیة: السلام سبب لکثرة خیر بیت المسلِّم.. 180

الفائدة الثالثة: وفی السلام الکثیر من الحسنات... 180

الفائدة الرابعة: ان المسلِّم یحظی برد من الملائکة. 180

الفائدة الخامسة: المسلم یحظی بالرد من قبل إمامه المعصوم صلوات الله وسلامه علیه. 180

الفائدة السادسة: فی السلام تکامل لروح الزائر المسلِّم.. 181

المبحث الرابع: المقصود من الأرواح التی ورد ذکرها فی هذه الفقرة 182

الأرواح التی حلت بفناء قبر الإمام أبی عبد الله الحسین صلوات الله وسلامه علیه. 183

الأرواح التی أناخت بقبر الإمام أبی عبد الله الحسین بن علی صلوات الله وسلامه علیه. 191

عَلَیْکُمْ مِنِّی جَمِیعاً سَلامُ اللهِ أَبَداً مَا بَقِیتُ وَبَقِیَ اللَّیْلُ وَالنَّهَارُ

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة من الزیارة 195

المبحث الثانی: تبیان ألفاظ هذه الفقرة من الزیارة 196

1: علیکم منی جمیعا. 197

2: سلام الله... 197

3: أبدا ما بقیت وبقی اللیل والنهار.. 198

المبحث الثالث: فی معنی سلام الله سبحانه وتعالی.. 199

ص: 477

أولا: السلام اسم من أسماء الله سبحانه وتعالی... 202

المعنی الأول.. 202

المعنی الثانی.. 203

ثانیا: مراتب إفاضة السلامة علی سائر البشر.. 203

ثالثا: سلام الله سبحانه مرافق لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی جمیع العوالم.. 206

ألف: سلامتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی عالم الأشباح والأنوار. 206

باء: سلامتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی عالم الطینة. 210

جیم: سلامتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی عالم الأظلة. 214

دال: سلامتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی عالم الذر. 218

هاء: سلامتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی عالم الأصلاب... 222

رابعاً: فائدة الخوض فی مثل هذا البحث.... 226

ألف: ان معرفة الله حق معرفته متوقف علی معرفة الأئمة حق معرفتهم.. 228

باء: ان معرفتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین توجب مضاعفة الحسنات... 233

جیم: ان دخول الجنة متوقف علی المعرفة وازدیادها یوجب الترقی فی درجاتها 235

یَا أَبَا عَبْدِ اللهِ لَقَدْ عَظُمَتِ الرَّزِیَّةُ

وَجَلَّتِ الْمُصِیبَةُ بِکَ عَلَیْنَا وَعَلَی جَمِیعِ أَهْلِ الإِسْلامِ

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة 241

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة. 243

1: یَا أَبَا عَبْدِ اللهِ... 243

2: لَقَدْ عَظُمَتِ الرَّزِیَّةُ. 243

3: وَجَلَّتِ الْمُصِیبَةُ. 245

ص: 478

4: بِکَ عَلَیْنَا. 246

5: وَعَلَی جَمِیعِ أَهْلِ الإِسْلامِ. 247

المبحث الثالث: أهل الإسلام ومراتب تحقق وصفهم بالإسلام. 248

المرتبة الأولی: مرتبة الإسلام الظاهری... 248

المرتبة الثانیة: مرتبة الإسلام بشرط الولایة. 250

المرتبة الثالثة: مرتبة إسلام الأنبیاء والأوصیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین... 255

مصیبة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وتأثیرها فی هذه المراتب الثلاث.... 257

الشاهد الأول.. 258

الشاهد الثانی.. 259

المبحث الرابع: شواهد روائیة تعکس عظم ما وقع فی عاشوراء. 266

وَجَلَّتْ وَعَظُمَتْ مُصِیبَتُکَ فِی السَّمَاوَاتِ عَلَی جَمِیعِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ

المبحث الأول: المعنی اللغوی لهذه العبارة الشریفة. 275

1: وَجَلَّتْ وَعَظُمَتْ مُصِیبَتُکَ فِی السَّمَاوَاتِ.... 275

2: عَلَی جَمِیعِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ.... 278

المبحث الثانی: التأثیر الکونی لمصیبة الحسین علیه السلام. 279

أولا: تصریح السیدة زینب ببکاء السماء دما یوم عاشوراء. 279

ثانیا: التأثیر الکونی لمصیبة الحسین صلوات الله وسلامه علیه فی کتب الإمامیة. 282

ثالثا: التأثیر الکونی لمصیبة الحسین صلوات الله وسلامه علیه فی کتب أهل السنة. 284

رابعا: ماذا یقول ابن کثیر وابن تیمیة بخصوص ما سبق؟.. 288

المبحث الثالث: هل یمکن أن تبکی الحیوانات والجمادات؟. 291

ص: 479

أولا: شواهد قرآنیة علی ان لکل الموجودات عقلاً وإدراکاً. 291

اذا کان للحیوان وغیره من الموجودات عقل وإدراک، فلماذا لم یکلف بالأحکام الشرعیة؟. 295

ثانیا: ماذا یقول الحلبی فی معاجز النبی وکراماته. 298

ثالثا: خلوا سبیل الناقة فإنها مأمورة. 305

رابعا: کسفت الشمس وأظلمت المدینة حین أرادوا نقل منبر النبی صلی الله علیه وآله وسلم.. 307

خامسا: أظلمت المدینة من جریمة عبید الله بن عمر بن الخطاب.... 309

فَلَعَنَ اللهُ أُمَّةً أَسَّسَتْ أَسَاسَ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ عَلَیْکُمْ أَهْلَ الْبَیْتِ

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة. 313

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة. 315

1: فَلَعَنَ اللَّهُ. 315

2 : أُمَّةً. 316

3: أَسَّسَتْ أَسَاسَ.... 320

4: الظُّلْمِ.. 321

5: وَالْجَوْرِ.. 321

6: أَهْلَ الْبَیْتِ.... 322

المبحث الثالث: ماذا یمکن ان یستفاد من هذه الفقرة من الزیارة 324

المبحث الرابع: دلالة اللعن فی المصطلح القرآنی.. 328

المبحث الخامس: جزاء من سن سنة حسنة ومن سن سنة سیئة. 333

المبحث السادس: لا عبرة بالأکثریة والحق هو المدار. 337

ص: 480

المبحث السابع: الإمام الحسین علیه السلام میزان حساب الأمم. 341

أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین موازین رضا الله وغضبه. 341

أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه میزان أولاد الحلال ومیزان الإیمان والنفاق... 343

الزهراء صلوات الله وسلامه علیها میزان غضب الله سبحانه ورضاه. 346

الحسین صلوات الله وسلامه علیه میزان حساب الأمم یوم القیامة. 348

وَلَعَنَ اللهُ أُمَّةً دَفَعَتْکُمْ عَنْ مَقَامِکُمْ

وَأَزَالَتْکُمْ عَنْ مَرَاتِبِکُمُ الَّتِی رَتَّبَکُمُ اللهُ فِیهَا

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة المبارکة. 353

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة المبارکة. 355

1: وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً دَفَعَتْکُمْ.. 355

2: عَنْ مَقَامِکُمْ.. 357

3: وَأَزَالَتْکُمْ.. 358

4: عَنْ مَرَاتِبِکُمُ الَّتِی رَتَّبَکُمُ اللَّهُ فِیهَا. 359

المبحث الثالث: تبیان بعض مراتب ومقامات أهل البیت علیهم السلام. 360

المرتبة الأولی: مرتبة الاصطفاء علی جمیع العالمین... 362

ألف: اصطفاء الإنسان علی بقیة موجودات الأرض.... 363

باء: اصطفاء الأکمل من بین أفراد الإنسان.. 363

جیم: اصطفاء أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین علی الأنبیاء والرسل.. 364

دال: اصطفاء النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.. 365

هاء: اصطفاء الله سبحانه من أفراد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین الأکمل فالأکمل.. 366

ص: 481

واو: علة اصطفاء الله سبحانه لهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.. 367

المرتبة الثانیة: مرتبة الوصایة والخلافة للنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم.. 369

ألف: الوصایة خاضعة لقانون تقدیم الأفضل علی الفاضل.. 369

باء: استمرار النبوة فی ذریة نبی الله إبراهیم صلوات الله وسلامه علیه. 369

جیم: وصایة نبی الله إسماعیل صلوات الله وسلامه علیه ومحمد صلی الله علیه وآله وسلم.. 370

دال: حتمیة وصایة الإمام علی صلوات الله وسلامه علیه بعد النبی صلی الله علیه وآله وسلم.. 371

هاء: حتمیة وصایة الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بعد الإمام علی صلوات الله وسلامه علیه. 375

المرتبة الثالثة: مرتبة تربیة الأمة عقائدیا وتزکیتهم روحیا. 376

من سعادة هذه الأمة ان کان مربیها ومعلمها محمد النبی صلی الله علیه وآله وسلم.. 377

شروط ومؤهلات المتصدی لتربیة الأمة. 378

هذه الشروط لا تتوفر بعد النبی إلا فی أمیر المؤمنین علی صلوات الله وسلامه علیه. 378

حدیث (أنا مدینة العلم وعلی بابها) یشهد بذلک.... 380

صعوبة القیام بمهمة التربیة وحساسیتها 382

المبحث الرابع: بسبب دفع أهل البیت علیهم السلام وإزالتهم عن مراتبهم. 385

محق الدین وتحریف الأحکام. 385

هل فی هذه الحقیقة افتراء علی الصحابة؟.. 386

الشاهد الأول: انس بن مالک یعترف بأنه لم یبق من الدین شیئا حتی الصلاة. 387

الشاهد الثانی: أبو الدرداء یغضب لعدم بقاء شیء من أمر محمد صلی الله علیه وآله وسلم.. 388

الشاهد الثالث: سهیل بن مالک یعترف أیضا 388

الشاهد الرابع: البراء بن عازب یعترف بان الصحابة أحدثوا بعد النبی صلی الله علیه وآله وسلم.. 389

الشاهد الخامس: عبد الله بن عباس یصرح بأن القوم ترکوا السنة بغضا لعلی.. 389

الشاهد السادس: عثمان بن عفان یکتم أحادیث النبی خوف أن یتفرق الناس عنه. 389

لماذا تراجعت الأمة هذا التراجع الخطیر والسریع؟.. 390

المبحث الخامس: سبب مسارعة الأمة إلی دفع أهل البیت علیهم السلام عن مقاماتهم ومنازلهم. 392

حیاة النبی صلی الله علیه وآله وسلم زهد وعفة وصلاح... 392

ص: 482

الفقر عنوان حب النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم.. 393

تفاعل المسلمین مع نهج النبی صلی الله علیه وآله وسلم ولکن بشکل مؤقت.... 395

انقلاب الصحابة علی نهج النبی صلی الله علیه وآله وسلم وغزوة تبوک أعظم دلیل... 396

سبب غزوة تبوک وحث النبی صلی الله علیه وآله وسلم للناس علی الالتحاق بالجیش..... 397

کیف استجاب الصحابة لدعوة النبی صلی الله علیه وآله وسلم بالالتحاق بجیش تبوک..... 398

من هم المعبر عنهم بلفظ الناس فی القسم الثانی... 400

القسم الثالث: العاصون لأمر النبی صلی الله علیه وآله وسلم من الصحابة. 401

أفعال یستنکرها الدین ویندی لها جبین الأحرار من أهل الإیمان.. 402

نتائج مهمة نختم بها هذا المبحث... 404

وَلَعَنَ اللهُ أُمَّةً قَتَلَتْکُمْ

المبحث الأول: إثبات الصدور لهذه الفقرة الشریفة. 413

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه العبارة الشریفة. 416

1: وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً. 416

2: قَتَلَتْکُمْ.. 416

المبحث الثالث: اللعن یتعدد بتعدد السبب الموجب له. 417

المبحث الرابع: هل یمکن أن تکون لأبدان أهل البیت علیهم السلام قابلیة البقاء والخلود. 419

أولا: لعدم وجود مانع عقلی من ذلک..... 419

ثانیا: وجود المقتضی لذلک..... 420

المرجح الأول: لإظهار فضلهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین واختصاصهم وتقدمهم علی کل البشر. 420

المرجح الثانی: لمعاصرة أکبر عدد من المکلفین لهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.. 421

ص: 483

ثالثا: وجود الروایات الدالة علی وقوع ذلک..... 424

ألف: روایات الطینة تدل علی ذلک.... 425

باء: حدیث أبی مویهبة من کتب أهل السنة یدل علی ذلک أیضا 426

جیم: حدیث عائشة من مصادر أهل السنة یدل علی ذلک أیضا 428

فائدة الخوض فی هذا البحث.... 428

الفائدة الأولی: تضع توضیحا شافیا لطول عمر الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه. 431

الفائدة الثانیة: لتبیان الجریمة النکراء التی حالت دون التمتع بوجودهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.. 432

المبحث الخامس: أدلة إثبات قتل الأمة لأهل البیت علیهم السلام. 433

الأدلة علی قتل النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم واستشهاده. 433

الدلیل الأول: قابلیة بدنه الشریف للخلود والبقاء الوجودی تدل علی ذلک.... 434

الدلیل الثانی: تسالم قتله فی مذهب أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.. 434

الدلیل الثالث: روایات أهل السنة تشهد بقتله صلی الله علیه وآله وسلم واستشهاده. 435

من الذی قتل النبی صلی الله علیه وآله وسلم.. 436

الأدلة علی قتل السیدة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها. 437

الدلیل الأول: قابلیة بدنها الشریف للخلود والبقاء الوجودی یدل علی ذلک.... 438

الدلیل الثانی: قصر عمرها یدل علی ذلک.... 438

الدلیل الثالث: النصوص التاریخیة والروائیة تدل علی ذلک أیضا 440

المبحث السادس: أدلة جواز لعن قتلة أهل البیت علیهم السلام. 444

الدلیل الأول: القاتل للنفس المؤمنة کافر والکافر یجوز لعنه إجماعا. 444

الدلیل الثانی: إن قتل أهل البیت إفساد فی الأرض والمفسد فی الأرض ملعون.. 446

الدلیل الثالث: فی قتلهم نقض للعهد وقطعا لما أمر الله به أن یوصل... 448

الدلیل الرابع: ان فی قتلهم إیذاءً للنبی ومؤذی النبی ملعون.. 451

الدلیل الخامس: فی قتل أهل البیت إیذاء للمؤمنین ومؤذیهم ملعون.. 454

الدلیل السادس: فی قتل أهل البیت قطع للأرحام وحکم بغیر ما انزل الله... 456

ص: 484

وَلَعَنَ اللهُ الْمُمَهِّدِینَ لَهُمْ بِالتَّمْکِینِ مِنْ قِتَالِکُمْ

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة. 461

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة. 464

1: وَلَعَنَ اللَّهُ الْمُمَهِّدِینَ... 464

2: لَهُمْ بِالتَّمْکِینِ... 465

3: مِنْ قِتَالِکُمْ.. 466

المبحث الثالث: امتداد التمهید لقتل أهل البیت جیلا بعد جیل.. 468

اجتماع السقیفة لیس أول إجتماع لغصب الخلافة. 469

فاطمة ومحسنها صلوات الله وسلامه علیهما أول ضحایا تمهید یوم السقیفة. 472

التمهید لعمر بن الخطاب ومن بعده لأبی عبیدة بن الجراح... 477

تبدل المخطط السابق وظهور عثمان بن عفان علی الساحة. 481

الشوری مخطط لإیصال آل أمیة وإقصاء آل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین... 484

لماذا شارک أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه بهذه الخدعة وهو یعلم بنتائجها؟.. 488

محاولة انتزاع الإمارة من آل أمیة وإرجاعها للمهاجرین مرة أخری... 490

دور معاویة بن أبی سفیان فی مقتل عثمان بن عفان.. 495

دور الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه فی هذا الصراع.. 497

رجوع الخلافة إلی أصحابها الشرعیین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین... 498

أسباب إشعال الفتنة ونار الحرب بوجه أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه. 501

عائشة بنت أبی بکر تقود تمرد الناکثین... 504

القاسطون والمارقون امتداد لمسلسل التمهید لقتلة أهل البیت.... 509

ص: 485

بَرِئْتُ إِلی اللهِ وَإِلَیْکُمْ مِنْهُمْ

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة. 519

المبحث الثانی: المعنی اللغوی والاصطلاحی لهذه الفقرة الشریفة. 521

1: بَرِئْتُ.... 521

2: إِلَی اللَّهِ. 523

3: وَإِلَیْکُمْ.. 525

4: مِنْهُمْ.. 525

المبحث الثالث: تسعة معان محتملة لهذه الفقرة الشریفة. 527

المبحث الرابع: فی علة التبرؤ من هذه الأمم السالفة الذکر. 534

السبب الأول: لخیانتهم والخائن یجوز نقض عهده والتبرؤ منه. 534

السبب الثانی : وجب التبرّؤ منهم لان الله سبحانه وتعالی قد تبرأ منهم.. 535

السبب الثالث: وجبت البراءة لتبرؤ النبی صلی الله علیه وآله وسلم منهم.. 537

السبب الرابع: تجب البراءة منهم بقطع النظر عن کل دلیل قرآنی أو روائی... 538

السبب الخامس: تجب البراءة لأنهم نواصب.... 539

السبب السادس: تجب البراءة منهم حتی لا یشارکهم فی أفعالهم.. 542

المبحث الخامس: أمن فروع الدین الولایة والبراءة أم من أصوله؟. 544

هل توجد ضابطة لتمییز أصول الدین من فروعه؟.. 544

أولا: الأصول هی الأسس الفکریة العقائدیة والفروع هی السلوکیات الشرعیة. 544

ثانیا: الأصل هو الذی ان فقد لم یبق للبناء وجود والفرع بعکسه. 545

ثالثا: الأصول هی التی یستدل علی أصل وجودها بالعقل أما الفروع فتثبت بالأدلة الشرعیة. 545

ص: 486

هل تنطبق الشروط السابقة علی مسألة الولایة والبراءة؟.. 546

الأول: الولایة والبراءة بمعناها العام. 546

الثانی والثالث: الولایة بمعناها الخاص والأخص.... 547

الدلیل العقلی یثبت ضرورة الاعتقاد بمسألتی الولایة والبراءة. 548

القرآن صنّف الولایة والبراءة من أجزاء الإیمان والإیمان یتعلق بالأصول.. 548

الأحادیث الشریفة جعلت الولایة والبراءة من دعائم الإسلام. 549

تصریح جملة من العلماء بکون الولایة والبراءة من مسائل أصول الدین... 551

لماذا عدّ البعض مسألتی الولایة والبراءة من فروع الدین؟.. 553

الجزء الثانی

اشارة

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2 

ص: 3

تیجان الولاء فی شرح بعض فقرات زیارة عاشوراء

الشیخ وسام برهان البلداوی

الجزء الثانی

إصدار وحدة الدراسات التخصصیة فی الإمام الحسین علیه السلام

فی قسم الشؤون الفکریة والثقافیة

فی العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 4

جمیع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسینیة المقدسة

الطبعة الأولی

1434ه_ __ 2013م

العراق: کربلاء المقدسة __ العتبة الحسینیة المقدسة

قسم الشؤون الفکریة والثقافیة __ هاتف: 326499

www.imamhussain-lib.com

E-mail: info@imamhussain-lib.com

ص: 5

وَمِنْ أَشْیَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ وَأَوْلِیَائِهِمْ

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

   1: وَمِنْ

2: أَشْیَاعِهِمْ

3: وَأَتْبَاعِهِمْ

4: وَأَوْلِیَائِهِمْ

المبحث الثالث: فی أدلة البراءة ممن ذکر فی هذه الفقرة

   الدلیل الأول: تجب البراءة منهم بقطع النظر عن کل دلیل قرآنی أو روائی

   الدلیل الثانی: من یقف مع أعداء أولیاء الله فقد حارب الله

   الدلیل الثالث: کل إنسان مع من یهوی ویشابه ویوالی

   الدلیل الرابع: من کثّر سواد قوم کان منهم حتی وان لم یرض بأفعالهم 

ص: 6 

ص: 7

وَمِنْ أَشْیَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ وَأَوْلِیَائِهِمْ

اشارة

وفی هذه الفقرة الشریفة من الزیارة مباحث مهمة نستعرضها فیما یأتی من الکلام.

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

تقدم فی الفقرة السابقة ان عبارة (بَرِئْتُ إِلَی اللَّهِ وَإِلَیْکُمْ مِنْهُمْ وَمِنْ أَشْیَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ وَأَوْلِیَائِهِمْ) متوافقة مع النصوص الصادرة عن أهل بیت العصمة والطهارة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وکذلک متوافقة مع المجمع علیه من اعتقاد للفرقة الناجیة، فلا نزید عما تقدم طلبا للاختصار.

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

1: وَمِنْ

الواو عاطفة وما بعدها معطوف علی الفقرة السابقة التی تقدم شرحها، والمعنی برئت إلی الله والیکم منهم وبرئت إلی الله والیکم من أشیاعهم، وبرئت إلی

ص: 8

الله والیکم من أولیائهم، وحرف الجر (مِنْ) قد تبینت معانیه قبل فی شرح الفقرة السابقة فلا نعید.

2: أَشْیَاعِهِمْ

ضمیر الجمع فی (أَشْیَاعِهِمْ) راجع إلی الذین تم لعنهم فی فقرات الزیارة السابقة وهم کل من (أُمَّةً أَسَّسَتْ أَسَاسَ الظُّلْمِ... أُمَّةً دَفَعَتْکُمْ عَنْ مَقَامِکُمْ...أُمَّةً قَتَلَتْکُمْ...الْمُمَهِّدِینَ لَهُمْ بِالتَّمْکِینِ مِنْ قِتَالِکُمْ) ولفظ (أَشْیَاع) مأخوذ من الشیعة التی تجمع علی (شیع) وتکون (أشیاع) جمع الجمع کما قاله ابن منظور فی لسان العرب(1).

وقد استعمل لفظ (أَشْیَاع) فی معانٍ عدة نختار منها ما یتناسب والمقام:

ألف: ما قاله الفراهیدی فی کتابه العین: (والشیعة: قوم یتشیعون أی: یهوون أهواء قوم ویتابعونهم. وشیعة الرجل: أصحابه وأتباعه. وکل قوم اجتمعوا علی أمر فهم شیعة وأصنافهم: شیع)(2) .

باء: وقد یطلق علی الأعوان والأنصار قال صاحب کتاب معجم مقاییس اللغة: (والشیعة الأعوان والأنصار)(3).

جیم: وقد یطلق علی من یقوی شخصا آخر، قال ابن منظور: (ویقال: فلان یشیعه علی ذلک أی یقویه، ومنه تشییع النار بإلقاء الحطب علیها یقویها)(4) وهو


1- لسان العرب لابن منظور ج 8 ص 188 فصل الشین المعجمة.
2- باب العین والشین و (وای) معهما.
3- معجم مقاییس اللغة لأبی الحسین أحمد بن فارس زکریا ج 3 ص 235.
4- لسان العرب لابن منظور ج 8 ص 189فصل الشین المعجمة.

ص: 9

نفس ما قصده صاحب کتاب معجم مقاییس اللغة بقوله: (شیع: الشین والیاء والعین أصلان یدل أحدهما علی معاضدة ومساعفة...)(1).

دال: وأطلق علی الأشباه والنظائر والأمثال، ومنه قوله سبحانه وتعالی ((وَحِیلَ بَیْنَهُمْ وَبَیْنَ مَا یَشْتَهُونَ کَمَا فُعِلَ بِأَشْیَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ کَانُوا فِی شَکٍّ مُرِیبٍ))(2)، قال ابن منظور: (أی بأمثالهم من الأمم الماضیة ومن کان مذهبه مذهبهم)(3) ومنها قوله سبحانه وتعالی: ((وَلَقَدْ أَهْلَکْنَا أَشْیَاعَکُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّکِرٍ))(4) قال الشیخ الطبرسی: (أی أشباهکم ونظائرکم فی الکفر من الأمم الماضیة)(5).

فیصبح معنی هذه الفقرة الشریفة من الزیارة هو: (برئت بکل ما تحمل البراءة من معنی إلی الله سبحانه وتعالی والی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من امة أسست أساس الظلم والجور علیهم، ومن امة دفعتهم عن مقامهم وأزالتهم عن مراتبهم، وبرئت من امة قتلتهم، ومن الممهدین لهم بالتمکین من قتالهم، وبرئت إلی الله سبحانه وتعالی والی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من کل من یهوی أهواء أولئک المؤسسین والدافعین والقاتلین والممهدین ویتابعهم علی أفعالهم، ومن أعوانهم وأنصارهم، وممن قواهم علی جرائمهم وعاضدهم علی جرائرهم التی ارتکبوها بحق أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بل بحق الإسلام والدین، ومن أشباههم ونظائرهم وأمثالهم لان جمیع هؤلاء یشملهم لفظ الأشیاع).


1- معجم مقاییس اللغة لأبی الحسین أحمد بن فارس زکریا ج 3 ص 235.
2- سورة سبأ الآیة رقم 54.
3- لسان العرب لابن منظور ج 8 ص 189 فصل الشین المعجمة.
4- سورة القمر الآیة رقم 51.
5- تفسیر مجمع البیان للشیخ الطبرسی ج 9 ص 324.

ص: 10

3: وَأَتْبَاعِهِمْ

الواو هنا عاطفة وما بعدها یعود علی نفس ما عادت علیه الجملة السابقة، وضمیر الجمع هنا یعود کذلک إلی ما عادت علیه الجملة السابقة، ومعنی (أََتْبَاع) جمع تابع وهو مشتق من صفة (الإتباع) وقد ورد لها فی کتب اللغة معانٍ متعددة نختار منها ما یکون محتمل المراد من قبل الإمام صلوات الله وسلامه علیه:

ألف: أطلق علی من یقفو أثر غیره بالجسم أو الرسم أو الائتمار أو الفعل، قال الراغب الأصفهانی: (تبع: یقال تبعه وأتبعه قفا أثره وذلک تارة بالارتسام والائتمار وعلی ذلک قوله ((فَمَنْ تَبِعَ هُدَایَ فَلَا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَلَا هُمْ یَحْزَنُونَ))(1)...)(2) وقال ابن منظور فی لسان العرب: (تبع: تبع الشیء تبعا وتباعا فی الأفعال)(3).

باء: وأطلق علی الذی یتابع غیره علی هواه، قال الفراهیدی: (والمتابعة أن تتبعه هواک وقلبک. تقول: هؤلاء تبع وأتباع، أی: متبعوک ومتابعوک علی هواک)(4).

 جیم: وأطلق علی النصیر، قال الزبیدی فی تاج العروس: (والتبیع کأمیر: الناصر تقول: وجدت علی فلان تبیعا، أی نصیرا متابعا)(5).

دال: ویطلق علی الذی یتقن ویبالغ فی إحکام فعله أو فعل غیره، قال ابن سلام: (یقال للرجل إذا أتقن الشیء وأحکمه قد تابع عمله)(6) وقال الزبیدی: (تابع


1- سورة البقرة الآیة رقم 38.
2- مفردات غریب القرآن للراغب الأصفهانی ص72 کتاب التاء وما یتصل بها، قال الآلوسی فی تفسیره ج11 ص 181: (قال الراغب : یقال تبعه وأتبعه إذا قفا أثره إما بالجسم أو بالارتسام والائتمار).
3- لسان العرب لابن منظور ج 8 ص27 فصل التاء.
4- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج2 ص78 باب العین والتاء والباء معهما.
5- تاج العروس للزبیدی ج11 ص38 مادة تبع.
6- غریب الحدیث لابن سلام ج 4 ص 172.

ص: 11

فلان عمله وکلامه، إذا أتقنه وأحکمه وکل محکم مبالغ فی الإحکام متابع)(1).

هاء: وأطلق علی الملوک الذین یتبع بعضهم سیرة بعض ویقتفی بعضهم اثر البعض الآخر، ومنه سمی بعض الملوک بالتبابعة، قال ابن منظور: (والتبابعة: ملوک الیمن، واحدهم تبع، سموا بذلک لأنه یتبع بعضهم بعضا کلما هلک واحد قام مقامه آخر تابعا له علی مثل سیرته، وزادوا الهاء فی التبابعة لإرادة النسب)(2).

فیصبح معنی (وَأَتْبَاعِهِمْ) بحسب ما تقدم هو: (برئت إلی الله والی أهل البیت ممن اقتفی آثار أولئک المؤسسین والدافعین والمزیلین والقاتلین والممهدین لقتال أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بجسمه أو رسمه، وممن ائتمر بأقوالهم ووافق فعله أفعالهم، وبرئت ممن تابع هواه هواهم فأحب ما أحبوه ووافقهم بقلبه علی ما اقترفوه من جرائم وجرائر ضد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وبرئت ممن ناصرهم وشارکهم علی تأسیس الظلم، وممن أتقن لهم أفعالهم واحکم لهم صنیعهم وثبتهم بحیث مکنهم من قتل أهل البیت والتمهید لقتلهم، وبرئت من الملوک الذین ملکوا من بعدهم وکانت سیرتهم مشابهة لسیرة أولئک المؤسسین والقاتلین والممهدین لظلم وإقصاء أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین).

4: وَأَوْلِیَائِهِمْ

معنی الواو وضمیر الجمع قد تبین سابقا، ولفظ (أَوْلِیَاء) جمع (ولی)، والولی فی اللغة قد أطلق علی معانٍ عدة نختار منها ما یکون محتمل المراد للإمام صلوات الله وسلامه علیه، فمنها:

ألف: قد یطلق علی کل قریب سواء کان ذلک القرب قربا نسبیا أو سببیا أو


1- تاج العروس للزبیدی ج11 ص41 مادة تبع.
2- لسان العرب لابن منظور ج8 ص31 فصل التاء.

ص: 12

غیر ذلک من أنواع القرب، قال صاحب کتاب معجم مقاییس اللغة: (ولی: الواو واللام والیاء: أصل صحیح یدل علی قرب. من ذلک الولی: القرب. یقال: تباعد بعد ولی، أی قرب. وجلس مما یلینی، أی یقاربنی)(1).

باء: وقد یطلق علی المتولی للأمور القائم بها، لذلک سمی الله سبحانه وتعالی بالولی بمعنی المتولی لأمور هذا العالم والمتصرف والقائم بها، قال ابن منظور: (ولی: فی أسماء الله تعالی... المتولی لأمور العالم والخلائق القائم بها)(2) وقال صاحب کتاب معجم مقاییس اللغة: (وکل من ولی أمر آخر فهو ولیه)(3).

جیم: وقد أطلق علی کل من یعبد شیئا من دون الله سبحانه وتعالی، والعبادة کما لا یخفی بمعنی الطاعة، فیکون کل من أطاع وائتمر بغیر أمر الله فهو ولی لذلک الآمر والمطاع، لذلک سمی الذین یطیعون الشیطان من دون الله بأولیاء الشیطان، قال ابن منظور: (وقوله عز وجل: ((فَتَکُونَ لِلشَّیْطَانِ وَلِیًّا))(4) قال ثعلب: کل من عبد شیئا من دون الله فقد اتخذه ولیا)(5).

دال: وقد یطلق الولی علی ضد العدو، فکل من یحب الخیر لولیه ویخلص له بالمودة فهو ولی، قال الجوهری: (والولی: ضد العدو)(6) وقال أبو هلال العسکری: (ویجوز أن یقال معنی الولی أنه یحب الخیر لولیه کما أن معنی العدو أنه یرید الضرر لعدوه)(7)، وقال أیضا فی الفرق بین الولی والنصیر: (أن الولایة قد تکون بإخلاص


1- معجم مقاییس اللغة لأبی الحسین أحمد بن فارس زکریا ج 6 ص 141.
2- لسان العرب لابن منظور ج 15 ص 406 فصل الواو.
3- معجم مقاییس اللغة لأبی الحسین أحمد بن فارس زکریا ج 6 ص 141.
4- سورة مریم الآیة رقم 45.
5- لسان العرب لابن منظور ج 15 ص 411 فصل الواو.
6- الصحاح للجوهری ج 6 ص 2529 فصل الواو.
7- الفروق اللغویة لأبی هلال العسکری ص 577 __ 578 الفرق بین الولی والمولی.

ص: 13

المودة، والنصرة تکون بالمعونة والتقویة وقد لا تمکن النصرة مع حصول الولایة فالفرق بینهما بین)(1).

فیصبح معنی (وَأَوْلِیَائِهِمْ) هو: (برئت إلی الله سبحانه وتعالی والی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من مقربی أولئک المؤسسین والدافعین والمزیلین والقاتلین والممهدین لقتال أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، والذین تولوا أمورهم وقاموا بأعمالهم وأطاعوهم وائتمروا بأمرهم من دون الله سبحانه وتعالی وأحبوا لهم الخیر وأخلصوا لهم بالمودة دون أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین).

المبحث الثالث: فی أدلة البراءة ممن ذکر فی هذه الفقرة

اشارة

لا یوجد فی کل فقرات زیارة عاشوراء کما رأینا أی خروج عن قواعد الدین وأسس الشریعة ومتبنیات مذهب الحق الذی أسس أرکانه وأرسی قواعده النبی الأعظم وأئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فحینما تلعن زیارة عاشوراء قوما أو جماعة أو فردا لابد وأنّ لهذا اللعن مبررا شرعیا ومجوزا عقلائیا، وأساسا من القرآن والسنة النبویة، وقد أثبتنا ذلک من قبل، وکذلک الحال هنا، وفیما یأتی جملة من الأدلة التی یمکن الاستفادة منها لإیضاح بعض الأسس التی أطلق علی أساسها حکم البراءة من هؤلاء الأشیاع والأتباع والأولیاء.

الدلیل الأول: تجب البراءة منهم بقطع النظر عن کل دلیل قرآنی أو روائی

 ذکرنا فیما سبق ان کلاً من الحسن والقبح عقلیان، وان العقل یحکم وبغض النظر عن رأی الشرع ونصوصه علی حسن الصدق وقبح الکذب وحسن رد الودیعة وقبح خیانة الأمانة وغیرها، وذکرنا سابقا من کابر فی قبول ذلک فقد أنکر عقله


1- المصدر السابق ص 578 الفرق بین الولی والنصیر.

ص: 14

وغالط فطرته السلیمة.

وبناء علی هذا المبدأ العقلی فانه یقبح بالمؤمن أن یشایع أولئک المؤسسین والدافعین وقتلة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، بان یهوی أهواءهم، ویعینهم وینصرهم علی باطلهم وظلمهم، ویقویهم لیتمکنوا من دفع أهل الحق عن حقهم، ویتبعهم فیشابههم فی أفعالهم وأقوالهم ویجعلهم قدوة له یقفو آثارهم ویضع نفسه فی سلسلة أتباعهم، وکذلک یقبح علی المؤمن أن یتولاهم ویتولی أمورهم ویحب لهم الخیر؛ لان حب الخیر لأهل الظلم والفساد قبیح عقلا، وکذلک یقبح ان یخلص المؤمن بالمودة لهم، لان فی مودة الأشرار إعلاناً للعداوة مع الأخیار، وکل ذلک قبیح یجب علی المؤمن التنزه عنه والترفع والبراءة منه ومن لا یراه قبیحا فهو مسلوب العقل مقلوب الفطرة لا یصح أن یدخل فی سلک الأصحاء المتزنین والحجر بحاله أولی.

الدلیل الثانی: من یقف مع أعداء أولیاء الله فقد حارب الله سبحانه وتعالی

اثبت الله سبحانه وتعالی فی آیات القرآن الکریم ان له حزباً یدخل فیه أولیاؤه وأحباؤه ومن اصطفاهم وکرمهم، ومن یتولاهم وینصرهم ویشایعهم ویتابعهم ویوالیهم، فسماهم سبحانه وتعالی بحزبه ووصفهم بالغلبة تارة والفلاح تارة أخری فقال سبحانه وتعالی: ((وَمَنْ یَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِینَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ))(1) وقال أیضا: ((أُولَئِکَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))(2) ، ولا یشک مسلم من الفریقین: فی ان أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین هم من ضمن أفراد هذا الحزب المشمولین بتلک الأوصاف المتقدمة.

وکذلک أثبتت الآیات القرآنیة ان هنالک جماعة ثانیة أطلق علیها القرآن لقب


1- سورة المائدة الآیة رقم 56. 
2- سورة المجادلة الآیة رقم 22.

ص: 15

حزب الشیطان قال تعالی: ((أُولَئِکَ حِزْبُ الشَّیْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّیْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ))(1)، وحزب الشیطان یضم کل من لم یدخل ضمن حزب الله سبحانه وتعالی وأشیاعهم وأتباعهم وأولیائهم، وذلک لعدم وجود طرف ثالث فمن لم یکن مع الله سبحانه وتعالی کان مع الشیطان ومن لم یجد موطئ قدم فی صفوف حزب الله، فانه لا یجد مکانا فی الکون یسعه سوی صف الشیطان وحزبه.

ولان اجتماع القاتل والمقتول والظالم والمظلوم والمعتدی والمعتدی علیه فی حزب واحد یعد جمعا للضدین وهو محال عقلا، وإذا ثبت أن أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین داخلون بالإجماع فی حزب الله فیکون خروج المؤسسین والدافعین والقاتلین والممهدین لقتلهم یقینیّاً أیضا، فإذا خرجوا من حزب الله سبحانه دخلوا وبلا شک فی حزب الشیطان، وإذا دخلوا فی حزب إبلیس دخل معهم أشیاعهم وأتباعهم وأولیاؤهم، لما سیأتی من ان کل إنسان یحشر علی هواه وهو مع من یتولاه فان تولی الله وحزبه فهو معهم وان تولی الشیطان وحزبه کان منهم.

فإذا کان الأتباع والأشیاع والأولیاء من حزب الشیطان وجبت البراءة منهم کما وجبت البراءة من أسیادهم، لوجود الأمر الإلهی الصریح بعدم اتباع خطوات الشیطان وعدم موالاة ومودة من یدخل فی حزبه ویحاد الله ورسوله ولو کان ذا رحم وقربی قال سبحانه وتعالی ((لَا تَجِدُ قَوْمًا یُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْیَوْمِ الْآَخِرِ یُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ کَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِیرَتَهُمْ أُولَئِکَ کَتَبَ فِی قُلُوبِهِمُ الْإِیمَانَ وَأَیَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَیُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِینَ فِیهَا رَضِیَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِکَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))(2).


1- سورة المجادلة الآیة رقم 19.
2- سورة المجادلة الآیة رقم 22.

ص: 16

الدلیل الثالث: کل إنسان مع من یهوی ویشابه ویوالی

الأعمال فی منظومة التشریع الإسلامی علی قسمین، فمنها ظاهری کالحرکات التی یقوم بها الإنسان المصلی من الرکوع والسجود والجلوس والقیام، ومنها ما هو قلبی باطنی لا سبیل للعباد بالاطلاع علیه ومعرفته، کالنیات والأفکار والخواطر وغیر ذلک.

والتعویل فی القیامة وعند الحساب هو علی الأعمال القلبیة الباطنیة، فان کان باطنه موافقا لباطن أهل الإیمان قبلت أفعاله الظاهریة بلا أدنی شک، وان کان باطنه موافقا لباطن أهل الریب والکفر والانحراف والظلم عد من زمرتهم وحشر فی ضمنهم وادخل فی جهنم بین صفوفهم، حتی وان کانت أفعاله الظاهریة مشابهة لأفعال أهل الحق وأصحاب الإیمان، بدلیل ان المنافقین الذین علی عهد النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم کانوا من حیث الظاهر متمسکین بالعبادات الظاهریة من الصلاة والحج وحتی الجهاد، لکن بواطنهم کانت منطویة علی الکفر والنفاق ومعصیة الله سبحانه وتعالی والرسول صلی الله علیه وآله وسلم لذلک یحشرون یوم القیامة فی سلک الکافرین ویوزنون بمیزان أهل الباطل والشک والریب ولا یعتنی بجمیع أفعالهم الظاهریة حتی وان کانت قد وقعت علی وفق المیزان الشرعی، والأحادیث فی هذا المعنی کثیرة نختار منها الآتی:

عن الطبرانی عن جابر قال: (قال رسول الله صلی الله علیه وسلم کل نفس تحشر علی هواها فمن هوی الکفر هو مع الکفرة ولا ینفعه عمله شیئا)(1).

وعن ابن عمر قال: (قال رسول الله صلی الله علیه وسلم: من تشبه بقوم فهو منهم)(2).

وعن حذیفة یعنی ابن الیمان قال: (قال رسول الله صلی الله علیه وسلم من


1- المعجم الأوسط للطبرانی ج9 ص13، والجامع الصغیر لجلال الدین السیوطی ج2 ص288 باب الکاف تحت رقم 363.
2- سنن أبی داود لابن الأشعث السجستانی ج2 ص255 باب لبس الصوف والشعر،

ص: 17

تشبه بقوم فهو منهم)(1).

وعن ابن مسعود قال: (من رضی عمل قوم کان منهم)(2).

وعن أبی وائل عن عبد الله عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم انه قال: (المرء مع من أحب)(3).

وقال صلی الله علیه وآله وسلم : (أنت مع من أحببت)(4) وعن جابر قال سمعت رسول صلی الله علیه وآله وسلم یقول: (العبد مع من أحب)(5).

وعن الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه أن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم قال: (من أحب عمل قوم خیرا کان أو شرا کان کمن عمله)(6).

وعن أبی بکرة قال: (سمعت رسول الله صلی الله علیه وسلم یقول من أهان سلطان الله أهانه الله ومن أکرم سلطان الله أکرمه الله من أحب عمل قوم خیرا کان أو شرا کان کمن عمله)(7).

وکذلک اجتمعت کلمة المخالف والموالف علی صحة مضمون تلک الأحادیث وقد أشبعت من قبلهم بحثا وتنظیرا فعلی سبیل المثال لا الحصر نستعرض لکلمات جملة من أقوال المخالفین لتکون الحجة ابلغ:


1- مجمع الزوائد للهیثمی ج 10 ص 271.
2- سبل السلام لمحمد بن إسماعیل الکحلانی ج4 ص175 الحث علی الدعاء والتوجه الی الله فی کل المطالب.
3- مسند احمد بن حنبل ج1 ص392 مسند عبد الله بن مسعود.
4- المصدر السابق ج3 ص110 مسند انس بن مالک.
5- المصدر السابق ص 336.
6- مسند الشهاب لابن سلامة ج 1 ص 259.
7- مسند الشهاب لابن سلامة ج 1 ص 259.

ص: 18

قال العظیم آبادی فی کتابه عون المعبود: (الرابعة «من تشبه بقوم» قال المناوی والعلقمی: أی تزیا فی ظاهره بزیهم، وسار بسیرتهم وهدیهم فی ملبسهم وبعض أفعالهم. وقال القاری: أی من شبه نفسه بالکفار مثلا فی اللباس وغیره، أو بالفساق أو الفجار أو بأهل التصوف والصلحاء الأبرار «فهو منهم» أی فی الإثم والخیر قاله القاری. قال العلقمی: أی من تشبه بالصالحین یکرم کما یکرمون، ومن تشبه بالفساق لم یکرم ومن وضع علیه علامة الشرفاء أکرم وإن لم یتحقق شرفه)(1).

وقال الهیثمی: (...فجمیع المسلمین إذا کانت فیهم خطیئة فمن أعان علیها بفعل أو کلام أو عرض بها أو أعجبه ذلک أو رضیه فهو فی تلک الخطیئة علی قدر ما کان منهم وإذا کانت خطیئة بین المسلمین فمن شهد وکره فهو مثل الغائب ومن غاب ورضی فهو مثل شاهد)(2).

وقال ابن حجر: قوله تعالی ((فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّی یَخُوضُوا فِی حَدِیثٍ غَیْرِهِ إِنَّکُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ))(3) ویستفاد من هذا مشروعیة الهرب من الکفار ومن الظلمة لان الإقامة معهم من إلقاء النفس إلی التهلکة هذا إذا لم یعنهم ولم یرض بأفعالهم فان أعان أو رضی فهو منهم)(4).

وقال الکحلانی: (من حدیث ابن مسعود من رضی عمل قوم کان منهم والحدیث دال علی أن من تشبه بالفساق کان منهم أو بالکفار أو المبتدع فی أی شیء مما یختصون به من ملبوس أو مرکوب أو هیئة)(5).


1- عون المعبود للعظیم آبادی ج 11 ص 51 باب لبس الشهرة.
2- مجمع الزوائد للهیثمی ج 7 ص 77 سورة النور.
3- سورة النساء الآیة رقم 140.
4- فتح الباری لابن حجر ج 13 ص 52
5- سبل السلام لمحمد بن إسماعیل الکحلانی ج 4 ص 175.

ص: 19

فیتبین من کل ما سبق ان من شایع وتابع ووالی مؤسسی الظلم والجور علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وقتلتهم ومبعدیهم والممهدین لقتلهم کان منهم، وبرضاه عنهم وعن أفعالهم یکون کالشاهد معهم والحاضر والمشارک لهم فی کل جرائرهم وموبقاتهم، وکما تجب البراءة من أولئک المؤسسین والدافعین والقتلة کذلک یجب البراءة من أشیاعهم وأتباعهم وأولیائهم.

الدلیل الرابع: من کثّر سواد قوم کان منهم حتی وان لم یرض بأفعالهم

مثلما أراد الله سبحانه وتعالی ان یتنزه الإنسان المؤمن عن المیل الباطنی نحو أهل الظلم والجور والمعاصی والعدوان، کذلک شدد علی ان یتنزه المؤمن بظاهره عنهم، فتکون مواقفه وأعماله وکلامه وملبسه ومدخله ومخرجه وکل ما یتعلق بأموره الظاهریة مباینة ومختلفة عن مواقف وأعمال وظواهر أولئک الظالمین العاصین الجائرین، لان فی مشابهتهم والاقتداء بهم وبظواهرهم والمجاملة لهم وعدم الوقوف الحازم بوجههم تکثیراً لسوادهم وإغراء للجهال من العامة بإتباعهم، لان العامة من الناس تعدّ الغالبیة هی المعیار والمیزان فمن کان أکثر سوادا وأتباعا وأشیاعا وأولیاءً کان الحق معه، فمن کثر سواد الظلمة أغری العامة باتباعهم، ومن کثر سواد أهل المعاصی أغری الجهال بارتکابها، ومن کثر سواد جند الباطل ادخل الرعب علی قلوب الصالحین وجرأ أهل الباطل علیهم، ونظرا لکل تلک المحاذیر التی تترتب علی مسألة تکثیر السواد جاء النهی عنها شدیدا فی الأحادیث الشریفة، وفیما یأتی جملة من تلک الروایات الشریفة:

فعن أنس بن مالک قال: (قال رسول الله صلی الله علیه وسلم: من سوّد مع

ص: 20

قوم فهو منهم، ومن روع مسلما برضاء سلطان جیء به معه یوم القیامة)(1).

وعن عمرو بن الحارث: (أن رجلا دعا عبد الله بن مسعود إلی ولیمة فلما جاء لیدخل سمع لهوا فلم یدخل فقیل له فقال إنی سمعت رسول الله صلی الله علیه وسلم یقول: من کثر سواد قوم فهو منهم ومن رضی عمل قوم کان شریک من عمل به)(2).

وعن عبد الرحمن بن زیاد بن أنعم: (ان أبا ذر الغفاری دعی إلی ولیمة فلما حضر إذا هو بصوت فرجع فقیل له ألا تدخل قال إنی أسمع صوتا ومن کثر سوادا کان من أهله ومن رضی عملا کان شریک من عمله)(3).

وفی مشایعة ومتابعة وموالاة من أسس أساس الظلم والجور علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ودفعهم وقتلهم تکثیر واضح لسوادهم وفی هذا التکثیر ما لا یخفی من المحظورات ففیه إرعاب لأولیاء الله سبحانه وتعالی، وفیه إغراء وإغواء للجهلة علی التعدی علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین والتجرؤ علی ظلمهم، وفیه إغراء للعوام بأن الحق مع أولئک المؤسسین والقاتلین لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لان میزان العوام کما ذکرنا هو کثرة السواد، وفی مشایعة أعداء أهل البیت ومتابعتهم وموالاتهم إضافة إلی ما سبق إخلاء وخذلان لجبهة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین جبهة الحق وحزب الله المنصور، وتکثیر ونصرة ومعونة لجبهة الباطل وحزب إبلیس، وهو محرم شرعا وقبیح عقلا.

 فکما تجب البراءة من أولئک المؤسسین وغیرهم کذلک تجب البراءة ممن یکثر


1- کتاب السنة لعمرو بن أبی عاصم ص 613.
2- نصب الرایة للزیلعی ج 6 ص 348.
3- المصدر السابق.

ص: 21

سوادهم لتحقق المماثلة بینهما، وحکم الأمثال فیما یجوز وما لا یجوز واحد.

وقد رویت بهذا الصدد قصة تناقلتها العامة والخاصة عن ابن ریاح قال: (لقیت رجلا أعمی قد حضر قتل الحسین صلوات الله وسلامه علیه فسئل عن ذهاب بصره قال کنت عاشر عشرة غیر أنی لم اضرب ولم ارم فلما رجعت إلی منزلی وصلیت فأتانی آت فی منامی فقال أجب رسول الله صلی الله علیه وآله فقلت ما لی وله فأخذنی یقودنی إلیه فإذا هو جالس فی صحراء حاسر عن ذراعیه آخذ بحربة وملک قائم بین یدیه وفی یده سیف من نار فقتل أصحابی فکلما ضرب ضربة التهبت أنفسهم نارا فدنوت وجثوت بین یدیه وقلت السلام علیک یا رسول الله فلم یرد علی ومکث طویلا ثم رفع رأسه وقال یا عبد الله انتهکت حرمتی وقتلت عترتی ولم ترع حقی فقلت یا رسول الله والله ما ضربت بسیف ولا طعنت برمح ولا رمیت بسهم قال صدقت ولکنک کثرت السواد ادن منی فدنوت فإذا طشت مملوء دما فقال هذا دم ولدی الحسین فکحلنی منه فانتبهت لا أری شیئا)(1).

کانت هذه جملة من الأدلة التی أوضحت بشکل لا یقبل الشک الأسباب العقلیة والشرعیة الموجبة للبراءة من الذین ذکرتهم الزیارة الشریفة بالقول (وَمِنْ أَشْیَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ وَأَوْلِیَائِهِمْ) وهنالک جملة من الأدلة ذکرناها فی المبحث الرابع من مباحث الفقرة السابقة (بَرِئْتُ إِلَی اللَّهِ وَإِلَیْکُمْ مِنْهُمْ) تنفع ان تکون دلیلا یستدل به علی صحة ووجوب البراءة من الأشیاع والأتباع والأولیاء ترکنا ذکرها هنا اعتمادا علی نباهة القارئ وخوفا من التکرار.


1- مثیر الأحزان لابن نما الحلی ص 61 __ 62 المقصد الثانی فی وصف موقف النزال وما یقرب من تلک الحال.

ص: 22 

ص: 23

یَا أَبَا عَبْدِ اللهِ إِنِّی سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَکُمْ وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَکُمْ إِلَی یَوْمِ الْقِیَامَةِ

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه العبارة الشریفة

1: یَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ

2: إِنِّی سِلْمٌ

3: لِمَنْ سَالَمَکُمْ

4: وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَکُمْ

5: إِلَی یَوْمِ الْقِیَامَةِ

المبحث الثالث: حرمة المؤمن الشیعی وعظمته

عظمة المؤمن وکرامته عند الله تعالی وأهل البیت علیهم السلام

وجوب نصرة المؤمن والسعی فی حوائجه ونصیحته

وجوب موالاة أولیائهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومعاداة أعدائهم

ص: 24 

ص: 25

یَا أَبَا عَبْدِ اللهِ إِنِّی سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَکُمْ وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَکُمْ إِلَی یَوْمِ الْقِیَامَةِ

اشارة

وفی هذه الفقرة الشریفة من الزیارة مباحث مهمة نختار منها ما یأتی:

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

قد مر إثبات وشرح فقرة (یَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ) فی أول فقرة من فقرات هذه الزیارة الشریفة، وبقیة هذه الفقرة الشریفة قد وردت فی متون الزیارات والأحادیث الشریفة نختار فیما یأتی جملة من تلک الموارد:

منها ما عن الإمام الرضا صلوات الله وسلامه علیه قال: (سئل أبی عن إتیان قبر الحسین علیه السلام فقال: صلوا فی المساجد حوله ویجزئ فی المواضع کلها أن تقول: "السلام علی أولیاء الله وأصفیائه، السلام علی أمناء الله وأحبائه... السلام علی الذین من والاهم فقد والی الله ومن عاداهم فقد عادی الله ... اشهد الله أنی سلم لمن سالمتم وحرب لمن حاربتم...)(1).


1- الکافی للشیخ الکلینی ج 4 ص 578 __ 579 باب القول عند قبر أبی الحسن موسی وأبی جعفر الثانی وما یجزئ من القول عند کلهم علیهم السلام.

ص: 26

ومنها ما فی الزیارة الجامعة: (...بأبی أنتم وأمی وأهلی ومالی وأسرتی أشهد الله وأشهدکم أنی مؤمن بکم وبما آمنتم به کافر بعدوکم وبما کفرتم به مستبصر بشأنکم وبضلالة من خالفکم موال لکم ولأولیائکم مبغض لأعدائکم ومعاد لهم سلم لمن سالمکم وحرب لمن حاربکم محقق لما حققتم مبطل لما أبطلتم مطیع لکم عارف بحقکم مقر بفضلکم...)(1).

ومنها ما روی عن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه من دعاء فی یوم عرفة جاء فیه: (یا موالی کونوا شفعائی فی حط وزری وخطایای آمنت بالله وبما أنزل إلیکم وأتوالی آخرکم بما أتوالی أولکم وبرئت من الجبت والطاغوت واللات والعزی یا موالی أنا سلم لمن سالمکم وحرب لمن حاربکم وعدو لمن عاداکم وولی لمن والاکم إلی یوم القیامة ولعن الله ظالمیکم وغاصبیکم ولعن الله أشیاعهم وأتباعهم وأهل مذهبهم وأبرأ إلی الله وإلیکم منهم)(2).

وفی هذا المعنی ما روی عن زید بن أرقم قال: (خرج رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فإذا علی وفاطمة والحسن والحسین فقال: أنا حرب لمن حاربکم، وسلم لمن سالمکم)(3).

وعن أبی هریرة قال: (نظر النبی صلی الله علیه وسلم إلی علی والحسن والحسین وفاطمة فقال أنا حرب لمن حاربکم وسلم لمن سالمکم)(4).

عن أبی سعید الخدری قال : (لما دخل علی رضی الله عنه بفاطمة رضی الله


1- من لا یحضره الفقیه للشیخ الصدوق ج2 ص615 الزیارة الجامعة.
2- إقبال الأعمال للسید ابن طاوس ج2 ص126 ذکر دعاء الصادق علیه السلام فی یوم عرفة.
3- الأمالی للشیخ الطوسی ص 336.
4- مسند احمد لأحمد بن حنبل ج 2 ص 442.

ص: 27

عنها جاء النبی صلی الله علیه وسلم أربعین صباحا إلی بابها یقول: السلام علیکم أهل البیت ورحمة الله وبرکاته، الصلاة رحمکم الله ((إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا)) أنا حرب لمن حاربتم، أنا سلم لمن سالمتم)(1).

والأحادیث ومتون الزیارات فی هذا المعنی کثیرة، اقتصرنا علی ما مر طلبا للاختصار.

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه العبارة الشریفة

1: یَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ

(یَا) حرف نداء ینادی به القریب والبعید، وهو أشهر حروف النداء وأکثرها استعمالا، والمشهور استعمالها فی الندبة(2)، و(أَبَا عَبْدِ اللَّهِ) کنیة الإمام الحسین بن علی صلوات الله وسلامه علیهما وقد مر فی شرح الفقرة الأولی من الزیارة تفصیل القول حولها فراجع.

2: إِنِّی سِلْمٌ

(إِنِّی): (إِنّ) حرف مشبه للفعل وهی کما یقول ابن عقیل: (من الحروف الناسخة للابتداء...ومعنی إنّ وأنّ التوکید)(3) فالزائر جاء بتأکید لفظی علی صدق اتصافه بصفة ال_(سلم).

والیاء فی (إِنِّی): ضمیر متصل وضع فی اللغة للدلالة علی شخص المتکلم.


1- الدر المنثور لجلال الدین السیوطی ج5 ص199 سورة الاحزاب.
2- شرح الرضی علی الکافیة لرضی الدین الاسترابادی ج4 ص425 حروف النداء.
3- شرح ابن عقیل ج1 ص345 __ 346 ان وأخواتها.

ص: 28

ولفظ (سِلْمٌ): مصدر وهو ضد الحرب، قال الفراهیدی: (والسلم: ضد الحرب، ویقال: السلم والسلم واحد)(1). وقد استعمل فی اللغة بمعانٍ عدة نختار منها:

ألف: استعمل بمعنی الصلح، قال ابن السکیت: (والسلم مفتوح والسلم مکسور: الصلح، یذکران ویؤنثان)(2) وقال الجوهری فی الصحاح: (والسلم: الصلح، یفتح ویکسر، ویذکر ویؤنث)(3).

باء: واستعمل بمعنی السلام، وبمعنی المسالم، قال الجوهری: (والسلم بالکسر: السلام ... والسلم: المسالم. تقول: أنا سلم لمن سالمنی)(4)وقال ابن منظور: (والسلم، المسالم. تقول: أنا سلم لمن سالمنی، وقوم سلم وسلم: مسالمون وکذلک امرأة سلم وسلم)(5).

جیم: واستعمل بمعنی الخالص الذی لا شرکة فیه لأحد، قال ابن منظور: (یقال: سلم فلان لفلان أی خلص له)(6).

دال: واستعمل بمعنی المستسلم المنقاد، ومنه الحدیث القائل: (لآتینّک برجل سلم أی أسیر لأنه استسلم وانقاد)(7) وقال: (وأخذه سلما: أسره من غیر حرب. وحکی ابن الإعرابی: أخذه سلما أی جاء به منقادا لم یمتنع)(8).


1- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 7 ص 266.
2- ترتیب إصلاح المنطق لابن السکیت الاهوازی ص 202.
3- الصحاح للجوهری ج 5 ص 1951.
4- المصدر السابق.
5- لسان العرب لابن منظور ج12 ص293.
6- المصدر السابق ج 6 ص 112.
7- المصدر السابق ج12ص 293.
8- المصدر السابق ص295.

ص: 29

وقد صرح العلامة المیرزا أبو الفضل الطهرانی فی شرحه لزیارة عاشوراء ان استعمال المصدر (سِلْمٌ) هنا (من باب استعمال المصدر بمعنی اسم الفاعل، فإما أن یکون محمولا علی المبالغة أو بتقدیر ذو «أی ذو سلم»)(1).

ولکننا نری ان استعمال المصدر هنا فیه نکتتان مهمتان ولطیفتان:

إحداهما ان المصدر فی اللغة یستعمل مجردا غیر مقترن بزمان دون آخر، فکأن الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه أراد فی هذه الفقرة الشریفة: أن یوضح بأن سلمی لمن سالمکم غیر مختص بزمان دون زمان، بل السلم بالنسبة لی صفة ملازمة فی الماضی والحاضر والمستقبل لا زوال لها ولا اضمحلال.

والنکتة الأخری: هی ان المصدر یضم تحته کل المعانی المشتقة منه، فیکون المقصود من إیراد المصدر فی هذه العبارة الشریفة هو إرادة جمیع المعانی المنطویة تحت هذا المصدر والمشتقة منه، فکأنّ الإمام صلوات الله وسلامه علیه أراد من إیراد هذا اللفظ القول: بأنی سلم لمن سالمکم بکل ما یحمل السلم من معنی، کما إنی حرب لمن حاربکم بکل ما یحمل الحرب من معنی.

ونفس هذه النکات تنطبق علی لفظ (حَرْب) فی قوله صلوات الله وسلامه علیه: (وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَکُمْ إِلَی یَوْمِ الْقِیَامَةِ).

3: لِمَنْ سَالَمَکُمْ

(لِمَنْ) اللام فی الأصل کما هو محقق للاختصاص قال صاحب کتاب (الجنی الدانی فی حروف المعانی): (التحقیق ان معنی اللام فی الأصل هو الاختصاص وهو


1- شفاء الصدور فی شرح زیارة العاشور للمیزا أبی الفضل الطهرانی ج1 ص312 یَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنِّی سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَکُمْ وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَکُمْ إِلَی یَوْمِ الْقِیَامَةِ.

ص: 30

معنی لا یفارقها وقد یصحبه معان أخری وإذا تُؤمّلت سائر المعانی المذکورة وجدت راجعة إلی الاختصاص)(1)، و(مَنْ) هنا موصولة وهی بمعنی (الذی).

و(سَالَمَکُمْ) و(سَالَم) من السلام وهو کما یقول الجوهری: (والسلام: السلامة. والسلام: الاستسلام. والسلام: الاسم من التسلیم...والسلام: البراءة من العیوب)(2).

وقال ابن منظور: (والسلام یرید الاستسلام والإذعان)(3).

وبذلک یصبح المقصود من عبارة: (إِنِّی سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَکُمْ) هو: (یا أبا عبد الله إنی صلح وسلام ومسالم لمن هو مسالم ومستسلم ومنقاد إلیکم، ولمن هو بریء من کل العیوب التی استوجب أصحابها فیما سبق اللعن والبراءة).

وضمیر الجمع فی (سَالَمَکُمْ) قد یعود إلی شخص الإمام الحسین بقرینة یاء النداء وإلحاقها بکنیته صلوات الله وسلامه علیه، ویکون الجمع فیها للتفخیم وإعلاء الشأن وهو استعمال معروف فی اللغة العربیة، وأیضا بقرینة ان الفقرات التی ستلی هذه الفقرة ستتحدث عن شخصیات لها علاقة بقضیة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه دون غیره من أشخاص أهل البیت صلوات الله وسلامه علیه، وقد یکون ضمیر الجمع عائداً إلی نفس أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عموما والنداء وان خص الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه إلا انه عام لجمیع أفراد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وذکر الإمام الحسین بالنداء من باب کونه المخصوص بالزیارة والخطاب بالدرجة الأولی.


1- الجنی الدانی فی حروف المعانی للحسن بن قاسم المرادی ص109.
2- الصحاح للجوهری ج 5 ص 1951 فصل السین.
3- لسان العرب لابن منظور ج 12 ص 293 فصل السین المهملة.

ص: 31

4: وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَکُمْ

الواو هنا عاطفة وما بعدها معطوف علی ما سبق، و(حَرْب) کما قال الفراهیدی: (نقیض السلم)(1)وقد جاء فی اللغة بمعانٍ متعددة منها:

ألف: استعمل بمعنی العدو، قال الجوهری: (وأنا حرب لمن حاربنی، أی عدو)(2) وقال ابن منظور: (وفلان حرب لی أی عدو محارب، وإن لم یکن محاربا)(3) وقال الطریحی: (وفی حدیث الأئمة علیهم السلام «أنا حرب لمن حاربکم» أی عدو لمن عاداکم)(4).

باء: واستعمل بمعنی العصیان، قال الخلیل الفراهیدی: (وقوله تعالی: ((یُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))(5) یعنی المعصیة)(6).

جیم: واستعمل بمعنی القتل أو القتال، قال الفراهیدی: (وقوله تعالی: ((فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) یقال: هو القتل)(7) وقال الزبیدی: (الحرب نقیض السلم ...یعنون به القتال، والذی حققه السهیلی أن الحرب هو الترامی بالسهام، ثم المطاعنة بالرماح، ثم المجالدة بالسیوف، ثم المعانقة، والمصارعة إذا تزاحموا)(8).

دال: واستعمل بمعنی التباعد والتباغض، قال الزبیدی: (فلان حرب لفلان


1- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 3 ص 213 باب الحاء والباء والراء.
2- الصحاح للجوهری ج 1 ص 108 فصل الحاء.
3- لسان العرب لابن منظور ج 1 ص 303.
4- مجمع البحرین للشیخ الطریحی ج 1 ص 481.
5- سورة المائدة الآیة رقم 33.
6- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 3 ص 214.
7- المصدر السابق.
8- تاج العروس للزبیدی ج 1 ص 409.

ص: 32

إذا کان بینهما بعد وتباغض)(1).

هاء: واستعمل بمعنی الشجاع الشدید الحرب، قال ابن منظور: (ورجل حرب ومحرب، بکسر المیم، ومحراب: شدید الحرب، شجاع)(2) وقال الزبیدی: (ورجل حرب کعدل ومحرب بکسر المیم ومحراب أی شدید الحرب شجاع)(3).

فیکون معنی قوله صلوات الله وسلامه علیه (وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَکُمْ) هو: (یا أبا عبد الله إنی عدو لعدوکم ومتباعد مباغض لمن تباعد عنکم وأبغضکم، وشجاع شدید الحرب علی من قاتلکم، ارمی بین یدیکم وحال حربکم وبإذنکم بالسهام وأطاعن عدوکم بالرماح وأجالد من قاتلکم بالسیوف فإذا نفد ما عندی أصارعهم وأعانقهم وأحول ما بینهم وبین الوصول إلیکم ما بقی فی نفسی رمق وبقیة حیاة).

5: إِلَی یَوْمِ الْقِیَامَةِ

بینا فیما سبق أن أحد معانی حرف الجر (إِلَی) هو لانتهاء الغایة الزمانیة(4) نظیر قوله سبحانه وتعالی: ((ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّیَامَ إِلَی اللَّیْلِ))(5)، و(یَوْمِ الْقِیَامَةِ) معروف معلوم ورد ذکره فی القرآن الکریم سبعین مرة، وقد ذکر له القرآن عدة خصائص، فهو الیوم الذی یحشر فیه الناس وفیه یجمعون قال سبحانه وتعالی: ((قُلْ لِمَنْ مَا فِی السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ کَتَبَ عَلَی نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَیَجْمَعَنَّکُمْ إِلَی یَوْمِ الْقِیَامَةِ لَا رَیْبَ فِیهِ))(6).


1- تاج العروس للزبیدی ج 1 ص 412.
2- لسان العرب لابن منظور ج 1 ص 303.
3- تاج العروس للزبیدی ج 1 ص 410.
4- مغنی اللبیب لابن هشام الأنصاری ج 1 ص 74، الإتقان فی علوم القرآن للسیوطی ج1 ص444.
5- سورة البقرة الآیة 187.
6- سورة الأنعام الآیة رقم 12.

ص: 33

وهو الیوم الذی یوفی العباد فیه أجورهم قال سبحانه وتعالی: ((کُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَکُمْ یَوْمَ الْقِیَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَیَاةُ الدُّنْیَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ))(1) وهو الیوم الذی یقتص الله سبحانه وتعالی للمظلوم من الظالم ولأهل الحق من أهل الباطل قال :سبحانه وتعالی ((اللَّهُ یَحْکُمُ بَیْنَکُمْ یَوْمَ الْقِیَامَةِ فِیمَا کُنْتُمْ فِیهِ تَخْتَلِفُونَ))(2) ، وقال: سبحانه وتعالی ((رَبَّکَ هُوَ یَفْصِلُ بَیْنَهُمْ یَوْمَ الْقِیَامَةِ فِیمَا کَانُوا فِیهِ یَخْتَلِفُونَ))(3).

والهدف من إیراد یوم القیامة فی هذه العبارة الشریفة من الزیارة للتأبید والدیمومة أی ان سلمی لمن سالمکم وحربی لمن حاربکم یدومان أبدا ما بقیت أیام الدنیا، ولون أنّ الله سبحانه وتعالی قدر لی أن أعیش إلی آخر یوم من أیام الدنیا لبقیت متصفا بکونی سلم لمن سالمکم وحرباً لمن حاربکم، فإذا کان یوم القیامة تکفل الله سبحانه وتعالی بتولی من والاکم وسالمکم ومجازاة من حاربکم وأثابنی علی ما بذلته من نصرتکم ونصرة أولیائکم، ولم یحشرنی فی زمرة محاربیکم لأنی قد أعلنت الحرب علیهم والبراءة منهم أیام حیاتی فی دار الدنیا.

المبحث الثالث: حرمة المؤمن الشیعی وعظمته 

اشارة

الزیارة الشریفة قد کشفت فی فقرتها هذه منزلة عظیمة من منازل المؤمن الشیعی المتصف بالمسالمة لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وأوجبت علی بقیة أهل الإیمان أن یتصف بصفة السلم تجاه کل من یعلن حالة السلم والمسالمة لهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وقد جاء تصدیق هذه المنزلة الرفیعة للمؤمن الشیعی المسالم فی بقیة روایات أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وقد اخترنا من تلک الروایات بعضها، ومنها سیتبین ان الهجمة


1- سورة آل عمران الآیة رقم 158.
2- سورة الحج الآیة رقم 69.
3- سورة السجدة الآیة رقم 25.

ص: 34

الإعلامیة قدیما وحدیثا ضد کل من یتصف بالتشیع والموالاة لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین هی هجمة لا تملک من الحقیقة أی اثر، وانها موجهة من قبل أعداء أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لتشویه صورتهم التی أشرقت کالشمس بفضل ولائهم لائمتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، ولبخس حقوقهم التی هی عند الله سبحانه وتعالی عظیمة کما سنری ذلک لاحقا، ولهم فی ذلک الأسوة الحسنة بأئمتهم ومن قبلهم الأنبیاء الکرام صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فقد اختلق ضدهم أهل النصب والضلال من زخرف القول ما یندی له الجبین ولا یقرهم علیه ذو مروءة ولا دین، فقد ورد عن علقمة انه سأل الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه بما نصه: (یا بن رسول الله، إن الناس ینسبوننا إلی عظائم الأمور، وقد ضاقت بذلک صدورنا. فقال «علیه السلام»: یا علقمة، إن رضا الناس لا یملک، وألسنتهم لا تضبط، فکیف تسلمون مما لم یسلم منه أنبیاء الله ورسله وحججه «علیهم السلام»؟ ألم ینسبوا یوسف «علیه السلام» إلی أنه هم بالزنا؟ ألم ینسبوا أیوب «علیه السلام» إلی أنه ابتلی بذنوبه؟ ألم ینسبوا داود «علیه السلام» إلی أنه تبع الطیر حتی نظر إلی امرأة أوریا فهواها؟ ...ألم ینسبوا نبینا محمدا «صلی الله علیه وآله» إلی أنه شاعر مجنون؟ ألم ینسبوه إلی أنه هوی امرأة زید بن حارثة فلم یزل بها حتی استخلصها لنفسه؟ ألم ینسبوه یوم بدر إلی أنه أخذ لنفسه من المغنم قطیفة حمراء... وما قالوا فی الأوصیاء «علیهم السلام» أکثر من ذلک، ألم ینسبوا سید الأوصیاء «علیه السلام» إلی أنه کان یطلب الدنیا والملک، وأنه کان یؤثر الفتنة علی السکون، وأنه یسفک دماء المسلمین بغیر حلها...ألم ینسبوه إلی أنه «علیه السلام» أراد أن یتزوج ابنة أبی جهل علی فاطمة «علیها السلام»، وأن رسول الله «صلی الله علیه وآله» شکاه علی المنبر إلی المسلمین، فقال: إن علیا یرید أن یتزوج ابنة عدو الله علی ابنة نبی الله... یا علقمة، ألم یقولوا لله عز وجل: إنه ثالث ثلاثة ؟ ألم یشبهوه

ص: 35

بخلقه؟ ...ألم یقولوا: إنه جسم... یا علقمة، إن الألسنة التی تتناول ذات الله تعالی ذکره بما لا یلیق بذاته کیف تحبس عن تناولکم بما تکرهونه! فاستعینوا بالله واصبروا، إن الأرض لله یورثها من یشاء من عباده و العاقبة للمتقین)(1).

والأحادیث التی رویت فی هذا الباب کثیرة حتی ان بعض الباحثین جمع ألف حدیث فی المؤمن ووضعه فی کتاب مستقل مع انه لم یأتِ علی جمیع ما ذکرته الروایات فی هذا الصدد وقد اخترنا من هذه الأحادیث ما یتناسب وهذه الفقرة الشریفة من الزیارة وهی کالتالی:

عظمة المؤمن وکرامته عند الله سبحانه وتعالی وأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین

عن علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن أبی عمیر، عن عمرو بن أبی المقدام قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: (خرجت أنا وأبی حتی إذا کنا بین القبر والمنبر إذا هو بأناس من الشیعة فسلم علیهم ثم قال: إنی والله لأحب ریاحکم وأرواحکم فأعینونی علی ذلک بورع واجتهاد واعلموا أن ولایتنا لا تنال إلا بالورع والاجتهاد ومن ائتم منکم بعبد فلیعمل بعمله، أنتم شیعة الله وأنتم أنصار الله وأنتم السابقون الأولون والسابقون الآخرون والسابقون فی الدنیا والسابقون فی الآخرة إلی الجنة، قد ضمنا لکم الجنة بضمان الله عز وجل وضمان رسول الله صلی الله علیه وآله والله ما علی درجة الجنة أکثر أرواحا منکم فتنافسوا فی فضایل الدرجات، أنتم الطیبون ونساؤکم الطیبات کل مؤمنة حوراء عیناء وکل مؤمن صدیق ولقد قال أمیر المؤمنین علیه السلام: لقنبر: یا قنبر ابشر وبشر واستبشر فوالله لقد مات رسول الله صلی الله علیه وآله وهو علی أمته ساخط إلا الشیعة. ألا وإن لکل شیء عزا وعز الإسلام الشیعة. ألا وإن لکل شیء دعامة ودعامة الإسلام الشیعة. ألا وإن لکل شیء ذروة وذروة


1- الأمالی للشیخ الصدوق ص 164 __ 166 من تقبل شهادته.

ص: 36

الإسلام الشیعة. ألا وإن لکل شیء شرفا وشرف الإسلام الشیعة. ألا وإن لکل شیء سیدا وسید المجالس مجالس الشیعة. ألا وإن لکل شیء إماما وإمام الأرض أرض تسکنها الشیعة، والله لولا ما فی الأرض منکم ما رأیت بعین عشبا أبدا والله لو ما فی الأرض منکم ما أنعم الله علی أهل خلافکم ولا أصابوا الطیبات ما لهم فی الدنیا ولا لهم فی الآخرة من نصیب، کل ناصب وإن تعبد واجتهد منسوب إلی هذه الآیة ((عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَی نَارًا حَامِیَةً))(1) فکل ناصب مجتهد فعمله هباء، شیعتنا ینطقون بنور الله عز وجل ومن خالفهم ینطقون بتفلت، والله ما من عبد من شیعتنا ینام إلا أصعد الله عز وجل روحه إلی السماء فیبارک علیها فإن کان قد أتی علیها أجلها جعلها فی کنوز رحمته وفی ریاض جنة وفی ظل عرشه وإن کان أجلها متأخرا بعث بها مع أمنته من الملائکة لیردوها إلی الجسد الذی خرجت منه لتسکن فیه، والله إن حاجکم وعمارکم لخاصة الله عز وجل وإن فقراءکم لأهل الغنی وإن أغنیاءکم لأهل القناعة وإنکم کلکم لأهل دعوته وأهل إجابته)(2).

وعن عمرو بن أبی المقدام، عن أبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه قال: (ألا وإن لکل شیء جوهرا وجوهر ولد آدم محمد صلی الله علیه وآله ونحن وشیعتنا بعدنا، حبذا شیعتنا ما أقربهم من عرش الله عز وجل وأحسن صنع الله إلیهم یوم القیامة والله لولا أن یتعاظم الناس ذلک أو یدخلهم زهو لسلمت علیهم الملائکة قبلا والله ما من عبد من شیعتنا یتلو القرآن فی صلاته قائما إلا وله بکل حرف مائة حسنة ولا قرأ فی صلاته جالسا إلا وله بکل حرف خمسون حسنة ولا فی غیر الصلاة إلا وله بکل حرف عشر


1- سورة الغاشیة الآیة رقم 3 __ 4.
2- الکافی للشیخ الکلینی ج 8 ص 212 __ 214.فضل الشیعة.

ص: 37

حسنات وإن للصامت من شیعتنا لأجر من قرأ القرآن ممن خالفه أنتم والله علی فرشکم نیام لکم أجر المجاهدین وأنتم والله فی صلاتکم لکم أجر الصافین فی سبیله، أنتم والله الذین قال الله عز وجل: ((وَنَزَعْنَا مَا فِی صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَی سُرُرٍ مُتَقَابِلِینَ))(1) إنما شیعتنا أصحاب الأربعة الأعین: عینان فی الرأس وعینان فی القلب ألا والخلائق کلهم کذلک، ألا إن الله عز وجل فتح أبصارکم وأعمی أبصارهم)(2).

وجوب نصرة المؤمن والسعی فی حوائجه ونصیحته

عن أبی بصیر قال: (سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: أیما رجل من أصحابنا استعان به رجل من إخوانه فی حاجة فلم یبالغ فیها بکل جهد فقد خان الله ورسوله والمؤمنین. قال أبو بصیر قلت لأبی عبد الله علیه السلام: ما تعنی بقولک: والمؤمنین؟ قال: من لدن أمیر المؤمنین إلی آخرهم)(3).

عن علی بن جعفر عن أخیه أبی الحسن صلوات الله وسلامه علیه قال: (سمعته یقول: من قصد إلیه رجل من إخوانه مستجیرا به فی بعض أحواله فلم یجره بعد أن یقدر علیه فقد قطع ولایة الله عز وجل)(4).

عن أبی بصیر، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: (أیما رجل من شیعتنا أتی رجلا من إخوانه فاستعان به فی حاجته فلم یعنه وهو یقدر إلا ابتلاه الله بأن یقضی حوائج غیره من أعدائنا، یعذبه الله علیها یوم القیامة)(5).


1- سورة الحجر الآیة رقم 47.
2- الکافی للشیخ الکلینی ج 8 ص 214 ___ 215.
3- المحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقی ج1 ص98 عقاب من مشی فی حاجة مؤمن ولم ینصحه.
4- الکافی للشیخ الکلینی ج2 ص367 باب من منع مؤمنا شیئا عنده الحدیث رقم 4.
5- ثواب الأعمال للشیخ الصدوق ص250 عقاب من استعان به المؤمن ولم یعنه.

ص: 38

وعن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه قال: (لا تستخف بفقراء شیعة علی علیه السلام فان الرجل منهم یشفع فی مثل ربیعة ومضر)(1)

وعن أبی هارون عن أبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه قال: (قال لنفر عنده وأنا حاضر: ما لکم تستخفون بنا؟ قال: فقام إلیه رجل من خراسان فقال: معاذ لوجه الله أن نستخف بک أو بشیء من أمرک فقال: بلی إنک أحد من استخف بی، فقال: معاذ لوجه الله أن أستخف بک، فقال له: ویحک أو لم تسمع فلانا ونحن بقرب الجحفة وهو یقول لک: احملنی قدر میل فقد والله أعییت، والله ما رفعت به رأسا ولقد استخففت به ومن استخف بمؤمن فینا استخف وضیع حرمة الله عز وجل)(2).

عن أبی بصیر، قال: قال أبو عبد الله صلوات الله وسلامه علیه: (تنافسوا فی المعروف لإخوانکم، وکونوا من أهله، فان للجنة بابا یقال له: المعروف، لا یدخله إلا من اصطنع المعروف فی الحیاة الدنیا، وإن العبد لیمشی فی حاجة أخیه المؤمن فیوکل الله عز وجل به ملکین: واحد عن یمینه، وآخر عن شماله، یستغفران له ربه یدعوان له بقضاء حاجته، ثم قال: والله لرسول الله صلی الله علیه وآله أسر بحاجة المؤمن إذا وصلت إلیه من صاحب الحاجة)(3).

عن الحسین بن عبد الرحیم، قال، قال أبو الحسن علیه السلام لعلی بن یقطین: (اضمن لی خصلة أضمن لک ثلاثا فقال علی: جعلت فداک وما الخصلة التی أضمنها لک؟ وما الثلاث اللواتی تضمنهن لی؟ قال، فقال أبو الحسن علیه السلام: الثلاث اللواتی أضمنهن لک: أن لا یصیبک حر الحدید أبدا بقتل، ولا


1- ألف حدیث لکاشف الغطاء ج1ص94
2- الکافی للشیخ الکلینی ج 8 ص 102مدح لحسان بن ثابت وذم لبعض الصحابة.
3- وسائل الشیعة للحر العاملی ج16 ص359 باب استحباب قضاء حاجة المؤمن.

ص: 39

فاقة، ولا سجن حبس، قال، فقال علی: وما الخصلة التی أضمنها لک؟ قال، فقال: تضمن أن لا یأتیک ولی أبدا إلا أکرمته، قال فضمن علی الخصلة وضمن له أبو الحسن الثلاث)(1).

عن شعیب العقرقوفی قال: (سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول لأصحابه: اتقوا الله وکونوا إخوة بررة، متحابین فی الله، متواصلین، متراحمین، تزاوروا وتلاقوا وتذاکروا أمرنا وأحیوه)(2).

وجوب موالاة أولیائهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومعاداة أعدائهم

عن یعقوب بن شعیب، عن صالح بن میثم التمار رحمه الله عنه، قال: وجدت فی کتاب میثم رضی الله عنه یقول: (تمسینا لیلة عند أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام فقال لنا: لیس من عبد امتحن الله قلبه بالإیمان إلا أصبح یجد مودتنا علی قلبه، ولا أصبح عبد ممن سخط الله علیه إلا یجد بغضنا علی قلبه، فأصبحنا نفرح بحب المؤمن لنا، ونعرف بغض المبغض لنا، وأصبح محبنا مغتبطا بحبنا برحمة من الله ینتظرها کل یوم، وأصبح مبغضنا یؤسس بنیانه علی شفا جرف هار، فکان ذلک الشفا قد انهار به فی نار جهنم، وکأن أبواب الرحمة قد فتحت لأصحاب الرحمة، فهنیئا لأصحاب الرحمة رحمتهم، وتعسا لأهل النار مثواهم، إن عبدا لن یقصر فی حبنا لخیر جعله الله فی قلبه، ولن یحبنا من یحب مبغضنا، إن ذلک لا یجتمع فی قلب واحد و((مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَیْنِ فِی جَوْفِهِ))(3) یحب بهذا قوما، ویحب بالآخر عدوهم، والذی یحبنا فهو یخلص حبنا کما یخلص الذهب لا غش فیه. نحن


1- اختیار معرفة الرجال للشیخ الطوسی ج 2 ص 731 __ 732
2- الکافی للشیخ الکلینی ج 2 ص 175 باب التراحم والتعاطف الحدیث رقم 1.
3- سورة الأحزاب الآیة رقم 4.

ص: 40

النجباء وأفراطنا أفراط الأنبیاء، وأنا وصی الأوصیاء، وأنا حزب الله ورسوله علیه السلام، والفئة الباغیة حزب الشیطان، فمن أحب أن یعلم حاله فی حبنا فلیمتحن قلبه، فإن وجد فیه حب من ألب علینا فلیعلم أن الله عدوه وجبرئیل ومیکائیل، والله عدو للکافرین)(1).

عن أبی جعفر علیه السلام قال: فی قوله: ((مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَیْنِ فِی جَوْفِهِ)) (2) (قال علی بن أبی طالب علیه السلام: لا یجتمع حبنا وحب عدونا فی جوف إنسان إن الله لم یجعل لرجل من قلبین فی جوفه فیحب هذا ویبغض هذا فأما محبنا فیخلص الحب لنا کما یخلص الذهب بالنار لا کدر فیه فمن أراد أن یعلم حبنا فلیمتحن قلبه فان شارکه فی حبنا حب عدونا فلیس منا ولسنا منه والله عدوهم وجبرئیل ومیکائیل والله عدو للکافرین)(3).

عن الحسین بن خالد، عن أبی الحسن علی بن موسی الرضا علیهما السلام، قال: (من قال بالتشبیه والجبر فهو کافر مشرک ونحن منه براء فی الدنیا والآخرة یا ابن خالد إنما وضع الأخبار عنا فی التشبیه والجبر الغلاة الذین صغروا عظمة الله، فمن أحبهم فقد أبغضنا، ومن أبغضهم فقد أحبنا، ومن والاهم فقد عادانا، ومن عاداهم فقد والانا، ومن وصلهم فقد قطعنا، ومن قطعهم فقد وصلنا، ومن جفاهم فقد برنا، ومن برهم فقد جفانا، ومن أکرمهم فقد أهاننا، ومن أهانهم فقد أکرمنا، ومن قبلهم فقد ردنا، ومن ردهم فقد قبلنا، ومن أحسن إلیهم فقد أساء إلینا، ومن أساء إلیهم فقد أحسن إلینا، ومن صدقهم فقد کذبنا، ومن کذبهم فقد صدقنا، ومن


1- الأمالی للشیخ الطوسی ص 148 __ 149 المحب والمبغض لاهل البیت علیهم السلام.
2- سورة الأحزاب الآیة رقم 4.
3- تفسیر القمی لعلی بن إبراهیم القمی ج 2 ص 171 __ 172 تفسیر سورة الاحزاب.

ص: 41

أعطاهم فقد حرمنا، ومن حرمهم فقد أعطانا، یا ابن خالد من کان من شیعتنا فلا یتخذن منهم ولیا ولا نصیرا)(1).

عن أبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه أنه قال: (من زارنا فی مماتنا فکأنما زارنا فی حیاتنا، ومن جاهد عدونا فکأنما جاهد معنا، ومن تولی محبنا فقد أحبنا، ومن سر مؤمنا فقد سرنا، ومن أعان فقیرنا کان مکافأته علی جدنا محمد صلی الله علیه وآله)(2).

اللهم اجعلنا سلما لمن سالم محمداً وأهل بیته الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وحربا لمن حاربهم آمین یا رب العالمین.


1- التوحید للشیخ الصدوق ص 364 باب نفی الجبر والتفویض الحدیث رقم 12.
2- المقنعة للشیخ المفید ص486 الباب 37.

ص: 42

ص: 43

وَلَعَنَ اللهُ آلَ زِیَادٍ

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

1: وَلَعَنَ اللهُ

2: آلَ زِیَادٍ

المبحث الثالث: آل زیاد بین ضحالة النسب وعقدة الانتماء

   عقدة الحقارة والشعور بالنقص فی شخصیة زیاد بن أبیه

   المیزات الفریدة فی شخصیة زیاد بن أبیه

   أولا: کان یعد من دهاة العرب

   ثانیا: کان خطیبا مفوها

   ثالثا: کان کاتبا لأربعة من الولاة قبل ان یصبح بنفسه والیا

   رابعا: کانت له خبرة بقمع التمردات والانتفاضات الشعبیة

   استغلال معاویة لعقدة الحقارة والشعور بالنقص التی فی شخصیة زیاد

   استمرار عقدة النقص والحقارة حتی بعد إستلحاق معاویة إیّاه

   حکومة زیاد علی الکوفة إحدی أسباب حدوث فاجعة عاشوراء

   حکومة زیاد سبب لإیجاد حکومة ابنه عبید الله بن زیاد

المبحث الرابع: لماذا استعمل أمیر المؤمنین زیاداً وهو یعلم أصله وعاقبته

ص: 44

ص: 45

وَلَعَنَ اللهُ آلَ زِیَادٍ

اشارة

وفی هذه الفقرة أیضا مباحث مهمة نستعرض بعضاً منها فیما یأتی:

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

قد لعن آل زیاد علی لسان الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه فی الحدیث المروی عن یعقوب بن یزید عن الوشا قال: حدثنی نجیة بن الحارث العطار قال: سألت أبا جعفر علیه السلام عن صوم یوم عاشورا فقال: (صوم متروک بنزول شهر رمضان، والمتروک بدعة، قال نجیة: فسألت أبا عبد الله علیه السلام عن ذلک من بعد أبیه علیه السلام فأجاب بمثل جواب أبیه ثم قال لی: أما انه صیام یوم ما نزل به کتاب ولا جرت به سنة إلا سنة آل زیاد لعنهم الله بقتل الحسین بن علی صلوات الله علیهما)(1).

وعن علقمة بن محمد الحضرمی: عن أبی جعفر الباقر صلوات الله وسلامه علیه قال: (من أراد زیارة الحسین بن علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین یوم عاشوراء، وهو الیوم العاشر من المحرم ... من بعید وقریب کل یوم... ثم تقول وأنت خاشع مستکین: (السلام علیک یا بن رسول الله، السلام علیک یا بن البشیر النذیر، وابن سید


1- تهذیب الأحکام للشیخ الطوسی ج 4 ص 301 باب وجوه الصیام وشرح جمیعها علی البیان.

ص: 46

الوصیین... اللهم وهذا یوم تجدد فیه النقمة وتنزل فیه اللعنة علی اللعین یزید، وعلی آل یزید، وعلی آل زیاد، وعمر بن سعد والشمر، اللهم العنهم والعن من رضی بقولهم وفعلهم، من أول وآخر، لعنا کثیرا، وأصلهم حر نارک، وأسکنهم جهنم وساءت مصیرا، وأوجب علیهم وعلی کل من شایعهم وبایعهم وتابعهم وساعدهم ورضی بفعلهم، وافتح لهم وعلیهم، وعلی کل من رضی بذلک، لعناتک التی لعنت بها کل ظالم، وکل غاصب، وکل جاحد، وکل کافر، وکل مشرک، وکل شیطان رجیم، وکل جبار عنید)(1).

وهم ملعونون بأدلة أخری عامة قد مر توضیحها من قبل، فهم یندرجون تحت عنوان الدافعین لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عن مقاماتهم والمزیلین لهم عن مراتبهم، ومن القاتلین والأشیاع والأتباع والأولیاء، وهؤلاء جمیعهم قد حقت علیهم اللعنة والخزی الأبدی.

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

1: وَلَعَنَ اللهُ

الواو قد تکون عاطفة ویکون ما بعدها معطوفاً علی تلک الجمل التی لعن فیها من أسس أساس الظلم والجور وغیرهم من الذین تم لعنهم فی العبارات السابقة، وتکون الجملة (بَرِئْتُ إِلَی اللَّهِ وَإِلَیْکُمْ مِنْهُمْ وَمِنْ أَشْیَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ وَأَوْلِیَائِهِمْ یَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنِّی سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَکُمْ وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَکُمْ إِلَی یَوْمِ الْقِیَامَةِ) جملة اعتراضیة ما بین العاطف والمعطوف، وهو وارد فی اللغة العربیة.


1- مستدرک الوسائل للمیرزا النوری ج 10 ص 412 __ 414.

ص: 47

کما ویمکن أن تکون الواو هنا استئنافیة وهی المسماة بواو الابتداء وهی (الواو التی یکون بعدها جملة غیر متعلقة بما قبلها فی المعنی ولا مشارکة لها فی الإعراب).

و(لَعَنَ اللَّهُ) قد تبین معناها من قبل فراجع.

2: آلَ زِیَادٍ

استعمل لفظ ال_(آلَ) بمعانٍ عدة منها:

1: قرابة الرجل وأهل بیته، قال الفراهیدی: (وآل الرجل: ذو قرابته، وأهل بیته)(1).

2: أهله وعیاله، قال الجوهری: (وآل الرجل: أهله وعیاله)(2).

3: ومنهم من جعل الآل هم خاصة الرجل من جهة القرابة والصحبة، قال أبو هلال العسکری: (والآل خاصة الرجل من جهة القرابة أو الصحبة... وقال بعضهم: الآل عیدان الخیمة وأعمدتها وآل الرجل مشبهون بذلک لأنهم معتمده)(3).

وقال ابن منظور: (کانوا یخصون بالآل الأشرف الأخص دون الشائع الأعم حتی لا یقال إلا فی نحو قولهم : القراء آل الله، وقولهم: اللهم صل علی محمد وعلی آل محمد، وقال رجل مؤمن من آل فرعون)(4).

و (زِیَادٍ) المذکور هنا هو المسمی بزیاد بن أبیه، وقد یقال عنه زیاد بن عبید، أو زیاد بن أمه، أو زیاد بن سمیة، وسنذکر تفصیل أحواله فی المبحث الثالث.


1- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 8 ص 359 باب اللفیف من اللام.
2- الصحاح للجوهری ج 4 ص 1627 باب اللام فصل الألف.
3- الفروق اللغویة لأبی هلال العسکری ص 84 – 85.
4- لسان العرب لابن منظور ج 11 ص 30 حرف الألف فصل الهمزة.

ص: 48

المبحث الثالث: آل زیاد بین ضحالة النسب وعقدة الانتماء

اشارة

کانت بذرة الانحراف الأولی لزیاد وآل زیاد من طرف أمهم سمیة، تلک التی کانت مشتهرة بین الدانی والقاصی بفجورها وانحرافها، حتی کانت تعد من ذوات الرایات اللاتی کن یعلقن علی بیوتهن رایة یعرفن بها فیدخل علیهن الرجال لطلب الزنا والفاحشة، وکتاب الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه الذی کتبه لزیاد بن أبیه خیر دلیل علی حقیقة ما قدمناه، حیث ورد فی هذا الکتاب ما نصه: (وما أنت یا زیاد وقریشا، لا أعرف لک فیها أدیما صحیحا ولا فرعا نابتا، ولا قدیما ثابتا، ولا منبتا کریما، بل کانت أمک بغیا تداولها رجال قریش، وفجار العرب، فلما ولدت لم تعرف لک العرب والدا)(1).

وقال ابن حجر متحدثا عن زیاد: (وکانت أمه مولاة صفیة بنت عبید بن أسد ابن علاج الثقفی وکانت من البغایا بالطائف)(2).

ولدت سمیة هذه ثلاثة أولاد غیر شرعیین، اثنین منهم ولدتهم علی فراش الحارث بن کلدة الثقفی، والثالث هو زیاد الذی ولدته علی فراش عبید، قال ابن عساکر متحدثا عن هذا الموضوع بما نصه: (فولدت عند الحارث أبا بکرة وهو مسروح فلم یقر به...ثم ولدت سمیة نافعا فلم یقر بنافع...وزوجها الحارث غلاما له رومیا یقال له عبید فولدت زیادا علی فراشه، وکان أبو سفیان صار إلی الطائف فنزل علی خمار یقال له أبو مریم السلولی وکانت لأبی مریم بعد صحبة فقال أبو سفیان لأبی مریم بعد أن شرب عنده: قد اشتدت بی العزوبة فالتمس لی بغیا قال هل لک فی جاریة الحارث بن کلدة سمیة امرأة عبید قال هاتها...فجاء بها إلیه فوقع لها فولدت زیادا)(3).


1- الغدیر للشیخ الأمینی ج 10 ص 225 __ 226 نقلا عن المحاسن والمساوئ للبیهقی ج1 ص58.
2- الإصابة لابن حجر ج2 ص 528.
3- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج19 ص 173.

ص: 49

عقدة الحقارة والشعور بالنقص فی شخصیة زیاد بن أبیه

فنشأ زیاد بن أبیه فی وسط هذه الأجواء الموبوءة یرتع وینمو فی أحضان الرذیلة ویتربی فی حجر امرأة قد تبین حالها فیما مر، فکان من الطبیعی أن یتأثر زیاد نفسیا وعاطفیا بتلک الأجواء التی ترعرع فیها، ولا ینبغی أن ننسی النظرة الانتقاصیة السلبیة التی کان المجتمع ینظر من خلالها إلی زیاد وأمثال زیاد، فترعرع زیاد وفی نفسه ألوان من الإمراض والعقد النفسیة والاجتماعیة، فلم یستطع أن یتخطاها إلی آخر یوم من أیام حیاته، وما التناقضات التی ظهرت فی أفعال زیاد وأقواله التی سیتضح بعضها فی الصفحات القادمة إلا نتیجة تلک العقدة والشعور بالنقص والحقارة الاجتماعیة.

المیزات الفریدة فی شخصیة زیاد بن أبیه
اشارة

کانت شخصیة زیاد بن أبیه تتأرجح ما بین حافزین أو قوتین ان صح التعبیر، حافز وقوة تشده إلی الأرض وتضع من قدره دینیا واجتماعیا، وهذه القوة هی عقدة الحقارة التی کان یعیشها زیاد نتیجة الضحالة الأسریة والنسبیة التی اتضحت فیما سبق.

وقوة أخری کانت تجذبه نحو التکامل والرقی وهذه القوة کانت تتمثل فی مجموعة من الصفات التی میزته عن بقیة أولئک الذین یسقطون فی نفس ظروفه وینشأون فی نفس بیئته التی نشأ فیها، فقلما بل یکاد یکون نادرا ان یبتلی إنسان بمثل ظروف وتربیة زیاد بن أبیه ویتمکن بعد ذلک ان یکون کاتبا خطیبا وسیاسیا إداریا من الطراز الأول، یعتمده الأمراء ویستمیله الحکام کل یریده لنفسه، ویتسلق بفضل تلک الإمکانیات الفریدة أعلی مناصب الدولة الإسلامیة ولعشرات السنین.

ص: 50

ونستطیع ان نتلمس هذه الصفات الاستثنائیة من خلال النصوص التالیة:

أولا: کان یعد من دهاة العرب

أخرج ابن عساکر عن الشعبی قوله: (دهاة العرب أربعة معاویة بن أبی سفیان وعمرو بن العاص والمغیرة بن شعبة وزیاد)(1).

وعن العینی فی کتابه عمدة القاری: (وزیاد لیست له صحبة ولا روایة، وکان من دهاة العرب وفصحائهم، مات سنة ثلاث وخمسین)(2).

وقال ابن عبد البر فی الاستیعاب: (زیاد بن أبی سفیان ویقال زیاد بن أبیه وزیاد ابن أمه وزیاد بن سمیة ... ویکنی أبا المغیرة لیست له صحبة ولا روایة وکان رجلا عاقلا فی دنیاه داهیة خطیبا له قدر وجلالة عند أهل الدنیا)(3).

ثانیا: کان خطیبا مفوها

عن ابن عساکر فی تاریخ دمشق: (عن إسماعیل عن مجالد عن الشعبی قال ما رأیت أحدا أخطب من زیاد)(4).

وعن ابن عبد البر فی الاستیعاب قال: (عن ابن عباس قال بعث عمر بن الخطاب زیادا فی إصلاح فساد وقع فی الیمن فرجع من وجهه وخطب خطبة لم یسمع الناس مثلها فقال عمرو بن العاص أما والله لو کان هذا الغلام قرشیا لساق العرب بعصاه)(5).


1- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 19 ص 182.
2- عمدة القاری للعینی ج 13 ص 208.
3- الاستیعاب لابن عبد البر ج 2 ص 523 __ 524.
4- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 19 ص 183.
5- الاستیعاب لابن عبد البر ج 2 ص 525.

ص: 51

ثالثا: کان کاتبا لأربعة من الولاة قبل ان یصبح بنفسه والیا

عن ابن عساکر قال: (کتب زیاد بن أبی سفیان لأبی موسی الأشعری وکتب لعبد الله بن عامر بن کریز وکتب للمغیرة بن شعبة وکتب لعبد الله بن العباس کتب لهؤلاء کلهم علی البصرة)(1).

وعنه أیضا: (قال أبو الحسن الکوفی کتب زیاد بن أبی سفیان لأربعة علی البصرة لأبی موسی الأشعری ولعبد الله بن عامر بن کریز والمغیرة بن شعبة ولعبد الله ابن العباس)(2).

رابعا: کانت له خبرة بقمع التمردات والانتفاضات الشعبیة

مر فیما سبق قول ابن عبد البر فی الاستیعاب: (عن ابن عباس قال بعث عمر ابن الخطاب زیادا فی إصلاح فساد وقع فی الیمن فرجع من وجهه وخطب خطبة لم یسمع الناس مثلها فقال عمرو بن العاص أما والله لو کان هذا الغلام قرشیا لساق العرب بعصاه)(3).

وعن الطبری فی تاریخه: (عن أیوب بن موسی قال حدثنی شیخ من أهل إصطخر قال سمعت أبی یقول أدرکت زیادا وهو أمیر علی فارس وهی تضرم نارا فلم یزل بالمداراة حتی عادوا إلی ما کانوا علیه من الطاعة والاستقامة لم یقف موقفا للحرب وکان أهل فارس یقولون ما رأینا سیرة أشبه بسیرة کسری أنوشروان من سیرة هذا العربی فی اللین والمداراة والعلم بما یأتی قال ولما قدم زیاد فارس بعث إلی


1- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 19 ص 169.
2- راجع المصدر السابق.
3- الاستیعاب لابن عبد البر ج 2 ص 525.

ص: 52

رؤسائها فوعد من نصره ومناه وخوف قوما وتوعدهم وضرب بعضهم ببعض ودل بعضهم علی عورة بعض وهربت طائفة وأقامت طائفة فقتل بعضهم بعضا وصفت له فارس فلم یلق فیها جمعا ولا حربا وفعل مثل ذلک بکرمان)(1).

وقال ابن الأثیر: (لما قتل ابن الحضرمی واختلف الناس علی علی طمع أهل فارس وکرمان فی کسر الخراج فطمع أهل کل ناحیة وأخرجوا عاملهم وأخرج أهل فارس سهل بن حنیف فاستشار علی الناس فقال له جاریة بن قدامة ألا أدلک یا أمیر المؤمنین علی رجل صلب الرأی عالم بالسیاسة کاف لما ولی؟ قال من هو قال زیاد فأمر علی ابن عباس أن یولی زیادا فسیره إلیها فی جمع کثیر فوطئ بهم أهل فارس وکانت قد اضطربت فلم یزل یبعث إلی رؤوسهم یعد من ینصره ویمنیه ویخوف من امتنع عنه وضرب بعضهم ببعض فدل بعضهم علی عورة بعض وهربت طائفة وأقامت طائفة فقتل بعضهم بعضا وصفت له فارس ولم یلق منهم جمعا ولا حربا وفعل مثل ذلک بکرمان ثم رجع إلی فارس وسکن الناس واستقامت له ونزل إصطخر وحصن قلعة تسمی قلعة زیاد قریب إصطخر)(2).

ولعل هذه الصفة والمیزة هی إحدی الأسباب القویة التی دعت معاویة بن أبی سفیان إلی إستلحاقه وإیکال ولایة الکوفة والبصرة إلیه، لان الکوفة کانت تعدّ معقل المتمردین علی حکم معاویة بن أبی سفیان.

استغلال معاویة لعقدة الحقارة والشعور بالنقص التی فی شخصیة زیاد

علی رغم کل تلک الامتیازات التی کان یتمتع بها زیاد بن أبیه والتی من خلالها وصل إلی مراکز مرموقة فی الدولة الإسلامیة، إلا ان زیاداً کان لا یزال یرزح


1- تاریخ الطبری ج 4 ص 105 __ 106.
2- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج 3 ص 381 __ 382.

ص: 53

تحت وطأة عقدة الحقارة النسبیة، فقد کان عدم وجود أب ینتمی له وأصل یرجع إلیه یقض مضجعه وینغص علیه نجاحاته الدنیویة، فهنا کانت تکمن نقطة ضعفه، ومن هنا أیضا دخل إلیه معاویة بن أبی سفیان لعنه الله واستطاع إغواءه وإضلاله.

فزیاد کما عرفنا فی نصی الطبری وابن الأثیر المتقدمین کان عاملا من عمال أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه علی بلاد فارس وکرمان وکان أهلها قد أطاعوه وسلموا له الأمر ودانوا بالولاء لدولة أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، فلما استشهد أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه علی ید ابن ملجم لعنه الله، واختیر الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه إماما وخلیفة للمسلمین بعد أبیه صلوات الله وسلامه علیه، خاف معاویة ان یقف زیاد بن أبیه مع الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه ویعلن له البیعة، وحینئذ سیستعین الإمام الحسن به وبمن هو تحت سلطانه، فیمدده بالأموال والعدة والعدد فی حربه صلوات الله وسلامه علیه مع معاویة بن أبی سفیان، وإذا ضم إلیهم الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه أهل الکوفة أو بعضهم، وبعض أهل البصرة والمدینة فسیتشکل تحت إمرة الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه جیش جرار وقوی لا طاقة لمعاویة علی هزیمته.

فکان ولابد لمعاویة أن یقنع زیاد بن أبیه فی الوقوف إلی جنبه والانضمام إلی صفه وترک التفکیر فی مبایعة الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه، وکانت أفضل وسیلة لتحقیق هذا الغرض والوصول إلی هذه الغایة الخبیثة هی استغلال ذلک النقص والعقدة التی فی قلب زیاد وروحه، فدس إلیه من یمنیه بأن معاویة علیه اللعنة علی أتم استعداد لإلحاقة نسبیا بأبی سفیان وذریته، وفی هذا الصدد یقول ابن الأثیر: (فلما قتل علی وبقی زیاد بفارس خافه معاویة فاستلحقه فی حدیث طویل ترکناه وذلک سنة أربع وأربعین)(1).


1- أسد الغابة لابن الأثیر ج 2 ص 216.

ص: 54

وذکر ابن أبی الحدید ان معاویة قد کتب له مع المغیرة بن شعبة ما نصه: (من أمیر المؤمنین معاویة بن أبی سفیان إلی زیاد بن أبی سفیان، أما بعد فإن المرء ربما طرحه الهوی فی مطارح العطب، وأنک للمرء المضروب به المثل، قاطع الرحم، وواصل العدو...حتی کأنک لست أخی، ولیس صخر بن حرب أباک وأبی... فارجع إلی أصلک، واتصل بقومک، ولا تکن کالموصول بریش غیره، فقد أصبحت ضال النسب. ولعمری ما فعل بک ذلک إلا اللجاج، فدعه عنک، فقد أصبحت علی بینة من أمرک، ووضوح من حجتک، فإن أحببت جانبی، ووثقت بی، فإمرة بإمرة، وإن کرهت جانبی، ولم تثق بقولی ففعل جمیل لا علی ولا لی. والسلام)(1).

فکتب زیاد جواب کتابه بعد ان أغواه المغیرة بن شعبة وأضله: (أما بعد، فقد وصل کتابک یا معاویة مع المغیرة بن شعبة وفهمت ما فیه، فالحمد لله الذی عرفک الحق، وردک إلی الصلة ولست ممن یجهل معروفا، ولا یغفل حسبا... ولکنک إن کنت کتبت کتابک هذا عن عقد صحیح، ونیة حسنة، وأردت بذلک برا، فستزرع فی قلبی مودة وقبولا... فأعطاه معاویة جمیع ما سأله، وکتب إلیه بخط یده ما وثق به، فدخل إلیه الشام، فقربه وأدناه، وأقره علی ولایته، ثم استعمله علی العراق)(2) ولزیادة الرابطة وتوثیق الأواصر ما بین الطرفین (زوج معاویة ابنته من ابنه محمد بن زیاد)(3).

فعلم معاویة من أین تؤکل الکتف ومن أین یرمی زیاداً بمقتله، وبهذا انقلب


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 16 ص 184 __ 185.
2- المصدر السابق ص186.
3- الاستیعاب لابن عبد البر ج 2 ص 526.

ص: 55

زیاد من ابن أبیه إلی ابن أبی سفیان ومن جانب الحق إلی جانب الباطل وتغیرت تبعا لذلک جمیع أقواله وأفعاله، وأصبح یتحرک من دافع الخوف والرهبة من أن یرجع إلی سابق عهده بلا أب ولا نسب، فکان یبذل الغالی والنفیس فی خدمة معاویة وتثبیت ملکه لإرضاء معاویة وإبقاء هذا الاستلحاق، ومعاویة بن أبی سفیان کان یعلم بهذه النوازع النفسیة لزیاد، لذلک وحینما کان یرید إجباره علی فعل معین أو یشجعه علیه، فانه کان یلوح له بمسألة استلحاقه تارة مشجعا وأخری مهددا، فعلی سبیل المثال ننقل للقارئ الکریم کتابا من معاویة إلی زیاد جاء فیه: (وانظر إلی الموالی ومن أسلم من الأعاجم، فخذهم بسنة ابن الخطاب، فإن فی ذلک خزیهم وذلهم أن ینکح العرب فیهم ولا ینکحونهم، وأن یرثوهم العرب ولا یرثوا العرب، وأن یقصر بهم فی عطائهم وأرزاقهم، وأن یقدموا فی المغازی یصلحون الطریق ویقطعون الشجر... فإذا جاءک کتابی هذا فأذل العجم وأهنهم وأقصهم ولا تستعن بأحد منهم، ولا تقض لهم حاجة، فوالله إنک لابن أبی سفیان، خرجت من صلبه)(1).

ونقل العلامة الامینی عن کتاب المجتنی لابن درید قوله: (وفد زیاد علی معاویة فأتاه بهدایا وأموال عظام وسفط مملوء جوهرا لم یر مثله فسر معاویة بذلک سرورا شدیدا، فلما رأی زیاد ذلک صعد المنبر فقال: أنا والله یا أمیر المؤمنین! أقمت لک معر العراق، وجبیت لک مالها، وألفظت إلیک بحرها، فقام یزید بن معاویة فقال: إن تفعل ذلک یا زیاد! فنحن نقلناک من ولاء ثقیف إلی قریش، ومن القلم إلی المنابر، ومن زیاد بن عبید إلی حرب بن أمیة. فقال معاویة: اجلس فداک أبی وأمی)(2).


1- مستدرک سفینة البحار للشیخ علی النمازی الشاهرودی ج 7 ص 109.
2- الغدیر للشیخ الأمینی ج 10 ص 226 نقلا عن کتاب المجتنی لابن درید ص37.

ص: 56

استمرار عقدة النقص والحقارة حتی بعد إستلحاق معاویة إیّاه

لم یطمئن قلب زیاد بن أبیه إلی أمر استلحاقه إلی نسب أبی سفیان؛ لأنه کان یعلم یقینا ان هذا الاستلحاق هو ضحک علی الذقون وان المسلمین وان کانوا یسکتون عنه فی الظاهر خوف السیف ونقمة السلطان إلا أنهم فی الباطن وفی مجالسهم الخاصة یضحکون ویسخرون ویتندرون بأنّ زیاداً قد استرد أباه بعد طول السنین وبعد ان شاب رأسه وسقطت أسنانه، فأراد زیاد بدهائه أن ینتزع الاعتراف بنسبه الجدید وترسیخه بشتی الوسائل والطرق ولا سیما بالدینار والدرهم، وفیما یأتی جملة من هذه المحاولات الیائسة التی کان یتشبث بها زیاد بن أبیه.

منها ما أخرجه ابن عساکر فی تاریخ مدینة دمشق: (مر زیاد بن سمیة ابن أبی سفیان وهو وال علی البصرة بأبی العربان المخزومی وهو بمجلس فیه جماعة من قریش وهو مکفوف البصر قال أبو العربان ما هذه الجلبة قالوا زیاد بن أبی سفیان قالوا والله ما ترک أبو سفیان إلا یزید ومعاویة وعتبة وعنبسة وحنظلة ومحمداً فمن أین جاء زیاد؟ فبلغ معاویة کلامه فکتب إلی زیاد أن سد عنا وعنک هذا الکلب فأرسل إلیه زیاد بمائتی دینار فقال أبو العربان وصل الله ابن أخی وأحسن جزاءه قال ثم مر به زیاد من الغد فسلم فبکی أبو العربان فقال ما یبکیک قال عرفت حزم صوت أبی سفیان فی صوت زیاد)(1).

ومنها ما أخرجه ابن شیبة فی کتابه المصنف قال: (حدثنا حسین بن علی عن أبی موسی قال: کتب زیاد إلی عائشة أم المؤمنین «من زیاد بن أبی سفیان» رجاء أن تکتب إلیه «ابن أبی سفیان» قال: فکتبت «من عائشة أم المؤمنین إلی زیاد ابنها»)(2).


1- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 19 ص 177 __ 178.
2- المصنف لابن أبی شیبة الکوفی ج 7 ص 248.

ص: 57

 ولکن هذا الموقف من عائشة قد تغیر تبعا لتغیر المصلحة، فقد أخرج محمد بن سعد فی الطبقات الکبری: (أخبرنا موسی بن إسماعیل قال حدثنا رجل من قریش یقال له محمد بن الحارث أن مرة صاحب نهر مرة أتی عبد الرحمن بن أبی بکر وکان مولاهم فسأله أن یکتب له إلی زیاد فی حاجة له فکتب من عبد الرحمن إلی زیاد ونسبه إلی غیر أبی سفیان فقال لا أذهب بکتابک هذا فیضرنی قال فأتی عائشة فکتبت له من عائشة أم المؤمنین إلی زیاد بن أبی سفیان قال فلما جاءه بالکتاب قال له إذا کان غدا فجئنی بکتابک قال وجمع الناس فقال یا غلام اقرأه قال فقرأه من عائشة أم المؤمنین إلی زیاد بن أبی سفیان قال فقضی له حاجته)(1).

 ولا یجب ان نغفل دور الرواة المأجورین فی تثبیت ما یریده الحاکم وولاته، فقد أخرج ابن عساکر قول احد هؤلاء الرواة المأجورین وهو یحاول جاهدا ان یدخل أولاد زیاد بن أبیه ضمن قریش وبیوتها فنراه یقول کذبا: (أنا الأحوص بن المفضل ابن غسان نا(2) أبی قال کان یقال أربعة کلهم عبد الرحمن وکلهم عابد وکلهم من قریش، عبد الرحمن بن زیاد بن أبی سفیان، وعبد الرحمن بن خالد بن الولید، وعبد الرحمن بن أبان بن عثمان، وعبد الرحمن بن یزید بن معاویة)(3).

والعجیب ان زیاد بن ابیه کان علی رغم علمه وعلم جمیع العالمین بهویة أمه سمیة وتاریخها الطویل فی محافل الفجور والمعصیة وحقیقة نسبها غیر العربی نراه یصر وبکل وقاحة ان نسب أمه کان یعود إلی قریش أیضا فقد أخرج العلامة الأمینی نقلا


1- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 7 ص 99 __ 100.
2- عبارة (أنا) أو (نا) مختصرة لقولهم (حدثنا) وهی مشهورة الاستعمال فی کتب الروایة والحدیث فتنبه.
3- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 36 ص 72 __ 73.

ص: 58

عن الاستیعاب والأغانی وغیرهما: (قال أبو عبیدة: کان زیاد یزعم أن أمه سمیة بنت الأعور من بنی عبد شمس ابن زید مناة بن تمیم فقال ابن مفرغ یرد ذلک علیه:

فأقسم ما زیاد من قریش               ***        ولا کانت سمیة من تمیم

ولکن نسل عبد من بغی                ***        عریق الأصل فی النسب اللئیم)(1)

حکومة زیاد علی الکوفة إحدی أسباب حدوث فاجعة عاشوراء

تبین لنا سابقا ان لولا سمیة أم زیاد والتقاؤها المشؤوم بأبی سفیان فی ذلک الجو المنحرف الذی تقدم ذکره لما أنتج وجود طفل غیر شرعی ولدت معه أنواع من العقد النفسیة والاجتماعیة، وکلما کبر هذا الطفل کبرت معه عقده واشتدت، وتأصلت فی نفسه حالة الکراهیة والحقد علی مجتمع کان یشعره بطریقة أو بأخری بحقیقة أصله وانتمائه النسبی لأمّ کان یتداولها الرجال، ولولا هذا النقص الحاد وتلک الحقارة النفسیة والاجتماعیة التی کان یعیشها زیاد لما استطاع معاویة استغلاله وإخضاعه وتسییره کیفما شاء وأحب، ولولا خضوعه وتسلیمه لمعاویة لما استلحقه ونسبه إلی أبیه، ولولا هذا الاستلحاق لما ولاه معاویة وسلطه علی رقاب الناس ومقدراتهم ولا سیما أهل العراق، ولولا هذا التسلط والقهر والاضطهاد الذی مارسه زیاد بن أبیه ضد شیعة أهل البیت بحیث أخلی الکوفة والبصرة من أکثرهم فقتل خیارهم وصلب أهل النفوذ منهم واخذ الناس علی الظنة والتهمة، فأخلی ارض الکوفة وربوعها من أنصار أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وموالیهم، لأنه کان بهم عارفاً بصیراً، لأنه وقبل التحاقه بمعاویة کان یعد واحدا منهم، فلم یبق فی الکوفة فی أیامه منهم إلا القلة النادرة، والباقون کانوا ما بین مداهن وساکت وخانع لا یدفع بهم ضیم ولا یشد بهم أزر.


1- الغدیر للشیخ الأمینی ج 10 ص 223.

ص: 59

لذلک وحینما قدم الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه إلی کربلاء لم ینصره من أهلها إلا النادر، لان زیاداً ومن بعده ابنه عبید الله لعنهما الله کانا قد أخلیا ارض الکوفة من الأنصار، فلم یبق منهم إلا المتستر بدینه وإخلاصه لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیه من أمثال حبیب وزهیر بن القین وبقیة الأنصار من أهل الکوفة، فلو ان زیاد بن أبیه علیه اللعنة کان قد ترک حجر بن عدی وأصحابه وغیرهم من الشجعان البواسل فلم یستأصلهم لما توانی هؤلاء الأبطال عن الوقوف مع الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه فی ثورته، ولتغیرت الکثیر من موازین الصراع والقوی لصالح الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ونهضته.

وقد احتفظ لنا التاریخ بعدة من الشواهد المصرحة والموضحة لقسوة زیاد وشدته وعظیم إجرامه بحق شیعة أهل البیت وأنصارهم نختار منها الآتی:

قال ابن أبی الحدید المعتزلی: (روی أبو الحسن علی بن محمد بن أبی سیف المداینی من فضل أبی تراب وأهل بیته، فقامت الخطباء فی کل کورة وعلی کل منبر یلعنون علیا ویبرأون منه ویقعون فیه وفی أهل بیته، وکان أشد الناس بلاء حینئذ أهل الکوفة لکثرة من بها من شیعة علی علیه السلام فاستعمل علیهم زیاد بن سمیة وضم إلیه البصرة فکان یتتبع الشیعة وهو بهم عارف؛ لأنه کان منهم أیام علی علیه السلام فقتلهم تحت کل حجر ومدر وأخافهم، وقطع الأیدی والأرجل، وسمل العیون، وصلبهم علی جذوع النخل، وطردهم وشردهم عن العراق، فلم یبق بها معروف منهم)(1).

کما قتل وصلب جملة من أصحاب الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، منهم


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج11 ص44 ذکر بعض ما منی به آل البیت من الأذی والاضطهاد.

ص: 60

میثم التمار وجویریة بن مسهر ومنهم مسلم بن زیمر و عبد الله بن نجی الحضرمیین، ومنهم رشید الهجری، ومنهم عمرو بن الحمق الخزاعی، حیث قتله وحبس امرأته سنتین فی سجن دمشق، وکان سعید بن سرح شیعة لعلی صلوات الله وسلامه علیه فطلبه زیاد وأخافه فأتی سعید الحسن بن علی صلوات الله وسلامه علیه مستجیرا به فوثب زیاد علی أخیه وولده وامرأته فحبسهم واخذ ماله وهدم داره، فکتب إلیه الإمام الحسن فی أمر سعید ابن سرح، فأجابه زیاد بجواب یعکس عظیم حقده وبغضه للإمام الحسن وشیعته وموالیه جاء فیه: (من زیاد بن أبی سفیان إلی الحسن بن فاطمة: أما بعد: فقد أتانی کتابک تبدأ فیه بنفسک قبلی وأنت طالب حاجة وأنا سلطان وأنت سوقة کتبت إلی فی فاسق لا یؤبه به، وشر من ذلک تولیه أباک وإیاک، وقد علمت أنک أدنیته إقامة منک علی سوء الرأی ورضی منک بذلک، وأیم الله لا تسبقنی به، ولو کان بین جلدک ولحمک، وإن نلت بعضک فغیر رفیق بک ولا مرع علیک، فإن أحب لحم إلی أن آکل منه اللحم الذی أنت منه، فسلمه بجریرته إلی من هو أولی به منک، فإن عفوت عنه لم أکن شفعتک فیه، وإن قتلته لم أقتله إلا لحبه أباک الفاسق، والسلام)(1).

ثم ولولا ولایة زیاد بن أبیه وقسوته علی ارض العراق وأهلها لما کانت بنو أمیة تعرف ولده المشؤوم عبید الله علیه اللعنة، لان النصوص التاریخیة تؤکد وتوضح ان الاهتمام بعبید الله بن زیاد کان فی أیام معاویة بن أبی سفیان علیهما اللعنة، فعن ابن عساکر عن: (ثابت بن عبد الرحمن قال کتب معاویة بن أبی سفیان إلی زیاد إذا جاءک کتابی فأوفد إلی ابنک عبید الله فأوفده علیه فما سأله عن شیء إلا أنفذه...)(2).

وأخرج بن عساکر أیضا: (عن بلال بن أبی رجاء قال ولی معاویة عبد الله بن


1- وفیات الأعیان وأنباء أبناء الزمان لابن خلکان ج6 ص360.
2- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 37 ص 437 __ 438.

ص: 61

عمرو بن غیلان بن سلمة الثقفی ستة أشهر علی البصرة ثم عزله ثم ولی عبید الله بن زیاد البصرة سنة خمس وخمسین فلم یزل والیا حتی مات معاویة بدمشق فلما قام یزید بن معاویة أقر عبید الله بن زیاد علی البصرة وضم إلیها الکوفة)(1).

وقد حمل الشاعر دعبل الخزاعی فی قصیدته التی ألقاها فی مجلس الإمام الرضا صلوات الله وسلامه علیه آل زیاد الکثیر من جرائم یوم عاشوراء وما وقع فیها من أمور فادحة ومصائب عظیمة حیث قال فی إحدی قصائده الرائعة:

دیار رسول الله أصبحن بلقعا         ***        وآل زیاد تسکن الحجرات

وآل رسول الله تدمی نحورهم      ***        وآل زیاد آمنوا السربات

وآل رسول الله تسبی حریمهم       ***        وآل زیاد ربة الحجلات

وآل رسول الله نحف جسومهم     ***        وآل زیاد غلظ القصرات

إذا وتروا مدوا إلی واتریهم          ***        أکفا عن الأوتار منقبضات

فلو لا الذی أرجوه فی الیوم أو غد               ***        تقطع نفسی أثرهم حسرات(2)

ومن سماع الإمام الرضا صلوات الله وسلامه علیه لهذه الأبیات وعدم رده علیها وتصحیحه إیاها نکتشف الإقرار من قبل المعصوم علی صحة ما جاء فی أبیات الشاعر دعبل الخزاعی.

حکومة زیاد سبب لإیجاد حکومة ابنه عبید الله بن زیاد

ولولا زیاد بن أبیه ووقوفه مع بنی أمیة الشجرة الملعونة فی القرآن، لما قرب أولاده وحفدته وتسلموا مناصب سیادیة فی الدولة الأمویة الغاشمة، فحموا لهم


1- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 37 ص 437 __ 438.
2- دیوان دعبل الخزاعی: ص63.

ص: 62

ممالیکهم وعبدوا لهم الطریق وذللوا لهم العقبات وأرضخوا لهم العباد وأخضعوا لهم کل معارض لحکمهم، وقد احتفظ لنا التاریخ بذکر مجموعة منهم نذکر فیما یأتی بعضهم لعنهم الله تعالی.

فمنهم عبید الله بن زیاد قاتل الحسین بن علی صلوات الله وسلامه علیهما، ومنهم زیاد بن سلم بن زیاد، ومنهم أبو حرب سلم بن زیاد والی خراسان فی زمن یزید بن معاویة لعنهما الله، ومنهم عباد بن زیاد بن أبیه زوج رملة بنت یزید بن معاویة، ومنهم محمد ابن عبد الله بن خالد بن عباد بن زیاد کان یمسک لآل أمیة بعض أعمال الشام، ومنهم معاویة بن إسحاق بن عباد بن زیاد بن أبیه، ومنهم یزید بن إسحاق بن عباد بن زیاد، وهذان کانا أیضا من عمال بنی أمیة علی بعض مناطق الشام وقراها، وقد تتبعت ما وقع بیدی من أولاد زیاد بن أبیه فلم أجدهم إلا من أعوان الظلمة بل من نفس الظلمة وقد استعان بهم آل أمیة فی حروبهم ونزاعاتهم وأعمالهم المشینة بحق المسلمین، فاستحقوا جمیعهم اللعن کما ورد التصریح به فی هذه الفقرة الشریفة من الزیارة.

المبحث الرابع: لماذا استعمل أمیر المؤمنین زیاداً وهو یعلم أصله وعاقبته

لا یخفی علی معتقد بمذهب أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ان الإمام علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه وجمیع أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین یعلمون بتعلیم من الله سبحانه وتعالی ما یخفی عن بقیة الناس العادیین، وقد ورد فی کتب الحدیث روایات کثیرة تحکی هذه الحقیقة.

وعلیه فیکون الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه یعلم بتعلیم من الله سبحانه وتعالی بحقیقة زیاد بن أبیه وما تخفیه نفسه وینعقد علیه ضمیره، وبما سیصدر منه من أفعال مشینة وجرائم خطیرة بحق المؤمنین والموالین، ویترتب علی کل هذا سؤال بدیهی

ص: 63

وهو: لماذا إذن استعمله أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه علی ولایة أرض خراسان وکرمان وهو یعلم بما ستؤول إلیه عاقبته؟.

أقول: ان الأسباب التی حدت بأمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه إلی استعمال زیاد ابن أبیه کثیرة یمکن إرجاعها إلی سببین رئیسین هما:

 السبب الأول: یعود إلی زیاد بن أبیه نفسه، فالإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه واحدة من أهم وظائفه __ بوصفه إماماً منصوباً من قبل الله سبحانه وتعالی ولطفاً لجمیع خلقه __ هی تربیة الأمة بجمیع أفرادها ومحاولة استصلاح من یکون قابلا للاستصلاح منهم، وزیاد بن أبیه کان یملک من الطاقات والقدرات ما تمیزه عن بقیة أقرانه وقد تحدثنا عن بعض منها سابقا، ولکنه کان یعانی من نقص روحی وعقدة اجتماعیة تقدم توضیحها سابقا، والإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه حاول الاستفادة من امتیازاته لخدمة المجتمع من جهة، وحاول أیضا إیصال الخیر والنفع لشخص زیاد بن أبیه واستصلاحه وسد فراغ النقص فی داخل نفسه، فأوکل إلیه مهمة إطفاء وتهدئة الذین خرجوا علی دولة أمیر المؤمنین فی ارض فارس وکرمان، وفی هذا الفعل خدمة جلیلة للمجتمع، وفی المقابل ابعد زیاد بن أبیه عن ارض العرب التی کان یشعر فیها بالضعف والامتهان والحقارة بسبب عقدة النسب، وأرسله إلی ارض بکر لا تعرفه بجمیع تفاصیله لیبدأ فیها بدایة جدیدة تخفف آلامه ومعاناته وتساعد علی علاجه من أمراضه وأزماته النفسیة مع مرور الوقت، فیصبح بذلک إنسانا فعالا خدوما یستغل طاقاته لخدمة المجتمع بعیدا عن کل خلفیة نفسیة معقدة تستدعی فیه حالة حب الانتقام والثأر والجریمة.

فالإمام صلوات الله وسلامه علیه کان ینظر إلی زیاد بن أبیه بأنه إنسان مریض یتطلب من الدولة العلویة الجدیدة الرعایة والاهتمام فی سبیل إزالة آلامه أو التخفیف من

ص: 64

معاناته، وفی المقابل کان ینظر إلیه بأنه إنسان لدیه من الإمکانات ما یمکن ان یستغل فی خدمة المجتمع ورقیه وتکامله، فکانت ولایته علی ارض فارس وکرمان خطوة تحقق هاتین الفائدتین.

ثم ان الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه بفضل علمه وحکمته کان متیقنا من ان زیاد بن أبیه لو لم یتم احتواؤه من قبل دولة الحق والعدل دولة أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه فانه وبلا أدنی شک سیستغل ویسخر من قبل دولة معاویة دولة الباطل والجور، وستکون العاقبة اشد والخسارة اکبر، وسیتضرر المجتمع أکثر بانضمام زیاد إلی معاویة، وسیخسر زیاد نفسه وسیقع فی مستنقع معاویة وآل أمیة، فکانت الحکمة قاضیة باستعمال زیاد بن أبیه لفائدته الشخصیة من جهة ولفائدة المجتمع من جهة أخری.

السبب الثانی: والذی یعود إلی الظرف الحرج والصعب الذی کان یعیشه أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه فی تلک الحقبة الزمنیة، فإن أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه لما وصلت إلیه الخلافة ونحی ولاة عثمان بن عفان عن ولایاتهم ومناصبهم بعث مکانهم ثقاته من أصحابه لیحلوا محل ولاة الجور ولیعیدوا تربیة الأمة علی وفق التعالیم الجدیدة للدولة الجدیدة.

ولکن أعداء أمیر المؤمنین ومناوئیه أشعلوا بوجهه نیران الفتن والحروب، فما هی إلا أشهر قلائل حتی خرج علیه جیش النکث والغدر، جیش عائشة وجملها، ثم تبعته حرب صفین وما کان أشدها وأشرسها من حرب أکلت الأخضر والیابس، ثم فتنة الخوارج التی استتبعتها حرب النهروان، واستمرت هذه التقلبات وتلک المؤامرات یتبع بعضها بعضا إلی ان انتهت بمؤامرة مقتل الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه.

ص: 65

وفی وسط هذه الظروف الصعبة کان الإمام أمیر المؤمنین بأشد الحاجة إلی رجال مخلصین یشد بهم أزره ویرمی بهم عدوه ویستعین بهم علی قیادة جیشه یملکون شعبیة فی أوساط الجماهیر لیثیروا فی نفوسهم الهمم ویستنهضوهم فی أوقات الحاجة والشدة، فاستدعی من کان من أصحابه وثقاته علی ولایات المملکة الإسلامیة لیستعین بهم علی نصرته، ثم یرسل مکانه من یدیر أمر تلک المملکة مع المحافظة علی نظام الرقابة الشدیدة والصارمة علی هؤلاء البدلاء.

وکشاهد علی هذه الحقیقة نستعرض للقارئ الکریم ما نقل من استدعائه لعمر بن أبی سلمة المخزومی، وکان عامله علی البحرین، فعزله واستعمل النعمان بن عجلان الزرقی مکانه: (أما بعد، فإنی قد ولیت النعمان بن عجلان الزرقی علی البحرین، ونزعت یدک بلا ذم لک، ولا تثریب علیک، فلقد أحسنت الولایة، وأدیت الأمانة فأقبل غیر ظنین ولا ملوم ولا متهم ولا مأثوم، فقد أردت المسیر إلی ظلمة أهل الشام، وأحببت أن تشهد معی، فإنک ممن أستظهر به علی جهاد العدو وإقامة عمود الدین، إن شاء الله)(1).

فکانت ولایة زیاد من هذا الباب، فمن جهة أرسل الإمام صلوات الله وسلامه علیه زیادا إلی فارس ولم یرسل إلیها أحد أصحابه الذین یستعین بهم فی حربه الداخلیة، وبذلک وفر قائدا من قادة جیشه فهو مکسب عسکری، ومن جهة ثانیة استطاع زیاد إخماد الثورة التی کانت فی بلاد فارس وکرمان وهو مکسب عسکری ثان، ومن جهة ثالثة کان أمیر المؤمنین شدید الحیطة والحذر والمتابعة لکل فعل من أفعال زیاد فقد وضع علیه العیون لیخبروه عن کل صغیرة وکبیرة وکل خطوة یخطوها، فإذا ما رأی منه تقصیراً أو خیانة صغیرة أو کبیرة نبهه وحذره وربما هدده، کما فی کتابه الذی کتبه


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 16 ص 173

ص: 66

صلوات الله وسلامه علیه إلی زیاد حیث جاء فیه: (أما بعد، فإن رسولی أخبرنی بعجب زعم أنک قلت له فیما بینک وبینه: إن الأکراد هاجت بک، فکسرت علیک کثیرا من الخراج، وقلت له: لا تعلم بذلک أمیر المؤمنین. یا زیاد وأقسم بالله انک لکاذب، ولئن لم تبعث بخراجک لأشدن علیک شدة تدعک قلیل الوفر، ثقیل الظهر)(1).

وسیاسة التشدید علی ولاته ومراقبتهم ومحاسبتهم والاقتصاص منهم ان استلزم الأمر کانت الصفة البارزة التی میزت حکومته عن حکومة من سبقه من الحکام، فقد کتب إلی احد عماله الآتی: (بلغنی عنک أمر إن کنت فعلته فقد أسخطت إلهک وعصیت إمامک انک تقسم فیء المسلمین الذی حازته رماحهم وخیولهم، وأریقت علیه دماؤهم، فیمن إعتامک من أعراب قومک، فو الذی فلق الحبة، وبرأ النسمة، لئن کان ذلک حقا لتجدن لک علی هوانا، ولتخفن عندی میزانا، فلا تستهن بحق ربک، ولا تصلح دنیاک بمحق دینک، فتکون من الأخسرین أعمالا)((2).

 وکتب إلی آخر: (فلما أمکنتک الشدة فی خیانة الأمة أسرعت الکرة، وعاجلت الوثبة، واختطفت ما قدرت علیه من أموالهم المصونة لأراملهم وأیتامهم اختطاف الذئب الأزل دامیة المعزی الکسیرة، فحملته إلی الحجاز رحیب الصدر بحمله، غیر متأثم من أخذه، کأنک حدرت إلی أهلک تراثک من أبیک وأمک، فسبحان الله أما تؤمن بالمعاد أوما تخاف نقاش الحساب ... کیف تسیغ شرابا وطعاما، وأنت تعلم أنک تأکل حراما، وتشرب حراما، وتبتاع الإماء وتنکح النساء من أموال


1- تاریخ الیعقوبی ج 2 ص 204 خلافة أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب.
2- () شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج16 ص175 من کتاب له علیه السلام إلی مصقلة بن هبیرة الشیبانی.

ص: 67

الیتامی والمساکین والمؤمنین والمجاهدین، الذین أفاء الله علیهم هذه الأموال، وأحرز بهم هذه البلاد فاتق الله واردد إلی هؤلاء القوم أموالهم، فإنک إن لم تفعل ثم أمکننی الله منک لأعذرن إلی الله فیک، ولأضربنک بسیفی الذی ما ضربت به أحدا إلا دخل النار، ووالله لو أن الحسن والحسین فعلا مثل الذی فعلت، ما کانت لهما عندی هوادة، ولا ظفرا منی بإرادة، حتی آخذ الحق منهما، وأزیح الباطل من مظلمتهما)(1).

وقد کان یرسل العیون لمتابعة ولاته من حیث لا یشعرون فیکتب له ذلک العین بجمیع ما یقع علیه نظره من سلبیات وایجابیات کما کتب صلوات الله وسلامه علیه إلی کعب بن مالک: (أما بعد، فاستخلف علی عملک، وأخرج فی طائفة من أصحابک حتی تمر بأرض کورة السواد فتسأل عن عمالی وتنظر فی سیرتهم فیما بین دجلة والعذیب، ثم ارجع إلی البهقباذات فتول معونتها، واعمل بطاعة الله فیما ولاک منها، واعلم أن کل عمل ابن آدم محفوظ علیه مجزی به، فاصنع خیرا صنع الله بنا وبک خیرا، وأعلمنی الصدق فیما صنعت، والسلام)(2) .

فمع کل هذا التشدید والمراقبة والإحصاء لکل صغیرة وکبیرة علی الولاة لا یضر تولی زیاد بن أبیه ولا غیره ما دامت الخیانة منهم مأمونة، والمتابعة لهم مستمرة، وحقوق المسلمین واصلة وحدودهم وثغورهم آمنة.


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج16 ص168.
2- تاریخ الیعقوبی ج 2 ص 204 __ 205 خلافة أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب.

ص: 68

ص: 69

وَآلَ مَرْوَانَ 

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

   1: وَآلَ     2: مَرْوَانَ

المبحث الثالث: آل مروان من موقف العداء إلی مناصب الأمراء

   الحکم بن العاص وأذاه للنبی صلی الله علیه وآله وسلم علی ارض مکة والمدینة

   دور عثمان بن عفان فی صناعة آل مروان وإعلاء نجمهم

   مروان بن الحکم الحاضر فی کل فتنة

   مروان یحرض الناس علی نکث بیعة أمیر المؤمنین

   مروان علی میسرة جیش عائشة یوم الجمل

   مروان یقتل طلحة بسهم أثناء انهزام جیش الجمل

   مروان یشد ملک معاویة ویتولی إدارة ثلاث مناطق إسلامیة مهمة

   مروان یسب الإمام علیّاً صلوات الله وسلامه علیه علی المنبر

   مروان یسب الحسنین ویمنع من دفن الإمام الحسن

   مروان یشارک فی قتل أهل المدینة فی واقعة الحرة

   مواقف مروان قبل وبعد قتل الإمام الحسین

   مروان یحرض معاویة علی قتل الإمام الحسین

   مروان یأخذ من الناس البیعة لیزید

   مروان بن الحکم کان السبب فی خروج الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه خائفا یترقب

   الدولة الأمویة کادت أن تندثر لولا أن مروان وآله أحیوها

   أبناء مروان أئمة الجور وأرباب الضلالة

ص: 70

ص: 71

وَآلَ مَرْوَانَ 

اشارة

وفی هذه الفقرة أیضا مباحث مهمة نتعرض لبعض منها فیما یأتی:

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

الأخبار فی لعن آل مروان کثیرة لا مجال لإحصائها فی هذه العجالة، ولکن کما قال أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه: (ما لا یدرک کله لا یترک کله)، وفیما یأتی جملة من تلک الأحادیث المصرحة بلعن مروان وأبیه وجمیع من یخرج من صلبه إلا المؤمنین وقلیل ما هم، ومن هذه الأخبار ما یأتی:

 قال صاحب السیرة الحلبیة متحدثا عن الحکم والد مروان بن الحکم: (أسلم یوم فتح مکة وکان فی إسلامه شیء، اطلع علی رسول الله صلی الله علیه وسلم من باب بیته وهو عند بعض نسائه بالمدینة، فخرج إلیه صلی الله علیه وسلم...وقال من عذیری من هذه الوزغة لو أدرکته لفقأت عینه ولعنه وما ولد)(1)


1- السیرة الحلبیة للحلبی ج 1 ص 509.

ص: 72

وقال الحاکم النیسابوری: (حدثنی محمد بن صالح بن هانئ ثنا الحسین بن الفضل ثنا مسلم بن إبراهیم ثنا جعفر بن سلیمان الضبعی ثنا علی بن الحکم البنانی عن أبی الحسن الجزری عن عمرو بن مرة الجهنی وکانت له صحبة ان الحکم بن أبی العاص استأذن علی النبی صلی الله علیه وآله فعرف النبی صلی الله علیه وآله صوته وکلامه فقال ائذنوا له علیه لعنة الله وعلی من یخرج من صلبه إلا المؤمن منهم وقلیل ما هم یشرفون فی الدنیا ویضعون فی الآخرة ذوو مکر وخدیعة یعطون فی الدنیا وما لهم فی الآخرة من خلاق. هذا حدیث صحیح الإسناد ولم یخرجاه)(1).

وأخرج الحاکم النیسابوری أیضا: (عن الشعبی عن عبد الله بن الزبیر رضی الله عنهما ان رسول الله صلی الله علیه وآله لعن الحکم وولده. هذا حدیث صحیح الإسناد ولم یخرجاه)(2).

وقال الحاکم النیسابوری بعد ان أخرج وصحح مجموعة من الأحادیث الصریحة بلعن الحکم وما ولد ما نصه: (لیعلم طالب العلم أن هذا باب لم أذکر فیه ثلث ما روی، وأن أول الفتن فی هذه الأمة فتنتهم، ولم یسعنی فیما بینی وبین الله تعالی أن أخلی الکتاب من ذکرهم)(3).

وقال الهیثمی فی مجمع الزوائد:

(وعن الشعبی قال سمعت عبد الله بن الزبیر وهو مستند إلی الکعبة وهو یقول ورب هذه الکعبة لقد لعن رسول الله صلی الله علیه وسلم فلانا وما ولد من صلبه.


1- المستدرک للحاکم النیسابوری ج 4 ص 481.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق ص482.

ص: 73

رواه أحمد والبزار إلا أنه قال لقد لعن الله الحکم وما ولد علی لسان نبیه صلی الله علیه وسلم، والطبرانی بنحوه وعنده روایة کروایة أحمد، ورجال أحمد رجال الصحیح)(1).

وقال العینی فی عمدة القاری: (وروی ابن مردویه عن عبد الرزاق عن أبیه عن مینا، مولی عبد الرحمن بن عوف: أن عائشة رضی الله عنها، قالت لمروان: أشهد أنی سمعت رسول الله صلی الله علیه وسلم، یقول لک ولأبیک ولجدک: إنکم الشجرة الملعونة فی القرآن، وروی ابن أبی حاتم من حدیث عبد الله بن عمرو: أن الشجرة الملعونة فی القرآن الحکم بن أبی العاص وولده)(2).

وقال جلال الدین السیوطی فی الدر المنثور: (وأخرج ابن أبی حاتم عن ابن عمر رضی الله عنهما ان النبی صلی الله علیه وسلم قال رأیت ولد الحکم بن أبی العاص علی المنابر کأنهم القردة وأنزل الله فی ذلک وما جعلنا الرؤیا التی أریناک إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة یعنی الحکم وولده)(3).

وهم ملعونون بأدلة أخری عامة قد مر توضیحها من قبل، فهم یندرجون تحت عنوان الدافعین لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عن مقاماتهم والمزیلین لهم عن مراتبهم، ومن القاتلین والأشیاع والأتباع والأولیاء، وهؤلاء جمیعهم قد حقت علیهم اللعنة والخزی الأبدی.


1- مجمع الزوائد للهیثمی ج 5 ص 241.
2- عمدة القاری للعینی ج19 ص30، وراجع أیضا الدر المنثور لجلال الدین السیوطی ج4 ص191.
3- الدر المنثور لجلال الدین السیوطی ج 4 ص 191 ومثله تجده فی فتح القدیر للشوکانی ج3 ص240.

ص: 74

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

1: وَآلَ

الواو هنا عاطفة وما بعدها معطوف علی ما سبق ومعنی الفقرة (ولعن الله آل مروان) وقد مر فی الفقرة السابقة توضیح هذه المفردات لغویا.

2: مَرْوَانَ

و(مَرْوَانَ) الوارد ذکره فی هذه العبارة، هو کما عرفه ابن سعد فی طبقاته بقوله: (مروان بن الحکم بن أبی العاص بن أمیة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصی)(1).

المبحث الثالث: آل مروان من موقف العداء إلی مناصب الأمراء

اشارة

لا یسع الباحث حینما یرید الکلام عن آل مروان أن یغض النظر عن (الحکم ابن أبی العاص) والد مروان، لان الحکم کبیرهم وأصلهم الذی منه ورثت آل مروان العداوة والبغضاء لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وأهل بیته الأطهارصلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ، وبسببه أیضا استحق آل مروان اللعن وهم فی صلبه قبل أن یولدوا ویروا نور الوجود، وبسببه نفی النبی صلی الله علیه وآله وسلم مروان عن أرض المدینة المنورة، وبسببه صار یسمی مروان بطرید رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وابن طریده، ویسمی أولاد مروان أبناء طرید رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ، وبسببه بقیت اللعنة تناله وتنالهم إلی آخر یوم من أیام الدنیا، فالکلام عن الحکم بن أبی العاص کلام عن أصل آل مروان، ومعرفة أخباره ستشارک وبدرجة کبیرة فی معرفة سر آل مروان وکیف انتقل هؤلاء من منزلة الطرید اللعین إلی منزلة الحاکم والأمیر.


1- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 5 ص 35.

ص: 75

الحکم بن العاص وأذاه للنبی صلی الله علیه وآله وسلم علی ارض مکة والمدینة

کانت أرض مکة معقلا من معاقل الطغاة والجبابرة الذین وقفوا وبکل ما أوتوا من قوة بوجه النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ورسالته المبارکة، وقد عد التاریخ مجموعة امتازت بکبیر أذاها وعظیم صدها للنبی صلی الله علیه وآله وسلم ودینه، وقد عرفت هذه المجموعة باسم المستهزئین، قال الحلبی متحدثا عن الحکم بن أبی العاص فی سیرته الحلبیة: (قال ابن عبد البر وکان من المستهزئین الذین قال الله تعالی فیهم ((إِنَّا کَفَیْنَاکَ الْمُسْتَهْزِئِینَ)) أبو جهل وأبو لهب وعقبة بن أبی معیط والحکم بن العاص بن أمیة وهو والد مروان بن الحکم عم عثمان بن عفان والعاص بن وائل)(1)وقد احتفظ التاریخ للحکم بن العاص بأخبار مخزیة وصور مخجلة غیر خافیة علی من یتتبع سیرة النبی صلی الله علیه وآله وسلم أیام دعوته فی مکة.

ولما فتح النبی صلی الله علیه وآله وسلم مکة آخر معقل من معاقل الکفر والإلحاد، وصار طغاة مکة بین حدین إما السیف وإما الإسلام، فاختاروا الإسلام وبعبارة ثانیة اختاروا الاستسلام ظاهرا وأبطنوا الکفر، وتغیر نمط حربهم للرسول صلی الله علیه وآله وسلم ودینه من تجهیز الجیوش ورفع السلاح إلی إثارة الفتن وبث أفکار الانحراف من داخل صفوف المسلمین أنفسهم، وقد نجح هذا الأسلوب الکافر أیما نجاح، وصار هؤلاء المستسلمون یتحینون الفرصة للقضاء والانقضاض علی حیاة النبی صلی الله علیه وآله وسلم وهیبته فی أعین العالم عموما وأصحابه علی وجه الخصوص، وبث السموم فی جسد الإسلام، ففی معرکة حنین وکمثال علی ما ذکرنا ظهرت هذه الحقیقة جلیة لا تقبل الشک والتأویل، قال الیعقوبی فی تاریخه متحدثا عن واقعة حنین بما نصه: (ثم کانت وقعة حنین...فخرج إلیهم رسول الله فی جیش عظیم عدتهم اثنا عشر ألفا: عشرة


1- السیرة الحلبیة للحلبی ج1 ص508.

ص: 76

آلاف أصحابه الذین فتح بهم مکة وألفان من أهل مکة ممن أسلم طوعا وکرها...وکان یوما عظیم الخطب وانهزم المسلمون عن رسول الله حتی بقی فی عشرة من بنی هاشم، وقیل تسعة، وهم: علی بن أبی طالب والعباس بن عبد المطلب... وأبدی بعض قریش ما کان فی نفسه. فقال أبو سفیان: لا تنتهی، والله، هزیمتهم دون البحر، وقال کلدة بن حنبل: الیوم بطل السحر، وقال شیبة بن عثمان: الیوم أقتل محمدا...)(1).

ولم یکن الحکم بن أبی العاص بمستثنی عن هذه القاعدة فقد اثبت تاریخه الطویل بعد فتح مکة بان الإسلام لم یدخل فی قلبه لحظة واحدة، وان الکفر ما زال مخالطا للحمه ودمه إلی آخر ساعة من ساعات حیاته غیر المبارکة، فقد کانت له مع النبی صلی الله علیه وآله وسلم أخبار وأحداث یندی لها جبین الإنسانیة، فقد کان یتجسس علی النبی صلی الله علیه وآله وسلم وهو فی داخل بیته مع نسائه وأهله، حتی أراد النبی صلی الله علیه وآله وسلم فی بعض الأیام ان یفقأ عینه، وکان یمشی خلف النبی صلی الله علیه وآله وسلم یقلده ویعیب علیه مشیته، وکان یقف خلف النبی صلی الله علیه وآله وسلم فإذا ما تکلم النبی صلی الله علیه وآله وسلم بکلام لوی بفمه وغمز بعینیه، یرید بذلک ان یضحک الناس علی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ، أخرج ابن حجر عن: (هند بن خدیجة زوج النبی صلی الله علیه وسلم مر النبی صلی الله علیه وسلم بالحکم فجعل الحکم یغمز النبی صلی الله علیه وسلم بأصبعه فالتفت فرآه فقال اللهم اجعله ورعا(2) فزحف مکانه)(3).

 قال الحلبی: (أسلم یوم فتح مکة وکان فی إسلامه شیء اطلع علی رسول الله


1- تاریخ الیعقوبی ج 2 ص 62 وقعة حنین.
2- وفی بعض الکتب الأخری وزغا بدل ورعا.
3- الإصابة لابن حجر ج 2 ص 91.

ص: 77

صلی الله علیه وسلم من باب بیته وهو عند بعض نسائه بالمدینة فخرج إلیه صلی الله علیه وسلم ... وقال من عذیری من هذه الوزغة لو أدرکته لفقأت عینه ولعنه وما ولد وغربه عن المدینة)(1).

وقال ابن عبد البر فی الاستیعاب: (واختلف فی السبب الموجب لنفی رسول الله صلی الله علیه وسلم إیاه فقیل کان یتحیل ویستخفی ویتسمع ما یسره رسول الله صلی الله علیه وسلم إلی کبار الصحابة فی مشرکی قریش وسائر الکفار والمنافقین فکان یفشی ذلک عنه حتی ظهر ذلک علیه وکان یحکمه فی مشیته وبعض حرکاته إلی أمور غیرها کرهت ذکرها)(2).

فمروان وآل مروان من ظهر ملعون کهذا قد نزلوا، وفی مثل هذه البیوت المبغضة للرسول صلی الله علیه وآله وسلم وأهل بیته الکرام صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین والإسلام عاشوا وتربوا وترعرعوا، ولا یجب أن ننسی دور أمهم الزرقاء التی کانت تعد من ذوات الرایات اللاتی یتداولهن رجال العرب بالزنا والفاحشة، قال ابن الأثیر متحدثا عن مروان بن الحکم ما نصه: (وکان یقال له ولولده بنو الزرقاء یقول ذلک من یرید ذمهم وعیبهم وهی الزرقاء بنت موهب جدة مروان بن الحکم لأبیه وکانت من ذوات الرایات التی یستدل بها علی ثبوت البغاء فلهذا کانوا یذمون بها)(3).

وحینما بلغ الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه فی أحد الأیام ان مروان بن الحکم یسب علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه: (فقام الحسین مغضبا حتی دخل علی مروان فقال له: یا ابن الزرقاء ویا ابن آکلة القمل...)(4).


1- السیرة الحلبیة للحلبی ج 1 ص 509.
2- الاستیعاب لابن عبد البر ج 1 ص 359.
3- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج4 ص194 ذکر صفته __مروان __ ونسبه وأخباره.
4- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج44 ص211.

ص: 78

فمروان وآل مروان أبناء هذا البیت العفن، نشأوا ما بین کفر وفجور، نزلوا من أصلاب اللعناء وتربوا فی حجور المومسات ذوات الرایات، فماذا عسی ان یکون حالهم غیر ما أصبحوا علیه من بغض الأنبیاء وأولاد الأنبیاء والإعانة علی قتلهم وقتالهم؟!.

دور عثمان بن عفان فی صناعة آل مروان وإعلاء نجمهم

لم یکن مروان وأبوه الحکم وأولاده یتصورون ان یعودوا إلی ارض المدینة فی یوم من الأیام، فالنبی صلی الله علیه وآله وسلم بعد ان طرد الحکم وأولاده من أرض یثرب شدد علی عدم رجوعهم إلیها مرة أخری، وحتی الذین تولوا الإمارة والسلطة من بعده صلی الله علیه وآله وسلم وعلی رغم تغییرهم لکثیر من الثوابت النبویة إلا أنهم لم یستطیعوا بحال من الأحوال القبول بعودة الحکم بن العاص إلی المدینة، ولم یسمحوا کذلک بوساطات عثمان بن عفان الذی کان کثیر الإلحاح علی النبی وعلی أبی بکر وعمر بشأن إرجاعهم مرة أخری إلی المدینة، وکم من مرة ومرة اسمعوه الکلام الخشن الشدید بسبب إصراره وإلحاحه علی مسألة کانت فی نظر المسلمین محسومة النتیجة، قال الحلبی متحدثا عن محاولات عثمان الفاشلة: (وقد کان صلی الله علیه وسلم طرده إلی الطائف ومکث به مدة رسول الله صلی الله علیه وسلم ومدة أبی بکر بعد أن سأله عثمان فی إدخاله المدینة فأبی فقال له عثمان عمی فقال عمک إلی النار هیهات هیهات أن أغیر شیئا فعله رسول الله صلی الله علیه وسلم والله لا رددته أبدا فلما توفی أبو بکر وولی عمر کلمه عثمان فی ذلک فقال له ویحک یا عثمان تتکلم فی لعین رسول الله صلی الله علیه وسلم وطریده وعدو الله وعدو رسوله)(1).


1- السیرة الحلبیة للحلبی ج 2 ص 270.

ص: 79

ولکن ما إن وصل عثمان بن عفان إلی دکة الحکم والسیادة حتی خلا له الجو وأدخلهم ارض المدینة علی رغم أهلها من المهاجرین والأنصار، وعلی رغم النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ومن تلاه من الأمراء، قال الحلبی: (فلما ولی عثمان رده إلی المدینة فاشتد ذلک علی المهاجرین والأنصار فأنکر ذلک علیه أعیان الصحابة فکان ذلک من أکبر الأسباب علی القیام علیه)(1).

ولم یکتف عثمان بن عفان بإدخالهم المدینة فحسب، لکنه وزیادة فی إغاظة الصحابة والمعارضین مکنهم وقربهم وزادهم أموالا ونفوذا، قال ابن سعد: (واستعمل أقرباءه وأهل بیته فی الست الأواخر وکتب لمروان بخمس مصر وأعطی أقرباءه المال)(2).

وقال ابن الأثیر: (ثم إن عبد الله بن سعد عاد من إفریقیة إلی مصر وکان مقامه بإفریقیة سنة وثلاثة أشهر...وحمل خمس إفریقیة إلی المدینة فاشتراه مروان بن الحکم بخمسمائة ألف دینار فوضعها عنه عثمان، وکان هذا مما أخذ علیه، وهذا أحسن ما قیل فی خمس إفریقیة فإن بعض الناس یقول: أعطی عثمان خمس إفریقیة عبد الله ابن سعد، وبعضهم یقول: أعطاه مروان بن الحکم، وظهر بهذا أنه أعطی عبد الله خمس الغزوة الأولی وأعطی مروان خمس الغزوة الثانیة التی افتتحت فیها جمیع إفریقیة والله أعلم)(3).

وقال الحلبی: (وکان من جملة ما انتقم به علی عثمان أنه أعطی ابن عمه مروان بن الحکم مائة ألف وخمسین أوقیة)(4).


1- المصدر السابق.
2- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 3 ص 64ذکر المصریین وحصر عثمان.
3- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج 3 ص 91 ذکر انتقاض افریقیة وفتحها ثانیة.
4- السیرة الحلبیة للحلبی ج 2 ص 272.

ص: 80

وروی ابن أبی الحدید: (عن أم بکر بنت المسور، قالت: لما بنی مروان داره بالمدینة، دعا الناس إلی طعامه، وکان المسور ممن دعاه، فقال مروان وهو یحدثهم: والله ما أنفقت فی داری هذه من مال المسلمین درهما فما فوقه، فقال المسور: لو أکلت طعامک وسکت کان خیرا لک. لقد غزوت معنا إفریقیة، وإنک لأقلنا مالا ورقیقا وأعوانا، وأخفنا ثقلا، فأعطاک ابن عمک خمس إفریقیة، وعملت علی الصدقات، فأخذت أموال المسلمین)(1).

ولم یکتف عثمان بن عفان بجعل مروان وإخوته وأبیه من أصحاب الملایین وممن یکسر ذهبهم وفضتهم بالفؤوس علی حساب المسلمین ورغما علی أنوفهم، حتی صیره وأهل بیته من سادات المسلمین وأوکل إلیه منصب کاتب الخلیفة بعد أن زوجه ابنته عائشة بنت عثمان فصار بذلک صهر الحاکم وکاتبه ومن طبقة الأغنیاء وأصحاب الملایین، فصارت لهم بفضل عثمان کلمة مسموعة وسطوة وشکیمة یتصرفون ما یحلو لهم بمقدرات المسلمین وقضایاهم المهمة، من بعد قلتهم وذلتهم وفقرهم وتشردهم.

وقد لعبت الملایین المختلسة من أموال المسلمین والمناصب السیادیة التی أعطیت لمروان وأهل بیته، وبفضل مؤازرة عثمان بن عفان لهم فی تجنید الرواة المأجورین فی محاولة لتلمیع صورة مروان بن الحکم وتحسینها وتغییر نظرة الناس تجاهه وتجاه أهل بیته الملعونین المطرودین، فوضعوا لهم روایات تبیض صفحتهم فجعلوه تارة سید شباب قریش، فی مقابل لقب سید شباب أهل الجنة الذی لقب به کل من الإمام الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما، وتارة أخری وصفوه بالقارئ لکتاب الله الفقیه فی دین الله الشدید فی حدود الله، فقد أخرج ابن عساکر فی تاریخ مدینة دمشق روایة مکذوبة


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 3 ص 37 __ 38.

ص: 81

عن: (محمد بن عبد الله بن عبد الحکم قال سمعت الشافعی یقول: لما انهزم الناس بالبصرة یوم الجمل کان علی بن أبی طالب یسأل عن مروان بن الحکم فقال رجل یا أمیر المؤمنین إنک لتکثر السؤال عن مروان بن الحکم فقال تعطفنی علیه رحم ماسة وهو مع ذلک سید من شباب قریش)(1).

وأخرج ابن عساکر روایة أخری: (عن قبیصة بن جابر عن معاویة أنه قال لما سأله من تری لهذا الأمر بعدک وأما القارئ لکتاب الله الفقیه فی دین الله الشدید فی حدود الله مروان بن الحکم)(2).

وصیروه صاحب فقه وقضاء، قال ابن عساکر عن: (حنبل بن إسحاق قال سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل یقول مروان بن الحکم کان عنده قضاء وکان یتبع قضاء عمر)(3).

فصار مروان بفضل کل هذا یری فی نفسه الأهلیة لقیادة الأمة وزعامتها، وصار یری إمارة عثمان بن عفان إمارته وإمارة أهل بیته، وان کل من یحاول انتزاع الملک من عثمان ومنه، فانه ینتزع حقا من حقوقهم، فتغیرت نظرته إلی نفسه من نظرة الطرید الملعون المبعد بأمر النبی صلی الله علیه وآله وسلم إلی نظرة السید المهاب الذی یجب علی الجمیع إطاعته فی کل ما یأمر وینهی، فصار بفضل دهائه وبفضل الضعف الذی کان یعانیه عثمان بن عفان المدیر الذی یحرک المملکة الإسلامیة باسم عثمان وأختامه، وهذا ما یتضح فی النص التالی الذی نقله الطبری فی تاریخه فحینما اجتمع الناس علی عثمان یستنکرون علیه أفعاله: (خرج مروان إلی الباب والناس یرکب


1- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 57 ص 238.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق ج 57 - ص 239.

ص: 82

بعضهم بعضا فقال ما شأنکم قد اجتمعتم کأنکم قد جئتم لنهب شاهت الوجوه کل إنسان آخذ بإذن صاحبه ألا من أرید جئتم تریدون أن تنزعوا ملکنا من أیدینا اخرجوا عنا أما والله لئن رمتمونا لیمرن علیکم منا أمر لا یسرکم ولا تحمدوا غب رأیکم ارجعوا إلی منازلکم فإنا والله ما نحن مغلوبین علی ما فی أیدینا)(1).

وقد کان مروان احد أهم الأسباب التی أدت إلی مقتل عثمان بن عفان وهو ما حذر منه کل من أمیر المؤمنین ونائلة ابنة الفرافصة زوجة عثمان، قال الطبری: (فجاء علی علیه السلام مغضبا حتی دخل علی عثمان فقال أما رضیت من مروان ولا رضی منک إلا بتحرفک عن دینک وعن عقلک مثل جمل الظعینة یقاد حیث یسار به والله ما مروان بذی رأی فی دینه ولا نفسه وأیم الله إنی لأراه سیوردک ثم لا یصدرک... فلما خرج علی دخلت علیه نائلة ابنة الفرافصة امرأته فقالت أتکلم أو أسکت فقال تکلمی فقالت...وقد أطعت مروان یقودک حیث شاء...فإنک متی أطعت مروان قتلک ومروان لیس له عند الناس قدر ولا هیبة ولا محبة وإنما ترکک الناس لمکان مروان)(2).

مروان بن الحکم الحاضر فی کل فتنة
اشارة

منذ ان رجع مروان بن الحکم من الطائف إلی المدینة لم تکن من فتنة قد نشبت بین مجموعتین من المسلمین إلا ووجدنا مروان بن الحکم کان احد أطرافها، فقد کان


1- تاریخ الطبری ج 3 ص 397 ذکر مسیر من سار إلی ذی خشب من أهل مصر وسبب مسیر من سار إلی ذی المروة من أهل العراق، وراجع أیضا الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج3 ص165 ذکر مسیر من سار إلی حصار عثمان، وراجع أیضا البدایة والنهایة لابن کثیر ج7 ص193 فی ذکر مجیء الأحزاب إلی عثمان للمرة الثانیة.
2- المصدر السابق.

ص: 83

له القدح المعلی فی إذکاء العداوة والبغضاء بین صفوف المسلمین، وقد کان معروفا بین المسلمین بهذه الصفة الخبیثة، فهو الذی اهلک عثمان بن عفان وأورده المنیة کما صرح بذلک الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه ونائلة زوجة عثمان.

مروان یحرض الناس علی نکث بیعة أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه

لما قتل عثمان بن عفان ووصل أمیر المؤمنین إلی الخلافة وثار الثائرون بوجهه ونکث المبایعون بیعتهم، کان مروان بن الحکم یؤلب الجماهیر علی رفض بیعة أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه ویحرض علی بیعة معاویة أو إرجاع الأمور إلی غیر صف أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وقد کتب إلیه معاویة بن أبی سفیان: (...فإذا قرأت کتابی هذا فکن کالفهد لا یصطاد إلا غیلة، ولا یتشازر إلا عن حیلة، وکالثعلب لا یفلت إلا روغانا. واخف نفسک منهم إخفاء القنفذ رأسه عند لمس الأکف، وامتهن نفسک امتهان من ییأس القوم من نصره وانتصاره، وابحث عن أمورهم بحث الدجاجة عن حب الدخن عند فقاسها، وأنغل الحجاز فإنی منغل الشام. والسلام)(1).

مروان علی میسرة جیش عائشة یوم الجمل

فلما نجحت مساعیه ومساعی معاویة وسارع کل من طلحة والزبیر وعائشة إلی نقض البیعة وإشعال نار الفتنة کان مروان بن الحکم من اشد المحرضین علی اتباعهم والالتحاق بجیش الناکثین، وتم تعیینه علی میسرة ذلک الجیش الغادر، قال ابن عساکر: (وقال أبو عبیدة: وعلی المیسرة یعنی یوم الجمل وهم أهل الیمن مروان بن الحکم)(2).


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 10 ص 236 __ 237 ذکر أقوال من طعن فی سیاسة علی والرد علیها.
2- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 57 ص 241.

ص: 84

وکان فی أثناء المعرکة یرمی بالسهام تارة علی جیش أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وتارة أخری علی نفس جیش عائشة الذی کان هو احد أفراده بل من قواده، وکان یقول: (نضرب بعضهم ببعض فمن قتل کان الظفر فیه ویبقی الباقی فنطلبه وهو واهن ضعیف)(1).

مروان یقتل طلحة بسهم أثناء انهزام جیش الجمل

ولما ظهرت بوادر النصر ولاحت الغلبة لجیش أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وتخلخل جیش النکث وضع مروان سهما فی قوسه ورمی به طلحة الذی کان مروان یقاتل تحت إمرته وفی ظل رایته فأصابه برجله فنزف حتی هلک، قال محمد بن سعد: (فلما قتل عثمان وسار طلحة والزبیر وعائشة إلی البصرة یطلبون بدم عثمان خرج معهم مروان بن الحکم فقاتل یومئذ أیضا قتالا شدیدا فلما رأی انکشاف الناس نظر إلی طلحة بن عبید الله واقفا فقال والله إن دم عثمان إلا عند هذا هو کان أشد الناس علیه وما أطلب أثرا بعد عین ففوق له بسهم فرماه به فقتله)(2).

مروان یشد ملک معاویة ویتولی إدارة ثلاث مناطق إسلامیة مهمة

فلما استشهد أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وتولی معاویة بن أبی سفیان لعنه الله صار مروان من أمرائه یشد له ملکه ویقویه، وصار یترقی شیئا فشیئا فی مناصب الدولة الأمویة، قال ابن عساکر: (وفیها یعنی سنة إحدی وأربعین ولی یعنی معاویة بن أبی سفیان مروان بن الحکم المدینة وعبد الرحمن بن خالد بن العاص بن هشام بن المغیرة مکة...ثم جمعهما والطائف لمروان بن الحکم وأقام الحج یعنی سنة ثلاث وأربعین


1- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج5 ص35 مروان بن الحکم.
2- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 5 ص 38 __ 43.

ص: 85

مروان بن الحکم وأقام الحج یعنی سنة خمس وأربعین مروان بن الحکم...)(1).

مروان یسب الإمام علیّاً صلوات الله وسلامه علیه علی المنبر 

واستغل مروان بن الحکم منصبه کوالٍ للمدینة لإفراغ حقده وبغضه لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فأعلن وشجع وأظهر السب واللعن لأمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه علی منابر الجمعة والجماعة فی مکة والمدینة والطائف، قال ابن عساکر: (عن ابن عون عن عمیر بن إسحاق قال کان مروان بن الحکم أمیرا علینا ست سنین فکان یسب علیا کل جمعة علی المنبر ثم عزل فاستعمل سعید بن العاص سنتین فکان لا یسبه ثم عزل وأعید مروان فکان یسبه)(2).

مروان یسب الحسنین ویمنع من دفن الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه 

وکان مروان یتحین الفرص لأذی الإمامین الحسنین صلوات الله وسلامه علیهما ویعرض بهما بقوله (أهل بیت ملعونون)(3)ولما استشهد الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه وأراد أهل بیته دفنه إلی جوار جده النبی صلی الله علیه وآله وسلم عارضهم مروان بن الحکم وعائشة بنت أبی بکر کما روی ذلک الیعقوبی بقوله: (ثم أخرج نعشه یراد به قبر رسول الله، فرکب مروان بن الحکم، وسعید بن العاص، فمنعا من ذلک، حتی کادت تقع فتنة. وقیل إن عائشة رکبت بغلة شهباء، وقالت: بیتی لا آذن فیه لأحد. فأتاها القاسم بن محمد ابن أبی بکر، فقال لها یا عمة ما غسلنا رؤوسنا من یوم الجمل الأحمر، أتریدین أن یقال یوم البغلة الشهباء؟ فرجعت. واجتمع مع الحسین بن علی جماعة وخلق من


1- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 57 ص 241.
2- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 57 ص 243.
3- مجمع الزوائد للهیثمی ج5 ص240 باب غضب السلطان، باب فی أئمة الظلم والجور وأئمة الضلالة.

ص: 86

الناس، فقالوا له: دعنا وآل مروان، فوالله ما هم عندنا کأکلة رأس. فقال: إن أخی أوصانی أن لا أریق فیه محجمة دم. فدفن الحسن فی البقیع)(1).

مروان یشارک فی قتل أهل المدینة فی واقعة الحرة

قال محمد بن سعد: (فلما وثب أهل المدینة أیام الحرة أخرجوا عثمان بن محمد وبنی أمیة من المدینة فأجلوهم عنها إلی الشام وفیهم مروان بن الحکم وأخذوا علیهم الأیمان ألا یرجعوا إلیهم وإن قدروا أن یردوا هذا الجیش الذی قد وجه إلیهم مع مسلم ابن عقبة المری أن یفعلوا فلما استقبلوا مسلم بن عقبة سلموا علیه وجعل یسائلهم عن المدینة وأهلها فجعل مروان یخبره ویحرضه علیهم فقال له مسلم ما ترون تمضون إلی أمیر المؤمنین أو ترجعون معی فقالوا بل نمضی إلی أمیر المؤمنین وقال مروان من بینهم أما أنا فأرجع معک فرجع معه مؤازرا له معینا له علی أمره حتی ظفر بأهل المدینة وقتلوا وانتهبت المدینة ثلاثا وکتب مسلم بن عقبة بذلک إلی یزید وکتب یشکر مروان بن الحکم ویذکر معونته إیاه ومناصحته وقیامه معه وقدم مروان علی یزید بن معاویة الشام فشکر ذلک له یزید وقربه وأدناه فلم یزل مروان بالشام حتی مات یزید بن معاویة)(2).

مواقف مروان قبل وبعد قتل الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه
اشارة

کانت لمروان تجاه الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه مواقف ومواقف یندی لها جبین الأحرار، ولیس بغریب علی مروان هذه المواقف وهو الطرید ابن الطرید والملعون ابن الملعون، وللإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه فی ذلک أسوة بجده رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وأبیه أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وأخیه الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه فقد کان مروان


1- تاریخ الیعقوبی ج 2 ص 225 وفاة الحسن بن علی.
2- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 5 ص 38 __ 43.

ص: 87

وأبوه یجرعونهم الغصص والآلام فیصفح عنهم أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین تارة تکرما، وتارة أخری یترکون فیهم أثرا تکوینیا کما حدث مع الحکم والد مروان حینما دعا علیه النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فاختلج وزحف مکانه عسی ان یعود وأهل بیته الملعونون إلی رشدهم ویتعظوا بما فُعل بهم، ولکن الحکم وابنه مروان وآل مروان کانت قلوبهم منکوسة تری الأمور معکوسة فعلی رغم کل تلک اللعنات والآثار النبویة التی ترکت فیهم بقوا إلی ان ماتوا یرون الحق فی أذاهم للنبی وأهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین والباطل فی الإیمان بهم والإقرار بفضلهم.

مروان یحرض معاویة علی قتل الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه

کانت واحدة من طباع معاویة غیر المحمود شأنها شان بقیة طباعه هی الفتک والغدر بکل من یتیقن بأنه بات یشکل خطرا حقیقیا علی الدولة الأمویة، والشواهد علی هذه الحقیقة کثیرة لا مجال لإحصائها بهذه العجالة، فکثیر هم الذین قتلوا سما وغدرا بشربة من عسل دسها إلیهم معاویة بن أبی سفیان علیه اللعنة حتی کان معاویة یتبجح ویفتخر بنجاح هذه الوسیلة الماکرة فی تثبیت ملکه بقوله (ان لله جنودا من عسل) وللشیخ محمد أبو ریة المصری فی کتابه (شیخ المضیرة أبو هریرة) کلام مهم یستعرض فیه بعض من تم قتلهم بالسم علی ید معاویة بن أبی سفیان جاء فیه: (صرف معاویة کیده وبغیه أول الأمر إلی الحسن رضی الله عنه الذی کان یزاحمه بحقه فی الخلافة وما زال یراوغه بکیده حتی تخلص منه بالسم...وممن سمهم معاویة: عبد الرحمن بن خالد بن الولید وذلک عندما شاور أهل الشام فیمن یعقد له من بعده فقالوا له: رضینا بعبد الرحمن بن خالد وکان أهل الشام یحبونه، فشق ذلک علی معاویة وأسرها فی نفسه ثم مرض عبد الرحمن بعد ذلک فأمر معاویة طبیبا یهودیا

ص: 88

وکان مکینا عنده. أن یأتیه فیسقیه سقیة تقتله، فأتاه فسقاه فانخرق بطنه فمات. وعلی أثره مات عبد الرحمن بن أبی بکر... بالسم، وکان سبب ذلک أنّ معاویة حینما کان یدعو إلی بیعة یزید قال له عبد الرحمن هذا: أهرقلیة إذا مات کسری کان کسری مکانه؟ لا نفعل والله أبدا، فبعث إلیه معاویة بمئة ألف درهم، فردها عبد الرحمن وقال: أبیع دینی بدنیای. وما لبث أن مات فجأة بموضع یقال له الحبشی __ جبل بأسفل مکة __ وحمل إلی مکة فدفن فیها. وممن سمهم معاویة کذلک مالک بن الأشتر الذی ولاه الإمام علی علی مصر وکان سمه فی عسل ولذلک قال عمرو بن العاص فی ذلک إن لله جنودا من عسل(1).

ولا نحصی من تخلص منهم معاویة بالسم)(2).

ومروان بن الحکم الذی هو مورد کلامنا فی هذه الأسطر کان یعلم بسیاسة معاویة تجاه معارضیه ومن یشعر تجاههم بالخطر، فحاول ان یحفز فی نفس معاویة الشعور بالانتقام تجاه الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه عسی أن یفلح فی استحصال قرار أموی بقتل الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه کما قُتل أخوه بالسم قبل وقت لیس بالطویل، فکتب مروان بن الحکم إلی معاویة فی واحدة من رسائله التحریضیة ما یأتی: (إنی لست آمن أن یکون حسین مرصدا للفتنة، وأظن أن یومکم من حسین طویلا)((3). لکن الوقت لم یسعف معاویة بن أبی سفیان؛ لأنه وکما یقول الشیخ


1- کثیرة هی المصادر التی صرحت بان کلمة (ان لله جنودا من عسل) هی لمعاویة کان یقولها کلما سمع بموت احد ضحایاه، ومن هذه المصادر التاریخیة کتاب معجم البلدان للحموی حیث قال فی ج1 ص454: (الأشتر مات بالقلزم فی طریقه إلی مصر، وکان علی، رضی الله عنه، وجهه أمیرا، فیقال إن معاویة دس إلیه عسلا مسموما فأکله فمات بالقلزم، فقال معاویة: إن لله جنودا من عسل) وعلی کلا التقدیرین یبقی کل من عمرو بن العاص ومعاویة وجهین لعملة واحدة، فلا یهمنا القائل بقدر ما یهمنا الطریقة الخبیثة الماکرة التی کان یتبعها معاویة ضد کل من یشعر معه بالخطر.
2- شیخ المضیرة أبو هریرة لمحمود أبو ریة ص 175 __ 176انصراف معاویة إلی أولاد علی.
3- () البدایة والنهایة لابن کثیر ج8 ص147 صفة مخرج الحسین إلی العراق، سیر أعلام النبلاء للذهبی ج3 ص294.

ص: 89

أبوریة: (مات معاویة قبل أن یلحق الحسین بأخیه الحسن...وترک ذلک لابنه یزید)(1).

مروان یأخذ من الناس البیعة لیزید

قد لعب مروان بن الحکم دورا هاما فی تسهیل وصول یزید إلی الإمارة بعد أبیه معاویة، فمنذ أن کان معاویة بن أبی سفیان علی قید الحیاة طلب من مروان وکان عامله علی الطائف ومکة والمدینة أن یمهد الطریق لیزید ویروض نفوس الجماهیر لقبول ولایة عهده، وان یحتال فی استحصال تأییدهم بحجة طلب النصیحة والإعانة علی المشورة منهم لا بعنوان القسر والغصب، فکتب إلیه کتابا جاء فیه: (إنی قد کبرت سنی ودق عظمی وخشیت الاختلاف علی الأمة بعدی وقد رأیت أن أتخیر لهم من یقوم بعدی وکرهت أن أقطع أمرا دون مشورة من عندک فاعرض ذلک علیهم وأعلمنی بالذی یردون إلیک)(2).

قال ابن اعثم الکوفی: (فأرسل مروان إلی وجوه أهل المدینة فجمعهم فی المسجد الأعظم، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنی علیه وذکر الطاعة وحض علیها وذکر الفتنة وحذر منها. ثم قال فی بعض کلامه: أیها الناس إن أمیر المؤمنین قد کبر سنه، ورق جلده وعظمه، وخشی الفتنة من بعده، وقد أراه الله رأیا حسنا، وقد أراد أن یختار لکم ولی عهد یکون من بعده لکم مفزعا، یجمع الله به الألفة ویحقن به الدماء، وأراد أن یکون ذلک من مشورة منکم وتراض، فماذا تقولون فقال الناس من کل جانب: إنا لا نکره ذلک إذا کان لله فیه رضا)(3).


1- شیخ المضیرة أبو هریرة لمحمود أبو ریة ص 175انصراف معاویة إلی أولاد علی.
2- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج 3 ص 506.
3- کتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الکوفی ج 4 ص 334 __ 335.

ص: 90

وقال ابن الأثیر: (فقام مروان فی الناس فأخبرهم به فقال الناس أصاب ووفق وقد أحببنا أن یتخیر لنا فلا یألوا)(1).

فکتب مروان إلی معاویة یخبره بأن النفوس مهیأة والأجواء مناسبة لتقبل خبر ولایة عهد یزید بعد معاویة، فأعاد معاویة علیه الجواب وأمره بأن یصرح علنا باسم یزید ویعلم القاصی والدانی بأن یزید خلیفته وان الاختیار قد وقع علیه: (فکتب مروان إلی معاویة بذلک فأعاد علیه الجواب یذکر یزید فقام مروان فیهم وقال إن أمیر المؤمنین قد اختار لکم فلم یأل وقد استخلف ابنه یزید بعده، قال ابن الأثیر: (فکتب مروان إلی معاویة بذلک فأعاد علیه الجواب یذکر یزید فقام مروان فیهم وقال إن أمیر المؤمنین قد اختار لکم فلم یأل وقد استخلف ابنه یزید بعده)(2).

أما ابن اعثم فقال: (فقال مروان: إنه قد اختار لکم الرضا الذی یسیر فیکم بسیرة الخلفاء الراشدین المهدیین وهو ابنه یزید)(3).

وکان ینادی یوم بویع یزید کما یقول الذهبی : (وقال سالم بن عبد الله : لما أرادوا أن یبایعوا لیزید قام مروان فقال: سنة أبی بکر الراشدة المهدیة)(4).

وقد اجتمع مروان بالإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ذات یوم فقال له: (أطعنی ترشد، قال: قل، قال: بایع أمیر المؤمنین یزید فهو خیر لک فی الدارین فقال الحسین: وعلی الإسلام السلام إذ قد بلیت الأمة براع مثل یزید ولقد سمعت جدی یقول الخلافة محرمة علی آل أبی سفیان)(5).


1- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج 3 ص 506.
2- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج 3 ص 506.
3- کتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الکوفی ج 4 ص 334.
4- تاریخ الإسلام للذهبی ج 4 ص 148.
5- مثیر الأحزان لابن نما الحلی ص15.

ص: 91

مروان بن الحکم کان السبب فی خروج الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه خائفا یترقب

قال الشیخ المفید فی الإرشاد: (فلما مات معاویة کتب یزید إلی الولید بن عتبة ابن أبی سفیان __ وکان علی المدینة من قبل معاویة __ أن یأخذ الحسین علیه السلام بالبیعة له، ولا یرخص له فی التأخر عن ذلک. فأنفذ الولید إلی الحسین علیه السلام فی اللیل فاستدعاه، فعرف الحسین الذی أراد فدعا جماعة من موالیه وأمرهم بحمل السلاح، وقال لهم: إن الولید قد استدعانی فی هذا الوقت، ولست آمن أن یکلفنی فیه أمرا لا أجیبه إلیه، وهو غیر مأمون، فکونوا معی، فإذا دخلت إلیه فاجلسوا علی الباب، فإن سمعتم صوتی قد علا فادخلوا علیه لتمنعوه منی.

فصار الحسین علیه السلام إلی الولید فوجد عنده مروان بن الحکم، فنعی الولید إلیه معاویة فاسترجع الحسین علیه السلام، ثم قرأ کتاب یزید وما أمره فیه من أخذ البیعة منه له، فقال له الحسین: إنی لا أراک تقنع ببیعتی لیزید سرا حتی أبایعه جهرا، فیعرف الناس ذلک، فقال الولید له: أجل، فقال الحسین علیه السلام: فتصبح وتری رأیک فی ذلک فقال له الولید: انصرف علی اسم الله حتی تأتینا مع جماعة الناس.

فقال له مروان: والله لئن فارقک الحسین الساعة ولم یبایع لا قدرت منه علی مثلها أبدا حتی یکثر القتلی بینکم وبینه، احبس الرجل فلا یخرج من عندک حتی یبایع أو تضرب عنقه.

فوثب عند ذلک الحسین علیه السلام وقال: أنت یا ابن الزرقاء تقتلنی أو هو؟! کذبت والله وأثمت، وخرج یمشی ومعه موالیه حتی أتی منزله.

فقال مروان للولید: عصیتنی، لا والله لا یمکنک مثلها من نفسه أبدا، فقال الولید: یا مروان إنک اخترت لی التی فیها هلاک دینی، والله ما أحب أن لی ما طلعت علیه الشمس وغربت عنه من مال الدنیا وملکها وأنی قتلت حسینا، سبحان الله! أقتل حسینا إن قال لا أبایع؟! والله إنی لأظن أن امرءا یحاسب بدم الحسین خفیف المیزان عند الله یوم القیامة...فلما کان آخر

ص: 92

نهار یوم السبت بعث الرجال إلی الحسین بن علی علیهما السلام لیحضر فیبایع الولید لیزید بن معاویة، فقال لهم الحسین: أصبحوا ثم ترون ونری فکفوا تلک اللیلة عنه ولم یلحوا علیه.

فخرج علیه السلام من تحت لیلته وهی لیلة الأحد لیومین بقیا من رجب متوجها نحو مکة ومعه بنوه وإخوته وبنو أخیه وجل أهل بیته... فسار الحسین علیه السلام إلی مکة وهو یقرأ: ((فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا یَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِی مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِینَ))(1))(2).

الدولة الأمویة کادت أن تندثر لولا أن مروان وآله أحیوها
اشارة

اضطربت الأوضاع السیاسیة کثیرا بعد استشهاد الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، وصارت الأمة تشعر یوما بعد یوم بفداحة ما وقع وعظیم ما ارتکب من جریمة بحق الإسلام أولا وبحق أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ثانیا، وشاهد الناس بأم أعینهم صدق ما کان یقوله سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه من ان یزید بن معاویة ما هو إلا مستهتر بکل القیم الأخلاقیة، لا یعظم کبیرا ولا یرحم صغیرا، لکن هذه الصحوة لجزء من ضمیر الأمة کانت ولشدید الأسف بعد فوات الأوان، فالأمة التی رفضت أن تعطی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه النصرة والعون والمساندة فی سبیل إخراجها من الظلم الأموی، ها هی فی واقعة الحرة تعطی دماء رجالها وأعراض نسائها وأرواح أطفالها، والرجال الذین رفضوا الوقوف فی صف الحسین صلوات الله وسلامه علیه یوم انتدبهم لنصرته هاهم یندمون ویخرجون فی ثورة عرفت بعد ذلک بثورة التوابین.

إن أمر هذه الأمة لعجیب حقا، قد هربوا من الشهادة مع الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه لکنهم قتلوا أنفسهم یوم الحرة فی معرکة خاسرة، وسمحوا بأن یخرج الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بعیاله ونسائه، ولم یحرکوا ساکنا یوم سبیت حرائر


1- سورة القصص الآیة رقم 21.
2- الإرشاد للشیخ المفید ج2 ص33 محاولة اخذ البیعة من الحسین علیه السلام وفشلها.

ص: 93

الرسالة من بلد إلی بلد ومن طاغیة إلی آخر، حبا للسلامة وخوفا علی النساء والأطفال، فدخل الطغاة إلی عقر دورهم، فسبیت نساؤهم واعتدی علی عفتهن فی خدورهن، فما خافوه بالأمس وقعوا بشر منه الیوم، وقد صدق قول الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه فیهم وفی غیرهم: (أما بعد فإنه من لحق بی استشهد ومن تخلف عنی لم یبلغ الفتح)(1) فلم ینالوا ما ناله الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وأهل بیته وأصحابه الذین بلغوا الشهادة والسعادة الدنیویة والأخرویة، ولم یحصلوا علی ما کانوا یطمحون إلیه ویتمنونه من السلامة والحفاظ علی النفس والأهل والعرض والمال فضیعوا علیهم طریق السعادة وطریق السلامة، فأعقبهم ذلک شقاء وذلة وخسرانا فی الدنیا ویوم یقوم الأشهاد.

وعلی أی الأحوال فإن السیاسة الظالمة لیزید بن معاویة والضعف الإداری لحکومته وغیر ذلک من أسباب قد أدی إلی ظهور تیارات وقوی غیر خاضعة لسلطة الدولة، وأقوی تلک التیارات هو تیار عبد الله بن الزبیر الذی اتخذ مکة المکرمة مقرا لثورته التی خرجت بمرور الأیام عن عنوان الثورة لتصبح دولة، إذ صار له ولاة وجیوش وغیر ذلک من مقومات الدولة أو الدویلة، والذی یهمنا من کل هذا السرد هو أن یزید بعد أن مات مسودا وجهه ملعونا ذکره، تولی الإمارة ابنه الضعیف معاویة ابن یزید، (وأتته بیعة الآفاق إلا ما کان من ابن الزبیر وأهل مکة فولی ثلاثة أشهر ویقال أربعین لیلة ولم یزل فی البیت لم یخرج إلی الناس کان مریضا فکان یأمر الضحاک بن قیس الفهری یصلی بالناس بدمشق فلما ثقل معاویة بن یزید قیل له لو عهدت إلی رجل عهدا واستخلفت خلیفة فقال والله ما نفعتنی حیا فأتقلدها میتا وإن


1- بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار ص502 باب 9 فی الأئمة أنهم یعرفون متی یموتون ویعلمون ذلک قبل ان یأتیهم الموت الحدیث رقم 5.

ص: 94

کان خیرا فقد استکثر منه آل أبی سفیان لا تذهب بنو أمیة بحلاوتها وأتقلد مرارتها والله لا یسألنی الله عن ذلک أبدا ولکن إذا مت فلیصل علی الولید بن عتبة بن أبی سفیان ولیصل بالناس الضحاک بن قیس حتی یختار الناس لأنفسهم ویقوم بالخلافة قائم)(1).

ولما مات معاویة بن یزید وترکت الدولة الأمویة بلا ولی عهد تضعضعت أرکانها واختلف قادة جیوشها واختلفت الناس وظهر التصدع والتشقق فی أرکان السلطة، وعلا نجم ابن الزبیر واشتدت شکیمته والتحق به العدید من قادة الجیش الأموی، وفی هذا الصدد یقول محمد بن سعد: (واختلف الناس بالشام فکان أول من خالف من أمراء الأجناد ودعا إلی ابن الزبیر النعمان بن بشیر بحمص، وزفر بن الحارث بقنسرین ثم دعا الضحاک بن قیس بدمشق الناس سرا ثم دعا الناس إلی بیعة ابن الزبیر علانیة فأجابه الناس إلی ذلک وبایعوه له وبلغ ذلک ابن الزبیر فکتب إلی الضحاک بن قیس بعهده علی الشام فکتب الضحاک إلی أمراء الأجناد ممن دعا إلی ابن الزبیر فأتوه)(2).

ومروان صاحب حدیثنا فی هذه الفقرة کان یری موازین القوی تمیل وبشکل ملحوظ إلی کفة عبد الله بن الزبیر، وانه بات یمتلک أکبر قوة عسکریة فی الساحة وقد بایعه أکثر أمراء الجند، فقرر والحال هذه أن یستبق غیره بالذهاب إلی مکة وإعلان الولاء والبیعة لابن الزبیر من اجل أن یحظی عنده بالقرب أولا، ولیحصل علی تأمین علی أرواح وممتلکات البقیة الباقیة من آل مروان، وانطلق مروان فعلا إلی مکة وکاد أن یقع ما خطط له لولا أن عبید الله بن زیاد صادفه بالطریق وأقنعه بعدم الذهاب وان


1- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 5 ص 39.
2- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 5 ص 39 __ 40.

ص: 95

یطالب هو بالإمارة وعرض علیه المساعدة هو وعمرو بن سعید بن العاص بشرط ان یبایع لعمرو بن سعید من بعده، قال ابن سعد: (فلما رأی ذلک مروان خرج یرید ابن الزبیر بمکة لیبایع له ویأخذ منه أمانا لبنی أمیة وخرج معه عمرو بن سعید بن العاص فلما کانوا بأذرعات وهی مدینة البثنیة لقیهم عبید الله بن زیاد مقبلا من العراق فقال لمروان: أین ترید؟ فأخبره، فقال سبحان الله أرضیت لنفسک بهذا تبایع لأبی خبیب وأنت سید بنی عبد مناف والله لأنت أولی بها منه، فقال له مروان: فما الرأی قال أن ترجع وتدعو إلی نفسک وأنا أکفیک قریشا وموالیها ولا یخالفک منهم أحد فقال عمرو بن سعید صدق عبید الله إنک لجذم قریش وشیخها وسیدها وما ینظر الناس إلا إلی هذا الغلام خالد بن یزید بن معاویة فتزوج أمه فیکون فی حجرک وادع إلی نفسک فأنا أکفیک الیمانیة فإنهم لا یخالفونی وکان مطاعا عندهم علی أن تبایع لی من بعدک قال نعم)(1).

وبعد مکر وحیلة وقتل وقتال وإعانة من شیاطین الأنس والجان وصل مروان ابن الحکم إلی مناصب الأمراء بعد أن کان من اللعناء أولاد اللعناء، فابتدأت بذلک الدولة المروانیة، التی أنقذت الدولة الأمویة من الانحلال والتلاشی لتبدأ بذلک صفحة سوداء جدیدة تضاف إلی صفحات بنی أمیة التی ما زالت الأمة الإسلامیة إلی الآن تئن من ثقل تبعاتها وجرائمها.

أبناء مروان أئمة الجور وأرباب الضلالة

بعد ان لم یبق مروان بن الحکم فی إمارته إلا تسعة أشهر وعدة أیام، حیث مات خنقا من قبل زوجته کما صرح بذلک ابن عساکر بقوله: (وقتل مروان قتلته


1- المصدر السابق.

ص: 96

امرأته أم معاویة بن یزید لثلاث خلون من رمضان فولی تسعة أشهر وثمانیة وعشرین یوما وتوفی وله أحد وثمانون سنة)(1)، فکانت ولایته کما وصفه ووصفها أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه بقوله: (لیحملن رایة ضلالة بعدما یشیب صدغاه وله إمرة کلحسة __ کلعقة __ الکلب أنفه)(2) إشارة إلی قصر مدتها وضحالة حقیقتها.

ووصل ابنه المشؤوم عبد الملک بن مروان إلی سدة الحکم واستولی علی ما کان تحت ید أبیه، لان الدولة الإسلامیة کانت مقسمة إلی جزأین، فمروان کان یسیطر علی مصر والشام، وعبد الله بن زیاد کان یسیطر علی الحجاز والعراق، وقد خاض عبد الملک مع ابن الزبیر معارک شرسة ونزاع شدید دام سبع سنین انتهی بمقتل ابن الزبیر، وانهزام جیوشه وسیطرة عبد الملک بن مروان علی جمیع ما کان تحت یده وولایته، قال ابن عساکر: (وبایع أهل الشام بعده لعبد الملک بن مروان فکانت الشام ومصر فی ید عبد الملک کما کانت فی ید أبیه وکانت العراق والحجاز فی ید ابن الزبیر وکانت الفتنة بینهما سبع سنین ثم قتل ابن الزبیر بمکة یوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من جمادی الأولی سنة ثلاث وسبعین وهو ابن اثنین وسبعین سنة واستقام الأمر لعبد الملک بن مروان بعده)(3) فمروان بن الحکم وان کان مؤسس الدولة المروانیة المشؤومة إلا ان عبد الملک ابنه هو من أرسی قواعدها وشد أزرها وقضی علی معارضیها وأعاد شوکة الدولة وشکیمتها.

وقد حکم بعد عبد الملک بن مروان کل من:

1: الولید بن عبد الملک.


1- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 57 ص 255.
2- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج5 ص43 مروان بن الحکم.
3- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 57 ص263.

ص: 97

2: سلیمان بن عبد الملک.

3: عمر بن عبد العزیز.

4: یزید بن عبد الملک.

5: هشام بن عبد الملک.

6: الولید بن یزید بن عبد الملک.

7: مروان بن محمد بن مروان بن الحکم.

وقد صدق رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم لما لعن الحکم بن العاص وکل من یخرج من صلبه بقوله: (علیه لعنة الله وعلی من یخرج من صلبه إلا المؤمن منهم وقلیل ما هم یشرفون فی الدنیا ویضعون فی الآخرة ذوو مکر وخدیعة یعطون فی الدنیا وما لهم فی الآخرة من خلاق)(1) وقد صدق نبی الله صلی الله علیه وآله وسلم فیما قال فإنهم ساموا الأمة سوء العذاب، فقتلوا صلحاءهم وصلبوا قراءهم وحبسوا خیارهم وشردوهم فی البلاد، وقد کانوا کما وصفهم أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه فی إحدی خطبه حیث قال: (وأیم الله لتجدن بنی أمیة لکم أرباب سوء بعدی... لا یزالون بکم حتی لا یترکوا منکم إلا نافعا لهم أو غیر ضائر بهم. ولا یزال بلاؤهم عنکم حتی لا یکون انتصار أحدکم منهم إلا کانتصار العبد من ربه والصاحب من مستصحبه...)(2) وتفصیل أخبارهم وشرح جرائمهم وجرائرهم مشروح فی کتب التاریخ غیر خاف علی من یتصفحها لذلک اعرضنا عن تفصیل ذلک واکتفینا بما مر من کلام.


1- المستدرک للحاکم النیسابوری ج 4 ص 481.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج7 ص44 من خطبة له علیه السلام یذکر فیها ما کان من تغلبه علی فتنة الخوارج وما یصیب الناس من بنی أمیة.

ص: 98

ص: 99

وَلَعَنَ اللهُ بَنِی أُمَیَّةَ قَاطِبَةً

المبحث الأول: إثبات هذه الفقرة الشریفة

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

1: وَلَعَنَ اللَّهُ

2: بَنِی أُمَیَّةَ

3: قَاطِبَةً      

المبحث الثالث: هل یشمل عموم اللعن لبنی أمیة المؤمن منهم؟

المبحث الرابع: نظرة عابرة إلی شخصیة أمیة بن عبد شمس

المبحث الخامس: عثمان یؤسس لسنة بنی أمیة بدلا من سنة الشیخین

المبحث السادس: تشیید الأمویین لمذهب جدید اسمه المرجئة

المبحث السابع: معلومات إضافیة حول بنی أمیة

ص: 100

ص: 101

وَلَعَنَ اللهُ بَنِی أُمَیَّةَ قَاطِبَةً

اشارة

وفی هذه الفقرة الشریفة من الزیارة أیضا بحوث مهمة نستعرض فیما یأتی بعضا منها.

المبحث الأول: إثبات هذه الفقرة الشریفة

لم أجد من علماء الطائفة الإثنی عشریة من خالف وأنکر شمول اللعن لبنی أمیة قاطبة، حتی أنّ جملة کبیرة منهم رضوان الله تعالی علیهم استشهدوا بهذه الفقرة بالذات فی کتبهم الأصولیة، منهم الشیخ الخوانساری قدس الله روحه فی کتابه منیة الطالب الذی هو تقریر لبحث المحقق المیرزا النائینی قدس الله روحه(1)، ومنهم الآخوند الخراسانی قدس الله روحه فی کفایة الأصول(2)، ومنهم المولی محمد کاظم الخراسانی قدس الله روحه فی نهایة النهایة(3)، والشیخ محمد علی الکاظمی الخراسانی قدس الله روحه فی فوائد الأصول(4)، وغیرهم


1- منیة الطالب تقریر بحث النائینی للخوانساری ج2 ص127 یشترط فی خیار الغبن أمران.
2- کفایة الأصول للآخوند الخراسانی ص233 التمسک بالعام فی غیر الشک فی التخصیص.
3- نهایة النهایة للمولی محمد کاظم الخراسانی ج1 ص289.
4- فوائد الأصول للشیخ محمد علی الکاظمی الخراسانی ج1 __ 2 فی ما یصح التمسک فیه بالعموم من المخصص اللبی.

ص: 102

الکثیر رضوان الله تعالی علیهم حیث استشهدوا بهذه الفقرة واستفادوا منها فی کتبهم الأصولیة والفقهیة کل حسب غرضه الخاص ولولا اعتقادهم رضوان الله تعالی علیهم بصحة مضمونها لما جاز لهم الاستشهاد بها.

وقال المحقق الکرکی قدس الله روحه: (والحاصل أن بنی أمیة قاطبة ملعونون مطرودون، وبذلک وردت النصوص عن أهل البیت علیهم السلام. وقد ذکر المفسرون أن قوله تعالی: ((وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِی الْقُرْآَنِ))(1) المراد بها: شجرة بنی أمیة)(2).

وقد تواتر الخبر عن الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ان بنی أمیة لعنهم الله هم الذین عبر عنهم القرآن الکریم بالشجرة الملعونة بقوله ((وَإِذْ قُلْنَا لَکَ إِنَّ رَبَّکَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْیَا الَّتِی أَرَیْنَاکَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِی الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا یَزِیدُهُمْ إِلَّا طُغْیَانًا کَبِیرًا))(3) فأطلق القرآن الکریم اللعن علی هذه الشجرة بجملتها وتفصیلها، ولم یستثن منها غصنا ولا ورقة، فثمرها ملعون ونتاجها خبیث، وهذا المعنی هو عین ما جاء فی هذه الفقرة من الزیارة.

و قال ابن أبی الحدید المعتزلی: (و قد جاء فی الأخبار الشائعة المستفیضة فی کتب المحدثین أن رسول الله صلی الله علیه و آله أخبر أن بنی امیة تملک الخلافة بعده، مع ذم منه علیه و السلام لهم، نحو ما روی عنه فی تفسیر، قوله تعالی: ((وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْیَا الَّتِی أَرَیْنَاکَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِی الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا یَزِیدُهُمْ إِلَّا طُغْیَانًا کَبِیرًا)) فإن المفسرین قالوا: إنه رأی بنی أمیة ینزون علی منبره نزو القردة هذا لفظ رسول الله صلی الله علیه و آله الذی فسر لهم الآیة به، فساءه ذلک ثم قال: الشجرة المعونة


1- سورة الإسراء الآیة رقم 60.
2- رسائل الکرکی للمحقق الکرکی ج 2 ص 227 ذکر بنی أمیة وعمرو بن العاص.
3- سورة الإسراء الآیة رقم 60.

ص: 103

بنو أمیة بنو المغیرة)(1)

وقال الآلوسی فی تفسیره: (والشجرة الملعونة الحکم وولده وفی عبارة بعض المفسرین هی بنو أمیة...وکان هذا بالنسبة إلی خلفائهم الذین فعلوا ما فعلوا وعدلوا عن سنن الحق وما عدلوا وما بعده بالنسبة إلی ما عدا خلفاءهم منهم ممن کان عندهم عاملا وللخبائث عاملا أو ممن کان من أعوانهم کیفما کان، ویحتمل أن یکون المراد ما جعلنا خلافتهم وما جعلناهم أنفسهم إلا فتنة، وفیه من المبالغة فی ذمهم ما فیه...وجعل ضمیر (نخوفهم) علی هذا لما کان له أولا أو للشجرة باعتبار أن المراد بها بنو أمیة ولعنهم لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة والفروج المحصنة وأخذ الأموال من غیر حلها ومنع الحقوق عن أهلها وتبدیل الأحکام والحکم بغیر ما أنزل الله تعالی علی نبیه علیه الصلاة والسلام إلی غیر ذلک من القبائح العظام والمخازی الجسام التی لا تکاد تنسی ما دامت اللیالی والأیام، وجاء لعنهم فی القرآن إما علی الخصوص کما زعمته الشیعة أو علی العموم کما نقول فقد قال سبحانه وتعالی: ((إِنَّ الَّذِینَ یُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِی الدُّنْیَا وَالْآَخِرَةِ))(2) وقال عز وجل ((فَهَلْ عَسَیْتُمْ إِنْ تَوَلَّیْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَکُمْ (22) أُولَئِکَ الَّذِینَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَی أَبْصَارَهُمْ))(3) إلی آیات آخر ودخولهم فی عموم ذلک یکاد یکون دخولا أولیا)(4).

وسیأتی فی المباحث اللاحقة تفصیل أکثر لمسألة لعنهم ومن یشمله اللعن منهم ومن یستثنی من لفظ (قاطبة).


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 9 ص 219 __ 220.
2- سورة الأحزاب الآیة رقم 57.
3- سورة محمد الآیة رقم 22 __ 23.
4- تفسیر الآلوسی ج 15 ص 107 __ 108.

ص: 104

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

1: وَلَعَنَ اللَّهُ

الواو هنا عاطفة وما بعده معطوف علی ما مر فی الفقرة السابقة، وقد تبین مما سبق معنی هاتین اللفظتین فراجع.

2: بَنِی أُمَیَّةَ

(بَنِی) جمع أبناء ومفرده ابن، وابن الرجل هو ولد الرجل، قال ابن منظور: (والابن: الولد)(1)، وقال الفیروز آبادی: (والابن: الولد أصله: بنی أو بنو ج: أبناء والاسم: البنوة)(2).

أو یکون الابن هو کل من ینسب إلی الرجل قال أبو هلال العسکری: (ویجوز أن یقال إن قولنا هو ابن فلان یقتضی أنه منسوب إلیه ولهذا یقال الناس بنو آدم لأنهم منسوبون إلیه وکذلک بنو إسرائیل)(3).

و(أُمَیَّةَ) هو ابن عبد شمس بن عبد مناف، وسیأتی تفصیل لبعض أخباره لاحقا.

3: قَاطِبَةً

و(قَاطِبَةً) لفظ یدل علی العموم وهو بمعنی جمیعا، قال الجوهری: (وتقول: جاء القوم قاطبة، أی جمیعا، وهو اسم یدل علی العموم)(4)


1- لسان العرب لابن منظور ج 14 ص 89 فصل الباء الموحدة.
2- القاموس المحیط للفیروز آبادی ج 4 ص 305.
3- الفروق اللغویة لأبی هلال العسکری ص 12 __ 13.
4- الصحاح للجوهری ج 1 ص 204.

ص: 105

وقال ابن منظور: (وجاء القوم بقطیبهم أی بجماعتهم. وجاؤوا قاطبة أی جمیعا، قال سیبویه: لا یستعمل إلا حالا)(1).

فیصبح المعنی العام لهذه الفقرة الشریفة هو (ولعن الله جمیع أولاد وأبناء أمیة ابن عبد شمس وکل من ینتسب إلیه).

المبحث الثالث: هل یشمل عموم اللعن لبنی أمیة المؤمن منهم؟

الظاهر من کلمات المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ان لبنی أمیة خصوصیة وامتیازاً یمتازون به عن جمیع بیوت العرب، بل عن جمیع بیوت قبائل العالم بأسره، فالمتعارف فی کل بیوت العرب وغیرهم ان هذه البیوت تضم بین أفرادها المؤمن وغیر المؤمن، والطیب والخبیث، والنافع والضار، وربما زاد فیها عدد الطیبین والمؤمنین علی غیرهم وربما یکون العکس، أما فی بنی أمیة فالحال مختلف بالکلیة؛ إذ إن کلمات القرآن والنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم والأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أجمعت أو کادت أن تجمع علی أن لا خیر یرجی من أهل هذا البیت، وان الخبث والکفر والکید بالرسول والرسالة صفة لا تفارقهم ولا یستثنی منها أحد منهم، حتی أن القرآن حینما لعنهم لم یلعنهم کأفراد محدودین، وإنما لعنهم جملة واحدة ومثلهم بالشجرة وحکم علی جمیع أجزائها وأبعاضها باللعنة، والإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه فی إحدی کلماته أکد هذه الحقیقة حیث قال: (ولو لم یبق لبنی أمیة إلا عجوز درداء لبغت دین الله عوجا)(2)


1- لسان العرب لابن منظور ج 1 ص 681.
2- الهدایة الکبری للحسین بن حمدان الخصیبی ص190 الباب الرابع باب الإمام الحسن المجتبی علیه السلام.

ص: 106

والواقع التاریخی یصدق هذه المقولة بالکامل، فلو تأمل منصف واقع أفعالهم ابتداءً من أرض مکة فإنه یری أن آل أمیة کانوا أشد الناس عداوة للرسول صلی الله علیه و آله ورسالته، وأعظمهم له مخالفة، لا تضرم حرب بوجه النبی صلی الله علیه و آله ودعوته إلا وکان بنو أمیة فی مقدمتها، ولا تشب فتنة إلا وهم علی رأسها، ولا ترفع رایة لهدم الإسلام وقواعده إلا وکان آل أمیة قادتها وساستها، فکم حرب قد أضرموا وکم من جیش قد أسسوا، فلما لم یقدروا ان یطفئوا نور الله بأفواههم و أفعالهم و کیدهم و حروبهم، دخلوافی الدین مستسلمین غیر مسلمین، فکادوا الإسلام من الداخل حتی وصلت بهم الحال ان صیروا مال الله دولا وعباده خولا ، ودین اللّه عوجا.

ولکن یبقی الکلام حول هل یمکن أن یخرج من هذه الشجرة الخبیثة مؤمن، ونقصد بالمؤمن المؤمن فی الاصطلاح الشیعی الإمامی المقید بالإقرار بولایة وإمامة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، لان غیر المؤمن بهذا المعنی لا یخاف عواقب شموله بعموم قول الزیارة (فلعن الله بنی أمیة قاطبة).

والعقل کما لا یخفی لا یمانع من خروج المؤمن من أصلاب رجال ونساء هذه الشجرة الملعونة، ولکن الواقع الخارجی لا یکاد یذکر من هؤلاء المؤمنین إلا النزر القلیل والفرد النادر، وهم علی فرض وجودهم والتیقن من إیمانهم فإنهم مستثنون من عموم اللعن قطعا، إما بالقرائن اللبیة کما ذهب إلی ذلک جمع من المحققین من علمائنا، واما بأدلة أخری خارجیة تخصص أو تقید وتستثنی المؤمن من غیره، لبداهة ان اللعنة لا تجوز علی المؤمن کما هو مذکور فی جملة من النصوص والآثار النبویة. 

ص: 107

کل ذلک فیما لو تیقنا بإیمان ذلک المنتسب إلی أمیة أو احد أولاده، أما لو وقع الشک فی إیمان فرد منهم أو عدم إیمانه فانه لا یخرج حینئذ من ذلک العموم ویشمل بإطلاق اللعن علیه کما یشمل من هو متیقن الکفر أو متیقن النفاق، وفی هذا الصدد یقول المیرزا حسن السبزواری قدس الله روحه: (ففی مثل «لعن الله بنی أمیة قاطبة» مع أن العقل حاکم بعدم جواز لعن المؤمن یستکشف العقل بأنه لیس فیهم مؤمن من جهة ترتیب القیاس، وهو أن الشخص المشکوک إیمانه یجوز لعنه بمقتضی العموم، ولو کان مؤمنا لما جاز لعنه، فینتج أنه لیس مؤمنا، فتأمل)(1).

وقال الشیخ محمد علی الکاظمی الخراسانی فی فوائد الأصول: (...وذلک کما فی مثل قوله علیه السلام: اللهم العن بنی أمیة قاطبة، حیث یعلم أن الحکم لا یعم من کان مؤمنا من بنی أمیة، لان اللعن لا یصیب المؤمن، فالمؤمن خرج عن العام لانتفاء ملاکه، لمکان أن ملاک اللعن هو الشقاوة، فکأن قوله علیه السلام: «اللهم العن بنی أمیة قاطبة» قد تکفل ملاک الحکم بنفسه وهو الشقاوة، ومعلوم ان السعید یقابل الشقی، فلیس فی السعید ملاک الحکم)(2).

وقال الشیخ الفیاض فی تقریره لأبحاث السید الخوئی قدس الله روحه: (إذا لم یکن إحراز الموضوع موکولا إلی نظر المکلف کما هو الحال فی مثل قوله علیه السلام «لعن الله بنی أمیة قاطبة» فإن هذه القضیة بما انها قضیة خارجیة صادرة من الإمام علیه السلام من دون قرینة تدل علی إیکال إحراز الموضوع فیها فی الخارج إلی نظر المکلف فبطبیعة الحال تدل علی أن المتکلم لاحظ الموضوع بتمام أفراده وأحرز أنه لا مؤمن


1- وسیلة الوصول إلی حقائق الأصول للمیرزا حسن السبزواری وهو تقریر لأبحاث السید أبی الحسن الأصفهانی قدس الله روحه ص 379.
2- فوائد الأصول للشیخ محمد علی الکاظمی الخراسانی ج 1 __ 2 ص 537 __ 538.

ص: 108

بینهم، وعلیه فلا مانع من التمسک بعمومه لإثبات جواز لعن الفرد المشکوک فی إیمانه أو فقل انا إذا علمنا من الخارج ان فیهم مؤمنا فهو خارج عن عمومه فلا یجوز لعنه جزما، وأما إذا شک فی فرد انه مؤمن أولیس بمؤمن فلا مانع من التمسک بعمومه لإثبات جواز لعنه، ویستکشف منه بدلیل انه لیس بمؤمن)(1).

فیتلخص مما سبق ان آل أمیة قد لعنوا جمیعا نتیجة لعلم الله سبحانه الأزلی الذی علمه لأولیائه وحججه المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین حیث تم إحراز ان لا مؤمن بینهم، ولو فرض وجود المؤمن فیهم فإنه خارج عن اللعن قطعا، أما المتیقن بعدم إیمانه أو المشکوک الإیمان فانه داخل فی عموم اللعن الوارد فی قوله صلوات الله وسلامه علیه: (ولعن الله بنی أمیة قاطبة).

المبحث الرابع: نظرة عابرة إلی شخصیة أمیة بن عبد شمس

اشارة

أمیة هو ابن عبد شمس بن عبد مناف بن قصی بن کلاب، وقد رویت فی ترجمته أخبار غیر ممدوحة وصفات مذمومة، والظاهر من تخصیصه باللعن فی الزیارة هو ان بلاء أولاده وصفاتهم الذمیمة وقبائحهم الفظیعة کانت متوارثة منه فهو أساس بلائهم وبسببه وبسبب تربیته المعوجة لأبنائه صارت الرذیلة دیدنهم والتعصب ضد الحق مذهبهم، ثم انتقلت هذه التربیة الخاطئة من الأبناء إلی الأحفاد ثم إلی أبنائهم وأبناء أبنائهم وهلم جرا، فصاروا مثل قوم نوح الذین وصفهم القرآن بقوله: ((وَلَا یَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا کَفَّارًا))(2)، وفیما یأتی جملة من أخبار أمیة التی منها یعرف دناءة الرجل وسوء سیرته والتی انتقلت من بعده إلی أولاده بالوراثة والتربیة. 


1- محاضرات فی أصول الفقه تقریر بحث الخوئی للشیخ الفیاض ج 5 ص 202 __ 203.
2- سورة نوح الآیة رقم 27.

ص: 109

کان أمیة مضعوفا صاحب عهار وکان یسرق الحجیج

قال ابن أبی الحدید: (قال أبو عثمان: وشرف هاشم متصل، من حیث عددت کان الشرف معک کابرا عن کابر، ولیس بنو عبد شمس کذلک، فإن الحکم بن أبی العاص کان عادیا فی الأعلام، ولم یکن له سناء فی الجاهلیة. وأما أمیة فلم یکن فی نفسه هناک، وإنما رفعه أبوه، وکان مضعوفا، وکان صاحب عهار یدل علی ذلک قول نفیل بن عدی جد عمر بن الخطاب حین تنافر إلیه حرب بن أمیة وعبد المطلب بن هاشم، فنفر عبد المطلب وتعجب من إقدام حرب علیه وقال له:

أبوک معاهر وأبوه عف               ***        وذاد الفیل عن بلد حرام)(1)

وقال ابن أبی الحدید المعتزلی أیضا: (وروی هشام بن الکلبی أن أمیة بن عبد شمس لما کان غلاما، کان یسرق الحاج فسمی حارسا)(2).

أمیة یزوج ابنه من زوجته فی حیاته

وفی خطوة لم یسبق لها مثیل فی العرب والعجم فقد زوج أمیة بن عبد شمس ولده أبا عمرو بن أمیة من زوجته وهو ما زال علی قید الحیاة، فولدت له أبا معیط بن أبی عمرو بن أمیة، علما ان بعض العرب کانت تتزوج نساء آبائهم بعد موت آبائهم، وکان هذا النکاح یسمی بنکاح المقت، أما ان یزوج رجل منهم زوجته من ابنه فی حیاته وتنجب له أبناء وهو ینظر غیر مکترث بذلک ولا متحرج فهذا فعل غیر مسبوق حتی فی أرذل رجال الجاهلیة.

وفی هذا الصدد یقول ابن أبی الحدید: (وصنع أمیة فی الجاهلیة شیئا لم یصنعه


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 15 ص 206 __ 213.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 15 ص 233.

ص: 110

أحد من العرب، زوج ابنه أبا عمرو امرأته فی حیاته منه، فأولدها أبا معیط بن أبی عمرو بن أمیة، والمقیتون فی الإسلام هم الذین نکحوا نساء آبائهم بعد موتهم، فأما أن یتزوجها فی حیاة الأب ویبنی علیها وهو یراه، فإنه شیء لم یکن قط)(1).

وقال الشریف الرضی فی حقائق التأویل: (فأولدها أبو عمرو أبا معیط. وهی آمنة بنت أبان بن کلب بن ربیعة بن عامر بن صعصعة بن معاویة بن بکر بن هوازن، وإیاها عنی النابعة الجعدی بقوله:

وشارکنا قریشا فی تقاها                ***        وفی أنسابها شرک العنان

بما ولدت نساء بنی هلال              ***        وما ولدت نساء بنی أبان)(2)

علما ان أبا معیط هذا هو والد عقبة بن أبی معیط الشدید الأذی للنبی فی مکة وهو الذی تفل بوجه رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فنزل فیه قوله تعالی ((وَیَوْمَ یَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَی یَدَیْهِ یَقُولُ یَا لَیْتَنِی اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِیلًا))(3) قال مقاتل بن سلیمان: ((وَیَوْمَ یَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَی یَدَیْهِ)) (4) 

یعنی ندامة، یعنی عقبة بن أبی معیط بن عمرو بن أمیة بن عبد شمس بن عبد مناف، وذلک أنه کان یکثر مجالسة النبی صلی الله علیه وسلم وأصحابه، فقال له خلیله وهو أمیة بن خلف الجمحی: یا عقبة، ما أراک إلا قد صبأت إلی حدیث هذا الرجل، یعنی النبی صلی الله علیه وسلم، فقال: لم أفعل، فقال: وجهی من وجهک حرام إن لم تتفل فی وجه محمد صلی الله علیه وسلم، وتبرأ منه حتی یعلم قومک وعشیرتک أنک غیر مفارق لهم، ففعل ذلک عقبة، فأنزل الله عز


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 15 ص 207.
2- حقائق التأویل للشریف الرضی ص 319.
3- سورة الفرقان الآیة رقم 27.
4- سورة الفرقان الآیة رقم 27.

ص: 111

وجل فی عقبة بن أبی معیط ((وَیَوْمَ یَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَی یَدَیْهِ)) (1) من الندامة).(2)

وعقبة بن أبی معیط هو والد الولید بن عقبة بن أبی معیط وهو أخو عثمان لامه، وهو الذی سماه القرآن فاسقا فی قوله سبحانه وتعالی: ((یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَکُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَی مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِینَ))(3) وهو الذی ولاه عثمان إمارة الکوفة وکان سکیرا قلما یصحو من سکره فخرج یوما وصلی (بأهل الکوفة صلاة الصبح أربع رکعات ثم التفت إلیهم فقال: أزیدکم)(4) ولا عجب فی ذلک فمن شابه أباه فما ظلم، والولد کما یقول المثل سر أبیه.

حسد أمیة لهاشم جد النبی صلی الله علیه وآله وسلم 

قال ابن سعد فی طبقاته عند ذکر هاشم بن عبد مناف: (أخبرنا هشام بن محمد ابن السائب الکلبی عن أبیه عن أبی صالح عن ابن عباس قال کان اسم هاشم عمرا وکان صاحب إیلاف قریش وإیلاف قریش دأب قریش وکان أول من سن الرحلتین لقریش ترحل إحداهما فی الشتاء إلی الیمن وإلی الحبشة إلی النجاشی فیکرمه ویحبوه ورحلة فی الصیف إلی الشام إلی غزة وربما بلغ أنقرة فیدخل علی قیصر فیکرمه ویحبوه فأصابت قریشا سنوات ذهبن بالأموال فخرج هاشم إلی الشام فأمر بخبز کثیر فخبز له فحمله فی الغرائر علی الإبل حتی وافی مکة فهشم ذلک الخبز یعنی کسره وثرده، ونحر تلک الإبل، ثم أمر الطهاة فطبخوا ثم کفأ القدور علی الجفان فأشبع أهل مکة، فکان ذلک أول الحیا بعد السنة التی أصابتهم، فسمی بذلک هاشما، وقال عبد الله


1- سورة الفرقان الآیة رقم 27.
2- تفسیر مقاتل بن سلیمان ج 2 ص 435.
3- سورة الحجرات الآیة رقم 6.
4- الاستیعاب لابن عبد البر ج4 ص1555.

ص: 112

بن الزبعری فی ذلک:

عمرو العلی هشم الثرید لقومه      ***        ورجال مکة مسنتون عجاف

وقال وهب بن عبد قصی فی ذلک:

تحمل هاشم ما ضاق عنه              ***        وأعیا أن یقوم به بن بیض

أتاهم بالغرائر متأقات    ***        من أرض الشام بالبر النفیض

فأوسع أهل مکة من هشیم            ***        وشاب الخبز باللحم الغریض

فظل القوم بین مکللات                ***        من الشیزاء حائرها یفیض

قال فحسده أمیة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصی وکان ذا مال فتکلف أن یصنع صنیع هاشم فعجز عنه فشمت به ناس من قریش فغضب ونال من هاشم ودعاه إلی المنافرة فکره هاشم ذلک لسنه وقدره فلم تدعه قریش واحفظوه قال فإنی أنافرک علی خمسین ناقة سود الحدق تنحرها ببطن مکة والجلاء عن مکة عشر سنین فرضی أمیة بذلک وجعلا بینهما الکاهن الخزاعی، فنفر هاشما علیه فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها من حضره وخرج أمیة إلی الشام فأقام بها عشر سنین فکانت هذه أول عداوة وقعت بین هاشم وأمیة)(1).

المبحث الخامس: عثمان یؤسس لسنة بنی أمیة بدلا من سنة الشیخین

اشارة

قبل الدخول فی صلب الموضوع لابد من توضیح عدة أمور مهمة هی:

أولا: إلزامیة أقوال وأفعال النبی صلی الله علیه وآله وسلم 

لا شک فی ان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم کانت له سیاسة خاصة ومنهج محدد


1- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 1 ص 75 __ 76.

ص: 113

یتعامل من خلاله مع وقائع الحیاة الخارجیة سواء الوقائع العسکریة أو الاجتماعیة أو النزاعات والصراعات الداخلیة ما بینه وبین المنافقین أو ما بین الصحابة أنفسهم، وان جمیع هذه المواقف للنبی صلی الله علیه وآله وسلم کانت إما بوحی من الله سبحانه وتعالی أو تطبیقا للقواعد الشرعیة والأصول القرآنیة قال سبحانه وتعالی ((وَمَا یَنْطِقُ عَنِ الْهَوَی * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْیٌ یُوحَی))(1) وقال سبحانه وتعالی ((وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَیْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِیلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْیَمِینِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِینَ * فَمَا مِنْکُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِینَ))(2) فلذلک صارت کلماته وخطاباته ورضاه وغضبه وجمیع أفعاله وانفعالاته هی حجة ملزمة لجمیع المسلمین؛ لأنها وکما قلنا مستمدة من الوحی ومبنیة علی الأصول الشرعیة، وان مفهوم السنة النبویة شامل لجمیع تلک الأشیاء، إذ لا فرق فی ان یقول النبی صلی الله علیه وآله وسلم بلسانه الشریف عن الغیبة بأنها حرام أو ان یغضب علی شخص قد اغتاب أخاه المؤمن بمحضره، فمن کلیهما نستطیع استکشاف حرمة ومبغوضیة الغیبة عند الله سبحانه وتعالی.

ثانیا: ان السنة النبویة قد استوعبت جمیع احتیاجات الحیاة

لا شک فی ان الله سبحانه قد أکمل الشریعة من جمیع جوانبها وکل جهاتها، ولم یخرج النبی الأعظم من الدنیا حتی بین بقوله وفعله وتقریراته جمیع معارف الإسلام وعقائده ووظائفه وأحکامه، فعن حماد بن أبی أسامة قال: (کنت عند أبی عبد الله علیه السلام وعنده رجل من المغیریة فسئل عن شیء من السنن فقال ما من شیء یحتاج إلیه ولد آدم إلا وقد خرجت فیه السنة من الله ومن رسوله ولولا ذلک ما احتج فقال المغیری: وبما احتج؟ فقال أبو عبد الله علیه السلام قوله: الیوم أکملت


1- سورة النجم الآیة رقم 3 __ 4.
2- سورة الحاقة الآیة رقم 44 __ 47.

ص: 114

لکم دینکم وأتممت علیکم نعمتی، حتی فرغ من الآیة فلو لم یکمل سنته وفرایضه وما یحتاج إلیه الناس ما احتج به)(1).

وأخرج ابن أبی شیبة عن عبد الله بن مسعود قال: (قال رسول الله صلی الله علیه وسلم أیها الناس انه لیس من شیء یقربکم من الجنة ویبعدکم من النار إلا قد أمرتکم به وانه لیس شیء یقربکم من النار ویبعدکم من الجنة إلا قد نهیتکم عنه)(2).

وقال ابن حزم: (قال تعالی ((مَا فَرَّطْنَا فِی الْکِتَابِ مِنْ شَیْءٍ ثُمَّ إِلَی رَبِّهِمْ یُحْشَرُونَ))(3) وقوله تعالی ((وَنَزَّلْنَا عَلَیْکَ الْکِتَابَ تِبْیَانًا لِکُلِّ شَیْءٍ))(4) وقوله تعالی ((وَأَنْزَلْنَا إِلَیْکَ الذِّکْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَیْهِمْ))(5) وقوله تعالی ((الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ))(6)... وقد شهد الله تعالی بان النص لم یفرط فیه شیئا وان رسوله علیه الصلاة والسلام قد بین للناس کل ما نزل إلیهم وان الدین قد کمل فصح ان النص قد استوفی جمیع الدین فإذا کان ذلک کذلک فلا حاجة بأحد إلی قیاس ولا إلی رأیه ولا إلی رأی غیره)(7).

ثالثا: لا یحق لأحد من الخلق ان یسن سنة أو یشرع حکما إلا بإذن الهی

بعد ان ثبت ان السنة المطهرة لم تترک مفصلا من مفاصل الحیاة إلا وقد أشبعته وعالجته،وبعد ان لم یترک التشریع حادثة من حوادث هذا العالم إلا وکان لله سبحانه وتعالی فیها حکم فی الکتاب الکریم او السنة النبویة المطهرة، فلا یحق لإنسان حینئذ ان یشرع


1- بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار ص 537 __ 538.
2- الدر المنثور لجلال الدین السیوطی ج 5 ص 94.
3- سورة الأنعام الآیة رقم 38.
4- سورة النحل الآیة رقم 89.
5- سورة النحل الآیة رقم 44.
6- سورة المائدة الآیة رقم 3.
7- المحلی لابن حزم ج 1 ص 56.

ص: 115

أو یسن من عند نفسه حکما لم یأت علی لسان الشریعة، ولم یکن مأذونا فیه من قبل الله سبحانه وتعالی، وفی قوله تعالی ((قُلْ أَرَأَیْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَکُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَکُمْ أَمْ عَلَی اللَّهِ تَفْتَرُونَ))(1) تصریح ب_(أن حق التشریع مختص بالله، وکل من یقدم علی مثل هذا العمل بدون إذنه وأمره، فإنه یکون قد افتری علی الله...__ و __ أن التشریع مقابل شریعة الله دین الجاهلیة، حیث کانوا یعطون لأنفسهم الحق فی وضع الأحکام مع ضیق أفکارهم وضحالتها، ولکن لا یمکن أن یکون المؤمن الحقیقی کذلک مطلقا)(2).

ولا وجه لما اعتقده البعض من ان هذه الآیة خاصة بأهل الشرک دون المسلمین کما رواه ابن أبی حاتم الرازی: (عن عبد الله بن عباس قوله: ((قُلْ أَرَأَیْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَکُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا))(3) قال: هم أهل الشرک کانوا یحلون الأنعام ما شاءوا ویحرمون ما شاءوا)(4) إذ لا خصوصیة لأهل الشرک لینفردوا بحکم الافتراء علی الله سبحانه وتعالی دون غیرهم، لان خصوصیة المورد لا تخصص الوارد، فمن شارک أهل الشرک بالعلة فحرّم وأحلّ من دون إذن الهی یکون قد شارکهم بحکم الافتراء علی الله سبحانه وتعالی.

ظهور سنة جدیدة بعد استشهاد النبی صلی الله علیه وآله وسلم اسمها سنة الشیخین
اشارة

بعد ان استشهد النبی صلی الله علیه وآله وسلم وبعد ان اعتلی مقامه من اعتلی وبعد ان ابعد وأقصی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عن مقاماتهم ومنازلهم التی أنزلهم الله سبحانه وتعالی


1- سورة یونس الآیة رقم 59.
2- الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزل للشیخ ناصر مکارم الشیرازی ج 6 ص390 __ 391.
3- سورة یونس الآیة رقم 59.
4- تفسیر ابن أبی حاتم الرازی ج 6 ص 1960.

ص: 116

فیها، وجد الزعماء الجدد للدولة الإسلامیة أنفسهم أمام تراث نبوی ضخم من الأحکام الشرعیة، والتفسیریة وأحادیث المناقب وأحادیث الوصیة بالعترة، ووجوب تقدیمهم وتفضیلهم، وانهم الأمان من الاختلاف، وان بهم النجاة من الفتنة والانحراف، وانهم المرجع العلمی المأذون له من قبل الله سبحانه وتعالی ورسوله صلی الله علیه وآله وسلم بإقامة الدین، وسن التشریعات للأمة علی وفق حاجاتها المستقبلیة، فعلم الزعماء الجدد ان لا استقامة لإمارتهم ولا دوام لملکهم ما لم تتغیر هذه المنظومة الفکریة والشرعیة والعقائدیة التی ترکها النبی صلی الله علیه وآله وسلم لأمته، وإبدالها بمنظومة فکریة وشرعیة وعقائدیة جدیدة تتناسب والوضع الجدید، وقد سمیت هذه المنظومة الجدیدة بعد ذلک ب_ (سنة أبی بکر وعمر) ونستطیع علی عجالة من الأمر ان نجد ملامح عامة لهذه السنة الجدیدة نلخصها بالنقاط الآتیة:

أولا: سنة الشیخین لا قداسة فیها للنبی صلی الله علیه وآله وسلم 

ان أعظم جریمة ارتکبها المسلمون هی أنهم اقروا کبراءهم وسادتهم علی المساس والنیل من شخصیة وعظمة النبی الأکرم صلی الله علیه وآله وسلم ، والذنب کل الذنب یعود بالدرجة الأولی علی تلک الأمة التی عاصرت وعاشت فی زمن کل من النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وإمارة الشیخین، فهم المؤسسون والمعینون لتأصیل مبدأ عدم قداسة النبی صلی الله علیه وآله وسلم ، وأول بوادر هذا الجریمة النکراء قد ظهرت وأسس أساسها ونبی الله صلی الله علیه وآله وسلم علی فراش موته، یوم اتهمه عمر بن الخطاب بأنه یهجر ولا یعقل ما یقول.

ثم لما وصلوا إلی الإمارة بالطریقة المعروفة وسع هذا المبدأ وادعم بروایات مکذوبة موضوعة وظهر النبی الأعظم بالجهاز الإعلامی للدولة الجدیدة بأنه بشر

ص: 117

کسائر البشر وانه الشخص الذی یسب ویلعن أصحابه وسائر الناس من دون سبب ومبرر للعنة والسب، ثم یعتریه الندم بعد ذلک ویعود إلی رشده __ حاشاه __ ویطلب من الله سبحانه وتعالی ان یجعل لعناته وسبابه وأذیته للعباد رحمة ومغفرة وأجراً وثواباً، وقد ألف أنصار سنة الشیخین وعقدوا أبوابا فی صحاحهم روجوا فیها هذه الأکاذیب، کما فعل مسلم فی صحیحه حیث عقد بابا فی جزئه الثامن اسماه (باب من لعنه النبی صلی الله علیه وسلم أو سبه أو دعا علیه ولیس هو أهلا لذلک کان له زکاة وأجرا ورحمة) روی فیه عن عائشة انها قالت: (دخل علی رسول الله صلی الله علیه وسلم رجلان فکلماه بشیء لا أدری ما هو فأغضباه فلعنهما وسبهما، فلما خرجا قلت: یا رسول الله من أصاب من الخیر شیئا ما أصابه هذان قال وما ذاک قالت قلت لعنتهما وسببتهما قال أوما علمت ما شارطت علیه ربی قلت اللهم إنما أنا بشر فأی المسلمین لعنته أو سببته فاجعله له زکاة وأجرا)(1)وروی عن أبی هریرة: (قال: قال رسول الله صلی الله علیه وسلم اللهم إنما أنا بشر فأیما رجل من المسلمین سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له زکاة ورحمة)(2).

والعجیب فی الأمر ان مسلما فی صحیحه قد روی قبل هذه الأحادیث أحادیث أخری تکذّب قول کل من عائشة وأبی هریرة علی لسان أبی هریرة نفسه وغیره جاء فیها: (عن أبی حازم عن أبی هریرة قال قیل یا رسول الله ادع علی المشرکین فقال إنی لم ابعث لعانا وإنما بعثت رحمة)(3) وعن (زید بن أسلم ان عبد الملک بن مروان بعث إلی أم الدرداء بانجاد من عنده فلما إن کان ذات لیلة قام عبد الملک من اللیل


1- صحیح مسلم ج 8 ص 24 باب من لعنه النبی صلی الله علیه وسلم أو سبه أو دعا علیه ولیس هو أهلا لذلک کان له زکاة وأجرا ورحمة.
2- المصدر السابق ص25.
3- صحیح مسلم ج 8 ص 24 باب النهی عن لعن الدواب وغیرها.

ص: 118

فدعا خادمه فکأنه أبطأ علیه فلعنه فلما صبح قالت له أم الدرداء سمعتک اللیلة لعنت خادمک حین دعوته فقالت سمعت أبا الدرداء یقول قال رسول الله صلی الله علیه وسلم لا یکون اللعانون شفعاء ولا شهداء یوم القیامة)(1) وهذان الحدیثان هما الأنسب والأکثر انسجاما مع قوله سبحانه وتعالی فی وصفه للنبی صلی الله علیه وآله وسلم ((وَإِنَّکَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِیمٍ))(2).

وسنة الشیخین أکدت وبشدة علی بشریة النبی الأکرم صلی الله علیه وآله وسلم من دون ان تعطی لشخصیته مصداقیة غیبیة، إلا فی جانب یسیر من جوانب حیاته المبارکة، وهو الجانب التبلیغی للأحکام الشرعیة، أما ما یتعلق بتدبیر الأمور وسیاسة البلاد وإدارة شؤون الناس وبقیة الأمور المتعلقة بدنیا المکلفین فقد جعلوا من النبی صلی الله علیه وآله وسلم بشرا کسائر البشر بل دون سائر البشر یری فیها الرأی ثم یتبین له خطأه فیطلب من المسلمین السماح والغفران(3)، ویصلی بأصحابه فیتوقف فجأة ویأمرهم بالانتظار وسط الصلاة ثم یذهب إلی بیته لیغتسل ویعود لیخبرهم بأنه کان جنبا ونسی ان یغتسل(4)، ویصلی بهم فلا یدری کم صلی وکم رکع وسجد فیعتذر بأنه بشر مثلهم


1- المصدر السابق.
2- سورة القلم الآیة رقم 4.
3- قال النووی فی شرحه لصحیح مسلم، شرح مسلم، النووی ج 5 ص 61 __ 62: (قوله صلی الله علیه وسلم ولکن إنما أنا بشر أنسی کما تنسون فإذا نسیت فذکرونی، فیه دلیل علی جواز النسیان علیه صلی الله علیه وسلم فی أحکام الشرع وهو مذهب جمهور العلماء وهو ظاهر القرآن والحدیث... قال القاضی واختلفوا فی جواز السهو علیه صلی الله علیه وسلم فی الأمور التی لا تتعلق بالبلاغ وبیان أحکام الشرع من أفعاله وعاداته وأذکار قلبه فجوزه الجمهور).
4- فی مسند احمد بن حنبل ج 5 ص 41: (عن أبی بکرة ان رسول الله صلی الله علیه وسلم استفتح الصلاة فکبر ثم أومأ إلیهم ان مکانکم ثم دخل فخرج ورأسه یقطر فصلی بهم فلما قضی الصلاة قال إنما أنا بشر وانی کنت جنبا).

ص: 119

ینسی کما ینسون ویسهو کما یسهون(1)، ویأمرهم بعدم تلقیح نخل المدینة ثم یتبین له ان النخلة لکی تثمر فانها لا یمکن ان تستغنی عنه النخلة فیعتذر لهم ویفوض لهم أمر التصرف بما یتعلق بأمور دنیاهم لأنهم اعرف بها منه(2)، والظاهر ان التأکید المبالغ فیه علی بشریة النبی صلی الله علیه وآله وسلم ، وانه کغیره ینسی ویسهو، ویلعن ویسب، ویصلی مجنبا، بل ویترک صلاة الصبح، ویبول واقفا، وأمثال ذلک، سببه سلب قدسیة النبی صلی الله علیه وآله وسلم من نفوس المسلمین، وتحطیم مصداقیة أقواله وأفعاله، وبمعنی آخر تحطیم السنة النبویة، حتی یمکن للسلطة وأتباعها مناقشتها ومعارضتها وعدم الاعتقاد بإلزامیتها، لتبدأ بعد ذلک مرحلة جدیدة من مراحل المخطط وهو ما سنتکلم عنه فی النقطة الثانیة.

ثانیا: تضخیم شخصیة السلطة وإعطاؤها مقام الأنبیاء

بعد ان نجحت السلطة فی سحق وقتل قداسة النبی صلی الله علیه وآله وسلم إعلامیا، جاءت الخطوة المکملة لهذه المهمة وهی تضخیم شخصیة الخلیفة المغتصب وبعض الحاشیة المشارکة له فی الأهداف والمصالح، وجعله وإیاهم مرجعا یرجع إلیه فی کل صغیرة وکبیرة، ولم یکتفوا بأن جعلوهم أفضل الصحابة حتی صیروهم أفضل أهل


1- مسند احمد بن حنبل ج 1 ص 420: (عن عبد الله بن مسعود قال صلی رسول الله صلی الله علیه وسلم خمسا الظهر أو العصر فلما انصرف قیل له یا رسول الله أزید فی الصلاة قال لا قالوا فإنک صلیت خمسا قال فسجد سجدتی السهو ثم قال إنما أنا بشر أذکر کما تذکرون وأنسی کما تنسون).
2- صحیح مسلم ج7 ص 95: (عن رافع بن خدیج قال قدم نبی الله صلی الله علیه وسلم المدینة وهم یأبرون النخل یقولون یلقحون النخل فقال ما تصنعون قالوا کنا نصنعه قال لعلکم لو لم تفعلوا کان خیرا فترکوه فنفضت أو فنقصت قال فذکروا ذلک له فقال إنما أنا بشر إذا أمرتکم بشیء من دینکم فخذوا به وإذا أمرتکم بشیء من رأیی فإنما انا بشر).

ص: 120

السماوات والأرض، کما نقل عن أبی هریرة قوله: (إن رسول الله صلی الله علیه وسلم قال: أبو بکر وعمر خیر أهل السماوات و الأرض، وخیر الأولین والآخرین، إلا النبیین والمرسلین)(1).

 ومنحوهما مقام الإفتاء فی زمن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم کما نقل عن ابن عمر: (أنه سئل عمن کان یفتی فی زمن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فقال: أبو بکر وعمر ولا أعلم غیرهما)(2).

وجعلوا الخلیفة یلقی فی روعه ولا یتکلم إلا بإلهام من الملائکة، واختلقوا فی هذا المجال عدة أحادیث منها ما عن عائشة: (عن النبی صلی الله علیه وسلم انه کان یقول قد کان یکون فی الأمم قبلکم محدثون، فإن یکن فی أمتی منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم)(3)قال العینی: (المحدث الملهم الذی یلقی الشیء فی روعه فکأنه قد حدث به یظن فیصیب، ویخطر الشیء بباله فیکون، وهی منزلة جلیلة من منازل الأولیاء، وقیل: المحدث هو من یجری الصواب علی لسانه، وقیل: من تکلمه الملائکة...وقد وقع ذلک بحمد الله تعالی. وفیه منقبة عظیمة لعمر بن الخطاب)(4) وقال المناوی: (کأنه جعله فی انقطاع قرینه فی ذلک کأنه نبی)(5) وقال


1- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی ج2 ص333، وکنز العمال للمتقی الهندی ج11 ص567 فضائل أبی بکر وعمر من الإکمال.
2- التمهید لابن عبد البر ج9 ص77، والسؤال الذی یطرح نفسه هنا هل کان المسلمون بحاجة إلی من یفتیهم ورسول الله صلی الله علیه وآله وسلم علی قید الحیاة وهو صلی الله علیه وآله وسلم معروف بعدم رد أی سائل یطلب التفقه فی الدین، فإذا کان الحال هذا فما الداعی إلی ان یسأل الناس الفتوی من أبی بکر وعمر؟!.
3- صحیح مسلم ج7 ص116 باب من فضائل عمر.
4- عمدة القاری للعینی ج 16 ص 55.
5- فیض القدیر شرح الجامع الصغیر للمناوی ج4 ص664حرف القاف.

ص: 121

الشیخ الامینی نقلا عن الحافظ محب الدین الطبری: (ویجوز أن یحمل علی ظاهره وتحدثهم الملائکة لا بوحی وإنما بما یطلق علیه اسم حدیث، وتلک فضیلة عظیمة)(1).

وان النبی صلی الله علیه وآله وسلم کان یخاف ان ینتقل جبرائیل علیه السلام بالوحی إلی عمر بن الخطاب، حتی کان یجهر بالقول: (ما أبطأ عنی جبریل إلا خشیت أنه ذهب إلی عمر)(2).

وان الخلیفة أعطی تسعة أعشار العلم وترک بقیة الخلق یتشارکون فی جزء واحد، قال ابن مسعود: (لو وضع علم أحیاء العرب فی کفة میزان ووضع علم عمر فی کفة لرجح علم عمر ولقد کانوا یرون أنه ذهب بتسعة أعشار العلم ولمجلس کنت أجلسه مع عمر أوثق فی نفسی من عمل سنة)(3).

وفی مقارنة سریعة بین ما سطروه هنا للسلطة من صفات ترتفع بهم عن مرتبة سائر المخلوقین، وبین ما نسبوه للنبی صلی الله علیه وآله وسلم من موبقات عظام تتضح اللعبة وتتبین تفاصیلها ویتیقن المسلم ان ذلک التمجید للسلطة وهذا الانتقاص من مقام النبی صلی الله علیه وآله وسلم کان الهدف منه استبدال القدسیة لیتسنی للخلیفة ان یتمتع بمقام التشریع وحتی إذا ما سن سنة یطاع ویتبع ما دام هو خیر أهل السماوات والأرض وما دام ملهما محدثا من قبل الملائکة، ولکی إذا ما خالفت سنته سنة النبی صلی الله علیه وآله وسلم تقدم سنة الخلیفة وتشریعاته لأنه ملهم بینما النبی صلی الله علیه وآله وسلم کما صوره إعلام الدولة یسهو وینسی ویخطئ ویعتذر بأنه بشر مثل غیره من البشر. 


1- الغدیر للشیخ الامینی ج5 ص44 نصوص العامة حول المحدث.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید المعتزلی ج12 ص178 ذکر الأحادیث الواردة فی فضل عمر.
3- الاستیعاب لابن عبد البر ج 3 ص 1149 __ 1150.

ص: 122

ثالثا: إیجاد التغطیة الإعلامیة وشراء ذمم المغطین

ان الحدیث عن سنة الشیخین لا ینبغی ان ینفصل عن مسألة مهمة للغایة وهی ان هذین الشیخین ما کانا لینجحا لولا إیجادهم لشبکة إعلامیة قویة وفعالة تروج ما یسن ویبتدع من فتاوی وسنن، وتعطی زخما شرعیا وتغطیة إسلامیة لکل ما یقوم به الحاکم، وقد وقع اختیار السلطة علی مجموعة من الأشخاص کان کل واحد منهم یتمتع بمیزة خاصة ومهمة معینة محددة، فعائشة لتغطیة الجانب الشرعی وإعطاء الأحکام وقد منحت مرتبة من قبل السلطة لم یمنح مثلها إنسان بسبب الخدمات الجلیلة التی بذلتها فی هذا المجال حتی ضخمت شخصیتها کما ضخمت شخصیة الشیخین ورووا ان النبی قال لامته وأوصاهم بقوله: (خذوا ثلثی دینکم من هذه الحمیراء)(1) وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبیه قال: (کانت عائشة قد استقلت بالفتوی فی خلافة أبی بکر وعمر)(2) وحتی فتحت أمامها أبواب بیت المال وتمیزت براتبها الشهری عن جمیع نساء المسلمین، قال ابن سعد: (عن مصعب بن سعد أن عمر أول من فرض الأعطیة فرض لأهل بدر والمهاجرین والأنصار ستة آلاف ستة آلاف وفرض لأزواج النبی علیه السلام ففضل علیهن عائشة فرض لها فی اثنی عشر ألفا ولسائرهن عشرة آلاف عشرة آلاف غیر جویریة وصفیة فرض لهما فی ستة آلاف ستة آلاف)(3).

وأعطی القضاء لزید بن ثابت فعن سلیمان بن یسار قال: (ما کان عمر ولا


1- تفسیر الرازی ج32 ص32 فی تفسیر قوله تعالی (لیلة القدر خیر من ألف شهر) وقریب من هذا اللفظ تجده فی المبسوط للسرخسی ج4 ص213 باب نکاح الصغیر والصغیرة.
2- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 2 ص 375.
3- المصدر السابق ج3 ص304 ذکر استخلاف عمر.

ص: 123

عثمان یقدمان علی زید بن ثابت أحدا فی القضاء والفتوی والفرائض والقراءة)(1) مع العلم ان زید بن ثابت یصرح بما لا یقبل الشک ان جمیع ما کان یقضی به هو اجتهادات شخصیة لا تمت للشریعة بصلة فعن الشعبی قال: (إن مروان دعا زید بن ثابت، وأجلس له قوما خلف ستر، فأخذ یسأله، وهم یکتبون; ففطن زید، فقال: یا مروان، أغدرا، إنما أقول برأیی)(2)وقد استفاد زید بن ثابت من بحبوحة بیت المال لان الدولة لم تکن تبخل علی من یخدمها بإخلاص، قال ابن حجر: (وروی البغوی بإسناد صحیح عن خارجة بن زید کان عمر یستخلف زید بن ثابت إذا سافر فقلما رجع إلا اقطعه حدیقة من نخل)(3)ولا نرید الدخول بتفصیل القول حول طلحة والزبیر وعبد الرحمن بن عوف وآل أبی سفیان وغیرهم ممن قدم خدمات للدولة فمنحتهم الدولة من الذهب والفضة ما کان یکسر بالفؤوس.

ولم تکن السلطة فی قوانین سنتها الجدیدة تری بأسا فی ان یری رجالها المعتمدون ما یشاءون ما دامت هذه الآراء لا تخل بأمن الدولة ولا تزعزع کرسی الخلیفة، قال ابن عبد البر: (وعن ابن عمر أنه سئل عن شیء فعله أرأیت رسول الله صلی الله علیه وسلم یفعل هذا أو شیء رأیته قال بل شیء رأیته وعن أبی هریرة رضی الله عنه أنه کان إذا قال فی شیء برأیه قال هذه من کیسی ذکره ابن وهب عن سلیمان بن بلال عن کثیر بن زید عن ولید بن رباح عن أبی هریرة وعن ابن مسعود أنه قال فی غیر ما مسألة أقول فیها برأی)(4)


1- المصدر السابق ج 2 ص 359.
2- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 2 ص 438.
3- الإصابة لابن حجر ج2 ص492.
4- جامع بیان العلم وفضله لابن عبد البر ج 2 ص 58.

ص: 124

کما ان السلطة وأعوانها لم تکن تری بأسا فی ان تطمس کثیرا من النصوص النبویة فیما تعلقت مصلحة الدولة بطمسها وإخفائها، قال ابن أبی الحدید المعتزلی: (وقد أطبقت الصحابة إطباقا واحدا علی ترک کثیر من النصوص لما رأوا المصلحة فی ذلک کإسقاطهم سهم ذوی القربی وإسقاط سهم المؤلفة قلوبهم وهذان الأمران أدخل فی باب الدین منهما فی باب الدنیا وقد عملوا بآرائهم أمورا لم یکن لها ذکر فی الکتاب والسنة، کحد الخمر فإنهم عملوه اجتهادا، ولم یحد رسول الله صلی الله علیه وآله شاربی الخمر وقد شربها الجم الغفیر فی زمانه بعد نزول آیة التحریم ولقد کان أوصاهم فی مرضه أن أخرجوا نصاری نجران من جزیرة العرب فلم یخرجوهم حتی مضی صدر من خلافة عمر، وعملوا فی أیام أبی بکر برأیهم فی ذلک باستصلاحهم وهم الذین هدموا المسجد بالمدینة وحولوا المقام بمکة، وعملوا بمقتضی ما یغلب فی ظنونهم من المصلحة ولم یقفوا مع موارد النصوص، حتی اقتدی بهم الفقهاء من بعد، فرجح کثیر منهم القیاس علی النص، حتی استحالت الشریعة وصار أصحاب القیاس أصحاب شریعة جدیدة)(1).

وکذلک کانت السلطة وأتباعها یرون حلیة وجواز إخفاء الحقائق والأحادیث التی تؤدی إلی تفرق الناس عنهم کما جاء علی لسان عثمان بن عفان حیث خطب فی أیام إمارته فقال: (أیها الناس إنی کتمتکم حدیثا سمعته من رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم کراهة تفرقکم عنی...)(2).

وبمعاونة السلطة وبجهود بعض الصحابة وبسکوت الأمة انتهت السنة النبویة بذلک وحلت محلها الآراء الشخصیة المنسجمة مع خط السلطة وتوجهاتها الفکریة،


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 12 ص 83 __ 84 نکت من کلام عمر وسیرته وأخلاقه.
2- مسند احمد بن حنبل ج1 ص65 مسند عثمان بن عفان.

ص: 125

ثم أکملت هذه الخطوة بخطوة أخری قاضیة أردت فیها السلطة السنة النبویة صریعة ألا وهی قیام السلطة بحرق کل أحادیث النبی صلی الله علیه وآله وسلم التی کتبت فی حیاته الشریفة، فعن عائشة قالت: (جمع أبی الحدیث عن رسول الله (صلی الله علیه وسلم) وکانت خمسمائة حدیث، فبات لیله یتقلب کثیرا، قالت: فغمنی فقلت: تتقلب لشکوی أو لشیء بلغک؟ فلما أصبح قال: أی بنیة هلمی الأحادیث التی عندک، فجئته بها، فدعا بنار فحرقها)(1) وبهذه الخطوات المدروسة من قبل السلطة، تم القضاء علی آخر رمق للسنة النبویة، ومع قتل السنة النبویة، قتلت حقوق أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وأوسمتهم وفضائلهم والوصیة بتقدیمهم، وأحییت فضائل جدیدة لطبقة جدیدة من الصحابة واخترعت أحادیث جدیدة منحت غیر أهل البیت مراتب السبق والفضل والوصیة، وأُسس منهج فقهی وعقائدی لا یری أی ضیر أو خجل فی معارضة الثوابت التی رسمها النبی صلی الله علیه وآله وسلم وبلغها لامته وصلاة التراویح ومنع زواج المتعة وغیرها من آلاف الشواهد دلیل علی ما نقول.

محاولات عثمان تغییر سنة الشیخین وبناء سنة جدیدة
اشارة

قد مر علینا فیما سبق ان عبد الرحمن بن عوف وآخرین رفضوا ان یبایعوا عثمان بن عفان الا حینما ضمن لهم انه سیسیر علی سنة أبی بکر وعمر، وهو دلیل علی ان المسلمین أصبحوا لا یعرفون من سنة النبی شیئا، وان السنة الجدیدة لابی بکر وعمر قد حلت محل سنة الله ورسوله، إذ لو کانت سنة الشیخین هی نفسها سنة الله ورسوله لما کان ضروریا ان تسمی بسنتهما ولقال القائل واشترط علی عثمان المضی والعمل علی وفق سنة الله ورسوله لان تسمیتها بسنة رسول الله اولی من تسمیتها


1- کنز العمال للمتقی الهندی ج10 ص285 باب فی أدب العلماء فصل فی روایة الحدیث.

ص: 126

بسنة الشیخین لأنّه صلی الله علیه وآله وسلم أشرف وأکمل والتسمیة باسمه أوجب، ولکن إطلاقهم علی تلک السنة بسنة الشیخین دلیل علی أنها لا تمت إلی رسول الله بصلة لا من قریب ولا من بعید وانها آراء ورؤی شخصیة ارتآها الحاکم وألبست لباسا شرعیا من قبل الشبکة الإعلامیة التی کان یستعین بها الخلیفة وفرضت علی الناس بالقوة والسیف ومع مرور الوقت صارت دینا یدان به ومنهجا یکبر علیه الصغیر ویهرم علیه الکبیر.

محاولات یائسة للتغییر والخروج عن سنة أبی بکر وعمر

وعثمان بن عفان ولاعتقاده بان سنة الشیخین ما هی إلا عبارة عن آراء الحکام الذین سبقوه وانها ما فرضت علی الناس ولا سنت ولا روجت إلا لان القائل لها هو الحاکم ولیس شخصا آخر، وها هو قد وصل إلی ما وصل إلیه کل من أبی بکر وعمر، فمن حقه حینئذ ان یضع لمساته کخلیفة علی الفقه والعقیدة والاقتصاد وغیر ذلک لیکون له اثر یذکر کما لغیره، ولیدخل اسمه فی ضمن موسوعة المبتدعین ولیسمی الناس بعده السنة باسم سنة أبی بکر وعمر وعثمان، لذلک حاول بعد فترة لیست بالطویلة من تولیه الإمارة ان یشرع بعض الأحکام التی یناقض فیها کلاً من النبی صلی الله علیه وآله وسلم وأبی بکر وعمر، نظیر ما رواه الطبری بقوله: (عن عبد الملک بن عمرو بن أبی سفیان الثقفی عن عمه قال صلی عثمان بالناس بمنی أربعا فأتی آت عبد الرحمن بن عوف فقال هل لک فی أخیک قد صلی بالناس أربعا فصلی عبد الرحمن بأصحابه رکعتین ثم خرج حتی دخل علی عثمان فقال له ألم تصل فی هذا المکان مع رسول الله صلی الله علیه وسلم رکعتین قال بلی قال أفلم تصل مع أبی بکر رکعتین قال بلی قال أفلم تصل مع عمر رکعتین قال بلی قال ألم تصل صدرا من

ص: 127

خلافتک رکعتین... فقال عثمان هذا رأی رأیته)(1).

وقال ابن الأثیر: (أمر عثمان بتجدید أنصاب الحرم، وفیها زاد عثمان فی المسجد الحرام، ووسعه، وابتاع من قوم فأبی آخرون فهدم علیهم ووضع الأثمان فی بیت المال، فصاحوا بعثمان فأمر بهم فحبسوا، وقال لهم: قد فعل هذا بکم عمر فلم تصیحوا به. فکلمه فیهم عبد الله بن خالد بن أسید فأطلقهم)(2).

والملاحظ فی النصین السابقین ان عثمان بن عفان کان یعانی المعارضة الشدیدة من بعض الصحابة الذین کانوا ینغصون علیه محاولاته لتغییر السنة، مع ان أکثر هذه الأصوات لم تکن ترفع ضد تغییر کل من أبی بکر وعمر للسنة النبویة، مع العلم ان تغییرهما للسنة النبویة کان اشد وأعظم، وقد واجه عثمان بن عفان أولئک المعترضین بهذه الحقیقة علانیة فقال فی إحدی خطبه: (ألا فقد والله عبتم علی بما أقررتم لابن الخطاب بمثله ولکنه وطئکم برجله وضربکم بیده وقمعکم بلسانه فدنتم له علی ما أحببتم أو کرهتم ولنت لکم وأوطأت لکم کتفی وکففت یدی ولسانی عنکم فاجترأتم علی أما والله لأنا أعز نفرا وأقرب ناصرا وأکثر عددا)(3).

عثمان لم یفهم قواعد اللعبة فلذلک اعترض علیه

حینما کان النبی صلی الله علیه وآله وسلم فی مکة یدعو إلی التوحید ونبذ الشرک، وحینما أضرت دعوته المبارکة بمصالح قریش وطغاتها قرر أصحاب القرار فی مکة ان یقتلوا الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لکنهم خافوا من ان یصطدموا مع بنی هاشم ویدخلوا فی


1- تاریخ الطبری ج3 ص 322 __ 323.
2- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج 3 ص 87.
3- تاریخ الطبری ج 3 ص 377.

ص: 128

مواجهة دامیة، لکنهم وبمکر شیطانی وصلوا إلی ان یختاروا من کل قبیلة رجلا ثم یضربوا النبی ضربة رجل واحد لیضیع دمه وحقه بین القبائل، لان بنی هاشم لا یستطیعون حینئذ مواجهة کل العرب، فیضطرون إلی السکوت والقبول بعدم المواجهة، ونفس هذا المخطط الشیطانی قد نفذ من قبل أصحاب السقیفة، لأنهم ادخلوا فی لعبتهم کل قبائل العرب وجمیع من کان له مطمع من الصحابة وغیرهم، فأعطوا الأموال العظیمة وقسموا الهدایا الجسیمة، وولوا البلدان لمن کان یتشوق للإمارة، واشتروا الذمم فأحبهم الناس وأحبوا بقاءهم وصبروا علی ما فیهم من العلل والنقص رجاء أعطیاتهم وصلاتهم، والأهم من ذلک کله هو إیجادهم لشبکة إعلامیة قویة تغطی جمیع تصرفاتهم وتغییراتهم وتبررها وتلبسها لباسا شرعیا، وبذلک ضاع حق أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بین القبائل، کما أراد مشرکو مکة ان یضیعوا دم النبی صلی الله علیه وآله وسلم بین القبائل.

واستمر العمل بهذا المنهج طوال إمارة أبی بکر وعمر بن الخطاب، لکن لما تولی عثمان بن عفان الإمارة، خالف قواعد اللعبة وأراد ان یستفرد بالغنیمة کاملة هو واهل بیته من بنی أمیة دون أهل الحل والعقد من الصحابة الذین کانوا یمنحون الدولة المساندة مقابل نظام المحاصصة، فصیرهم أسوة بغیرهم من الناس، وأعطی الأموال الجسیمة إلی قرابته واهل بیته، فثارت لذلک ثائرة الذین تم إقصاؤهم ومساواتهم بغیرهم وشعروا بأن مصالحهم وقارونیتهم باتت مهددة بالزوال والضیاع وان منازلهم ومقاماتهم التی تمتعوا ببحبوحتها لسنوات طویلة صارت عرضة للانتهاک من قبل الأمیر الجدید، فوقفوا بوجه کل محاولة من محاولات تغییره مهما کانت صغیرة وتافهة بالنسبة لما تم تغییره فی زمن کل من أبی بکر وعمر، فلو کان عثمان قد فهم اللعبة جیدا، ولو کانت مصالح تلک الشبکة الإعلامیة مضمونة من قبل الخلیفة، ولو

ص: 129

تقاسم بالغنیمة مع غیره لما تجرأ علیه متجری، ولدعمت وأسندت وألبست جمیع تغییراته للسنة لباسا شرعیا ولاستحدثت فتاوی وأحادیث جدیدة تلبی جمیع رغباته وتغییراته.

وکشاهد علی ما قدمنا من ان الصراع ما بین عثمان ومحاولاته لتغییر السنة وإیجاد سنة بدیلة عن سنة الشیخین وما بین معارضیه لم یکن صراع الخوف علی الأمة وعلی سنة نبیها الکریم بل کان جوهر الصراع وحقیقته هو صراع مصالح شخصیة ومنافع آنیة لکن البس لباسا شرعیا واستغل اسم النبی صلی الله علیه وآله وسلم وسنته لاستمالة قلوب الجهال والبسطاء من الناس، قال الیعقوبی فی تاریخه: (وکان بین عثمان وعائشة منافرة وذلک أنه نقصها مما کان یعطیها عمر بن الخطاب، وصیرها أسوة بغیرها من نساء رسول الله، فقام عثمان یوما لیخطب إذ دلت عائشة قمیص رسول الله، ونادت: یا معشر المسلمین ! هذا جلباب رسول الله لم یبل، وقد أبلی عثمان سنته ! فقال عثمان: رب اصرف عنی کیدهن إن کیدهن عظیم)(1).

معاویة بن أبی سفیان یکتشف الخطأ ویمرر سنة عثمان

بقی عثمان بن عفان غیر راضخ لقواعد اللعبة إلی ان مات اما تغافلا منه عنها أو عنادا منه لها، لکن معاویة بن أبی سفیان لما وصل الیه الملک الدنیوی اتخذ درسا من أیام عثمان وما مر علیه، وتیقن بأنه سوف لن یکتب له النجاح ما لم یرجع العمل بنظام القواعد القدیمة، فأعاد فتح باب الامتیازات الاستثنائیة لمن بقی من أصحاب الشبکة الإعلامیة القدیمة، وبالخصوص عائشة بنت أبی بکر، فأغرقها بالهدایا والأعطیات وفی المقابل أغرقته بالقبول والرضا والمساندة، قال ابن کثیر:


1- تاریخ الیعقوبی ج 2 ص175 أیام عثمان بن عفان.

ص: 130

(قضی معاویة عن عائشة أم المؤمنین ثمانیة عشر ألف دینار، وما کان علیها من الدین الذی کانت تعطیه... وقال عطاء: بعث معاویة إلی عائشة وهی بمکة بطوق قیمته مائة ألف فقبلته)(1).

وبسبب هذه الأموال الضخمة لم یعد یهتز عند عائشة وجدان من کل جرائم معاویة بن أبی سفیان، فإذا ما أرادت ان تظهر غیظها وحنقها لا تظهره إلا علی شکل عتاب خجول سرعان ما ینتهی بهدیة کبیرة من جانب معاویة تنسیها سنة رسول الله ودماء المسلمین کما حصل بینها وبینه بعد قتل الشهید حجر بن عدی وأصحابه، قال الطبرانی: (عن مروان بن الحکم قال دخلت مع معاویة علی عائشة أم المؤمنین فقالت یا معاویة قتلت حجرا وأصحابه وفعلت الذی فعلت أما خشیت أن أخبئ لک رجلا فیقتلک بمحمد بن أبی بکر قال لا إنی فی بیت آمن سمعت رسول الله صلی الله علیه وسلم یقول الإیمان قید الفتک لا یفتک مؤمن یا أم المؤمنین کیف أنا فی حوائجک ورسلک وأمرک قالت صالح قال فدعینی وحجرا حتی نلتقی عند الله)(2).

وبهذا وغیره صارت عند معاویة الفرصة السانحة والغطاء الإعلامی المناسب فی إرجاع ما سنه عثمان بن عفان وجعل سنته وتعدیلاته علی الأحکام هی دین الدولة الجدید، مع علمه وعلم جمیع الصحابة ان هذه السنة الجدیدة تخالف سنة النبی صلی الله علیه وآله وسلم من جهة وتخالف سنة کل من ابی بکر وعمر من جهة أخری، قال الهیثمی: (عن عباد بن عبد الله بن الزبیر قال لما قدم علینا معاویة حاجا قدمنا مکة قال فصلی بنا الظهر رکعتین ثم انصرف إلی دار الندوة قال وکان عثمان حین أتم الصلاة إذا قدم مکة صلی بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعا فإذا خرج إلی منی


1- البدایة والنهایة لابن کثیر ج 8 ص 145 __ 146.
2- المعجم الکبیر للطبرانی ج 19 ص 319 __ 320 مروان بن الحکم عن معاویة.

ص: 131

وعرفات قصر الصلاة فإذا فرغ من الحج وأقام بمنی أتم الصلاة حتی یخرج فلما صلی بنا معاویة الظهر رکعتین نهض إلیه مروان بن الحکم وعمرو بن عثمان فقالا له ما عاب أحد ابن عمک بأقبح ما عبته به فقال لهما ویحکما وهل کان غیر ما صنعت قد صلیتهما مع رسول الله صلی الله علیه وسلم ومع أبی بکر وعمر فقالا فان ابن عمک قد کان أتمها وان خلافک إیاه عیب له قال فخرج معاویة إلی العصر فصلاها بنا أربعا)(1).

قال الشوکانی: (إن أول من ترک تکبیر النقل أی الجهر به عثمان، ثم معاویة، ثم زیاد، ثم سائر بنی أمیة)(2).

المبحث السادس: تشیید الأمویین لمذهب جدید اسمه المرجئة

ابتلی بنو أمیة قاطبة بمعضلة عظیمة کانت تحط من قدرهم ومنزلتهم فی أعین الناس، فهم مذ أسلموا ودخلوا فی هذا الدین کرها لم تظهر علیهم آثار العبادة وأداء الواجبات والاجتهاد فی الطاعات ومراعاة الحقوق، ومن استقصی حالهم وأقوالهم وأفعالهم لم یجد إلا الجرأة علی الحدود وإراقة الدماء وانتهاک الحدود، فهم من سن المجالس العامة للطرب والغناء والخمور والزنا، حیث کانت تصرف علی هذه المجالس والمغنین والمغنیات وکؤوس الذهب والفضة التی یوضع فیها الخمر والنبیذ ما تکفی لإشباع آلاف المسلمین، ومنهم من مزق القرآن بالسهام لا لشیء إلا لأنه استخار بکتاب الله سبحانه وتعالی فخرجت الخیرة علی خلاف مراده، وهم من أراق دماء الأزکیاء


1- مجمع الزوائد للهیثمی ج 2 ص 156 __ 157وقد علق الهیثمی علی هذا الحدیث بقوله: (رواه أحمد وروی الطبرانی بعضه فی الکبیر ورجال أحمد موثقون).
2- نیل الأوطار للشوکانی ج 2 ص 269.

ص: 132

علی ثری کربلاء وسبی منهم النساء وذبح الرضعان وشال الرؤوس علی الرماح یطوف بها وبهن شرق الأرض وغربها.

 فوجدت نتیجة لکل هذه الأفعال المشینة المخزیة هوة عظیمة ما بین آیات القرآن الکریم وسیرة النبی صلی الله علیه وآله وسلم وصفاته، بل وحتی ما بین سنة کل من أبی بکر وعمر وما بین أفعال الأمویین وعباداتهم وطریقة إدارتهم لشؤون العباد والبلاد، فالمتابع لسیرة النبی وسنته والملم بأخلاقیات القرآن وآدابه وأحکامه یجدهما یتناقضان بالکلیة مع السیرة الأمویة وأخلاق أبناء هذه العائلة الملعونة والشجرة الخبیثة، وبطبیعة الحال لم یکن هذا التناقض خافیا علی بنی أمیة، ولاسیما علی أمرائهم والمتنفذین فیهم، وکذلک لم یکن هذا التناقض والتنافر یخفی علی عامة المسلمین.

ثم إن بنی أمیة قد تنّبهوا إلی أمر مهم للغایة وهو: ان کل من خرج علیهم بالسیف ثائرا ولتغییرهم طالبا کان یستغل مسألة مجونهم وفسادهم وقتلهم للمسلمین ومخالفة أعمالهم وأقوالهم وعقائدهم للقرآن والسنة، مما أوقعهم بحرج شدید، فاخترعوا لحل هذه المعضلة مذهبا سمی واصطلح علیه فیما بعد بمذهب المرجئة.

وقد أوضح ابن حجر الزمن الدقیق لنشوء هذا المذهب ففی روایة: (عن شعبة عن زبید قال لما ظهرت المرجئة أتیت أبا وائل فذکرت ذلک له فظهر من هذا ان سؤاله کان عن معتقدهم وان ذلک کان حین ظهورهم وکانت وفاة أبی وائل سنة تسع وتسعین وقیل سنة اثنتین وثمانین ففی ذلک دلیل علی أن بدعة الإرجاء قدیمة)(1)، فیظهر ان هذا المذهب قد وجد قبل سنة اثنین وثمانین، مما یعنی انه وبالتحدید قد وجد فی ما بین إمارة عبد الملک بن مروان الذی ملک من سنة خمس وستین إلی سنة ست


1- فتح الباری لابن حجر ج 1 ص103.

ص: 133

وثمانین وما بین إمارة ابنه الولید بن عبد الملک الذی حکم إلی سنة ست وتسعین للهجرة، قال الیعقوبی: (وملک عبد الملک بن مروان بن الحکم، وأمه عائشة بنت معاویة بن المغیرة بن أبی العاص بن أمیة، جداه جمیعا طریدا رسول الله، وکانت البیعة له بالشام فی الیوم الذی توفی فیه مروان، وذلک فی شهر رمضان سنة 65)(1).

وقال أیضا: (ثم ملک الولید بن عبد الملک بن مروان، وأمه ولادة بنت العباس ابن جزء العبسیة، للنصف من شوال سنة 86)(2) واستمرت إمارته إلی حین تولی أخیه سلیمان بن عبد الملک سنة ست وتسعین(3).

وقد حمل هذا المذهب الأموی عدة سمات کان أهمها ما یأتی:

أولا: ان (المرجئة تدعی أن الذنوب کلها صغائر واقعا، وإنما توصف ما توصف بالکبیرة منها بالإضافة، وإلا فلا کبیرة فی المعاصی عندهم، وذلک لأن الأعمال لا أهمیة لها عند المرجئة سواء کانت طاعات أو معاصی)(4).

ثانیا: انهم (یقولون الأفعال کلها بتقدیر الله تعالی ولیس للعباد فیها اختیار وإنه لا یضر مع الإیمان معصیة... هم الجبریة القائلون بأن إضافة الفعل إلی العبد کإضافته إلی الجمادات سموا بذلک لأنهم یؤخرون أمر الله ونهیه عن الاعتداد بهما ویرتکبون الکبائر)(5).

ثالثا: انهم یقولون ان الإیمان قول بلا عمل، وان الإیمان لا یزید ولا ینقص بل


1- تاریخ الیعقوبی ج 2 ص 269 أیام عبد الملک بن مروان.
2- المصدر السابق ج 2 ص 283 أیام الولید بن عبد الملک.
3- المصدر السابق ج 2 ص 293 أیام سلیمان بن عبد الملک.
4- أوائل المقالات للشیخ المفید ص 334 __ 335.
5- تحفة الأحوذی للمبارکفوری ج 6 ص 302 __ 303.

ص: 134

هو درجة واحدة، وان النفاق لا وجود له، وان کل من أسلم ولو باللسان فمصیره الجنة مهما ارتکب من الکبائر والجرائم وان النار قد خلقت للکفار، فعن سفیان الثوری انه قال: (خلاف ما بیننا وبین المرجئة ثلاث. نقول: الإیمان قول وعمل، وهم یقولون: الإیمان قول ولا عمل ؛ ونقول: الإیمان یزید وینقص، وهم یقولون: لا یزید ولا ینقص؛ ونحن نقول النفاق، وهم یقولون: لا نفاق)(1)

وقال العلامة المجلسی: (وأما ما ذهب إلیه مقاتل بن سلیمان وبعض المرجئة من أن عصاة المؤمنین لا یعذبون أصلا وإنما النار للکفار تمسکا بالآیات الدالة علی اختصاص العذاب بالکفار مثل " قد أوحی إلینا أن العذاب علی من کذب وتولی)(2).

فجعلوا الحاکم من أهل الجنة مع ارتکابه للمآثم والمعاصی، بل هو معذور لانه مجبور علی ارتکاب المعاصی وقتل الأبریاء، وان الحاکم الفاسق الخمار المتهتک متساوٍ بالدرجة مع المؤمن العابد المتهجد الحافظ لکتاب الله والقائم بأمر الله، وان النفاق الذی اشتهر به آل أمیة قد ارتحل من عالم الوجود، وان الدماء التی أریقت فی سبیل الملک والدنیا کلها مغفورة وان کلاً من القاتل والمقتول فی الجنة لا تفاضل بینهما، وان قتلة الأنبیاء والأوصیاء علی رغم ما ارتکبوه وما جنوه مؤمنون کما هو حال قتلة الإمام الحسین بن علی صلوات الله وسلامه علیهما فقد روی عن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (لعن الله القدریة، لعن الله الخوارج، لعن الله المرجئة، لعن الله المرجئة قال: قلت: لعنت هؤلاء مرة مرة ولعنت هؤلاء مرتین قال: إن هؤلاء یقولون: إن قتلتنا مؤمنون فدماؤنا متلطخة بثیابهم إلی یوم القیامة، إن الله حکی عن قوم فی کتابه: ((الَّذِینَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَیْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّی یَأْتِیَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْکُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَکُمْ


1- صفة المنافق لجعفر بن محمد الفریابی ص 127.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج 8 ص 370 __ 371.

ص: 135

رُسُلٌ مِنْ قَبْلِی بِالْبَیِّنَاتِ وَبِالَّذِی قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ کُنْتُمْ صَادِقِینَ))(1) قال: کان بین القاتلین والقائلین خمسمائة عام فألزمهم الله القتل برضاهم ما فعلوا)(2).

المبحث السابع: معلومات إضافیة حول بنی أمیة

اشارة

نستطیع ومن خلال الروایات الشریفة ومن خلال أقوال العلماء الأعلام رضوان الله تعالی علیهم ان نحصد جملة من المعلومات المفیدة والقیمة التی تخص بنی أمیة، وهی لا تندرج تحت مبحث موحد لذلک أدرجناها تحت عنوان معلومات إضافیة، وهی علی اختصار کالآتی:

أولا: أبغض الأحیاء إلی النبی صلی الله علیه وآله وسلم بنو أمیة وبنو حنیفة وثقیف 

قال الحاکم النیسابوری:(عن أبی حمزة قال سمعت حمید بن هلال یحدث عن عبد الله بن مطرف عن أبی برزة الأسلمی، قال: کان أبغض الأحیاء إلی رسول الله صلی الله علیه وآله بنو أمیة وبنو حنیفة وثقیف. هذا حدیث صحیح علی شرط الشیخین ولم یخرجاه)(3).

ثانیا: اهلک الله بنی أمیة بعد إحراقهم زید بن علی بسبعة أیام

قال الشیخ الکلینی قدس الله روحه عن: (عدة من أصحابنا، عن سهل بن زیاد، عن الحسن بن علی الوشاء، عمن ذکره، عن أبی عبد الله «علیه السلام» قال: إن الله عز ذکره أذن فی هلاک بنی أمیة بعد إحراقهم زیدا بسبعة أیام)(4)


1- سورة آل عمران الآیة رقم 183.
2- الکافی للشیخ الکلینی ج 2 ص 409.
3- المستدرک للحاکم النیسابوری ج 4 ص 480 __ 481.
4- الکافی للشیخ الکلینی ج 8 ص 161.

ص: 136

ثالثا: لم یعط الله الملک لبنی أمیة وإنما اغتصبوه

روی الشیخ الکلینی قدس الله روحه: (عن إبراهیم بن أبی بکر بن أبی سماک، عن داود بن فرقد، عن عبد الأعلی مولی آل سام، عن أبی عبد الله «علیه السلام» قال: قلت له: ((قُلِ اللَّهُمَّ مَالِکَ الْمُلْکِ تُؤْتِی الْمُلْکَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْکَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ))(1) ألیس قد آتی الله عز وجل بنی أمیة الملک؟ قال: لیس حیث تذهب إلیه إن الله عز وجل آتانا الملک وأخذته بنو أمیة بمنزلة الرجل یکون له الثوب فیأخذه الآخر فلیس هو للذی أخذه)(2).

رابعا: بقاء وجودهم بالشام إلی حین خروج القائم صلوات الله وسلامه علیه

روی الشیخ الکلینی قدس الله روحه عن: (علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن فضال عن ثعلبة بن میمون، عن بدر بن الخلیل الأسدی قال: سمعت أبا جعفر «علیه السلام» یقول فی قول الله عز وجل: ((فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا یَرْکُضُونَ (12) لَا تَرْکُضُوا وَارْجِعُوا إِلَی مَا أُتْرِفْتُمْ فِیهِ وَمَسَاکِنِکُمْ لَعَلَّکُمْ تُسْأَلُونَ))(3) قال: إذا قام القائم وبعث إلی بنی أمیة بالشام هربوا إلی الروم فیقول لهم الروم: لا ندخلنکم حتی تتنصروا فیعلقون فی أعناقهم الصلبان فیدخلونهم فإذا نزل بحضرتهم أصحاب القائم طلبوا الأمان والصلح فیقول أصحاب القائم: لا نفعل حتی تدفعوا إلینا من قبلکم منا، قال: فیدفعونهم إلیهم فذلک قوله: ((لَا تَرْکُضُوا وَارْجِعُوا إِلَی مَا أُتْرِفْتُمْ فِیهِ وَمَسَاکِنِکُمْ لَعَلَّکُمْ تُسْأَلُونَ)) قال: یسألهم الکنوز وهو أعلم بها قال: فیقولون ((قَالُوا یَاوَیْلَنَا إِنَّا کُنَّا ظَالِمِینَ (14)


1- سورة آل عمران الآیة رقم 26.
2- الکافی للشیخ الکلینی ج 8 ص 266.
3- سورة الأنبیاء الآیة رقم 12 __ 13.

ص: 137

فَمَا زَالَتْ تِلْکَ دَعْوَاهُمْ حَتَّی جَعَلْنَاهُمْ حَصِیدًا خَامِدِینَ))(1) بالسیف)(2).

خامسا: ان فی کثرة لعن بنی أمیة سببا من أسباب التقرب للإمام المهدی علیه السلام 

قال المیرزا محمد تقی الأصفهانی: (إکثار اللعن علی بنی أمیة سرا وعلانیة فی المجالس وعلی المنابر، ما لم یکن خوف وتقیة، ویدل علی کون ذلک مما یتقرب به إلی مولانا «علیه السلام» مضافا إلی أنه من أفضل الأعمال، وأحبها، وأهمها ما رواه الشیخ الصدوق «رضی الله عنه» فی الخصال عن أمیر المؤمنین «علیه السلام» فی ذکر مناقبه السبعین، قال «علیه السلام»: وأما الرابعة والخمسون، فإنی سمعت رسول الله (صلی الله علیه وآله) یقول: «یا علی سیلعنک بنو أمیة، ویرد علیهم ملک بکل لعنة ألف لعنة، فإذا قام القائم «علیه السلام» لعنهم أربعین سنة» الخبر.

 أقول(3): لا یخفی علیک أن المراد باللعن أربعین سنة أمره «علیه السلام» شیعته وأتباعه بلعن بنی أمیة فی جمیع البلاد، والقری، والأمصار علی المنابر، وفی المجامع، وشیوع ذلک بین الناس فی تلک المدة کما فعل ذلک بنو أمیة لعنهم الله تعالی فی زمن استیلائهم معاندة لأمیر المؤمنین «علیه السلام».

ففعل القائم جزاء بما کسبوا فی هذه الدنیا ولو کان المراد لعنه بنی أمیة بنفسه فقط لما کان محدودا بالمدة المعینة، وما اختص بزمان ظهوره «علیه السلام» لأنه یلعنهم فی جمیع عمره. والحاصل أن هذا الحدیث الشریف یدل علی فضل کثیر فی الاهتمام بلعن بنی أمیة، وإکثاره، وأنه مما یتقرب به إلی صاحب الأمر عجل الله تعالی فرجه وظهوره فینبغی للمؤمن الاهتمام والمواظبة علیه فی سائر أوقاته وحالاته، خصوصا فی صباحه ومسائه، وأعقاب صلواته.


1- سورة الأنبیاء الآیة رقم 14 __ 15.
2- الکافی للشیخ الکلینی ج 8 ص 51 __ 52.
3- الکلام ما زال للمیرزا محمد تقی الأصفهانی قدس الله روحه.

ص: 138

ویشهد لما ذکرناه ما رواه الشیخ بإسناده عن أبی جعفر الباقر «علیه السلام» قال: إذا انحرفت عن صلاة مکتوبة، فلا تنحرف إلا بانصراف لعن بنی أمیة.

ومما یدل(1) علی أن اللعن علیهم وعلی سائر أعداء الأئمة من أقسام نصرة الإمام باللسان ما فی تفسیر الإمام العسکری علیه الصلاة والسلام، أنه قال رجل للصادق «علیه السلام»: یا بن رسول الله «صلی الله علیه وآله» إنی عاجز ببدنی عن نصرتکم، ولست أملک إلا البراءة من أعدائکم واللعن علیهم، فکیف حالی: فقال له الصادق «علیه السلام» حدثنی أبی عن أبیه عن جده عن رسول الله «صلی الله علیه وآله» قال: «من ضعف عن نصرتنا أهل البیت، ولعن فی خلواته أعداءنا بلغ الله صوته جمیع الأملاک من الثری إلی العرش، فکلما لعن هذا الرجل أعداءنا لعنا ساعدوه، فلعنوا من یلعنه، ثم ثنوه، فقالوا اللهم صل علی عبدک هذا، الذی قد بذل ما فی وسعه، ولو قدر علی أکثر منه لفعل، فإذا النداء من قبل الله تعالی: قد أجبت دعاءکم وسمعت نداءکم وصلیت علی روحه فی الأرواح، وجعلته عندی من المصطفین الأخیار» انتهی.

 هذا کله مضافا إلی أن موالاة الأئمة لا تتم إلا بالبراءة من أعدائهم، واللعن علیهم، ولا ریب أن بنی أمیة من أعدائهم، وقد فعلوا بالأئمة وأولیائهم ما فعلوا من الظلم والقتل، وأنواع الإیذاء فلعنة الله علیهم ما دامت الأرض والسماء)(2).


1- ما زال الکلام للمیرزا الأصفهانی قدس الله روحه.
2- مکیال المکارم للمیرزا محمد تقی الأصفهانی ج 2 ص 390 __ 392.

ص: 139

وَلَعَنَ اللهُ ابْنَ مَرْجَانَةَ

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

   وَلَعَنَ اللَّهُ ابْنَ مَرْجَانَةَ

المبحث الثالث: ابن مرجانة تاریخ یندی له الجبین

أولا: ابن مرجانة السفیه السفاک للدماء

ثانیا: تکذیب ابن مرجانة بأحادیث الحوض

ثالثا: ابن مرجانة ووحشیة الوقوف بوجه الثورة الحسینیة

* حیرة یزید بن معاویة ومشورة سرحون النصرانی

* البدء بقتل مسلم بن عقیل رضوان الله تعالی علیه

* رمی هانی بن عروة من أعلی القصر بعد ذبحه

* رمی سفیر الإمام الحسین من أعلی القصر وهو حی ثم ذبحه

* رمی قیس بن مسهر الصیداوی من أعلی القصر وهو حی حتی تقطع

* ما الهدف من وراء کل هذه القسوة؟

   رابعا: ابن مرجانة یتقلب فی أحضان الظلمة

   خامسا: ابن مرجانة ضرب رأس الحسین بالقضیب ضربا اثر فیه

   سادسا: ابن مرجانة یبنی أربعة مساجد یسب بها أمیر المؤمنین

   سابعا: خبر مقتله وقصة الحیة التی کانت تدخل وتخرج فی رأسه

ص: 140

ص: 141

وَلَعَنَ اللهُ ابْنَ مَرْجَانَةَ 

اشارة

وفی هذه الفقرة مباحث مهمة کما فی غیرها من فقرات الزیارة الشریفة نستعرضها فیما یأتی:

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة 

لم أجد أحداً من أعلام الطائفة رضوان الله تعالی علیهم قدیما وحدیثا شک أو تردد فی جواز بل فی وجوب لعن هذا الشریر قاتل أولاد الأنبیاء وذراری الأئمة الأطهار النجباء، فکلمة الطائفة الحقة مجمعة علی لعنه ومن هذا الإجماع نستطیع وبأدنی تأمل أن نستکشف رضا المعصوم صلوات الله وسلامه علیه، هذا فیما لو أعوزنا الدلیل اللفظی علی إثبات وقوع لعنهم فی کلمات الأئمة الأطهار وأحادیثهم.

ثم انه لعنه الله مشمول باللعن بعدة عناوین أخری، فهو ممن قتل النفس المحترمة، وقد أثبتنا فی مباحث سابقة ان قاتل النفس ملعون محکوم علیه یوم لقیامة

ص: 142

بالخلود فی نار جهنم صاغرا، ولو لم یکن إلا قتله لسید شباب أهل الجنة وریحانة الرسول المصطفی صلی الله علیه وآله وسلم ولأهل بیته وأصحابه وأطفاله رضوان الله تعالی علیهم لکفی بها عظیمة تتفطر من هول خطبها السماوات العلی ((تَکَادُ السَّمَاوَاتُ یَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا))(1) .

وهو أیضا وان افردته الزیارة بالذکر فی هذه العبارة لأسباب سنأتی علی ذکرها لاحقا إلا أنه یدخل تحت عدة جماعات قد تم الحکم علیها باللعن فی فقرات سابقة من الزیارة أو ستأتی لاحقا، فهو من أوضح مصادیق قوله صلوات الله وسلامه علیه (وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً قَتَلَتْکُمْ).

وهو أیضا مشمول بکونه ممن دفع أهل البیت عن مقاماتهم وحال بینهم وبین وصولهم لمنازلهم التی أنزلهم الله فیها وإحدی أهم هذه المقامات والمراتب والمنازل هی مرتبة تولی رعایة الأمة وقیادتها نحو التکامل، فلولا وقوف هذا الشخص وغیره من الأجلاف والحیلولة ما بین سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه وبین وصوله للکوفة، والوقوف مع أئمة الکفر والضلالة، لاستطاع الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه استرجاع مقام الخلافة المغصوب من قبل أعدائه وأعداء الدین، ولتمتعت الأمة بنعمة حکم المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ولسنحت الفرصة بقیام الإمام بتربیة الأمة وإعادة بث الشریعة التی طال غیابها، ولبث من العلوم الإلهیة مثل ما بث أبوه أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، فجریمة هؤلاء الأجلاف لا تغتفر ولا تقتصر علی زمن دون آخر، فالأجیال إلی آخر الزمان تئن من عظیم جریمتهم، وتستشعر أهمیة وعظمة تلک الثروة الفکریة والمعرفیة التی سلبت منهم جراء حیلولة هؤلاء القتلة الأوباش فیما بینهم وبین دولة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه التی کادت أن تکون فی الکوفة.


1- سورة مریم الآیة رقم 90.

ص: 143

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

وَلَعَنَ اللَّهُ ابْنَ مَرْجَانَةَ

مر فی الفقرات السابقة توضیح معنی عبارة (وَلَعَنَ اللَّهُ) فنرجو من القارئ العزیز مراجعتها، وأما (ابْنَ مَرْجَانَةَ) فهو عبید الله بن زیاد، وزیاد هذا هو زیاد بن أبیه أو ابن عبید أو ابن أبی سفیان الذی سبق ذکره والکلام عنه فی فقرة (وَلَعَنَ اللَّهُ آلَ زِیَادٍ)، و(مَرْجَانَةَ) هی کما قال العینی فی عمدة القاری: (...مرجانة وهی أمه...وکانت مجوسیة، وقال البخاری: وکانت مرجانة سبیة من أصفهان)(1) وسیأتی تفصیل أکثر لبعض أحوالها فی محله إن شاء الله تعالی.

المبحث الثالث: ابن مرجانة تاریخ یندی له الجبین

اشارة

قد مر فی شرح فقرة (وَلَعَنَ اللَّهُ آلَ زِیَادٍ) تفصیل شافٍ عن أحوال وأوضاع زیاد بن أبیه والد عبید الله المسمی فی هذه الفقرة بابن مرجانة، وعلی الرغم من ان الشواهد التاریخیة تشیر إلی ان زیاداً هو الوالد الظاهری لعبید الله بن مرجانة، إلا أننا نقطع بأن عبید الله هذا کان مجهول الأب وقد تولد نتیجة الزنا والعیاذ بالله، ویشهد علی هذه المسألة ما نطقت به الأحادیث الشریفة للمعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من أن قتلة أولاد الأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین کانوا من المتولدین من الزنا والفاحشة فعن الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (ان الله جعل قتل أولاد النبیین من الأمم الماضیة علی یدی أولاد الزنا) (2).


1- عمدة القاری للعینی ج 16 ص 240.
2- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص161 الباب (25 ما جاء فی قاتل الحسین وقاتل یحیی بن زکریا علیه السلام.

ص: 144

ویشهد علی ذلک أیضا ما روی بأن مبغض أمیر المؤمنین والأئمة المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لا یولد إلا من حرام منها ما عن إبراهیم القرشی قال: (کنا عند أم سلمة رضی الله عنها فقالت سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله یقول لعلی لا یبغضکم إلا ثلاثة ولد زنا ومنافق ومن حملت به أمه وهی حائض)(1).

عن فضیل بن عثمان، عن أبی الزبیر المکی قال: (رأیت جابرا متوکیا علی عصاه وهو یدور فی سکک الأنصار ومجالسهم وهو یقول: علی خیر البشر فمن أبی فقد کفر یا معشر الأنصار أدبوا أولادکم علی حب علی فمن أبی فانظروا فی شأن أمه)(2).

وعن أبی أیوب الأنصاری انه قال: (اعرضوا حب علی علی أولادکم، فمن أحبه فهو منکم، ومن لم یحبه فاسألوا أمه من أین جاءت به، فإنی سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله یقول لعلی بن أبی طالب: لا یحبک إلا مؤمن، ولا یبغضک إلا منافق أو ولد زنیة أو حملته أمه وهی طامث)((3).

ویشهد علی ذلک أیضا وصف أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه له فی قصة إخباره لمیثم التمار بخبر قتله علی ید عبید الله بن زیاد بقوله: (لیأخذنک العتل الزنیم ابن الأمة الفاجرة عبید الله بن زیاد...)(4).

وقد اشتهر فی کتب التاریخ وصف عبید الله بالدعی، أو الدعی ابن الدعی، فحینما طلب عمر بن سعد لعنه الله من الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ان ینزل علی


1- علل الشرائع للشیخ الصدوق ج 1 ص 142.
2- المصدر السابق.
3- ()علل الشرائع للشیخ الصدوق ج 1 ص 145.
4- الاختصاص للشیخ المفید ص76 میثم بن یحیی التمار رحمه الله تعالی.

ص: 145

حکم عبید الله بن زیاد لعنه الله، قال صلوات الله وسلامه علیه: (أأنزل علی حکم ابن مرجانة الدعی؟ الموت والله عندی دون ذلک أشهی وأحلی)(1).

وقال صلوات الله وسلامه علیه فی مناسبة أخری: (ألا وان الدعی ابن الدعی قد ترکنی بین السلة والذلة وهیهات له ذلک منی)(2) وقد فهمنا فی مبحث سابق ان زیاداً لیس له من أب معروف وقد ادعاه معاویة بن أبی سفیان وصیره بذلک أخا له، والظاهر ان عبید الله کان یعانی نفس المشکلة فادعاه زیاد وصیره ابنا له، وبهذا صار دعیا ابن دعی.

وقد قال الشاعر یزید بن مفرغ الحمیری فی قصیدة یهجو فیها عبید الله وعبادا ابنی زیاد بن أبیه:

أعباد ما للؤم عنک تحول            ***        ولا لک أم من قریش ولا أب

وقل لعبید الله ما لک والد            ***        بحق ولا یدری امرؤ کیف تنسب(3)

والأشد من کل ما تقدم هو ان عبید الله بن زیاد هذا کان وکما ینقل تاریخیا یعمل فیه عمل قوم لوط والعیاذ بالله وقد أخرج الشیخ علی النمازی الشاهرودی فی مستدرک سفینة البحار(4) أبیات شعر لیزید بن مفرغ الحمیری لم ننقلها تنزیها للکتاب عنها، وفحواها ان عبید الله بن مرجانة لم یبق اسود ولا ابیض إلا ومارس معه عمل قوم لوط، وهو للمبالغة بکثرة أولئک لعنه ولعنهم الله سبحانه.

وفیما یأتی أیضا جملة من أخباره وجرائمه التی توضح بمجموعها معالم شخصیته ومیوله غیر الإنسانیة. 


1- الجوهرة فی نسب الإمام علی وآله للبری ص44 الحسین بن علی بن أبی طالب.
2- الاحتجاج للشیخ الطبرسی ج2 ص24 احتجاجه علیه السلام علی أهل الکوفة.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج16 ص192 نسب زیاد بن أبیه وذکر بعض أخباره.
4- مستدرک سفینة البحار للشیخ علی النمازی الشاهرودی ج 8 ص 186.

ص: 146

أولا: ابن مرجانة السفیه السفاک للدماء

اشتهر عبید الله بن مرجانة بقسوته التی لم یدانِه ولم یجارِه فیها سوی أبیه زیاد بن أبیه، وسوی الحجاج بن یوسف الثقفی لعنهما الله، وهذه القسوة والشدة التی کانت تصل إلی حالة الإجرام هی التی أهلته لان یتمسک به آل أمیة بعد موت زیاد بن أبیه، وقد احتفظت تلک المناطق التی خضعت تحت إمارة عبید الله بن مرجانة بذکریات مرة وحکایات مرعبة تحکی بمجموعها النفسیة الطاغوتیة السفاحة لهذا الموجود المسخ، فعن الحسن قال: (قدم إلینا عبید الله بن زیاد أمیرا أمره علینا معاویة غلاما سفیها یسفک الدماء سفکا شدیدا)(1).

وقال الشوکانی فی نیل الأوطار: (ان عبید الله بن زیاد لما أفرط فی سفک الدماء وکان معقل بن یسار حینئذ مریضا مرضه الذی مات فیه، فأتی عبید الله یعوده فقال له معقل: إنی محدثک حدیثا سمعته من رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فذکره. وفی مسلم أنه لما حدثه بذلک قال: ألا کنت حدثتنی قبل هذا الیوم ؟ قال: لم أکن لأحدثک قبل سبب ذلک، والمراد بهذا السبب هو ما کان یقع منه من سفک الدماء)(2).

ثانیا: تکذیب ابن مرجانة بأحادیث الحوض 

روی احمد بن حنبل فی مسنده: (قال یزید بن حیان حدثنا زید بن أرقم فی مجلسه ذلک قال بعث إلی عبید الله بن زیاد فأتیته فقال ما أحادیث تحدثها وترویها عن رسول الله صلی الله علیه وسلم لا نجدها فی کتاب الله تحدث ان له حوضا فی الجنة


1- سبل السلام لمحمد بن إسماعیل الکحلانی ج 4 ص90.
2- نیل الأوطار للشوکانی ج 8 ص 47.

ص: 147

قال قد حدثنا رسول الله صلی الله علیه وسلم ووعدناه قال کذبت ولکنک شیخ قد خرفت قال إنی قد سمعته أذنای ووعاه قلبی من رسول الله صلی الله علیه وسلم یقول من کذب علی متعمدا فلیتبوأ مقعده من جهنم وما کذبت علی رسول الله صلی الله علیه وسلم)(1).

وقال ابن حجر فی حدیثه عن الحوض: (وأجمع علی إثباته السلف وأهل السنة من الخلف وأنکرت ذلک طائفة من المبتدعة وأحالوه علی ظاهره وغلوا فی تأویله من غیر استحالة عقلیة ولا عادیة تلزم من حمله علی ظاهره وحقیقته ولا حاجة تدعو إلی تأویله فخرق من حرفه إجماع السلف وفارق مذهب أئمة الخلف (قلت) أنکره الخوارج وبعض المعتزلة وممن کان ینکره عبید الله بن زیاد أحد أمراء العراق لمعاویة وولده فعن أبی داود من طریق عبد السلام بن أبی حازم قال شهدت أبا برزة الأسلمی دخل علی عبید الله بن زیاد فحدثنی فلان وکان فی السماط فذکر قصة فیها أن ابن زیاد ذکر الحوض فقال هل سمعت رسول الله صلی الله علیه وسلم یذکر فیه شیئا فقال أبو برزة نعم لا مرة ولا مرتین ولا ثلاثا ولا أربعا ولا خمسا فمن کذب به فلا سقاه الله منه)(2).

ثالثا: ابن مرجانة ووحشیة الوقوف بوجه الثورة الحسینیة
اشارة

بعد رحیل کبیر طغاة بنی أمیة معاویة بن أبی سفیان ارتجت أوضاع الدولة الأمویة، وتخلخل استقرارها بسبب عدم رضا المسلمین المسبق بولایة الفاجر یزید بن معاویة لعنه الله، وما کان سکوتهم عن ولایته إلا خوفا من سیف وسم معاویة بن أبی سفیان، هذا بالنسبة لعامة المسلمین، أما بالنسبة للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه


1- مسند احمد لأحمد بن حنبل ج 4 ص 367.
2- فتح الباری لابن حجر ج 11 ص 406 __.407.

ص: 148

فسکوته(1) وسکوت شیعته وأنصاره کان بسبب المعاهدة التی وقعت ما بین أخیه الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه وبین معاویة بن أبی سفیان، والقاضیة بأن یبقی معاویة بن أبی سفیان فی الإمارة مدة حیاته فإذا مات کانت للإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه فإن حدث حادث ومات الإمام الحسن حل محله الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه.

 فلما ارتحل معاویة بن أبی سفیان عن الدنیا موزوراً غیر مأجور، وخلف بعده یزید المشهور بین جمیع أطیاف المسلمین بفسقه وتجرئه علی الحدود الإلهیة، والمعروف کذلک بعدم حنکته ودهائه کأبیه ذی المکر والشیطنة، انفتحت حینئذ قریحة المعترضین فمنهم من اکتفی بکلمات خجولة سرعان ما تلاشت بعد رؤیة بریق الدنانیر الذهبیة والدراهم الفضیة، ومنهم من استغل هذا الإرباک فی الدولة الجدیدة لیبدأ بتأسیس دولة جدیدة کما فعل ابن الزبیر فی مکة، ولکن الضربة الأقوی التی کانت تقض مضاجع الدولة الأمویة هی رفض الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه الانصیاع والرضوخ والبیعة للحاکم الجدید، وقد ازدادت المخاوف أکثر حینما علمت أجهزة الدولة وعیونها ان أهل الکوفة قد رفضوا أیضا البیعة والدخول تحت سلطان یزید وحکمه، وکتبوا إلی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بالقدوم والبیعة، فأوجست الدولة الأمویة الخیفة من اجتماع الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه أقوی خصومها علی الإطلاق وأوسعهم شعبیة، مع أهل الکوفة القاعدة الشعبیة التی شارکت ولوقت طویل فی حروب طاحنة ضد الأمویین وقواعدهم الشامیة، فقدر یزید بن معاویة لعنه الله ومستشاروه ان لو اجتمعت هاتان القوتان لقضی علی الدولة الأمویة وقوضت أرکانها، وعلیه ولکی تبقی


1- نقصد بالسکوت هنا هو عدم التحرک العسکری والثورة، أما الاعتراض اللفظی والرفض العملی لبیعته صلوات الله وسلامه علیه لیزید فی زمن معاویة فهو أشهر من ان یؤتی بشاهد علیه.

ص: 149

الدولة الأمویة قائمة حیة کان لابد أن تضرب وبید من حدید وبأقسی ما یمکنها للحیلولة دون حصول هذا الاجتماع ما بین الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه والقواعد الشعبیة فی الکوفة.

حیرة یزید بن معاویة ومشورة سرحون النصرانی

لکن السؤال الذی حیر یزید بن معاویة علیه اللعنة هو من هذا الشخص الذی یحول دون وصول الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، ویطفئ الثورة المشتعلة علی ارض الکوفة، وکان سرحون الأنصاری المستشار الأول لمعاویة بن أبی سفیان یملک الجواب الشافی لحل هذه المعضلة التی وقعت فیها الدولة الأمویة، قال ابن حجر: (دعا یزید مولی له یقال له سرحون قد کان یستشیره فأخبره الخبر فقال له أکنت قابلا من معاویة لو کان حیا قال نعم قال فاقبل منی انه لیس للکوفة إلا عبید الله بن زیاد فولها إیاه وکان یزید علیه ساخطا وکان قد همّ بعزله وکان علی البصرة فکتب إلیه برضاه عنه وانه قد ولاه الکوفة مع البصرة وکتب إلیه أن یطلب مسلم بن عقیل ویقتله إن وجده)(1).

وکتب إلیه أیضا: (إلی عبید الله بن زیاد ...إنه قد بلغنی أن حسینا قد سار إلی الکوفة وقد ابتلی به زمانک من بین الأزمان وبلدک من بین البلدان وابتلیت به من بین العمال وعندها تعتق أو تعود عبدا کما تعتبد __ تعبد __ العبید)(2).

وزاد السید محسن الأمین فی لواعج الأشجان: (فضع المناظر والمسالح واحبس علی الظنة وخذ علی التهمة واکتب إلی فی کل ما یحدث)(3).


1- تهذیب التهذیب لابن حجر ج 2 ص 302.
2- مجمع الزوائد للهیثمی ج9 ص193 باب مناقب الحسین بن علی علیهما السلام.
3- لواعج الأشجان للسید محسن الأمین ص 69.

ص: 150

البدء بقتل مسلم بن عقیل رضوان الله تعالی علیه

فاتبع ابن مرجانة لإثبات ولائه وإخلاصه لیزید بن معاویة علیه اللعنة أبشع الطرق وأکثرها وحشیة فی القضاء علی رموز الثورة، فحینما تم اعتقال مسلم بن عقیل رضوان الله تعالی علیه وبعد الضرب المبرح والإهانة له من قبل ابن مرجانة وأتباعه ضربت عنقه بمرأی ومسمع أهل الکوفة ثم رمی به من أعلی القصر إلی الأرض فتکسرت عظامه.

رمی هانی بن عروة من أعلی القصر بعد ذبحه

وأحضر ابن مرجانة هانی بن عروة الذی آوی مسلم بن عقیل فی داره، فضربه علی وجهه بقضیب من حدید تکسرت منه أسنانه وأنفه، وسال الدم من کل ناحیة من بدنه، ثم حبس مثقلا بالأغلال، ثم شد وثاقه وضربت عنقه وجر من رجله هو ومسلم بن عقیل بحبل وطیف بجثتیهما فی أسواق الکوفة وشوارعها.

رمی سفیر الإمام الحسین من أعلی القصر وهو حی ثم ذبحه

ورمی عبد الله بن بقطر سفیر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه إلی مسلم بن عقیل وعامة أهل الکوفة من سطح قصر الإمارة وهو علی قید الحیاة، والطبری فی تاریخه یروی قصة استشهاده بقوله: (عبد الله بن بقطر وکان سرحه إلی مسلم بن عقیل من الطریق وهو لا یدری أنه قد أصیب فتلقاه خیل الحصین بن نمیر بالقادسیة فسرح به إلی عبید الله بن زیاد فقال اصعد فوق القصر فالعن الکذاب ابن الکذاب ثم انزل حتی أری فیک رأیی قال فصعد فلما أشرف علی الناس قال أیها الناس إنی رسول الحسین ابن فاطمة بن بنت رسول الله صلی الله علیه وسلم لتنصروه وتوازروه علی ابن

ص: 151

مرجانة ابن سمیة الدعی فأمر به عبید الله فألقی من فوق القصر إلی الأرض فکسرت عظامه وبقی به رمق فأتاه رجل یقال له عبد الملک بن عمیر اللخمی فذبحه)(1).

رمی قیس بن مسهر الصیداوی من أعلی القصر وهو حی حتی تقطع

وقیس بن مسهر الصیداوی هو الذی حمل رسائل أهل الکوفة إلی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وقد أرجعه الإمام الحسین إلی الکوفة مرة أخری حاملا رسالة منه صلوات الله وسلامه علیه إلی أهل الکوفة یخبرهم بقدومه واستجابته لدعواتهم وتوسلاتهم، وقد روی الطبری خبر استشهاده بقوله: (وأقبل قیس بن مسهر الصیداوی إلی الکوفة بکتاب الحسین حتی إذا انتهی إلی القادسیة أخذه الحصین بن نمیر فبعث به إلی عبید الله بن زیاد فقال له عبید الله اصعد إلی القصر فسب الکذاب ابن الکذاب فصعد ثم قال أیها الناس إن هذا الحسین بن علی خیر خلق الله ابن فاطمة بنت رسول الله وأنا رسوله إلیکم وقد فارقته بالحاجر فأجیبوه ثم لعن عبید الله بن زیاد وأباه واستغفر لعلی بن أبی طالب قال فأمر به عبید الله بن زیاد أن یرمی به من فوق القصر فرمی به فتقطع فمات)(2).

ما الهدف من وراء کل هذه القسوة؟

ان الذین قتلهم عبید الله بن مرجانة والذین عذبهم والذین حبسهم فی تلک الحقبة أکثر بکثیر ممن ذکرناهم سابقا، وربما یثار هاهنا سؤال مهم یدور حول سبب هذه الطریقة الوحشیة التی اتبعها ابن مرجانة فی قتل هؤلاء الثوار مع العلم ان فیهم


1- تاریخ الطبری ج 4 ص 300.
2- تاریخ الطبری ج 4 ص 297 __ 298 ذکر الخبر عن مسیر الحسین علیه السلام من مکة متوجها إلی الکوفة وما کان من أمره فی مسیره.

ص: 152

من الصحابة کعبد الله بن بقطر، وفیهم کذلک من الوجهاء کهانی بن عروة، وبمعنی آخر، ألم یکن باستطاعة ابن مرجانة ان یتخلص من هؤلاء الثوار بطریقة أکثر رحمة وإنسانیة، فقد کان بإمکانه لعنه الله ان لم یکن له دین أن تکون له إنسانیة، فیضرب أعناقهم __ وان کان هذا بحد ذاته عظیما عند الله __ من دون رمیهم من أعلی القصر أو سحبهم من أرجلهم فی الأسواق أو ذبحهم بعد رمیهم؟!.

والجواب هو نعم کان باستطاعته ذلک، لکنه لعنه الله أراد أن یحقق من هذا النهج الوحشی عدة أهداف أهمها:

أولا: تحطیم نفسیة الثوار عن طریق بث الخوف والرعب فی أرواحهم، فإن الصورة والتأثیر النفسی الذی یترکه مشهد الذبح أو رمی الإنسان من علی شاهق أکثر بکثیر من ألف کلمة تندیدیة یوجهها الحاکم للجماهیر.

 ثانیا: ان ابن مرجانة یرید من خلال مشاهد الرعب هذه ان یرسل رسالة واضحة وصریحة لکل الثائرین ولکل من یرید التغییر بأن مصیرهم وقدرهم سیکون مصیر وقدر أولئک الذین تم ذبحهم ورمیهم من أعلی القصر فیما لو استمروا وأصروا علی المطالبة بالتغییر.

ثالثا: ان هذا النوع من العنف البشع یخلق صدمة کبیرة فی نفوس الذین کانوا یعتقدون ان حالة الخلاص من الکابوس الأموی یمکن ان تتم بسهولة وبساطة من دون التعرض للعقاب الوحشی.

رابعا: انتهاج هذه الطریقة الوحشیة فی التعامل مع المعارضین والثائرین فیه محاولة متعمدة لعزل القیادة الحسینیة ووکلائها ومعتمدیها وإبعادهم عن کل من یحاول مد ید المعونة لهم.

ص: 153

خامسا: ان هذه العملیات الوحشیة التنکیلیة بالثوار تهز ثقة الجماهیر الکوفیة وتوصل إلیهم رسالة واضحة بأن خطة التغییر التی ابتدأها الثوار باتت فی انهیار، وان هذا الانهیار معناه نجاح وقوة سلطة الدولة الأمویة مما یعنی عبثیة الوقوف بوجهها ومساندة الثائرین.

سادسا: الذی یثیر الانتباه ان ابن مرجانة علیه اللعنة لم یکن یقتل الثائرین جملة واحدة وبوقت واحد، وإنما کان یختار لهم أوقاتاً متفرقة فقد قتل مثلا مسلم بن عقیل رضوان الله تعالی علیه، ومن ثم وفی وقت آخر __ زاد أو قل __ قتل هانی بن عروة رحمه الله، مما یعنی ان ابن مرجانة کان یتعمد قتلهم علی مراحل زمنیة متفرقة، وذلک لخلق العجز النفسی فی نفوس القاعدة الشعبیة نتیجة تکرار تعرضهم لعوامل الإحباط والألم مما ینتج عنه شعور بالیأس من إمکانیة التغییر للواقع الفاسد.

سابعا: ان تکرار عملیات القتل والذبح والعنف یجعل منها أمرا عادیا ومعها یفقد المجتمع الإحساس بکونها أعمال غیر إنسانیة، ومعها یفقد المجتمع الإحساس بآلام الآخرین وعدم المبالاة تجاه أی مأساة إنسانیة تقع نصب عینیه. وما وقع یوم عاشوراء خیر شاهد علی هذه الحقیقة فإن المجتمع ونتیجة الضغط الذی مورس علیه فقد الإحساس تجاه مأساة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وأهل بیته، ووقف موقف اللامبالاة تجاه آلام أطفال ونساء وأصحاب الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، وجعل من تلک الجریمة النکراء أمرا هینا مستساغا، لان المجتمع وبجهله کان یتصور ان المعاناة التی کان یعانیها ستزول حالما یتم القضاء علی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، وان کابوس الرعب سینزاح حالما تنزاح عنهم تهمة النصرة والتأیید لثورة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، فسارع الجمیع وشارک رغبة أو رهبة فی القضاء علیه وعلی ثورته لیزول عنهم ضغط ابن مرجانة ولیتوقف نهر الدم ومشاهد العنف والذبح.

ص: 154

ثامنا: والسبب الأهم فی نظری ان ابن مرجانة أراد من انتهاجه لهذا المنهج الوحشی ان یوصل رسالة إلی نفس الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه یوضح له فیها عظیم خطر استمرار تقدمه نحو الکوفة وان المصیر الذی ینتظره هو نفسه الذی وقع علی مسلم بن عقیل وغیره، لیحول بذلک دون استمرار تقدمه، ودون التحاق الأنصار برکبه، وقد نجح ابن مرجانة بهذه الطریقة نوعا ما فقد تفرق جمع لیس بالقلیل عن الإمام حالما وصلهم خبر مقتل مسلم بن عقیل وتردی الأوضاع فی الکوفة، لکن الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه استمر فی مسیره قاصدا الکوفة لأمر هو أعلم به.

رابعا: ابن مرجانة یتقلب فی أحضان الظلمة

قد ذکرنا فی مبحث سابق ان معاویة بن أبی سفیان علیه اللعنة هو أول من اکتشف المواهب الشاذة والإجرامیة التی کان یتمتع بها عبید الله بن مرجانة، فما ان بلغ مبلغ الشباب ولاه معاویة علی البصرة، قال خلیفة بن خیاط فی تاریخه: (سنة خمس وخمسین فیها عزل معاویة عبد الله بن عمرو بن غیلان عن البصرة، وولاها عبید الله بن زیاد. فلم یزل والیا حتی مات فأقره یزید)(1).

ثم انقلب بعد موت معاویة بن أبی سفیان إلی صف یزید بن معاویة وقد مر الخبر الدال علی ذلک فیما سبق، ثم انتقل بعد موت یزید لعنه الله إلی صف مروان بن الحکم علیه اللعنة، وقد مر علینا سابقا ذکر ان الذی اقنع مروان بن الحکم بالتصدی للإمارة بعد موت یزید هو عبید الله بن زیاد، وهو الذی اخذ البیعة لمروان من أهل الشام وکان علی میمنة مروان بن الحکم فی حربه مع الضحاک بن قیس، قال محمد بن سعد: (کانت بیعة مروان بالجابیة یوم الاثنین للنصف من ذی القعدة سنة أربع وستین


1- تاریخ خلیفة بن خیاط ص 169 __ 170.

ص: 155

وبایع عبید الله بن زیاد لمروان بن الحکم أهل دمشق وکتب بذلک إلی مروان فقال مروان إن یرد الله أن یتمم لی خلافة لا یمنعنیها أحد من خلقه فقال حسان بن مالک صدقت وسار مروان من الجابیة فی ستة آلاف حتی نزل مرج راهط ثم لحق به من أصحابه من أهل دمشق وغیرهم من الأجناد سبعة آلاف فکان فی ثلاثة عشر ألفا أکثرهم رجالة ولم یکن فی عسکر مروان غیر ثمانین عتیقا أربعون منهم لعباد بن زیاد وأربعون لسائر الناس وکان علی میمنة مروان عبید الله بن زیاد)(1).

وبعد ان تم الأمر لمروان بن الحکم لعنه الله، أمر ان یسیر عبید الله بن مرجانة إلی الکوفة التی اضطربت مرة أخری وثارت بعد سماعها بموت یزید بن معاویة، وبعد ان استقر المختار بن عبیدة الثقفی فیها، فأمره ان یسیر إلیهم فإذا ظفر بهم جعل الکوفة نهبا ثلاثة أیام، قال ابن نما الحلی: (وکان مروان بن الحکم لما استقامت له الشام بالطاعة بعث جیشین: أحدهما إلی الحجاز، والآخر إلی العراق مع عبید الله بن زیاد __ لعنه الله __ لینهب الکوفة إذا ظفر بها ثلاثة أیام)(2).

خامسا: ابن مرجانة ضرب رأس الحسین بالقضیب ضربا اثر فیه

الکل یعلم ان اللعین ابن مرجانة لما جیء إلیه برأس سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه أخذ ینکت الرأس الشریف بقضیب من حدید أو خیزران کان بیده الآثمة، فعن الشیخ الطوسی عن: (الحکم بن محمد بن القاسم الثقفی، قال: حدثنی أبی، عن أبیه: أنه حضر عبید الله بن زیاد حین أتی برأس الحسین __ صلوات الله علیه __، فجعل ینکت بقضیب ثنایاه ویقول: إنه کان لحسن الثغر. فقال له زید بن أرقم: ارفع قضیبک،


1- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 5 ص 41 __ 42.
2- ذوب النضار لابن نما الحلی ص 110.

ص: 156

فطالما رأیت رسول الله __ صلی الله علیه وآله __ یلثم موضعه)(1).

ولکن الذی لا یعلمه کثیر من الناس هو معنی (فجعل ینکت) لان النکت هو الضرب الذی یؤدی إلی ترک الأثر، قال الخلیل الفراهیدی: (نکت: النکت: أن تنکت بقضیب فی الأرض، فتؤثر فیها بطرفه)(2)، فیکون معنی (فجعل ینکت بقضیب ثنایاه) هو فجعل ابن مرجانة یضرب بقضیب ضربا یؤثر فی رأس وثنایا سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه.

وقد حاول غیر واحد من المخالفین التعمیة والتضلیل علی هذه الجریمة الشنعاء وتبریرها وتوجیهها بشکل لا یخدش سمعة ابن مرجانة، ومن هذه المحاولات ما قام به البخاری الذی حاول ان یحذف المکان الذی کان ینکت علیه ابن مرجانة بقضیبه فقال: (عن أنس بن مالک أتی عبید الله بن زیاد برأس الحسین ابن علی فجعل فی طست فجعل ینکت وقال فی حسنه شیئا فقال أنس کان أشبههم برسول الله صلی الله علیه وسلم)(3) فلم یبین البخاری علی أی شیء جعل ینکت ابن مرجانة بقضیبه.

وجاء العینی لیقول ان النکت بقضیب ابن مرجانة لم یکن علی رأس الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وثنایاه، بل کان النکت علی الأرض، والأرض هی التی کانت تتأثر بضرب قضیبه، قال فی عمدة القاری: (فجعل ینکت: أی: فجعل عبید الله بن زیاد ینکت أی: یضرب بقضیب علی الأرض فیؤثر فیها)(4)


1- الأمالی للشیخ الطوسی ص 252.
2- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 5 ص 339.
3- صحیح البخاری ج 4 ص 216 باب مناقب المهاجرین وفضلهم.
4- عمدة القاری للعینی ج 16 ص 241.

ص: 157

سادسا: ابن مرجانة یبنی أربعة مساجد یسب بها أمیر المؤمنین 

روی ابن أبی الحدید المعتزلی عن أبی غسان البصری: (قال: بنی عبید الله بن زیاد أربعة مساجد بالبصرة تقوم علی بغض علی بن أبی طالب والوقیعة فیه: مسجد بنی عدی، ومسجد بنی مجاشع، ومسجد کان فی العلافین علی فرضة البصرة، ومسجد فی الأزد)(1).

سابعا: خبر مقتله وقصة الحیة التی کانت تدخل وتخرج فی رأسه

قال العینی فی عمدة القاری: (ثم إن الله تعالی جازی هذا الفاسق الظالم عبید الله بن زیاد بأن جعل قتله علی یدی إبراهیم بن الأشتر یوم السبت لثمان بقین من ذی الحجة سنة ست وستین علی أرض یقال لها: الجازر، بینها وبین الموصل خمسة فراسخ، وکان المختار بن أبی عبیدة الثقفی أرسله لقتال ابن زیاد، ولما قتل ابن زیاد جیء برأسه وبرؤوس أصحابه وطرحت بین یدی المختار، وجاءت حیة دقیقة تخللت الرؤوس حتی دخلت فی فم ابن مرجانة وهو ابن زیاد وخرجت من منخره ودخلت فی منخره وخرجت من فیه، وجعلت تدخل وتخرج من رأسه بین الرؤوس)(2).

وقال ابن الأثیر: (عن عمارة بن عمیر قال لما جئ برأس ابن زیاد وأصحابه نضدت فی المسجد فانتهیت إلیهم وهم یقولون قد جاءت قد جاءت فإذا حیة قد جاءت تتخلل الرؤوس حتی دخلت فی منخر عبید الله بن زیاد فمکثت هنیهة ثم خرجت فذهبت حتی تغیبت ثم قالوا قد جاءت قد جاءت ففعلت ذلک مرتین أو ثلاثا قال الترمذی هذا حدیث حسن صحیح أخرجه الثلاثة)(3).

فلعنه الله یوم ولد ویوم مات ویوم یبعث حیا فیحشر إلی النار وبئس القرار.


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 4 ص 94 __ 95.
2- عمدة القاری للعینی ج 16 ص 241.
3- أسد الغابة لابن الأثیر ج 2 ص 22 __ 23.

ص: 158

ص: 159

وَلَعَنَ اللهُ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ 

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

   1: وَلَعَنَ اللَّهُ

2: عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ

المبحث الثالث: عمر بن سعد من حین الثورة إلی زمن مقتله

عمر بن سعد یکتب لیزید بأمر مسلم بن عقیل ینبهه ویحرضه

عمر بن سعد یختار بلاد الری علی قتل ریحانة رسول الله

هل خرج عمر بن سعد لقتال الإمام الحسین مکرها؟

زحف جیوش الضلالة ومحاصرة الإمام الحسین علیه السلام

الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه یتفاوض مع عمر بن سعد

الشروط المزعومة هی فی مصلحة عمر بن سعد دون الإمام

الناس قد تحدثوا بالشروط دون ان یعلموها یقینا

لو کان الإمام صلوات الله وسلامه علیه یرید البیعة لیزید لبایع وهو فی المدینة

شاهد رافق الإمام صلوات الله وسلامه علیه من المدینة إلی کربلاء یکذب هذه الشروط

ما هی حقیقة المطالب التی أرادها الإمام الحسین

عمر بن سعد لعنه الله یشارک فی القتال والسلب والنهب

عمر بن سعد یسبی النساء والأطفال إلی ابن مرجانة ثم إلی یزید

هل یمکن بعد کل ذلک القول بان عمر بن سعد ثقة؟

عمر بن سعد یلاقی مصیره علی ید المختار

ص: 160

ص: 161

وَلَعَنَ اللهُ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ 

اشارة

 وفی هذه الفقرة مباحث مهمة کما فی غیرها من فقرات الزیارة الشریفة نستعرضها فیما یأتی:

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة 

ان عمر بن سعد وإن أفرد له ذکر فی هذه الفقرة من الزیارة وخص باللعن فیها، إلا انه یدخل فی جملة من الفقرات السابقة للزیارة، فهو ملعون بعموم قوله صلوات الله وسلامه علیه: (وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً قَتَلَتْکُمْ وَلَعَنَ اللَّهُ الْمُمَهِّدِینَ لَهُمْ بِالتَّمْکِینِ مِنْ قِتَالِکُمْ بَرِئْتُ إِلَی اللَّهِ وَإِلَیْکُمْ مِنْهُمْ وَمِنْ أَشْیَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ وَأَوْلِیَائِهِمْ)، فهو ممن قتلهم وقاتلهمصلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وهو ممن مکن ومهد لغیره سبیل قتالهم، وهو من أشیاع وأولیاء وأتباع المؤسسین لأساس الظلم والجور علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وغیر ذلک من العمومیات الشاملة له ولأمثاله من الظلمة.

وفوق ذلک فقد وردت مقاطع کثیرة فی متون الزیارات والأدعیة والأحادیث عن المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین تصرح باسمه وتنص علی لعنه، منها ما أخرجه

ص: 162

الشیخ الصدوق قدس الله روحه وغیره عن أبی الحسن علی بن موسی الرضا صلوات الله وسلامه علیهما انه قال: (...ومن سمی یوم عاشوراء یوم برکة وادخر فیه لمنزله شیئا لم یبارک له فیما ادخر، وحشر یوم القیامة مع یزید وعبید الله بن زیاد وعمر بن سعد لعنهم الله إلی أسفل درک من النار)(1).

 ومنها ما أخرجه المیرزا النوری قدس الله روحه فی مستدرک الوسائل عن الإمام أبی جعفر محمد بن علی الباقر صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین انه قال: (اللهم فصل علی محمد وآل محمد، واجعل محیای محیاهم ومماتی مماتهم، ولا تفرق بینی وبینهم فی الدنیا والآخرة، إنک سمیع الدعاء، اللهم وهذا یوم تجدد فیه النقمة وتنزل فیه اللعنة علی اللعین یزید، وعلی آل یزید، وعلی آل زیاد، وعمر بن سعد والشمر، اللهم العنهم والعن من رضی بقولهم وفعلهم...)(2).

ویدل علی صحة لعنه ما قاله السید حسن الحسینی آل المجدد الشیرازی فی موضوع بعنوان (النصال الخارقة لنحر المارقة) نشرته مجلة تراثنا والذی جاء فیه: (أنه قد تقرر فی علم المیزان أن الکلی الطبیعی لا استقلال له بالوجود، وإنما وجوده فی ضمن أفراده وبتبعها، فلیس معنی قولنا: لعنة الله علی الکافر والفاسق والمبتدع و. .. إلی آخره، إلا لعن أفراد ذلک الکلی ومصادیقه، وإلا فلا معنی للعن الکلی نفسه. فتحصل من ذلک جواز لعن یزید وابن زیاد وعمر بن سعد وشمر وغیرهم، لأن کلا منهم فرد من أفراد کلی الکافر والفاسق والظالم و... إلی آخره. فلا مناص من الإذعان لجواز لعن المعین، إذ المانعون یجیزونه فی نفس الأمر، وإن کانوا ینکرونه بألسنتهم، بل إن تجویزهم اللعن بصیغة ومنعه بأخری سفسطة ظاهرة...)(3).


1- عیون أخبار الرضا للشیخ الصدوق ج2 ص268 فی کراهة السعی فی الحوائج فی یوم عاشوراء.
2- مستدرک الوسائل للمیرزا النوری ج10 ص414 باب نوادر ما یتعلق بأبواب المزار.
3- مجلة تراثنا تصدر عن مؤسسة آل البیت ج50 ص230.

ص: 163

وقال علی محمد فتح الدین الحنفی: (قال العلامة وحید الزمان فی المشرب الوردی: ...وقال الله تعالی ((إِنَّ الَّذِینَ یُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِی الدُّنْیَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِینًا))، فإذا قلنا إن معاویة، ویزید، وعمرو بن العاص، وشمراً، وعمر بن سعد، وسناناً، وخولی آذوا الله ورسوله، وکل من کان کذلک فهو ملعون، فالذی ینتج أنهم ملعونون)(1).

ویمکن لعنه أیضا بالاستناد إلی الحدیث الذی رواه هو عن أبیه سعد بن أبی وقاص عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم انه قال: (قتال المؤمن کفر وسبابه فسوق ولا یحل لمسلم ان یهجر أخاه فوق ثلاثة أیام)(2)، وإجماع المسلمین قائم علی ان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه هو من المؤمنین بل من أئمتهم وساداتهم، والإجماع أیضا قائم علی ان ابن سعد لعنه الله قد قاتل الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه واهل بیته وأصحابه، فیکون بقتالهم کافراً محارباً والکافر المحارب ملعون بنص القرآن فی آیات کثیرة قد مر ذکرهن فی مباحث سابقة.

وقال الآلوسی فی تفسیره عند کلامه عن لعن یزید بن معاویة علیه اللعنة ومن جوزه من علماء السنة: (ومن کان یخشی القال والقیل من التصریح بلعن ذلک الضلیل، فلیقل: لعن الله من رضی بقتل الحسین ومن آذی عترة النبی صلی الله علیه وسلم بغیر حق ومن غصبهم حقهم، فإنه یکون لاعنا له لدخوله تحت العموم دخولا أولیا فی نفس الأمر)(3) وهذا الکلام وان أورده الآلوسی بحق یزید إلا انه قابل للانطباق علی جمیع من شارک فی قتل الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ومن رضی بقتله ومن آذی عترة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فیکون دخول عمر بن سعد فی کلامه بدیهیا.


1- فلک النجاة فی الإمامة والصلاة لعلی محمد فتح الدین الحنفی ص 85.
2- مسند احمد بن حنبل ج1 ص176.
3- تفسیر الآلوسی ج26 ص74.

ص: 164

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

1: وَلَعَنَ اللَّهُ

مر تبیان هذه العبارة فی أثناء شرحنا للعبارات السابقة.

2: عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ

وعُمَرُ بْنُ سَعْدٍ هو: (عمر بن سعد بن أبی وقاص بن أهیب بن عبد مناف ابن زهرة وأمه ماریة بنت قیس بن معدی کرب بن أبی الکیسم بن السمط بن امرئ القیس من کندة)(1)، وقال ابن عساکر: (عمر بن سعد بن أبی وقاص مالک بن أهیب بن عبد مناف بن زهرة بن کلاب بن مرة بن کعب بن لؤی بن غالب أبو حفص القرشی الزهری أصله من المدینة وسکن الکوفة)(2)، وسیأتی فی المبحث الآتی تفصیل کامل عن أعماله ومواقفه قبل واقعة عاشوراء الألیمة وفی أثنائها وبعدها.

المبحث الثالث: عمر بن سعد من حین الثورة إلی زمن مقتله

اشارة

ان الحدیث عن عمر بن سعد لعنه الله هو حدیث عن صمیم واقعة عاشوراء وما وقع فیها من الفجائع، فهو من قاد فصول مآسیها، وهو من تزعم جیوش البغی فیها، وهو من رض الصدر وسحق الجسم، وفصل الرؤوس وسبی العیال وأیتم الأطفال، وحرق البیوت وسلب النساء ...، ففی کل موقف من مواقف عاشوراء الرهیبة کان عمر بن سعد حاضرا، یکتب الکتب، ویحرض الجیش، ویوجه القتلة،


1- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 5 ص 168.
2- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 45 ص 37.

ص: 165

ویشارک فی السلب والنهب والحرق، ویمنع الماء عن آل الرسول صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین الذین کانت قلوبهم تحترق وأکبادهم تذوب من العطش.

ونظرا لحضور هذه الشخصیة الملعونة فی کل فصول الثورة الحسینیة وفعالیته الکبیرة فی إیجاد وقیادة فاجعة الطف الألیمة، واستمرار دوره حتی إلی ما بعد انتهاء المعرکة وبقاء تأثیره الخبیث إلی حین مقتله رأینا من المناسب ان نتعرض إلی أخباره ونکشف عن حاله، من حین بدء الثورة الحسینیة إلی حین مقتل هذا اللعین واجتثاث أصله الخبیث من فوق الأرض.

عمر بن سعد یکتب لیزید بأمر مسلم بن عقیل ینبهه ویحرضه

کان أول ظهور لاسم عمر بن سعد لعنه الله فی أحداث الثورة الحسینیة حین قدوم مسلم بن عقیل رضوان الله تعالی علیه إلی أرض الکوفة ومبایعة الناس له وکتابتهم للکتب التی تحث الإمام الحسین علیه السلام وتطلب منه تعجیل القدوم إلیهم وغیر ذلک من الأحداث المعروفة المشهورة، فلما رأی أنصار یزید بن معاویة ان البساط سینسحب من تحت أقدامهم، وان مسلم بن عقیل رضوان الله تعالی علیه یقود الجماهیر، وان المبایعین للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه قد بلغوا ثمانیة عشر ألف رجل أو یزیدون، وان بیعة یزید قد نقضت، وان الکوفة ستخرج من أیدی السلطة الأمویة وأنصارها، وان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه یعد العدة للخروج من مکة قاصدا أرض الکوفة، کتبوا إلیه یحذرونه من مغبة ما یجری ویحرضونه علی التحرک والوقوف بوجه الثورة الحسینیة التی صارت تکبر ویکثر أنصارها یوماً بعد یوم، وکان عمر بن سعد لعنه الله من ضمن الذین کتبوا إلی یزید بن معاویة بشأن مسلم بن عقیل وأخذه البیعة للحسین صلوات الله وسلامه علیه من الناس، قال البلاذری: (کتب وجوه أهل

ص: 166

الکوفة: عمر بن سعد بن أبی وقاص الزهری ومحمد بن الأشعث الکندی وغیرهما إلی یزید بن معاویة بخبر مسلم بن عقیل، وتقدیم الحسین إیاه إلی الکوفة أمامه، وبما ظهر لهم من ضعف النعمان بن بشیر، وعجزه ووهن أمره)(1).

وقال الطبری: (وخرج عبد الله بن مسلم وکتب إلی یزید بن معاویة: أما بعد فإن مسلم بن عقیل قد قدم الکوفة فبایعته الشیعة للحسین بن علی فإن کان لک بالکوفة حاجة فابعث إلیها رجلا قویا ینفذ أمرک ویعمل مثل عملک فی عدوک فإن النعمان بن بشیر رجل ضعیف أو هو یتضعف فکان أول من کتب إلیه، ثم کتب إلیه عمارة بن عقبة بنحو من کتابه، ثم کتب إلیه عمر بن سعد بن أبی وقاص بمثل ذلک، قال هشام قال عوانة فلما اجتمعت الکتب عند یزید لیس بین کتبهم إلا یومان دعا یزید بن معاویة سرجون مولی معاویة فقال ما رأیک فإن حسینا قد توجه نحو الکوفة ومسلم بن عقیل بالکوفة یبایع للحسین وقد بلغنی عن النعمان ضعف وقول سیئ وأقرأه کتبهم فما تری من أستعمل علی الکوفة وکان یزید عاتبا علی عبید الله بن زیاد فقال سرجون أرأیت معاویة لو نشر لک أکنت آخذا برأیه قال نعم فأخرج عهد عبید الله علی الکوفة فقال هذا رأی معاویة ومات وقد أمر بهذا الکتاب فأخذ برأیه وضم المصرین إلی عبید الله وبعث إلیه بعهده علی الکوفة ثم دعا مسلم بن عمرو الباهلی وکان عنده فبعثه إلی عبید الله بعهده إلی البصرة وکتب إلیه معه أما بعد فإنه کتب إلی شیعتی من أهل الکوفة یخبروننی أن ابن عقیل بالکوفة یجمع الجموع لشق عصا المسلمین فسر حین تقرأ کتابی هذا حتی تأتی أهل الکوفة فتطلب ابن عقیل کطلب الخرزة حتی تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفیه والسلام)(2).


1- انساب الأشراف للبلاذری ص 77__ 78.
2- تاریخ الطبری ج 4 ص 265.

ص: 167

وقول یزید بن معاویة لعنه الله: (أما بعد فإنه کتب إلی شیعتی من أهل الکوفة یخبروننی أن ابن عقیل بالکوفة...) فیه تصریح واضح وإقرار علنی بأن عمر بن سعد لعنه الله کان یعد من أرکان الدولة وقادتها، وان کتابته لیزید نابعة من شعوره بأن أی خطر یهدد کیان الدولة الأمویة فانه یهدد مصالحه الشخصیة.

وهو نابع أیضا من علمه بأن یزید بن معاویة لعنه الله هو فی بدایة عهد حکم جدید وهو بحاجة إلی من یثبت له حکمه، وبحاجة إلی رجال یدیرون له البلدان فبکتابته إلی یزید بأمر مسلم بن عقیل یکون قد برهن عملیا علی إخلاصه وتفانیه فی سبیل خدمة یزید بن معاویة علیه اللعنة، وهو ما سیکافأ علیه من قبل یزید لعنه الله وهو ما حصل فعلا فقد تم اختیاره فیما بعد لشغل منصب حاکم بلاد الری والمناطق المحیطة بها، کما سیأتی ذکره لاحقا.

فیتضح مما سبق ان عمر بن سعد لعنه الله کان سببا مباشرا ورئیسا للقضاء علی مسلم بن عقیل وقتله وکان أیضا سببا أساساً ومهما للقضاء علی الثورة فی الکوفة، وهو أیضا سبب أساس لمجیء ابن مرجانة وتعیینه والیا علی الکوفة، وهو أیضا سبب فیما وقع بعد ذلک من أحداث وفجائع.

ولیست هذه المرة الوحیدة التی یکتب فیها عمر بن سعد کتابا یؤدی الی سفک دم مسلم وولی من أولیاء الله سبحانه، فقد کتب قبل ذلک کتابا إلی معاویة بن أبی سفیان یشهد فیه علی حجر بن عدی الکندی صاحب أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه بالکفر ومفارقة الجماعة مما أدی إلی مقتله ومقتل ثلة من أصحابه رضوان الله تعالی علیهم فی قضیة مفصلة ذکرتها مصادر التاریخ(1).


1- راجع علی سبیل المثال تاریخ الطبری ج 4 ص 200 __ 202.

ص: 168

عمر بن سعد یختار بلاد الری علی قتل ریحانة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم 

لما أحس یزید بن معاویة لعنه الله الوفاء والنصیحة من عمر بن سعد بعد کتابته له بأمر مسلم بن عقیل علیه السلام قرر مکافأته بتولیته ولایة بلاد الری(1) وثغر دستبی والدیلم، وکتب له عبید الله بن مرجانة نیابة عن یزید کتاب التولیة، وأمره بالخروج إلی عمله، وجهز معه أربعة آلاف فارس، فاحتال علیه عبید الله بن مرجانة بأن شرط علیه أن یسلمه ولایة الری بشرط أن یمضی ویقضی علی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وثورته وجمیع من خرج بصحبته، قال الطبری: (وکان سبب خروج ابن سعد إلی الحسین علیه السلام أن عبید الله بن زیاد بعثه علی أربعة آلاف من أهل الکوفة یسیر بهم إلی دستبی وکانت الدیلم قد خرجوا إلیها وغلبوا علیها فکتب إلیه ابن زیاد عهده علی الری وأمره بالخروج فخرج معسکرا بالناس بحمام أعین فلما کان من أمر الحسین ما کان وأقبل إلی الکوفة دعا ابن زیاد عمر بن سعد فقال سر إلی الحسین فإذا فرغنا مما بیننا وبینه سرت إلی عملک فقال له عمر بن سعد إن رأیت رحمک الله أن تعفینی فافعل فقال له عبید الله نعم علی أن ترد لنا عهدنا قال فلما قال له ذلک قال عمر بن سعد أمهلنی الیوم حتی أنظر قال فانصرف عمر یستشیر نصحاءه


1- قال الحموی فی معجم البلدان ج3 ص 116__ 118: (وهی مدینة مشهورة من أمهات البلاد وأعلام المدن کثیرة الفواکه والخیرات، وهی محط الحاج علی طریق السابلة وقصبة بلاد الجبال... والری مدینة لیس بعد بغداد فی المشرق أعمر منها...وللری قری کبار کل واحدة أکبر من مدینة...وحکی ابن الفقیه عن بعض العلماء قال: فی التوراة مکتوب الری باب من أبواب الأرض وإلیها متجر الخلق. وقال الأصمعی: الری عروس الدنیا وإلیه متجر الناس... وکان عبید الله بن زیاد قد جعل لعمر بن سعد بن أبی وقاص ولایة الری إن خرج علی الجیش الذی توجه لقتال الحسین بن علی، رضی الله عنه، فأقبل یمیل بین الخروج وولایة الری والقعود، وقال: أأترک ملک الری والری رغبتی، أم ارجع مذموما بقتل حسین وفی قتله النار التی لیس دونها حجاب وملک الری قرة عین فغلبه حب الدنیا والریاسة حتی خرج فکان من قتل الحسین، رضی الله عنه، ما کان).

ص: 169

فلم یکن یستشیر أحدا إلا ...فأقبل عمر بن سعد إلی ابن زیاد فقال أصلحک الله إنک ولیتنی هذا العمل وکتبت لی العهد وسمع به الناس فان رأیت أن تنفذ لی ذلک فافعل وابعث إلی الحسین فی هذا الجیش من أشراف الکوفة من لست بأغنی ولا أجزأ عنک فی الحرب منه فسمی له أناسا فقال له ابن زیاد لا تعلمنی بأشراف أهل الکوفة ولست أستأمرک فیمن أرید أن أبعث إن سرت بجندنا وإلا فابعث إلینا بعهدنا فلما رآه قد لج قال فإنی سائر)(1).

ویحتمل أیضا ان تکون ولایة الری مجرد طعم لاصطیاد عمر بن سعد من خلاله، فیزید بن معاویة وعبید الله بن مرجانة لعنهما الله کانا علی علم وإحاطة تامة بنفسیة عمر بن سعد لعنه الله، وانه کان طموحا للرئاسة محبا للمنصب، قال عنه ابن کثیر: (وکان عمر بن سعد هذا یحب الإمارة، فلم یزل ذلک دأبه حتی کان هو أمیر السریة التی قتلت الحسین بن علی رضی الله عنه)(2) فاستغلا هذه الخصلة الذمیمة لیصلا من خلالها إلی إجباره علی المسیر إلی قتل الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وأهل بیته وجمیع أصحابه، فنیتهما فی تأمیر ابن سعد علی بلاد الری لم تکن جدیة، بدلیل ان ابن سعد حتی بعد قتله للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وارتکابه تلک المجزرة الفظیعة لم تسلم له ولایة الری، والإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه فی یوم عاشوراء أراد تنبیهه إلی هذه الحقیقة، ولفت نظره إلی انه بوقوفه فی وجه الثورة الحسینیة سوف لن یجنی شیئا سوی الإثم والخسران وانه سوف لن ینال من وعود یزید بن معاویة وابن مرجانة لعنهما الله شیئا، وهو ما أوضحه الإمام صلوات الله وسلامه علیه بقوله وندائه یوم عاشوراء: (أین عمر بن سعد؟ ادعوا لی عمر! فدعی له، وکان کارها لا یحب أن یأتیه فقال: یا


1- تاریخ الطبری ج 4 - ص 309 __ 310.
2- البدایة والنهایة لابن کثیر ج 7 ص 313.

ص: 170

عمر أنت تقتلنی ؟ تزعم أن یولیک الدعی بن الدعی بلاد الری وجرجان، والله لا تتهنأ بذلک أبدا، عهدا معهودا، فاصنع ما أنت صانع، فإنک لا تفرح بعدی بدنیا ولا آخرة، ولکأنی برأسک علی قصبة قد نصب بالکوفة، یتراماه الصبیان ویتخذونه غرضا بینهم. فاغتاظ عمر من کلامه، ثم صرف بوجهه عنه، ونادی بأصحابه: ما تنتظرون به؟ احملوا بأجمعکم إنما هی أکلة واحدة)(1).

هل خرج عمر بن سعد لقتال الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه مکرها؟

لقد حاول بعض مؤرخی أهل السنة تبریر خروج عمر بن سعد لعنه الله إلی قتال الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بأنه خرج مکرها، قال الدینوری: (فأمره ابن زیاد أن یسیر إلی محاربة الحسین، فإذا فرغ منه سار إلی ولایته. فتلکأ عمر بن سعد علی ابن زیاد، وکره محاربة الحسین)(2).

وبحسب وصف الذهبی انه خرج کالمکره، قال: (وأخذ الحسین طریق العذیب، حتی نزل قصر أبی مقاتل، فخفق خفقة، ثم استرجع، وقال: رأیت کأن فارسا یسایرنا، ویقول: القوم یسیرون، والمنایا تسری إلیهم. ثم نزل کربلاء، فسار إلیه عمر بن سعد کالمکره)(3).

وقد حاول ابن کثیر المتعصب للباطل دوما، أن یخفف جریمة عمر بن سعد لعنه الله، ویهون شناعة فعله بقوله: (وإنما کان عمر أمیر السریة التی قتلت الحسین فقط)(4).


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج45 ص10 فیما قاله مولانا الحسین علیه السلام فی یوم عاشورا لجماعة الکوفی من النصایح والمواعظ.
2- الأخبار الطوال للدینوری ص 253.
3- تاریخ الإسلام للذهبی ج 5 ص 13، سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 3 ص 298 __ 299.
4- البدایة والنهایة لابن کثیر ج 8 ص 204.

ص: 171

وحاول ابن تیمیة أن یلتف علی موبقة قتاله للإمام الحسین بطریقته المعروفة فی المراوغة والتضلیل فقال: (ثم غایة عمر بن سعد وأمثاله أن یعترف بأنه طلب الدنیا بمعصیة یعترف أنها معصیة، وهذا ذنب کثیر وقوعه من المسلمین)(1).

و(عدم الطعن فی عمر بن سعد لما فعل، بل الاعتذار له بما ذکر، یکشف عن نصب شدید وعداء مقیت)(2)، إضافة إلی ان الطبری صرح بأن عمر بن سعد خرج إلی قتال الحسین راضیا، حیث قال: (وکان عمر بن سعد بن أبی وقاص قد ولاه عبید الله بن زیاد الری وعهد إلیه عهده فقال اکفنی هذا الرجل قال اعفنی فأبی أن یعفیه قال فأنظرنی اللیلة فأخره فنظر فی أمره فلما أصبح غدا علیه راضیا بما أمر به)(3).

وابن کثیر المتعصب علی رغم قوله السابق فقد کذب نفسه فی مکان آخر من کتابه واعترف برضا عمر بن سعد بقتال الحسین والخروج إلیه، حیث قال: (فقال: اعفنی. فأبی أن یعفیه، فقال: أنظرنی اللیلة، فأخره فنظر فی أمره، فلما أصبح غدا علیه راضیا بما أمره به)(4)وقد صدق من قال (لا حافظة لکذوب).

وشعر عمر بن سعد الذی تمثل به یوم عزم علی الخروج إلی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه لقتله صریح بان هذا اللعین کان علی علم تام ودرایة کاملة بعواقب وبنتائج فعله الدنیویة والأخرویة، وعلی یقین ومعرفة کاملة بشخص الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وعظیم انتهاک حرمته وسفک دمه، ولکنه مع ذلک أصر علی الخروج


1- منهاج السنة النبویة لابن تیمیة ج2 ص68.
2- شرح منهاج الکرامة فی معرفة الإمامة للسید علی المیلانی ج1 شرح ص72.
3- تاریخ الطبری ج 4 ص 292 __ 293.
4- البدایة والنهایة لابن کثیر ج 8 ص 214.

ص: 172

والإقدام علی قتل خیر الأنام، وشعره الذی تمثل به هو:

فوالله ما أدری وإنی لحائر            ***        أفکر فی أمری علی خطرین

أأترک ملک الری والری منیتی   ***        أم أرجع مأثوما بقتل حسین

حسین ابن عمی والحوادث جمة  ***        لعمری ولی فی الری قرة عین

وإن إله العرش یغفر زلتی             ***        ولو کنت فیها أظلم الثقلین

ألا إنما الدنیا بخیر معجل              ***        وما عاقل باع الوجود بدین

یقولون إن الله خالق جنة               ***        ونار وتعذیب وغل یدین

فإن صدقوا فیما یقولون إننی        ***        أتوب إلی الرحمن من سنتین

وإن کذبوا فزنا بدنیا عظیمة           ***        وملک عظیم دائم الحجلین(1)

وحینما أراد بریر بن خضیر رضوان الله تعالی علیه ان یثنی عمر بن سعد عن القتال وبعد ان سمع تردیده لهذه الأبیات رجع إلی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وقال له: (یا ابن بنت رسول الله إن عمر بن سعد قد رضی أن یقتلک بملک الری)(2).

زحف جیوش الضلالة ومحاصرة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه

کان نزول الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه إلی أرض کربلاء (یوم الخمیس وهو الیوم الثانی من المحرم سنة إحدی وستین، فلما کان من الغد قدم علیهم عمر بن سعد ابن أبی وقاص من الکوفة فی أربعة آلاف من الفوارس فنزل نینوی)(3).


1- الأبیات بهذه الصیغة والترتیب تجدها فی شرح منهاج الکرامة فی معرفة الإمامة للسید علی المیلانی ج1 شرح ص72.
2- کتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الکوفی ج5 ص96 ذکر اجتماع العسکر إلی حرب الحسین بن علی.
3- روضة الواعظین للفتال النیسابوری ص 181.

ص: 173

وبقی عبید الله بن مرجانة لعنه الله یمده بالخیل والرجال من الیوم الثالث الی الیوم العاشر من المحرم، وأغلق کذلک جمیع الطرق التی یمکن من خلالها أن یتسلل من یحاول اللحاق برکب الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ، فعن هلال بن أساف قال: (أمر زیاد فأخذ ما بین واقصة إلی طریق الشام إلی طریق البصرة فلا یترک أحد یلج ولا یخرج)(1).

وقال أیضا: (ووضع ابن زیاد المناظر علی الکوفة لئلا یجوز أحد من العسکر مخافة لأن یلحق الحسین مغیثاً له، ورتب المسالح حولها وجعل علی حرس الکوفة والعسکر زخر بن قیس الجعفی، ورتب بینه وبین عسکر عمر بن سعد خیلاً مضمرة مقدحة فکان خبر ما قبله یأتیه فی کل وقت)(2).

وکان عبید الله بن مرجانة یحرض الناس للخروج إلی قتال الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه تارة بالترهیب وأخری بالترغیب، فزاد فی أعطیات من یخرج مائة دینار وحذر کل من یتخلف عن الخروج بالعقاب والقتل ومحو اسمه من دیوان الأعطیات(3) وغیر ذلک، قال البلاذری: (ولما سرح ابن زیاد عمر بن سعد من حمام أعین، أمر الناس فعسکروا بالنخیلة، وأمر أن لا یتخلف أحد منهم، وصعد المنبر فقرظ معاویة وذکر إحسانه وإدراره الأعطیات، وعنایته بأمور الثغور، وذکر اجتماع الألفة به وعلی یده، وقال: إن یزید ابنه المتقیل له، السالک لمناهجه المحتذی لمثاله، وقد زادکم مائة مائة فی أعطیتکم، فلا یبقین رجل من العرفاء والمناکب والتجار والسکان إلا خرج فعسکر معی، فأیما رجل وجدناه بعد یومنا هذا متخلفاً


1- انساب الأشراف للبلاذری ج1 ص415.
2- انساب الأشراف للبلاذری ج1 ص416.
3- ترجمة الإمام الحسین علیه السلام من طبقات ابن سعد ص 69.

ص: 174

عن العسکر برئت منه الذمة)(1).

وجاء فی ترجمة الإمام الحسین من الطبقات: (فلما رأی الحسین عمر بن سعد قد قصد له فیمن معه قال: یا هؤلاء اسمعوا یرحمکم الله، ما لنا ولکم! ما هذا بکم یا أهل الکوفة؟ قالوا: خفنا طرح العطاء، قال: ما عند الله من العطاء خیر لکم وکان معه من أهل بیته تسعة عشر رجلا..)(2).

ولم یکتف ابن مرجانة لعنه الله بالجیش الذی مع عمر بن سعد والذی قوامه أربعة آلاف مقاتل، ولا بأهل الکوفة الذین أخرجهم عن بکرة أبیهم طوعا أو کرها، حتی بعث یستمد الرجال من مناطق أخری، قال البلاذری: (ثم خرج ابن زیاد فعسکر وبعث إلی الحصین بن تمیم، وکان بالقادسیة فی أربعة آلاف فقدم النخیلة فی جمیع من معه)(3).

وقال أیضا: (وسرح ابن زیاد أیضاً حصین بن تمیم فی الأربعة الآلاف الذین کانوا معه إلی الحسین بعد شخوص عمر بن سعد بیوم أو یومین، ووجه أیضاً إلی الحسین حجار بن أبجر العجلی فی ألف، وتمارض شبث بن ربعی، فبعث إلیه فدعاه وعزم علیه أن یشخص إلی الحسین فی ألف ففعل... ووجه أیضاً یزید بن الحارث بن یزید بن رویم فی ألف أو أقل... ثم جعل ابن زیاد یرسل العشرین والثلاثین والخمسین إلی المائة غدوة وضحوة ونصف النهار وعشیة من النخیلة، یمد بهم عمر ابن سعد)(4)


1- انساب الأشراف للبلاذری ج1 ص416.
2- ترجمة الإمام الحسین علیه السلام من طبقات ابن سعد ص 69.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.

ص: 175

ولکن هذه الکثرة الکثیرة من الخیل والرجال والعدة، لما کانت ترسل إلی کربلاء للالتحاق بجیش عمر بن سعد لعنه الله لم تکن تصل بکاملها، فقد کان الملتحقون فی ذلک الجیش یفرون ویتخلفون ولا یصل من الألف إلا ثلاثمائة أو أربعمائة رجل، وفی هذا الصدد یقول البلاذری: (وکان الرجل یبعث فی ألف فلا یصل إلا فی ثلاثمائة أو أربعمائة وأقل من ذلک کراهة منهم لهذا الوجه)(1).

وقال الدینوری فی الأخبار الطوال: (وکان ابن زیاد إذا وجه الرجل إلی قتال الحسین فی الجمع الکثیر، یصلون إلی کربلاء، ولم یبق منهم إلا القلیل، کانوا یکرهون قتال الحسین، فیرتدعون، ویتخلفون. فبعث ابن زیاد سوید بن عبد الرحمن المنقری فی خیل إلی الکوفة، وأمره أن یطوف بها، فمن وجده قد تخلف أتاه به. فبینا هو یطوف فی أحیاء الکوفة إذ وجد رجلا من أهل الشام قد کان قدم الکوفة فی طلب میراث له، فأرسل به إلی ابن زیاد، فأمر به، فضربت عنقه. فلما رأی الناس ذلک خرجوا)(2).

وهذا التخلف والفرار من الالتحاق أرغم عبید الله بن مرجانة لعنه الله علی إرسال دورات من جیشه تدور فی أزقة وطرقات الکوفة وأحیائها لیکلموا الناس ویحذروهم مغبة التخلف وعدم الالتحاق بالجیش والخروج لنصرة عمر بن سعد لعنه الله، ومن لم یخضع للنصیحة أرغم علی الالتحاق، فان بقی متخفیا متخلفا قتل، وفی هذا الصدد یقول البلاذری: (ثم دعا ابن زیاد کثیر بن شهاب الحارثی، ومحمد بن الأشعث بن قیس، والقعقاع بن سوید بن عبد الرحمن المنقری، وأسماء بن خارجة الفزاری، وقال: طوفوا فی الناس فمروهم بالطاعة والاستقامة وخوفوهم عواقب


1- المصدر السابق.
2- الأخبار الطوال للدینوری ص 254 __ 255.

ص: 176

الأمور والفتنة والمعصیة، وحثوهم علی العسکرة. فخرجوا فعذروا وداروا بالکوفة ثم لحقوا به غیر کثیر بن شهاب فإنه کان مبالغاً یدور بالکوفة یأمر الناس بالجماعة ویحذرهم الفتنة والفرقة، ویخذل عن الحسین... ثم ان ابن زیاد استخلف علی الکوفة عمرو بن حریث، وأمر القعقاع بن سوید بن عبد الرحمن بن بجیر المنقری بالتطواف بالکوفة فی خیل، فوجد رجلاً من همدان قد قدم یطلب میراثاً له بالکوفة، فأتی به ابن زیاد فقتله فلم یبق بالکوفة محتلم إلا خرج إلی العسکر بالنخیلة)(1).

ثم کتب عبید الله بن مرجانة لعنه الله إلی عمر بن سعد لعنه الله قبل مقتل الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بثلاثة أیام ان یقطع عنهم سبل الوصول إلی الماء، لیضعف الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وأصحابه تمهیدا لبدء القتال، قال الشیخ المفید: (وورد کتاب ابن زیاد فی الأثر إلی عمر بن سعد: أن حل بین الحسین وأصحابه وبین الماء فلا یذوقوا منه قطرة، کما صنع بالتقی الزکی عثمان بن عفان. فبعث عمر بن سعد فی الوقت عمرو بن الحجاج فی خمسمائة فارس، فنزلوا علی الشریعة وحالوا بین الحسین وأصحابه وبین الماء أن یستقوا منه قطرة، وذلک قبل قتل الحسین بثلاثة)(2).

الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه یتفاوض مع عمر بن سعد 
اشارة

بقی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وأهل بیته وأطفاله وأصحابه فی کربلاء تحت طائلة الحصار ستة أیام امتدت من الیوم الثالث من شهر محرم حینما ورد علیه عمر بن سعد لعنه الله، والی یوم العاشر حیث دارت معرکة الحق مع الباطل، وقد التقی


1- انساب الأشراف للبلاذری ج1 ص416.
2- الإرشاد للشیخ المفید ج2 ص86.

ص: 177

الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه خلال هذه الستة أیام عدة مرات بعمر بن سعد لعنه الله، حاول الإمام صلوات الله وسلامه علیه من خلالها ثنیه عن القتال ونصرة وطاعة عبید الله بن مرجانة، قال ابن الأثیر: (التقی الحسین وعمر بن سعد مرارا ثلاثا أو أربعا)(1)، وعن (هانئ بن ثبیت الحضرمی وکان قد شهد قتل الحسین قال: بعث الحسین علیه السلام إلی عمر بن سعد عمرو بن قرظة بن کعب الأنصاری أن القنی اللیل بین عسکری وعسکرک قال فخرج عمر بن سعد فی نحو من عشرین فارسا وأقبل حسین فی مثل ذلک فلما التقوا أمر حسین أصحابه أن یتنحوا عنه وأمر عمر بن سعد أصحابه بمثل ذلک قال فانکشفنا عنهما بحیث لا نسمع أصواتهما ولا کلامهما فتکلما فأطالا حتی ذهب من اللیل هزیع ثم انصرف کل واحد منهما إلی عسکره بأصحابه)(2).

وفی روایة البحار للعلامة المجلسی قدس الله روحه ان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه لم یکن وحده مع عمر بن سعد، حیث حکی قصة اللقاء بقوله: (ثم أرسل الحسین إلی عمر بن سعد لعنه الله: أنی أرید أن أکلمک فالقنی اللیلة بین عسکری وعسکرک، فخرج إلیه ابن سعد فی عشرین وخرج إلیه الحسین فی مثل ذلک، فلما التقیا أمر الحسین علیه السلام أصحابه فتنحوا عنه، وبقی معه أخوه العباس، وابنه علی الأکبر، وأمر عمر بن سعد أصحابه فتنحوا عنه، وبقی معه ابنه حفص وغلام له)(3).

وقد وقع الاختلاف بین المؤرخین حول المواضیع التی تناولها الطرفان عند الاجتماع، فکتب السنة مجمعة علی ان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه طلب من عمر بن سعد ثلاثة أشیاء هی کما قال الطبری: (وتحدث الناس فیما بینهما ظنا یظنونه أن


1- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج 4 ص 55.
2- تاریخ الطبری ج 4 ص 312 __ 313.
3- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج 44 ص 388 __ 389.

ص: 178

حسینا قال لعمر بن سعد أخرج معی إلی یزید بن معاویة وندع العسکرین قال عمر إذن تهدم داری قال أنا أبنیها لک قال إذن تؤخذ ضیاعی قال إذن أعطیک خیرا منها من مالی بالحجاز قال فتکره ذلک عمر قال فتحدث الناس بذلک وشاع فیهم من غیر أن یکونوا سمعوا من ذلک شیئا ولا علموه)(1).

وابن کثیر زاد علی کلام الطبری ما نصه: (وقال بعضهم: بل سأل منه إما أن یذهبا إلی یزید، أو یترکه یرجع إلی الحجاز أو یذهب إلی بعض الثغور فیقاتل الترک)(2).

وروی ابن الأثیر ما قاله الناس بشکل آخر بقوله: (وقیل بل قال له اختاروا منی واحدة من ثلاث إما أن أرجع إلی المکان الذی أقبلت منه وإما أن أضع یدی فی ید یزید بن معاویة فیری فیما بینی وبین رأیه وإما أن تسیروا بی إلی أی ثغر من ثغور المسلمین شئتم فأکون رجلا من أهله لی ما لهم وعلی ما علیهم)(3).

أما البری فقد جزم بصدور هذه المطالب من الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، إذ إنه لم یروها بصیغة قال الناس، أو تحدث الناس، أو غیر ذلک کما فعل غیره، فروی القصة کالتالی: (فأتاه عمر بن سعد فقال: ما هذا المسیر یا أبا عبد الله ؟ قال: سرت إلی قوم غرونی بکتبهم، ولا مرد للقضاء. وإنی أسأل منکم إحدی ثلاث خلال: إما أن تترکونی أرجع من حیث جئت. وإما أن تخلوا بینی وبین الطریق إلی الأعاجم، أقاتل فیهم حتی أموت، وإما أن أسیر إلی یزید فأضع یدی فی یده)(4).

والسؤال المهم الذی یطرح نفسه هنا هو: أمن المعقول أن یطلب الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه من عمر بن سعد لعنه الله ان ینطلقا سویة إلی یزید بن معاویة لیصیر


1- تاریخ الطبری ج 4 ص 312 __ 313.
2- البدایة والنهایة لابن کثیر ج 8 ص 189.
3- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج 4 ص 54.
4- الجوهرة فی نسب الإمام علی وآله للبری ص 43.

ص: 179

تحت حکمه ورحمته؟ أو ان یسیروه إلی ثغر من الثغور فیقاتل الترک؟ أو یکون کأحد أهلها له ما لهم وعلیه ما علیهم؟ وهل یعقل ان یتوسل إلیهم الإمام صلوات الله وسلامه علیه بان یترکوه یرجع لأنه صلوات الله وسلامه علیه اکتشف حین محاصرته بأن أهل العراق قد خدعوه وغروه حتی صار یدعو آنذاک بقوله: (اللهم إن أهل العراق غرونی، وخدعونی، وصنعوا بأخی(1) ما صنعوا)(2)؟ أم ان هذه المقولات إنما جاءت ضمن خطة مدروسة للقضاء علی الثورة الحسینیة إعلامیا؟ وهذا ما سنعرفه فی العنوان التالی.

الشروط المزعومة هی فی مصلحة عمر بن سعد دون الإمام صلوات الله وسلامه علیه

لقد قمت باستقراء النصوص المتوفرة بین یدی والتی تحدثت عن مسألة لقاء الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بعمر بن سعد لعنه الله وما جری بینهما من کلام فوجدت ان المصادر السنیة المعتمد علیها عندهم أجمعت علی ان اللقاء الذی انعقد لم یضم سوی شخصین فقط هما کل من الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وعمر بن سعد لعنه الله، وان جمیع من کان معهما قد تنحی جانبا بحیث لا یسمعون أصواتهما ولا کلامهما، مما یعنی ان احد الطرفین هو الذی أخرج هذه المقولة.

 ولکن أی الطرفین من مصلحته ان تتحقق هذه الشروط الثلاثة أو واحدا منها، وبقلیل من التدبر أو التأمل نجد أنّ عمر بن سعد لعنه الله هو المستفید الوحید من وقوع احد هذه الشروط، لان من سمات عمر بن سعد لعنه الله الشخصیة انه کان محبا للمنصب، کما قال عنه ابن کثیر: (وکان عمر بن سعد هذا یحب الإمارة، فلم یزل ذلک دأبه حتی کان هو أمیر السریة التی قتلت الحسین بن علی رضی الله عنه)(3)، وبلغ


1- یقصد بأخیه مسلم بن عقیل رضوان الله تعالی علیه.
2- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 3 ص 302
3- البدایة والنهایة لابن کثیر ج 7 ص 313.

ص: 180

من طمعه انه رضی بقتل سید شباب أهل الجنة من اجل ملک الری، فتحقیق احد تلک الشروط الثلاثة کان کافیا لوصوله إلی مطمعه، من دون حاجة إلی تجشم العناء فی خوض معرکة ربما تکون فی غیر صالحه، فهو یرید ان یزیل هذه العقبة التی تحول دون وصوله لملک الری بصورة سلمیة، وبأسرع وقت ممکن.

أما بالنسبة للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه فقد کان القبول ببیعة یزید، أو الذهاب إلیه، أو الفرار إلی احد الثغور لیقاتل فیها حتی یقتل، معناه التنازل الصریح والامتهان الواضح والذلة التی لا ریب فیها، وکل هذه تضر وتسیء إلی شخص الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وثورته وشعاراته التی رفعها منذ خروجه من مکة إلی حین استشهاده صلوات الله وسلامه علیه، وعلیه فلیس من مصلحة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه أن یخرج هذه الفریة علی نفسه، إذن فالمستفید من إخراج هذه الفریة هو عمر بن سعد لعنه الله وحده، دون الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه.

الناس قد تحدثوا بالشروط دون ان یعلموها یقینا 

إضافة إلی ان الروایات التی نقلت هذه القصة صرحت بأن الناس تحدثوا عن ظن یظنونه ان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه قال لعمر بن سعد لعنه الله أخرج معی إلی یزید بن معاویة لعنه الله، ثم ان هذا النص وغیره یصور الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بأنه إنسان غیر مبالٍ وانه لا یهتم إلا إلی نجاة نفسه حاشاه من هذه الأکاذیب، لأنه صلوات الله وسلامه علیه لم یکن فی کربلاء وحیدا بل کان معه أخوته وأخواته وزوجاته وأبناؤه وأصحابه فکیف یعقل ان یترک الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه کل هؤلاء، ویعرض علی اللعین عمر بن سعد ان یهربا سویة الی یزید ویترکا جمیع من کان بصحبته صلوات الله وسلامه علیه، فکذب هذه الروایات واضح لا ریب فیه.

ص: 181

لو کان الإمام صلوات الله وسلامه علیه یرید البیعة لیزید لبایع وهو فی المدینة

أضف إلی ذلک ان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه لو کان فی نیته ان یبایع یزید بن معاویة لعنه الله لما تجشم عناء الخروج من المدینة، ولبایع یزید بن معاویة لعنه الله من أول الأمر، فانه حینئذ سوف لن یدفع القتل عن نفسه وعن أهل بیته فحسب بل کان سیحظی ببیعته هذه بمنزلة ومکانة خاصة عند یزید والأمویین، لان بیعته صلوات الله وسلامه علیه معناها إعطاء الشرعیة لیزید لعنه الله، وان بیعته ستؤدی إلی ان یبایع لیزید جمیع بنی هاشم تبعا للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وقریش تبعا لبنی هاشم وجمیع أهل المدینة تبعا لقریش، وبیعة تحمل کل هذه الأهمیة کان یزید والأمویون علی استعداد ان یبذلوا الغالی والنفیس من اجل تحقیقها لو کان لتحقیقها سبیل.

شاهد رافق الإمام صلوات الله وسلامه علیه من المدینة إلی کربلاء یکذب هذه الشروط 

کان عقبة بن سمعان عبداً مملوکاً للرباب زوجة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، صحب الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه من حین خروجه من بیته فی المدینة المنورة، إلی حین مقتله صلوات الله وسلامه علیه وانتهاء المعرکة، وبعد انتهاء فاجعة عاشوراء اخذ أسیرا إلی عمر بن سعد لعنه الله، فأراد قتله، ولکنه اعتذر إلیه بأنه عبد مملوک لا یملک حیلة دون الحضور مع الرباب رضوان الله تعالی علیها، فخلی عمر بن سعد سبیله، قال الطبری: (أخذ عمر بن سعد عقبة بن سمعان وکان مولی للرباب بنت امرئ القیس الکلبیة وهی أم سکینة بنت الحسین فقال له ما أنت قال أنا عبد مملوک فخلی سبیله فلم ینج منهم أحد غیره)(1).

وعلیه فیکون عقبة بن سمعان شاهد عیان رافق الحدث من بدایة صدوره إلی


1- تاریخ الطبری ج4 ص347.

ص: 182

انتهاء حصوله، وقد نقل الکثیر من الأخبار التی وقعت سواء فی الطریق إلی کربلاء، أو فی کربلاء قبل قیام الحرب وأثنائها وبعدها، وقد کان فی موضع یتیح له الاطلاع علی تفاصیل ما یقع وما یقال، فمن الطبیعی ان تکون لشهادة مثل هذا الشخص أهمیة عظمی من حیث الاثبات التاریخی.

وقد أکد عقبة بن سمعان هذا علی کذب ما زعموه من ان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه قد طلب منهم ان یذهب إلی یزید لیضع یده فی یده، أو ان یسیروه إلی ثغر من الثغور یقاتل حتی یقتل، قال الطبری: (عن عقبة بن سمعان قال صحبت حسینا فخرجت معه من المدینة إلی مکة ومن مکة إلی العراق ولم أفارقه حتی قتل ولیس من مخاطبته الناس کلمة بالمدینة ولا بمکة ولا فی الطریق ولا بالعراق ولا فی عسکر إلی یوم مقتله إلا وقد سمعتها ألا والله ما أعطاهم ما یتذاکر الناس وما یزعمون من أن یضع یده فی ید یزید بن معاویة ولا أن یسیروه إلی ثغر من ثغور المسلمین ولکنه قال دعونی فلا ذهب فی هذه الأرض العریضة حتی ننظر ما یصیر أمر الناس)(1).

وقال ابن الأثیر: (صحبت __ الحسین __ من المدینة إلی مکة ومن مکة إلی العراق ولم أفارقه حتی قتل وسمعت جمیع مخاطباته الناس إلی یوم مقتله فوالله ما أعطاهم ما یتذاکر به الناس من أنه یضع یده فی ید یزید ولا أن یسیروه إلی ثغر من ثغور المسلمین ولکنه قال دعونی أرجع إلی المکان الذی أقبلت منه أو دعونی أذهب فی هذه الأرض العریضة حتی ننظر إلی ما یصیر إلیه أمر الناس فلم یفعلوا)(2).

وعن ابن کثیر قال: (عن عقبة بن سمعان. قال: لقد صحبت الحسین من مکة


1- المصدر السابق ج4 ص313.
2- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج 4 ص 54 __ 55.

ص: 183

إلی حین قتل، والله ما من کلمة قالها فی موطن إلا وقد سمعتها، وإنه لم یسأل أن یذهب إلی یزید فیضع یده إلی یده، ولا أن یذهب إلی ثغر من الثغور، ولکن طلب منهم أحد أمرین، إما أن یرجع من حیث جاء، وإما أن یدعوه یذهب فی الأرض العریضة حتی ینظر ما یصیر أمر الناس إلیه)(1).

وهنالک مستند تاریخی آخر یؤکد کلام عقبة بن سمعان، فقد ورد کتاب من عمر بن سعد لعنه الله إلی عبید الله بن زیاد یخبره فیه عن لقائه بالإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ویذکر فیه ما دار بینهما من حوار ولم یکن فی الکتاب ذکر لمطالبة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بإرساله وتسییره إلی یزید لیضع یده فی یده، أو بعثه إلی ثغر من الثغور لیقاتل الدیلم أو الترک حتی یقتل کما زعموا، فعن الطبری: (عن حسان بن فائد بن بکر العبسی قال: أشهد أن کتاب عمر بن سعد جاء إلی عبید الله بن زیاد وأنا عنده فإذا فیه: بسم الله الرحمن الرحیم أما بعد فأنی حیث نزلت بالحسین بعثت إلیه رسولی فسألته عما أقدمه وماذا یطلب ویسأل فقال کتب إلی أهل هذه البلاد وأتتنی رسلهم فسألونی القدوم ففعلت فأما إذ کرهونی فبدا لهم غیر ما أتتنی به رسلهم فأنا منصرف عنهم فلما قرئ الکتاب علی ابن زیاد قال الآن إذ علقت مخالبنا به. یرجو النجاة ولات حین مناص)(2).

وفی نص آخر عن الطبری أیضا قال: (فدعا عمر قرة بن قیس الحنظلی فقال له ویحک یا قرة الق حسینا فسله ما جاء به وماذا یرید قال فأتاه قرة بن قیس فلما رآه الحسین مقبلا قال أتعرفون هذا فقال حبیب بن مظاهر نعم هذا رجل من حنظلة تمیمی وهو ابن أختنا ولقد کنت أعرفه بحسن الرأی وما کنت أراه یشهد هذا المشهد قال


1- البدایة والنهایة لابن کثیر ج8 ص189 __ 190.
2- تاریخ الطبری ج4 ص311.

ص: 184

فجاء حتی سلم علی الحسین وأبلغه رسالة عمر بن سعد إلیه له فقال الحسین کتب إلی أهل مصرکم هذا أن أقدم فأما إذ کرهونی فأنا أنصرف عنهم)(1).

وعدم ورود تلک الشروط المزعومة فی رسائل عمر بن سعد لعنه الله، وعدم سماع عقبة بن سمعان لها دلیل علی ان هذه المزاعم المکذوبة قد افتعلت بعد استشهاد الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، والتی أشیعت وانتشرت بفضل الرواة والمؤرخین الذین عرفوا بمساندتهم للحاکم الظالم، وتشویه سمعة کل من یحاول الخروج علیه.

ما هی حقیقة المطالب التی أرادها الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه

الظاهر ومن خلال تتبعی للنصوص التاریخیة المتعلقة بهذه المسألة، ان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه کانت له ستة مطالب، ثلاثة منها کانت قبل المعرکة فی أثناء حصار الجیش الکافر له ولعیاله ولأصحابه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وثلاثة مطالب أخری کانت فی أثناء المعرکة.

 فأما التی قبل المعرکة فاثنتان منها قد وردتا فی روایة عقبة بن سمعان التی مر ذکرها سابقا والتی جاء فیها: (...إما أن یرجع من حیث جاء، وإما أن یدعوه یذهب فی الأرض العریضة حتی ینظر ما یصیر أمر الناس إلیه...)(2).

وأما المطلب الثالث فهو نصیحته صلوات الله وسلامه علیه التی قدمها لعمر بن سعد لعنه الله بأن یمعن النظر جیدا فی موقفه العدائی ضد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وان یتحول بالولاء والموقف من جبهة الباطل وحزبه إلی جبهة الحق وحزبه، وقد أورد العلامة المجلسی قدس الله روحه هذا الطلب فی روایة جاء فیها: (ثم أرسل الحسین إلی عمر بن سعد


1- تاریخ الطبری ج4 ص311.
2- قد مرت مصادر هذه الروایة قبل قلیل.

ص: 185

لعنه الله: أنی أرید أن أکلمک فالقنی اللیلة بین عسکری وعسکرک، فخرج إلیه ابن سعد فی عشرین وخرج إلیه الحسین فی مثل ذلک، فلما التقیا أمر الحسین علیه السلام أصحابه فتنحوا عنه، وبقی معه أخوه العباس، وابنه علی الأکبر، وأمر عمر بن سعد أصحابه فتنحوا عنه، وبقی معه ابنه حفص وغلام له. فقال له الحسین علیه السلام: ویلک یا ابن سعد أما تتقی الله الذی إلیه معادک أتقاتلنی وأنا ابن من علمت؟ ذر هؤلاء القوم وکن معی، فإنه أقرب لک إلی الله تعالی، فقال عمر بن سعد: أخاف أن یهدم داری، فقال الحسین علیه السلام: أنا أبنیها لک فقال: أخاف أن تؤخذ ضیعتی، فقال الحسین علیه السلام: أنا أخلف علیک خیرا منها من مالی بالحجاز فقال: لی عیال وأخاف علیهم، ثم سکت ولم یجبه إلی شیء فانصرف عنه الحسین علیه السلام، وهو یقول: مالک ذبحک الله علی فراشک عاجلا ولا غفر لک یوم حشرک، فوالله إنی لأرجو أن لا تأکل من بر العراق إلا یسیرا فقال ابن سعد: فی الشعیر کفایة عن البر مستهزئا بذلک القول)(1).

وأما مطالبه صلوات الله وسلامه علیه فی أثناء المعرکة فقد رواها الشیخ عبد العظیم المهتدی البحرانی بقوله: (لما أقبل علی عمر بن سعد وقال له: أخیرک فی ثلاث خصال. قال: وما هی؟ قال: تترکنی حتی ارجع إلی المدینة إلی حرم جدی رسول الله. قال: ما لی إلی ذلک سبیل. قال: أسقونی شربة من الماء فقد نشفت کبدی من الظمأ. فقال: ولا إلی الثانیة سبیل. قال: وإن کان لابد من قتلی فلیبرز إلی رجل بعد رجل. فقال: ذلک لک. فحمل علی القوم...)(2).


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج 44 ص 388 __ 389.
2- من أخلاق الإمام الحسین علیه السلام لعبد العظیم المهتدی البحرانی ص 253 __ 254، نقلا عن أسرار الشهادة ص409، والمنتخب للطریحی ص439.

ص: 186

عمر بن سعد لعنه الله یشارک فی القتال والسلب والنهب

فی الوقت الذی طال الحصار علی معسکر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وفیهم النساء والأطفال وکبار السن والمرضی، وبینما کانت قلوبهم تتفطر من شدة العطش، کان عمر بن سعد لعنه الله مستنقعا فی الفرات یسبح ویتبرد ینتظر ساعة الصفر لیشن حربه الشعواء ضد أهل الحق وجبهة الإیمان، فعن (سعد بن عبیدة قال: إنا لمستنقعین فی الفرات مع عمر بن سعد إذ أتاه رجل فساره فقال قد بعث إلیک ابن زیاد جویرة بن بدر التمیمی وأمره إن أنت لم تقاتل أن یضرب عنقک)(1).

فلما عزم لعنه الله علی الحرب والمواجهة واستئصال أهل البیت صلوات الله وسلامه علیه ولیثبت ولاءه لسیده عبید الله بن مرجانة ویزید بن معاویة لعنهما الله، قدح بنفسه أول شرارة لمعرکة راح ضحیتها خیرة أهل الأرض، فأطلق سهما من کبد قوسه نحو معسکر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه معلنا فیه بدء القتال، ثم صاح متبجحا مفتخرا یطلب من الناس الشهادة له عند أمیره الطاغیة بأنه أول من رمی، فلما شاهد المعسکر الکافر إمامهم الضال قد رمی بسهم تسارعوا فی الرمی عسی ان ینالوا درجة السبق فی المشارکة وبدء القتال لیحظوا بالجائزة والقربة عند ابن مرجانة ویزید لعنهما الله، فعن حمید بن مسلم قال: (وزحف عمر بن سعد نحوهم ثم نادی یا زوید أدن رایتک قال فأدناها ثم وضع سهمه فی کبد قوسه ثم رمی فقال اشهدوا أنی أول من رمی، فلما دنا منه عمر بن سعد ورمی بسهم ارتمی الناس)(2).

وقال ابن الأثیر فی الکامل: (ثم قدم عمر بن سعد برایته وأخذ سهما فرمی به


1- تاریخ الطبری ج 4 ص 295 __ 296، تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج45 ص53، وتاریخ الإسلام للذهبی ج5 ص15.
2- تاریخ الطبری ج 4 ص 326.

ص: 187

وقال اشهدوا لی أنی أول رام)(1) وبعد ان رمی بسهمه ورمی الناس بسهامهم نحو ابن بنت رسول الله وحرمه وأطفال ثم: (نادی عمر بن سعد مولاه زیدا أن قدم الرایة، فتقدم بها، وشبت الحرب)(2) وعزم عمر بن سعد علی استئصال آل الرسول صلی الله علیه وآله وسلم وجمیع من یقف مدافعا عنهم وترجم هذا العزم بکلمات قالها للحر بن یزید الریاحی حینما سأله (أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال له: أی والله قتالا أیسره أن تسقط الرؤوس وتطیح الأیدی)(3).

وعلی الرغم من ان المتعارف آنذاک هو عدم اشتراک قائد الجیش فی المعرکة الدائرة بینه وبین خصومه(4)، إلا أن عمر بن سعد أخرجه حقده وبغضه لآل الرسول صلی الله علیه وآله وسلم عن مراعاة قواعد الحرب وأصول القتال، فشارک جیشه فی القتال تارة، وفی السلب والنهب تارة أخری، فمثلما کان أول من رمی بسهم نحو معسکر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه کذلک کان أول من طعن فی سرادق وخیام ومضارب عیالات الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، فعن البخاری قال: (حدثنا موسی ثنا سلیمان بن مسلم أبو المعلی العجلی قال سمعت أبی أن الحسین لما نزل کربلاء فأول من طعن فی سرادقه عمر بن سعد)(5).

ومن یلاحظ کلمات الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بحقه یوم عاشوراء یری ان الإمام صلوات الله وسلامه علیه یلقی بجمیع تبعات وأعمال وجرائم الجیش الکافر بعهدته


1- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج4 ص65.
2- الأخبار الطوال للدینوری ص256.
3- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج 4 ص 64.
4- لذلک کان النبی صلی الله علیه وآله وسلم فی اغلب حروبه ینصب له عریش علی ربوة أو غیر ذلک یراقب الجیش ویوجهه.
5- التاریخ الصغیر للبخاری ج1 ص178.

ص: 188

وبرقبته، فحینما تقدم علی الأکبر ابن الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه: (رفع الحسین سبابته نحو السماء وقال: اللهم اشهد علی هؤلاء القوم فقد برز إلیهم غلام أشبه الناس خلقا وخلقا ومنطقا برسولک، کنا إذا اشتقنا إلی نبیک نظرنا إلی وجهه، اللهم أمنعهم برکات الأرض، وفرقهم تفریقا، ومزقهم تمزیقا، واجعلهم طرائق قددا، ولا ترض الولاة عنهم أبدا، فإنهم دعونا لینصرونا ثم عدوا علینا یقاتلوننا. ثم صاح الحسین بعمر بن سعد: ما لک قطع الله رحمک ولا بارک الله لک فی أمرک، وسلط علیک من یذبحک بعدی علی فراشک، کما قطعت رحمی ولم تحفظ قرابتی من رسول الله صلی الله علیه وآله)(1) فمع ان عمر بن سعد لعنه الله لم یباشر بنفسه قتل علی الأکبر صلوات الله وسلامه علیه إلا ان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه یلقی بتبعة قتله وإزهاق نفسه علیه، ویحمله المسؤولیة کاملة، مما یعنی ان عمر بن سعد لعنه الله کان باستطاعته ان یوقف هذه المجزرة الإنسانیة، وان باستطاعته أیضا ان یقلب میزان ومعادلة الصراع الدائر بین الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ویزید بن معاویة لعنه الله، لکنه لعنه الله اختار الوقوف مع جبهة الباطل، وإثقال کفة الکفر، فاستحق ان تکون برقبته أوزار ذلک الیوم الرهیب.

وقد بلغ عمر بن سعد لعنه الله المرتبة العظمی من الوضاعة والخسة، وفقدانه لأقل صفات النزاهة فی المواجهة، فبینما کان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه قبل نزاله الأخیر یودع عیاله وحرمه وأطفاله ویهدئهم ویوصیهم بالصبر والتحمل ویبصرهم ما سیقع علیه بعدهم(2)، نادی أصحابه وجیشه ان یستغلوا فرصة انشغال الإمام


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج 45 ص 42 __ 43.
2- قال السید المقرم فی مقتل الإمام الحسین علیه السلام ص290 فی ذکره الوداع الثانی لسید الشهداء علیه السلام: (ثم انه علیه السلام ودع عیاله ثانیا وأمرهم بالصبر ولبس الأزر وقال استعدوا للبلاء واعلموا ان الله تعالی حامیکم وحافظکم وسینجیکم من شر الأعداء ویجعل عاقبة أمرکم إلی خیر... فلا تشکوا ولا تقولوا بألسنتکم ما ینقص من قدرکم...).

ص: 189

الحسین صلوات الله وسلامه علیه بعیاله وحرمه، وعدم إعطائه فرصة التهیؤ للقتال والنزال، فاصدر أمره لهم قائلا: (ویحکم اهجموا علیه ما دام مشغولا بنفسه وحرمه والله إن فرغ لکم لا تمتاز میمنتکم عن میسرتکم، فحملوا علیه یرمونه بالسهام حتی تخالفت السهام بین أطناب المخیم وشک سهم بعض أزر النساء فدهشن وأرعبن وصحن ودخلن الخیمة ینظرن إلی الحسین کیف یصنع، فحمل علیهم کاللیث الغضبان فلا یلحق أحدا إلا بعجه بسیفه فقتله والسهام تأخذه من کل ناحیة وهو یتقیها بصدره ونحره...)(1).

 فهل کان عمر بن سعد لعنه الله یا تری غافلا أو متغافلا عن ان هجوم هذا العسکر الکافر علی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وهو فی وسط عیاله وأطفاله ونسائه سیوقع یقینا الضرر والجراح والقتل فی صفوف من أوصی برعایتهم رب العالمین من فوق سبع شداد وأوصی بهم وبرعایتهم النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بکلمات ومواقف تجل عن الإحصاء، والغریب ان أفعاله وأفعال جیشه الکافر کانت العرب فی جاهلیتهم الجهلاء تتنزه عن القیام بعشر من أعشار ما قاموا به وارتکبوه، فقد کانت العرب فی جاهلیتهم یستقبحون ان یعتدی علی الأطفال والنساء، لذا طالبه الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وطالب جیشه الکافر بان یکونوا علی اقل التقادیر من عرب الجاهلیة ان لم یکونوا من أصحاب الدین والمبدأ، قال السید بن طاوس: (ولم یزل علیه السلام یقاتلهم حتی حالوا بینه وبین رحله فصاح علیه السلام ویلکم یا شیعة آل أبی سفیان إن لم یکن لکم دین وکنتم لا تخافون المعاد فکونوا أحرارا فی دنیاکم


1- مقتل الحسین للسید عبد الرزاق الموسوی المقرم ص291، منشورات مؤسسة النور للمطبوعات بیروت __ لبنان.

ص: 190

هذه وارجعوا إلی أحسابکم إن کنتم عربا کما تزعمون)(1).

ولعمر بن سعد لعنه الله مواقف أخری یوم عاشوراء یندی لها جبین الأحرار، فهو الذی شارک بسلب الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ونهب ما فی خیامه، فقد اشتهر انه لعنه الله اخذ درع الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وبقی عنده إلی ان خرج المختار فأخذها منه، قال السید بن طاوس قدس الله روحه: (وأخذ نعلیه الأسود بن خالد، وأخذ خاتمه بجدل بن سلیم الکلبی فقطع أصبعه علیه السلام مع الخاتم، وهذا أخذه المختار فقطع یدیه ورجلیه وترکه یتشحط فی دمه حتی هلک، وأخذ قطیفة له علیه السلام کانت من خز قیس بن الأشعث، وأخذ درعه البتراء عمر بن سعد، فلما قتل عمر بن سعد وهبها المختار لأبی عمرة قاتله)(2).

عجبا لمال الله أصبح مقسما          ***        فی رائح للظالمین وغاد

عجبا لآل الله صاروا مغنما             ***        لبنی الطلیق هدیة وزیاد

عجبا لذی الأفلاک لم لا عطلت  ***        والشهب لم تبرز بثوب حداد

وهو الذی انتدب الخیل وأمر بسحق جسد الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ورض صدره الشریف، قال المقریزی الشافعی: (...حتی قتل علیه السلام، وقد اشتد به العطش، وحزت رأسه، وانتهب متاعه، فوجد به ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وثلاثون ضربة، ثم طرحت جثته ووطئها الفرسان بخیولها حتی رضوا ظهره وصدره)(3).

وقال العلامة المجلسی قدس الله روحه: (ثم نادی عمر بن سعد فی أصحابه: من ینتدب


1- اللهوف فی قتلی الطفوف للسید ابن طاوس ص 71.
2- اللهوف فی قتلی الطفوف للسید بن طاوس ص77 مقتل الحسین علیه السلام.
3- إمتاع الأسماع للمقریزی ج 5 ص 364.

ص: 191

للحسین فیوطئ الخیل ظهره، فانتدب منهم عشرة وهم إسحاق بن حویة الذی سلب الحسین علیه السلام قمیصه، وأخنس بن مرثد، وحکیم بن الطفیل السنبسی، وعمرو بن صبیح الصیدای، ورجاء بن منقذ العبدی، وسالم بن خیثمة الجعفی، وواحظ بن ناعم، وصالح بن وهب الجعفی، وهانئ بن ثبیت الحضرمی، وأسید بن مالک، فداسوا الحسین علیه السلام بحوافر خیلهم حتی رضوا ظهره وصدره)(1).

وقال ابن الأثیر: (ولما قتل الحسین أمر عمر بن سعد نفرا فرکبوا خیولهم وأوطؤوها الحسین)(2).

وقد شکک مناصرو یزید بن معاویة ومؤیدو بنی أمیة کعادتهم بالبدیهیات، وأنکروا الواضحات، ومن هؤلاء المتعصبین المؤرخ الأموی النزعة ابن کثیر __ لا کثر الله من أمثاله __ حیث أنکر ما اشتهر بین العام والخاص من ان عمر بن سعد قد وطأ صدر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بعد قتله، فقال: (ثم أمر عمر بن سعد أن یوطأ الحسین بالخیل، ولا یصح ذلک والله أعلم)(3) والروایات التاریخیة من کتب الشیعة والسنة حجة علیه وعلی أمثاله من المتعصبین، إضافة إلی ان هذا المتعصب العنید لم یظهر سبب عدم صحة هذا الحدث، واکتفی بقوله (والله أعلم) ومعلوم عند من له اطلاع ان إسقاط روایة أو عدة روایات عن الاعتبار لا یقبل من دون ذکر سبب وجیه ومقبول لذلک الاعتراض، وإلا لو کان الأمر یرجع إلی مجرد التشهی والقول جزافا ومن غیر دلیل لوجدنا کل روایات التاریخ مردودة لوجود المعترضین جزافا علی امتداد التاریخ.


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج 45 ص 59 __ 60.
2- أسد الغابة لابن الأثیر ج 2 ص 21.
3- البدایة والنهایة لابن کثیر ج 8 ص 205.

ص: 192

عمر بن سعد یسبی النساء والأطفال إلی ابن مرجانة ثم إلی یزید 

بعدما نال عمر بن سعد من الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ومن أولاده وأصحابه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أمنیته، وفعل به وبهم کل ما یتوقع من إنسان هو بضحالة عمر بن سعد وخسته، بعث بشیرا إلی عبید الله بن مرجانة یخبره بنصر جیش الکفر وقتل الأزکیاء الأصفیاء، وبعث مع هذا البشیر __ بشیر السوء __ رأس سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه، قال الدینوری: (وبعث عمر بن سعد برأس الحسین من ساعته إلی عبید الله بن زیاد مع خولی بن یزید الأصبحی)(1).

وقال القندوزی: (ثم إن عمر بن سعد جمع قتلاه وصلی بهم ودفنهم، وترک الحسین وأصحابه)(2).

وقال الطبری: (وأقام عمر بن سعد یومه ذلک والغد ثم أمر حمید بن بکیر الأحمری فأذن فی الناس بالرحیل إلی الکوفة وحمل معه بنات الحسین وأخواته ومن کان معه من الصبیان وعلی بن الحسین مریض)(3).

وقال المزی: (وسرح عمر بن سعد بحرمه وعیاله إلی عبید الله، ولم یکن بقی من أهل بیت الحسین علیه السلام إلا غلام کان مریضا مع النساء)(4).

وقال القندوزی فی ینابیع المودة: (ثم إن عمر بن سعد توجه إلی الکوفة بالسبایا علی الجمال، نحو أربعین جملا بغیر وطاء ولا غطاء)(5).


1- الأخبار الطوال للدینوری ص 259.
2- ینابیع المودة لذوی القربی للقندوزی ج3 ص86.
3- تاریخ الطبری ج 4 ص 348.
4- تهذیب الکمال للمزی ج 6 ص 429.
5- ینابیع المودة لذوی القربی للقندوزی ج 3 ص 86.

ص: 193

وقال احمد بن اعثم الکوفی: (وساق القوم حرم رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم من کربلاء کما تساق الأساری)(1).

وعن قرة بن قیس التمیمی قال: (نظرت إلی تلک النسوة لما مررن بحسین وأهله وولده صحن ولطمن وجوههن قال فاعترضتهن علی فرس فما رأیت منظرا من نسوة قط کان أحسن من منظر رأیته منهن...فما نسیت من الأشیاء لا أنسی قول زینب ابنة فاطمة حین مرت بأخیها الحسین صریعا وهی تقول یا محمداه یا محمداه صلی علیک ملائکة السماء هذا الحسین بالعرا مرمل بالدما مقطع الأعضا یا محمداه وبناتک سبایا وذریتک مقتلة تسفی علیها الصبا قال فأبکت والله کل عدو وصدیق)(2).

ثم انبری المتملقون من المؤرخین لیدافعوا عن عمر بن سعد لعنه الله عن طریق إنکارهم لسبیه لنساء الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وأطفاله، وقد تزعم هذه الحملة کالعادة ابن تیمیة الأموی الهوی حیث قال: (وأما ما ذکره(3) من سبی نسائه والذراری والدوران بهم فی البلاد وحملهم علی الجمال بغیر أقتاب فهذا کذب وباطل ما سبی المسلمون ولله الحمد هاشمیة قط ولا استحلت أمة محمد صلی الله علیه و سلم سبی بنی هاشم قط ولکن أهل الهوی والجهل یکذبون کثیرا)(4).

أقول: بل ابن تیمیة هو الکذاب، فقد أعماه تعصبه للأمویین، وبغضه لأهل البیت ونصبه لهم عن إنکار الحقائق التاریخیة التی تکاد تکون بدیهیة، وکم من کذبة وکذبة قد ألزم بها ابن تیمیة وأتباعه وکشفت بها خبایا نفوسهم وما انطوت علیه من


1- کتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الکوفی ج5 ص120.
2- تاریخ الطبری ج 4 ص 348 __ 349.
3- الضمیر یعود إلی العلامة الحلی قدس الله روحه صاحب کتاب منهاج الکرامة.
4- منهاج السنة لابن تیمیة ج4 ص558.

ص: 194

النصب والبغض والغیظ لکل ما من شأنه ان یحکی مظلومیة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیه أو یفضح أعداءهم، ((وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَیْکُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَیْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَیْظِکُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِیمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ))(1).

وحینما وصلت السبایا إلی الکوفة وأدخلت إلی الدعی عبید الله بن زیاد لعنه الله لم أجد بحسب تتبعی فی المصادر التی بین یدی لعمر بن سعد لعنه الله أثرا یعتد به، ولعل ذلک یعود إلی ان شخصیة عبید الله بن مرجانة وما وقع فی الکوفة من أحداث بینه وبین الإمام زین العابدین صلوات الله وسلامه علیه والسیدة زینب صلوات الله وسلامه علیها قد غطت بأحداثها علی شخصیة عمر بن سعد.

ثم عاد عمر بن سعد وظهر اسمه من جدید حینما أراد عبید الله بن مرجانة ان یسیر السبایا ورؤوس الشهداء إلی یزید بن معاویة، فأوکل هذه المهمة لعدة أشخاص کان عمر بن سعد لعنه الله من بینهم، قال القندوزی الحنفی: (ثم ابن زیاد دعا الشمر اللعین، وخولی، وشبث بن ربعی، وعمر بن سعد، وضم إلیهم ألف فارس، وأمرهم بأخذ السبایا والرؤوس إلی یزید، وأمرهم أن یشهروهم فی کل بلدة یدخلونها، فساروا علی ساحل الفرات...)(2).

وروی ابن حاتم العاملی عن سلیمان بن مهران الأعمش قوله: (بینا أنا فی الطواف أطوف بالبیت وکنا بالموسم إذ رأیت رجلا یدعو ویقول فی دعائه: اللهم اغفر لی وأنا أعلم أنک لا تغفر لی قال. فارتعت لذلک، ثم دنوت إلی الرجل فقلت: یا هذا أنت فی حرم الله عز وجل وهذه أیام حرم فی شهر عظیم، فلم تأیس من المغفرة؟ فقال: یا هذا إن ذنبی عظیم. فقلت: أعظم من تهامة ؟ قال: نعم. قلت


1- سورة آل عمران الآیة 119.
2- ینابیع المودة لذوی القربی للقندوزی ج3 ص88 السبایا فی طریقها إلی الشام.

ص: 195

أعظم من الجبال الرواسی ؟ قال: نعم وإن شئت أخبرتک. فقلت: أخبرنی: قال:...أنا أحد من کان فی العسکر المشؤوم عسکر عمر بن سعد حین قتل الحسین «علیه السلام»، وکنت أحد الأربعین الذین حملوا الرأس إلی یزید قبح الله وجهه، وکان السبب فی ذلک إنا فارقنا الکوفة وحملناه علی طریق الشام فنزلنا علی دیر النصاری، وکان الرأس معنا مرکوز علی رمح ومعه الأحراس، فوضعنا الطعام وجلسنا لنأکل، وإذا بکف تکتب علی حائط الدیر:

أترجو أمة قتلت حسینا ***        شفاعة جده یوم الحساب

قال: فجزعنا لذلک جزعا شدیدا، وأهوی بعضنا إلی الکف لیأخذها فغابت. ثم عاد أصحابی إلی الطعام لیأکلوا فإذا الکف قد عادت تکتب مثل الأول، فقام أصحابنا إلیها فغابت، فامتنعت من الطعام وما هنأنی أکله.

ثم أشرف علینا راهب من الدیر فرأی نورا ساطعا من فوق الرأس، فأشرف فرأی عسکرا، فقال الراهب للحرس: من أین جئتم ؟ قالوا: من العراق حاربنا الحسین بن علی. فقال الراهب... لی إلیکم حاجة. قالوا: وما هی ؟ قال: قولوا لرئیسکم عندی عشرة آلاف دینار ورثتها عن أبی وورثها أبی عن جدی لیأخذها ویعطینی الرأس یکون عندی إلی وقت الرحیل، فإذا رحل رددته إلیه. فأخبروا عمر بن سعد بذلک فقال: خذوا منه الدنانیر وأعطوه الرأس إلی وقت الرحیل... ثم قال لهم: إنی أحتاج أن أکلم رئیسکم بکلمة وأعطیکم الرأس. فدنا عمر بن سعد منه فقال له: سألتک بالله وبحق محمد أن لا تعود إلی ما کنت تفعله بهذا الرأس، ولا یخرج هذا الرأس من هذا الصندوق. فقال له: أفعل.... ومضی عمر بن سعد ففعل بالرأس مثل ما کان یفعل فی الأول...فلما نزل عمر بن سعد لعنه الله قال للجاریة: علی بالجرابین، فأحضرا بین یدیه، فنظر إلی خاتمه، ثم أمر أن یفتحهما فإذا الدنانیر قد تحولت خزفاً، فنظروا إلی سکتها فإذا علی

ص: 196

جانب مکتوب: ((وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا یَعْمَلُ الظَّالِمُونَ))(1) وعلی الوجه الآخر مکتوب: ((وَسَیَعْلَمُ الَّذِینَ ظَلَمُوا أَیَّ مُنْقَلَبٍ یَنْقَلِبُونَ))(2) فقال: إنا لله وإنا إلیه راجعون خسرت الدنیا والآخرة.

ثم قال لغلمانه: اطرحوها فی النهر، فطرحوها، ودخل دمشق من الغد، وأدخل الرأس إلی یزید اللعین)(3).

هل یمکن بعد کل ذلک القول بان عمر بن سعد ثقة؟

ان من عجیب العصبیة والمکابرة توثیق بعض کبار أهل السنة لعمر بن سعد لعنه الله، بل وتعدی البعض إلی مدحه وإضفاء صفات البطولة والشجاعة علیه، کما قال خیر الدین الزرکلی فی کتابه الأعلام حیث قال: (عمر بن سعد بن أبی وقاص الزهری المدنی: أمیر، من القادة الشجعان)(4).

وقال عنه العجلی: (عمر بن سعد بن أبی وقاص مدنی ثقة کان یروی عن أبیه أحادیث وروی الناس عنه وهو الذی قتل الحسین قلت کان أمیر الجیش ولم یباشر قتله)(5).

وقال الذهبی: (عمر بن سعد بن أبی وقاص الزهری. هو فی نفسه غیر متهم، لکنه باشر قتال الحسین وفعل الأفاعیل)(6).

وقال ابن حجر: (عمر بن سعد بن أبی وقاص المدنی نزیل الکوفة صدوق


1- سورة ابراهیم الآیة 42.
2- سورة الشعراء الآیة رقم 227
3- الدر النظیم لإبن حاتم العاملی ص 561 __ 564.
4- الأعلام لخیر الدین الزرکلی ج 5 ص 47.
5- معرفة الثقات للعجلی ج 2 ص 166 __ 167.
6- میزان الاعتدال للذهبی ج 3 ص 198 __ 199.

ص: 197

ولکن مقته الناس لکونه کان أمیرا علی الجیش الذین قتلوا الحسین بن علی من الثانیة)(1).

أما ابن خلکان فقد أضحکنی حینما قرأت ترحمه علی القاتل والمقتول، وعلی الجانی والمجنی علیه، قال: (فخرج الحسین إلی الکوفة وأمیرها یومئذ عبید الله بن زیاد فلما قرب منها سیر إلیه جیشا مقدمه عمر بن سعد بن أبی وقاص رضی الله عنه فقتل الحسین رضی الله عنه بالطف وجری ما جری)(2).

وقد نقل السید المرعشی قدس الله روحه عن کتاب تهذیب التهذیب ما نصه: (وعمر ابن سعد بن أبی وقاص الذی قال فی تهذیب التهذیب بعد ذکر اسمه ما لفظه: هو تابعی، ثقة ثقة، وهو الذی قتل الحسین، ثم قال سیدنا الشریف محمد بن العقیل العلوی المتقدم ذکره فی کتابه المرقوم بعد نقل کلام التهذیب ما لفظه: وأقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، بخ بخ بخ، یا له من تابعی! ویا لها من عدالة! ویرحم الله القائل:

إن کان هذا نبیا            ***        فالکلب لا شک ربی)(3)

وقد فاق القاری جمیع الحدود ونزع بدفاعه عن عمر بن سعد ثوب الحیاء، حیث جعل قتلة أبناء الأنبیاء من المجتهدین وأصحاب الرأی فقال موزورا غیر مأجور: (إنه لم یباشر لقتله، ولعل حضوره مع العسکر کان بالرأی والاجتهاد، وربما حسن حاله وطاب مآله، ومن الذی سلم من صدور معصیة عنه وظهور زلة منه، فلو فتح الباب أشکل الأمر علی ذوی الألباب)(4).


1- تقریب التهذیب لابن حجر ج 1 ص 717.
2- وفیات الأعیان وأنباء أبناء الزمان لابن خلکان ج6 ص353.
3- شرح إحقاق الحق للسید المرعشی ج 1 ص المقدمة 22.
4- نفحات الأزهار للسید علی المیلانی ج15 ص237 نقلا عن کتاب المرقاة کتاب الجنائز الفصل الثانی من باب البکاء علی المیت ص391.

ص: 198

ولم أعثر علی سبب حقیقی تحمل علیه هذه التوثیقات غیر التعصب الأعمی علی حساب الحقیقة، ولیس عمر بن سعد وتوثیقهم إیاه وروایتهم عنه فی مسانیدهم، بأعجب من توثیقهم لعبد الرحمن بن ملجم قاتل أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، وعمران بن حطان رأس الخوارج فی زمانه والذی جعله البخاری من رجال صحیحه، وقد أخرج العلامة الأمینی قدس الله روحه فی کتابه العظیم کتاب الغدیر ستة عشر موردا تعصب فیه علماء أهل السنة فوثقوا رجالا اشتهر أمرهم وافتضحوا ببغضهم لأمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه وأهل بیته، وقد اخترنا منهم الآتی:

1: خالد القسری: قال الذهبی: (خالد بن عبد الله القسری الدمشقی البجلی الأمیر. عن أبیه. عن جده، صدوق لکنه ناصبی بغیض، ظلوم. قال ابن معین: رجل سوء یقع فی علی)(1)، وعن فضل بن الزبیر: (سمعت القسری یقول فی علی ما لا یحل ذکره)(2)، وکان یسمی زمزم ب_ (أم الخنافس)(3)، وکان یقول بشأن الکعبة: (والله لو کتب إلی أمیر المؤمنین __ عبد الملک بن مروان __، لنقضتها حجرا حجرا)(4)، وقد بنی لأمه کنیسة فی داره(5)، ومع کل هذه المصائب فان الذهبی یقول: (قیل لسیار: تروی عن خالد القسری قال: إنه کان أشرف من أن یکذب. وذکره ابن حبان فی الثقات)(6).


1- میزان الاعتدال للذهبی ج 1 ص 633.
2- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 5 ص 429.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- البدایة والنهایة لابن کثیر ج10 ص23 خالد بن عبد الله بن یزید.
6- تاریخ الإسلام للذهبی ج 8 ص83.

ص: 199

2: حریز بن عثمان الرحبی أبو عثمان الحمصی: قال عبد الله بن عدی: (قال أبو الیمان کان حریز یتناول رجلا یعنی علیا)(1)، وقال یحیی بن صالح الوحاظی: (أملی علی حریز بن عثمان عن عبد الرحمن بن میسرة عن النبی صلی الله علیه وسلم حدیثا فی تنقیص علی بن أبی طالب لا یصلح ذکره حدیث معقل منکر جدا لا یروی مثله من یتقی الله. قال الوحاظی فلما حدثنی بذلک قمت عنه وترکته)(2)، وقیل لیحیی بن صالح: (لم لم تکتب عن حریز فقال کیف أکتب عن رجل صلیت معه الفجر سبع سنین فکان لا یخرج من المسجد حتی یلعن علیا سبعین مرة. وقال ابن حبان کان یلعن علیا بالغداة سبعین مرة وبالعشی سبعین مرة فقیل له فی ذلک فقال هو القاطع رؤوس آبائی وأجدادی)(3)، وعن (إسماعیل بن عیاش قال عادلت حریز بن عثمان من مصر إلی مکة فجعل یسب علیا ویلعنه)(4) وعن: (إسماعیل بن عیاش سمعت حریز بن عثمان یقول هذا الذی یرویه الناس عن النبی صلی الله علیه وسلم أنه قال لعلی أنت منی بمنزلة هارون من موسی، حق ولکن أخطأ السامع قلت فما هو فقال إنما هو أنت منی بمنزلة قارون من موسی قلت عمن ترویه قال سمعت الولید بن عبد الملک یقوله وهو علی المنبر)(5)، وعن (یحیی بن المغیرة قال ذکر أن حریزا کان یشتم علیا علی المنابر)(6).

ومع کل هذه الطامات العظام والمخازی الجسام فقد وثقه علماء أهل السنة


1- الکامل لعبد الله بن عدی ج2 ص451 حریز بن عثمان الحمصی الرحبی.
2- تهذیب التهذیب لابن حجر ج2 ص210.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق ص209.
5- المصدر السابق.
6- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی ج8 ص261 ذکر من اسمه حریز.

ص: 200

واخذوا بأحادیثه، قال الرازی: (أحمد بن حنبل قال: لیس بالشام أثبت من حریز إلا أن یکون بحیر)(1)، وعن عبد الرحمن قال: (سمعت أبی یقول: حریز بن عثمان حسن الحدیث... ولا أعلم بالشام أثبت منه، هو أثبت من صفوان بن عمرو وأبی بکر بن أبی مریم، وهو ثقة متقن)(2)، وقال ابن عدی: (وحریز بن عثمان من الاثبات فی الشامیین یحدث عنه الثقات من أهل الشام... وحریز یحدث عن أهل الشام عن الثقات منهم وقد وثقه یحیی القطان ومعاذ بن معاذ وأحمد بن حنبل ویحیی بن معین ودحیم)(3).

ولیت ان القوم أنصفوا وتعاملوا مع مبغضی أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه ومبغضی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بنفس الطریقة التی یتعاملون بها مع مبغضی أبی بکر بن أبی قحافة أو عمر بن الخطاب أو سائر الصحابة، ولیتهم تعاملوا مع قتلة أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وقتلة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بالطریقة التی تعاملوا معها مع قاتل عمر بن الخطاب، أو قتلة عثمان بن عفان، فإنهم وللأسف تناقضوا ولم ینصفوا، ففی الوقت الذی وثقوا مبغضی أهل البیت وقتلتهم، حکموا بالکفر والزندقة علی کل من یبغض أبا بکر بن أبی قحافة أو عمر بن الخطاب أو عائشة بنت أبی بکر، فلم یقبلوا له قولاً ولا روایة بل حکموا علیه بالسجن تارة وبالقتل تارة ثانیة وبالضرب إلی أن یموت مرة ثالثة، قال عبد الرحمن بن قدامة: (وقال الفریابی: من سب أبا بکر فهو کافر لا یصلی علیه)(4).


1- الجرح والتعدیل للرازی ج 3 ص 289.
2- الجرح والتعدیل للرازی ج 3 ص 289.
3- الکامل لعبد الله بن عدی ج2 ص453.
4- الشرح الکبیر لعبد الرحمن بن قدامة ج 10 ص 64.

ص: 201

وقال القاضی عیاض: (ومن شتم أصحابه أدب وقال أیضا من شتم أحدا من أصحاب النبی صلی الله علیه وسلم أبا بکر أو عمر أو عثمان أو معاویة أو عمرو بن العاص فإن قال کانوا علی ضلال وکفر قتل وإن شتمهم بغیر هذا من مشاتمة الناس نکل نکالا شدیدا)(1) ومن دقق النظر والتأمل فی کلام القاضی عیاض یکتشف بأنهم لم یذکروا فی هذه الفقرة اسم أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه مع انه وباعتقادهم أفضل من معاویة بن أبی سفیان وعمرو بن العاص لعنهما الله، وباعتقادنا انه أفضل الخمسة المذکورین فی هذه الفقرة، وعلی کلا القولین یکون عدم إدخاله فی هذه القاعدة تحیزا واضحا ومقصدا مکشوفا قد ذکرناه قبل قلیل.

وقال السبکی: (وَرُوِیَ عَنْ مَالِکٍ رَضِیَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ سَبَّ أَبَا بَکْرٍ جُلِدَ وَمَنْ سَبَّ عَائِشَةَ قُتِلَ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِیمَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ: أَمَّا الْقَتْلُ فَأَجْبُنُ عَنْهُ وَلَکِنْ أَضْرِبُهُ ضَرْبًا نَکَالاً... وَقَدْ قَطَعَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الْکُوفَةِ وَغَیْرِهِمْ بِقَتْلِ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ وَکُفْرِ الرَّافِضَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ یُوسُفَ الْفِرْیَابِیُّ وَسُئِلَ عَنْ مَنْ شَتَمَ أَبَا بَکْرٍ قَالَ: کَافِرٌ، قِیلَ: یُصَلَّی عَلَیْهِ، قَالَ: لا)(2).

وقد قسم الذهبی البدعة إلی قسمین، بدعة صغری وبدعة کبری، وبین الکبری بقوله: (ثم بدعة کبری، کالرفض الکامل والغلو فیه، والحط علی أبی بکر وعمر رضی الله عنهما، والدعاء إلی ذلک، فهذا النوع لا یحتج بهم ولا کرامة)(3).

فانظر بعین الإنصاف لتری کیف ان القوم قد حکموا بوثاقة من أبغض الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وکان یسبه ویلعنه لیلا ونهارا وقائما وقاعدا، وحکموا


1- الشفا بتعریف حقوق المصطفی للقاضی عیاض ج 2 ص 308.
2- فتاوی السبکی فصل سب النبی ج5 ص45.
3- میزان الاعتدال للذهبی ج 1 ص 5 __ 6.

ص: 202

علی من یمس أبا بکر وعمر بعدم الاحتجاج بروایته وأقواله، مع ان النص النبوی جاء صریحا فی المنع عن سب أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه والمساس بشخصه المقدس وان من سب علیا فقد سب رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ، بل قد سب الله سبحانه وتعالی، ولم یأتِ مثله فیمن مس أبا بکر وعمر، فعن أحمد بن حنبل عن(عبد الله الجدلی قال دخلت علی أم سلمة فقالت لی أیسب رسول الله صلی الله علیه وسلم فیکم قلت معاذ الله أو سبحان الله أو کلمة نحوها قالت سمعت رسول الله صلی الله علیه وسلم یقول من سب علیا فقد سبنی)(1).

وقد علق الهیثمی علی هذا الحدیث بقوله: (رواه أحمد ورجاله رجال الصحیح غیر أبی عبد الله الجدلی وهو ثقة. وعن أبی عبد الله الجدلی قال قالت لی أم سلمة: یا أبا عبد الله أیسب رسول الله صلی الله علیه وسلم فیکم قلت أنی یسب رسول الله صلی الله علیه وسلم قالت ألیس یسب علی ومن یحبه، وقد کان رسول الله صلی الله علیه وسلم یحبه. رواه الطبرانی فی الثلاثة وأبو یعلی ورجال الطبرانی رجال الصحیح غیر أبی عبد الله وهو ثقة. وروی الطبرانی بعده بإسناد رجاله ثقات إلی أم سلمة عن النبی صلی الله علیه وسلم قال مثله)(2).

فیتبین لنا جلیا بعد کل ما سبق، ان توثیق عمر بن سعد لعنه الله من قبل علماء أهل السنة، قد جاء ضمن مؤامرة کبیرة کانت ولا تزال قائمة، الهدف منها أوضح من قرص الشمس فی رابعة النهار، فالإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ومن قبله أبوه أمیر المؤمنین وأخوه الإمام الحسن وأمه السیدة العظیمة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین قد قتلوا مرتین، فالأولی کانت بسیوف وأیدی قاتلیهم، والقتلة الثانیة علی أیدی هؤلاء


1- مسند احمد بن حنبل ج 6 ص 323.
2- مجمع الزوائد للهیثمی ج 9 ص 130.

ص: 203

المؤرخین الذین وثقوا قتلتهم وأثنوا علی من اهتضمهم، ولم یساووهم ببقیة الصحابة مع أنهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین خیرتهم وسادتهم وأفضل أهل الأرض بعد النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم .

ولو کان عمر بن سعد لعنه الله قد قتل أبا بکر أو عمر بن الخطاب لما کانوا وثقوه، ولکانوا أخرجوه عن حظیرة الإسلام وسلک الآدمیین ولرموه بکل تهمة عظیمة ووصف مهین ولقالوا عنه زندیق أثیم، وخارجی بغیض ولصیروه من الجهمیة أو القدریة، ولأفتوا بعدم دفنه والصلاة علیه ولبنوا له بیوتا فی النار، وصبوا علی رأسه من الجحیم، وسقوه من الحمیم، فانا لله وإنا إلیه راجعون.

عمر بن سعد یلاقی مصیره علی ید المختار

لقد عاش عمر بن سعد أشد حالات الخیبة والذلة بعد قتله للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وأهل بیته فی کربلاء، لأنه لم یبق لنفسه دنیا ولا آخرة، فآخرته قد ضاعت لقتله ریحانة النبی المصطفی صلی الله علیه وآله وسلم ، ودنیاه قد تحطمت لان یزید بن معاویة وعبید الله بن زیاد لعنهما الله لم یفیا له بولایة الری التی من اجلها اهلک نفسه، ((لِیَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِکَ حَسْرَةً فِی قُلُوبِهِمْ))(1)، فبقی فی الکوفة منبوذا مهانا لا یجتمع الناس معه فی مکان واحد، ویسبه کل من یراه، فترک الخروج وأصبح حبیس ذنبه وبیته، قال السید المرعشی: (ثم قام عمر بن سعد لعنه الله عند ابن زیاد یرید منزلته التی وعده بها فلم یف له فخرج من عنده وهو یقول ما رجع أحد مثل ما رجعت أطعت الفاسق ابن زیاد الظالم ابن الفاجر وأغضبت الحاکم العدل وقطعت القرابة الشریفة وکان کلما مر علی ملأ من الناس أعرضوا عنه وکلما دخل المسجد خرج الناس منه


1- سورة آل عمران الآیة رقم 156.

ص: 204

وکل من رآه سبه فلزم بیته إلی أن قتل علیه غضب الله)(1).

وبقی عمر بن سعد علی حالته هذه من الذلة والمهانة والاحتقار إلی سنة ست وستین، حین تولی المختار السیطرة علی الکوفة ومن حولها، فطلب کل من شارک بقتل الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، وقتل منهم کل من وصلت إلیه یده، وکان عمر ابن سعد من بین هؤلاء الأرجاس الذین طالتهم ید العدالة والقصاص، قال ابن الأثیر: (وکان المختار قد خرج یطلب بثار الحسین بن علی رضی الله عنهما واجتمع علیه کثیر من الشیعة بالکوفة فغلب علیها وطلب قتلة الحسین فقتلهم قتل شمر بن ذی الجوشن الضبابی وخولی بن زید الأصبحی وهو الذی أخذ رأس الحسین ثم حمله إلی الکوفة وقتل عمر بن سعد بن أبی وقاص وهو کان أمیر الجیش الذین قتلوا الحسین وقتل ابنه حفصا وقتل عبید الله بن زیاد)(2).

وقال خلیفة بن خیاط العصفری: (وفی سنة ست وستین... غلب المختار بن أبی عبید علی الکوفة...وقتل عمر بن سعد بن أبی وقاص وابنه حفص بن عمر بن سعد)(3).

وقال ابن قتیبة: (فلما کان أیام المختار بن أبی عبید بعث إلی عمر بن سعد أباه عمرة مولی بجیلة فقتله وحمل رأسه إلیه وعنده حفص بن عمر بن سعد فقال له المختار أتعرف هذا الرأس قال نعم هذا رأس أبی حفص قال المختار فألحقوا حفصا بأبی حفص)(4).


1- شرح إحقاق الحق للسید المرعشی ج 33 ص 646 __ 647.
2- أسد الغابة لابن الأثیر ج 4 ص 336.
3- تاریخ خلیفة بن خیاط لخلیفة بن خیاط العصفری ص 202.
4- المعارف لابن قتیبة ص 243 __ 244.

ص: 205

وقال محمد بن سعد: (سار المختار بأصحابه إلی منزل عمر بن سعد فقتله فی داره وقتل ابنه أسوأ قتلة)(1).

وروی الدینوری قصة أخری لمقتل عمر بن سعد لعنه الله فقال: (وبلغ المختار أن شبث بن ربعی، وعمرو بن الحجاج، ومحمد بن الأشعث مع عمر بن سعد قد أخذوا طریق البصرة فی أناس معهم من أشراف أهل الکوفة، فأرسل فی طلبهم رجلا من خاصته یسمی أبا القلوص الشبامی فی جریدة خیل، فلحقهم بناحیة المذار، فواقعوه، وقاتلوه ساعة، ثم انهزموا، ووقع فی یده عمر بن سعد ونجا الباقون. فأتی به المختار، فقال: الحمد لله الذی أمکن منک، والله لأشفین قلوب آل محمد بسفک دمک، یا کیسان، اضرب عنقه. فضرب عنقه)(2).

وروایة مقتله فی بیته وعلی فراشه أصح وأکثر اعتبارا من حیث ان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه دعا علیه فی یوم عاشوراء بقوله: (ما لک قطع الله رحمک، ولا بارک لک فی أمرک، وسلط علیک بعدی من یقتلک علی فراشک، کما قطعت رحمی ولم تحفظ قرابتی من محمد صلی الله علیه وآله وسلم)(3)، فلعنه الله یوم ولد ویوم مات ویوم یغل إلی جهنم وبئس المصیر.


1- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 5 ص 148.
2- الأخبار الطوال للدینوری ص 301.
3- کتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الکوفی ج 5 ص 114.

ص: 206

ص: 207

وَلَعَنَ اللهُ شِمْراً المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

المبحث الثانی: بیان المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

المبحث الثالث: شمر بن ذی الجوشن أموی الهوی خارجی الفعل

الملامح الشخصیة لشمر بن ذی الجوشن لعنه الله

تخذیل الشمر لعنه الله للناس عن مسلم بن عقیل علیه السلام

بعض جرائم الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله فی یوم عاشوراء

أمن الشیعة کان الشمر لعنه الله أم من أهل السنة؟

هل اشترک الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله فی معرکة صفین؟

هل کان الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله شجاعا؟

هل کتب الشمر لعنه الله کتاب أمان للعباس وإخوته؟

هل اشترک أهل الشام فی حرب عاشوراء؟

هل کان الشمر لعنه الله من الخوارج؟

نهایة الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله علی ید المختار الثقفی

ص: 208

ص: 209

وَلَعَنَ اللهُ شِمْراً

اشارة

وفی هذه الفقرة من الزیارة کغیرها من الفقرات معانٍ جلیلة نذکرها فیما یأتی من الکلام.

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

دخول الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله فی زمرة الملعونین المبعدین عن الرحمة الإلهیة یکاد یکون بدیهیا، ولم أجد أحدا من أتباع الفرقة الناجیة الاثنی عشریة یشکک فی ذلک، بل وغیرهم إلا من أعمی الحقد بصیرته، إضافة إلی دخوله ضمن اللعن بعناوین متعددة بتعدد أفعاله الشائنة التی صدرت منه، فهو ملعون بعنوان کونه القاتل والذابح للسبط الشهید صلوات الله وسلامه علیه، وهو ملعون بعنوان دخوله الیقینی فی الأمة التی قتلتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، والأمة التی شایعت وتابعت ووالت أعداء أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وداخل تحت عنوان الناصبی بل هو من أعظم النواصب، وداخل تحت عنوان المؤذی للنبی صلی الله علیه وآله وسلم ولأهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، والذی قد ثبت فی بحوث سابقة بأن من آذاهم ملعون، وداخل فی غیر ذلک من العناوین، مما یطول ذکرها ویعد الدخول فیها تحصیلا للحاصل. 

ص: 210

إلا أننا والتزاما منا بمنهجیة البحث، نذکر فیما یأتی جملة من الموارد التی صرح فیها بلعنه بعنوانه المباشر لقتل وذبح سید شباب أهل الجنة صلوات الله وسلامه علیه، ومن هذه الموارد ما یأتی:

قال الشیخ الطوسی قدس الله روحه: (ویستحب زیارة أبی عبد الله الحسین بن علی علیهما السلام ... بعد أن یغتسل ویعلو سطح داره أو فی مفازة من الأرض ویومی إلیه بالسلام ویقول: السلام علیک یا مولای وسیدی وابن سیدی، السلام علیک یا مولای وابن مولای یا قتیل ابن القتیل... السلام علیک یا وراث آدم صفوة الله، ووارث نوح نبی الله ووارث إبراهیم خلیل الله، ووارث موسی کلیم الله، ووارث عیسی روح الله، ووارث محمد حبیب الله ونبیه ورسوله، ووارث علی أمیر المؤمنین ووصی رسول الله وخلیفته، ووارث الحسن بن علی وصی أمیر المؤمنین، لعن الله قاتلک وجدد علیهم العذاب فی هذه الساعة وفی کل ساعة)(1).

ونقل الشیخ قدس الله روحه أیضا زیارة أخری جاء فیها: (فلعن الله من قتلک ولعن الله من ظلمک ولعن الله أمة سمعت بذلک فرضیت به...وقد توازر علیه من غرته الدنیا وباع حظه بالأرذل الأدنی وشری آخرته بالثمن الأوکس وتغطرس وتردی فی هواه وأسخطک وأسخط نبیک وأطاع من عبادک أهل الشقاق والنفاق وحملة الأوزار المستوجبین للنار فجاهدهم فیک صابرا محتسبا، حتی سفک فی طاعتک دمه واستبیح حریمه، اللهم فالعنهم لعنا وبیلا وعذبهم عذابا ألیما...السلام علی الحسین المظلوم الشهید، السلام علی أسیر الکربات وقتیل العبرات، اللهم إنی أشهد أنه ولیک وابن ولیک وصفیک وابن صفیک الفائز بکرامتک)(2).


1- مصباح المتهجد للشیخ الطوسی ص 289 __ 290.
2- المصدر السابق ص 788 __ 789.

ص: 211

وفی کامل الزیارات: (عن معاویة بن عمار، قال: قلت لأبی عبد الله (علیه السلام): ما أقول إذا أتیت قبر الحسین «علیه السلام»، قال: قل: السلام علیک یا أبا عبد الله، صلی الله علیک یا أبا عبد الله، رحمک الله یا أبا عبد الله، لعن الله من قتلک، ولعن الله من شرک فی دمک، ولعن الله من بلغه ذلک فرضی به، أنا إلی الله من ذلک بریء)(1).

وعن عمار بن موسی الساباطی، عن أبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه، قال: (تقول إذا أتیت إلی قبره: السلام علیک یا ابن رسول الله، السلام علیک یا ابن أمیر المؤمنین، السلام علیک یا أبا عبد الله...وأشهد أن قاتلک فی النار، أدین الله بالبراءة ممن قتلک، وممن قاتلک و شایع علیک، وممن جمع علیک، وممن سمع صوتک ولم یعنک، یا لیتنی کنت معکم فأفوز فوزا عظیما)(2).

المبحث الثانی: بیان المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

1: وَلَعَنَ اللهُ

سبق وتم توضیح هذه الفقرة عدة مرات فمن أراد فلیرجع إلی الفقرات السابقة لیعرف المعنی الدقیق لهذه العبارة الشریفة.

2: شِمْراً

اتفقت کلمة المؤرخین علی أن اسمه هو «شِمْر» وانه کان یکنی بأبی السابغة الضبابی، ولکنهم اختلفوا فی اسم أبیه وبقیة آبائه، قال ابن سعد فی الطبقات وهو


1- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص 374.
2- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص382 __ 383.

ص: 212

یتحدث عن أبیه:

(ذو الجوشن الضبابی قال: قال هشام بن محمد بن السائب الکلبی اسمه شرحبیل بن الأعور بن عمرو بن معاویة وهو الضباب بن کلاب بن ربیعة بن عامر بن صعصعة وکان شمر یکنی أبا السابغة)(1).

ویقال إن أباه کان صحابیا وهو لعنه الله من التابعین، وبهذا صرح ابن عساکر فی تاریخ دمشق حیث قال: (شمر بن ذی الجوشن واسم ذی الجوشن شرحبیل ویقال عثمان بن نوفل ویقال أوس بن الأعور أبو السابغة العامری ثم الضبابی حی من بنی کلاب کانت لأبیه صحبة وهو تابعی)(2).

وقال فی موضع آخر: (ذو الجوشن الکلابی ثم الضبابی واسمه أوس بن الأعور بن عمرو بن معاویة بن کلاب یعنی ابن ربیعة بن عامر بن صعصعة وولد عمرو بن معاویة یقال لهم الضباب لأن أحد عمرو بن معاویة یقال له ضب فنسبوا إلی ذلک)(3).

وقال أیضا: (قال عبد الله بن المبارک عن یونس بن أبی إسحاق عن أبی إسحاق قال ذو الجوشن اسمه شرحبیل وإنما سمی ذو الجوشن من أجل أن صدره کان ناتئا)(4).

ومهما اختلفت الأسماء فان المراد من عبارة الزیارة شخص واحد معروف ومشهور، لعنه الله واخزاه واعد له نار جهنم خالدا فیها أبدا.


1- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 6 ص 46.
2- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 23 ص186.
3- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج23 ص189.
4- المصدر السابق.

ص: 213

المبحث الثالث: شمر بن ذی الجوشن أموی الهوی خارجی الفعل

اشارة

اقترن اسم الشمر لعنه الله بیوم عاشوراء، حیث یکفی فی سماع اسمه المشؤوم، أن یتبادر إلی الذهن ذبحه للإمام السبط الشهید صلوات الله وسلامه علیه، فکانت أفعاله الدنیئة یوم العاشر من المحرم هی التی شکلت صورته المقززة القبیحة فی نفوس الناس، لذلک لم یعرف الکثیر من الناس ان لشمر بن ذی الجوشن موبقات سبقت یوم العاشر من المحرم، وان له جذوراً قدیمة شاهدة علی انحرافه، ودالة علی نصبه العداء لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وانه لیس کما یتصور البعض مجهولا ظهر وخرج یوم العاشر من المحرم کما یخرج المارد من قمقمه، وفیما یأتی جملة من أخباره وأفعاله المبینة لحاله وأهدافه ومیوله.

الملامح الشخصیة لشمر بن ذی الجوشن لعنه الله
اشارة

مثلما کان یوم عاشوراء یوم ملحمة وصولة للحق علی الباطل، کذلک کان هذا الیوم یوم انکشاف الحقائق وسقوط الأقنعة من علی وجوه المنافقین والکاذبین والمتسربلین بثوب الإسلام، والشمر بن ذی الجوشن الضبابی کان من أولئک الذین سقط قناع نفاقه وبانت حقیقة أصله ومستواه الفکری والعقائدی الضحل، ومن أمعن النظر فی أخبار یوم العاشر من المحرم، ولا سیما الساعات القلائل التی سبقت نشوب الحرب وبدء القتال، وحینما کان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وأصحابه یکلمون الناس ویخطبون بالجیش الکافر، رجاء ردعهم واستنقاذ من یمکن استنقاذه منهم، نری بأن الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وأصحابه قد وصفوا الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله بأوصاف لا تقال إلا للأراذل من الناس، بل قد صُرح فی بعض تلک المقولات وصفه بالبهیمة، والملاحظة الجدیرة بالاهتمام ان الشمر بن ذی الجوشن لعنه

ص: 214

الله لم یکن ینکر ما یطلق علیه من أوصاف، ولم یتصدّ غیره من أفراد جیشه بالرد والدفاع عنه، مما یعنی ان لتلک الأوصاف والأقوال حقیقة وشهرة فی ذلک الوقت، لا یمکن دفعها أو الرد علیها، وفیما یأتی جملة من تلک الأوصاف والنعوت التی أطلقها الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وأصحابه علیه لعنه الله.

1: ابن راعیة المعزی 

قال الشیخ المفید فی الإرشاد: (وأقبل القوم یجولون حول بیوت الحسین علیه السلام فیرون الخندق فی ظهورهم والنار تضطرم فی الحطب والقصب الذی کان ألقی فیه، فنادی شمر بن ذی الجوشن علیه اللعنة بأعلی صوته: یا حسین أتعجلت النار قبل یوم القیامة؟ فقال الحسین علیه السلام: من هذا؟ کأنه شمر بن ذی الجوشن فقالوا له: نعم، فقال له: یا ابن راعیة المعزی، أنت أولی بها صلیا)(1).

وقال الطبری: (فحدثنی عبد الله بن عاصم قال حدثنی الضحاک المشرقی قال لما أقبلوا نحونا فنظروا إلی النار تضطرم فی الحطب والقصب الذی کنا ألهبنا فیه النار من ورائنا لئلا یأتونا من خلفنا إذ أقبل إلینا منهم رجل یرکض علی فرس کامل الأداة فلم یکلمنا حتی مر علی أبیاتنا فنظر إلی أبیاتنا فإذا هو لا یری إلا حطبا تلتهب النار فیه فرجع راجعا فنادی بأعلی صوته یا حسین استعجلت النار فی الدنیا قبل یوم القیامة فقال الحسین من هذا کأنه شمر بن ذی الجوشن فقالوا نعم أصلحک الله هو هو فقال یا ابن راعیة المعزی أنت أولی بها صلیا)(2).

وسبب تسمیته بابن راعیة المعزی قد أوضحه الشیخ علی النمازی الشاهرودی


1- الارشاد للشیخ المفید ج2 ص96 صباح عاشوراء والتعبئة للحرب.
2- تاریخ الطبری ج 4 ص 321 __ 322.

ص: 215

بقوله: (وعن کتاب المثالب لهشام بن محمد الکلینی: إن امرأة ذی الجوشن خرجت من جبانة السبیع إلی جبانة کندة، فعطشت فی طریق ولاقت راعیا یرعی الغنم فطلبت منه الماء فأبی أن یعطیها إلا بالإصابة منها، فمکنته فواقعها الراعی فحملت بشمر. انتهی. قول مولانا الحسین علیه السلام لشمر یوم عاشوراء: یا بن راعیة المعزی، أنت أولی بها صلیا)(1).

2: هو ابن البوال علی عقبیه، الجلف الجافی، والبهیمة، الذی لا یحکم من کتاب الله آیتین

قال الطبری وابن کثیر وابن الأثیر مع اختلاف بسیط فی بعض عباراتهم: (وخرج من أصحاب الحسین زهیر بن القین علی فرس له شاک فی السلاح، فقال: یا أهل الکوفة، نذار لکم من عذاب الله نذار، إن حقا علی المسلم نصیحة أخیه المسلم، ونحن حتی الآن أخوة، وعلی دین واحد، وملة واحدة، ما لم یقع بیننا وبینکم السیف، فإذا وقع السیف انقطعت العصمة، وکنا أمة وأنتم أمة، إن الله قد ابتلانا وإیاکم بذریة نبیه لینظر ما نحن وأنتم عاملون، إنا ندعوکم إلی نصره وخذلان الطاغیة ابن الطاغیة، عبید الله بن زیاد...قال __ الراوی __: فسبوه وأثنوا علی ابن زیاد ودعوا له، وقالوا: لا ننزع حتی نقتل صاحبک ومن معه. فقال لهم: إن ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ابن سمیة، فإن أنتم لم تنصروهم فأعیذکم بالله أن تقتلوهم... قال __ الراوی __: فرماه شمر بن ذی الجوشن بسهم وقال له: اسکت أسکت الله نامتک، أبرمتنا بکثرة کلامک، فقال له زهیر: یا بن البوال علی عقبیه، ما إیاک أخاطب؟ إنما أنت بهیمة، والله ما أظنک تحکم من کتاب الله آیتین، فأبشر


1- مستدرکات علم رجال الحدیث للشیخ علی النمازی الشاهرودی ج 4 ص 220، مستدرک سفینة البحار للشیخ علی النمازی الشاهرودی ج6 ص44 أحوال الشمر بن ذی الجوشن لعنة الله علیه.

ص: 216

بالخزی یوم القیامة والعذاب الألیم. فقال له شمر: إن الله قاتلک وصاحبک بعد ساعة، فقال له زهیر: أبالموت تخوفنی؟ فوالله للموت معه أحب إلی من الخلد معکم. ثم إن زهیرا أقبل علی الناس رافعا صوته یقول: عباد الله لا یغرنکم عن دینکم هذا الجلف الجافی وأشباهه، فوالله لا ینال شفاعة محمد صلی الله علیه وسلم قوم أهرقوا دماء ذریته، وقتلوا من نصرهم وذب عن حریمهم)(1).

3: انه الفاسق من أعداء الله وعظماء الجبارین

قال الشیخ الطوسی قدس الله روحه: (ورام مسلم بن عوسجة أن یرمیه بسهم فمنعه الحسین من ذلک، فقال له: دعنی حتی أرمیه فإن الفاسق من عظماء الجبارین، وقد أمکن الله منه. فقال له الحسین علیه السلام: لا ترمه، فإنی أکره أن أبدأهم)(2).

وقال الطبری: (فقال له مسلم بن عوسجة یا ابن رسول الله جعلت فداک ألا أرمیه بسهم فإنه قد أمکننی ولیس یسقط سهم فالفاسق من أعظم الجبارین فقال له الحسین لا ترمه فإنی أکره أن أبدأهم)(3).

4: انه کلب أبقع یلغ فی دم الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وأهل بیته

قال ابن نما الحلی قدس الله روحه: (ثم جاء آخر فقال أین الحسین فقال ها انا ذا قال أبشر بالنار قال ابشر برب رحیم وشفیع مطاع من أنت قال أنا شمر بن ذی الجوشن قال الحسین __ صلوات الله وسلامه علیه __: الله أکبر قال رسول الله صلی الله علیه وآله رأیت کأنّ


1- تاریخ الطبری ج 4 ص 323 __ 324، البدایة والنهایة لابن کثیر ج 8 ص 194 __ 195، والکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج 4 ص63 __ 64.
2- الإرشاد للشیخ المفید ج2 ص96.
3- تاریخ الطبری ج 4 ص 322.

ص: 217

کلبا أبقع یلغ دماء أهل بیتی وقال الحسین __ صلوات الله وسلامه علیه __: رأیت کأنّ کلابا تنهشنی وکأنّ فیها کلبا أبقع کان أشدهم علیّ وهو أنت وکان أبرص)(1).

وقال الصفدی: (وقیل إن النبی صلی الله علیه وسلم رأی فی نومه کأن کلبا أبقع ولغ فی دمه فلما قتل الحسین وکان شمر بن ذی الجوشن به وضح تفسرت رؤیاه)(2).

وقال ابن خلکان: (قیل لجعفر بن محمد یعنی الصادق کم تتأخر الرؤیا قال رأی النبی صلی الله علیه وسلم کأن کلبا أبقع یلغ فی دمه فکان شمر بن ذی الجوشن قاتل الحسین بن علی رضی الله عنه وکان أبرص فکان تأخیر الرؤیا بعد خمسین سنة)(3).

5: انه مطبوع علی قلبه، لم یکن یفهم شیئا مما یقوله الإمام صلوات الله وسلامه علیه

قال ابن نما الحلی قدس الله روحه: (ومد عمر بن سعد بالعساکر حتی تکملت العدة لست خلون من المحرم عشرین ألفا وضیق علی الحسین وأصحابه قام __ صلوات الله وسلامه علیه __ فاتکا علی سیفه ثم حمد الله وأثنی علیه وقال: أما بعد أیها الناس انسبونی وانظروا من انا ثم ارجعوا إلی أنفسکم فعاتبوها هل یحل لکم سفک دمی وانتهاک حرمتی الست ابن بنت نبیکم وابن ابن عمه وابن أولی الناس بالمؤمنین من أنفسهم... هل تطالبونی بقتیل قتلته أو بمال استهلکته أو بقصاص من جراحة فسکتوا فقال شمر بن ذی الجوشن هو یعبد الله علی حرف إن کان یعرف شیئا مما یقول فقال حبیب بن


1- مثیر الأحزان لابن نما الحلی ص 48.
2- الوافی بالوفیات للصفدی ج 12 ص 266.
3- وفیات الأعیان وأنباء أبناء الزمان لابن خلکان ج 7 ص 68، وقریب منه ما فی السیرة الحلبیة ج1 ص380.

ص: 218

مظاهر: إنی أراک تعبد الله علی ألف حرف وإنّی أشهد انک لا تعرف شیئا مما یقول إن الله قد طبع علی قلبک)(1).

وقال الشیخ المفید قدس الله روحه: (فقال له شمر بن ذی الجوشن: هو یعبد الله علی حرف إن کان یدری ما تقول فقال له حبیب بن مظاهر: والله إنی لأراک تعبد الله علی سبعین حرفا، وأنا أشهد أنک صادق ما تدری ما یقول، قد طبع الله علی قلبک)(2).

وقال ابن کثیر: (فقال عند ذلک شمر بن ذی الجوشن: هو یعبد الله علی حرف: إن کنت أدری ما یقول؟ فقال له حبیب بن مظاهر: والله یا شمر إنک لتعبد الله علی سبعین حرفا، وأما نحن فوالله إنا لندری ما یقول: وإنه قد طبع علی قلبک)(3).

تخذیل الشمر لعنه الله للناس عن مسلم بن عقیل رضوان الله تعالی علیه

أغلب من تورط فی دم الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه فی یوم عاشوراء، کان قد تورط قبل ذلک فی دم ابن عمه مسلم بن عقیل علیه السلام، وکان الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله من هؤلاء الذین تورطوا وشارکوا مشارکة فاعلة فی تخذیل الناس عن نصرة مسلم بن عقیل علیه السلام الأمر الذی أدی إلی ترکه وحیدا ثم القبض علیه من قبل أنصار ابن مرجانة لعنه الله ثم استشهاده علیه السلام، والمصادر التاریخیة قد نقلت مجموعة کبیرة من الأحداث التی رافقت وجود مسلم بن عقیل علیه السلام فی الکوفة، والتی کان للشمر لعنه الله دور فاعل فیها، وفیما یأتی جملة من تلک النصوص المنقولة.


1- مثیر الأحزان لابن نما الحلی ص36 __ 37.
2- الإرشاد للشیخ المفید ج2 ص97 __ 98.
3- البدایة والنهایة لابن کثیر ج8 ص194.

ص: 219

1: قال ابن الأثیر: (فدعا ابن زیاد کثیر بن شهاب الحارثی وأمره أن یخرج فیمن أطاعه من مذحج فیسیر ویخذل الناس عن ابن عقیل ویخوفهم وأمر محمد بن الأشعث أن یخرج فیمن أطاعه من کندة وحضرموت فیرفع رایة أمان لمن جاءه من الناس وقال مثل ذلک للقعقاع بن شور الذهلی وشبث بن ربعی التمیمی وحجار بن أبجر العجلی وشمر بن ذی الجوشن الضبابی وترک وجوه الناس عنده استئناسا بهم لقلة عدد من معه. وخرج أولئک النفر یخذلون النفر وأمر عبید الله من عنده من الأشراف أن یشرفوا علی الناس من القصر فیمنوا أهل الطاعة ویخوفوا أهل الطاعة ففعلوا فلما سمع الناس مقالة أشرافهم أخذوا یتفرقون حتی أن المرأة تأتی ابنها وأخاها وتقول انصرف الناس یکفونک ویفعل الرجل مثل ذلک فما زالوا یتفرقون حتی بقی ابن عقیل فی المسجد فی ثلاثین رجلا)(1).

2: وقال الطبری: (ودعا عبید الله کثیر بن شهاب بن الحصین الحارثی فأمره أن یخرج فیمن أطاعه من مذحج فیسیر بالکوفة ویخذل الناس عن ابن عقیل ویخوفهم الحرب ویحذرهم عقوبة السلطان وأمر محمد بن الأشعث أن یخرج فیمن أطاعه من کندة وحضرموت فیرفع رایة أمان لمن جاءه من الناس وقال مثل ذلک للقعقاع بن شور الذهلی وشبث بن ربعی التمیمی وحجار بن أبجر العجلی وشمر بن ذی الجوشن العامری وحبس سائر وجوه الناس عنده استیحاشا إلیهم لقلة عدد من معه من الناس)(2).

3: وقال الدینوری فی الاخبار الطوال: (وقال عبید الله بن زیاد لمن کان عنده من أشراف أهل الکوفة: لیشرف کل رجل منکم فی ناحیة من السور، فخوفوا القوم.


1- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج 4 ص 31.
2- تاریخ الطبری ج4 ص276.

ص: 220

فأشرف کثیر بن شهاب، ومحمد بن الأشعث، والقعقاع بن شور، وشبث بن ربعی، وحجار بن أبجر، وشمر بن ذی الجوشن، فتنادوا: یا أهل الکوفة، اتقوا الله ولا تستعجلوا الفتنة، ولا تشقوا عصا هذه الأمة، ولا توردوا علی أنفسکم خیول الشام، فقد ذقتموهم، وجربتم شوکتهم. فلما سمع أصحاب مسلم مقالتهم فتروا بعض الفتور)(1).

بعض جرائم الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله فی یوم عاشوراء
اشارة

لم یترک الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله موبقة یوم عاشوراء إلا واتاها، ویندر أن تری موقفا من مواقف یوم عاشوراء لیس للشمر فیه أثر، فکم من غصة قد تجرعها الإمام الحسین وأصحابه وأطفاله وحرمه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین علی ید هذا الآثم، وکم من دمعة قد أراقها هذا الخائن، فهو من جیّش جیوش الکفر التی توافرت علی قتل سبط النبی صلوات الله وسلامه علیه، وهو الذی ارتقی صدره وحز نحره وأیتم عیاله وحرق وسلب ونکل وسبی وضرب حتی أدمی عیال الإمام وحرمه، وجرائم هذا المسخ البشری فی یوم عاشوراء وما بعده وان کانت لا تحصیها الکتب ولا تصفها الأقلام لکثرتها وبشاعتها، إلا أن ما لا یدرک کله لا یترک کله، وفیما یأتی جملة من مخازی أحواله، وموبقات أفعاله، وما سنغض الطرف عنه أکثر وأکثر.

1: کان الشمر لعنه الله أول من التحق بجیش عمر بن سعد لعنه الله

قال العلامة المجلسی قدس الله روحه: (ثم جمع ابن زیاد الناس فی جامع الکوفة، ثم خرج فصعد المنبر ثم قال: أیها الناس إنکم بلوتم آل أبی سفیان فوجدتموهم کما


1- الأخبار الطوال للدینوری ص 239.

ص: 221

تحبون، وهذا أمیر المؤمنین یزید، قد عرفتموه حسن السیرة محمود الطریقة، محسنا إلی الرعیة، یعطی العطاء فی حقه، قد أمنت السبل علی عهده وکذلک کان أبوه معاویة فی عصره، وهذا ابنه یزید من بعده، یکرم العباد، ویغنیهم بالأموال، ویکرمهم، وقد زادکم فی أرزاقکم مائة مائة، وأمرنی أن أوفرها علیکم وأخرجکم إلی حرب عدوه الحسین، فاسمعوا له وأطیعوا. ثم نزل عن المنبر ووفر الناس العطاء وأمرهم أن یخرجوا إلی حرب الحسین علیه السلام، ویکونوا عونا لابن سعد علی حربه، فأول من خرج شمر بن ذی الجوشن فی أربعة آلاف، فصار ابن سعد فی تسعة آلاف)(1).

2: کان لعنه الله علی میسرة جیش عمر بن سعد لعنه الله

قال الشیخ المفید قدس الله روحه: (وأصبح عمر بن سعد فی ذلک الیوم وهو یوم الجمعة وقیل یوم السبت، فعبأ أصحابه وخرج فیمن معه من الناس نحو الحسین علیه السلام وکان علی میمنته عمرو بن الحجاج، وعلی میسرته شمر بن ذی الجوشن، وعلی الخیل عروة بن قیس، وعلی الرجالة شبث بن ربعی، وأعطی الرایة دریدا مولاه)(2).

وقال ابن الأثیر: (وجعل عمر علی میمنته عمرو بن الحجاج الزبیدی وعلی میسرته شمر بن ذی الجوشن وعلی الخیل عروة بن قیس الأحمسی وعلی الرجال شبت بن ربعی الیربوعی التمیمی وأعطی الرایة دریدا مولاه)(3).


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج44 ص385 __ 386.
2- الإرشاد للشیخ المفید ج 2 ص 95 __ 96.
3- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج4 ص60.

ص: 222

3: لماذا کان الشمر یتعمد تکرار الإغارة علی خیام الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه؟

من یتابع تصرفات الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله یوم العاشر من المحرم یجده یتعمد ولعدة مرات فی الإغارة والهجوم علی فسطاط الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وخیامه، منها ما رواه ابن کثیر بقوله: (وجاء شمر بن ذی الجوشن قبحه الله إلی فسطاط الحسین فطعنه برمحه وقال: إیتونی بالنار لأحرقه علی من فیه، فصاحت النسوة وخرجن منه، فقال له الحسین: أحرقک الله بالنار)(1).

وقال الشیخ المفید قدس الله روحه: (واشتد القتال بینهم ساعة، وجاءهم شمر بن ذی الجوشن فی أصحابه، فحمل علیهم زهیر بن القین رحمه الله فی عشرة رجال من أصحاب الحسین فکشفهم عن البیوت(2)، وعطف علیهم شمر بن ذی الجوشن فقتل من القوم ورد الباقین إلی مواضعهم)(3).

وهذا التعرض المستمر لخیام الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وحرمه من قبل شمر ابن ذی الجوشن قد یعود إلی ثلاثة أسباب رئیسة:

الأول: هو حقد هذا المسخ البشری علی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وجمیع من ینتمی إلیهم أطفالا ونساءً، مرضاهم واصحاءهم، شیوخهم وشبابهم، وهذا الحقد والنصب هو الذی یحدو به إلی محاولة الانتقام والتشفی منهم ولو بحرق بیوتهم علیهم أو بطعن جدار الخیمة بالرمح عسی أن یقع السنان فی احد أفراد أهل هذا البیت الطاهر بغض النظر عن احتمال أن یکون هذا المطعون طفلاً أو امرأة.


1- البدایة والنهایة لابن کثیر ج 8 ص 197 __ 198.
2- ومن هذه العبارة یفهم ان هجوم الشمر لعنه الله کان علی بیوت الإمام صلوات الله وسلامه علیه مما حدا بزهیر ابن القین سلام الله علیه أن یستدعی عشرة من الأصحاب لیکشف الشمر وأصحابه عن بیوت الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه.
3- الإرشاد للشیخ المفید ج 2 ص 104 __ 105.

ص: 223

والسبب الثانی: یعود إلی الترکیبة النفسیة لهذا الموجود الجبان، لان الشمر کان جبان النفس مهزوز الجنان لا یقدر علی المواجهة بمفرده، ولم یشاهد له نزال منفرد لبطل من أبطال الطف، وهذا الجبن هو الذی کان یحدو به إلی تجنب النزال والمواجهة مع الرجال واستقصاده للخیام وتعمد إرعاب الأطفال والنساء، لان الأطفال والنساء لا قدرة لهم علی الدفاع عن أنفسهم، والذود عن أرواحهم، لذلک یتعمد هذا الجبان تکرار الاعتداء علیهم.

والسبب الثالث: ان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه کان فی أثناء حملاته علی ذلک الجیش الکافر یبدد جمعهم ویقلب صفوفهم، وقد وصف المؤرخون صولاته وحملاته بوصف یبهر العقول، قال الطبری: (إن کانت الرجالة لتنکشف من عن یمینه وشماله انکشاف المعزی إذا شد فیها الذئب)(1).

وقال الذهبی: (یقاتل قتال الفارس الشجاع، إن کان لیشد علیهم، فینکشفون عنه انکشاف المعزی شد فیها الأسد)(2).

فلکی یوقف قادة الجیش الکافر تلک الحملات الشجاعة من قبل سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه، وتلافیا منهم للخسائر الجسیمة التی کانت توقعها تلک الحملات الحسینیة، کانوا لعنهم الله یتعمدون التحرش والاعتداء علی حرم الإمام صلوات الله وسلامه ‘علیه وخیامه، لیجبروه علی إیقاف تلک الهجمات والرجوع مرة ثانیة إلی مرکزه، لمعرفتهم بعظیم غیرة وحمیة سید الشهداء علی نسائه وحرمه وخیامه، وبذلک تعید تشکیلات الجیش الکافر لملمة جراحاتها وتجمیع صفوفها مرة ثانیة.


1- تاریخ الطبری ج 4 ص 345.
2- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 3 ص 302.

ص: 224

4: بقاء الإمام الحسین وحیدا وتحریض الشمر لعنه الله للناس علی قتله

ان من أشد وأعظم رزایا عاشوراء هی تلک اللحظات الأخیرة التی بقی فیها سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه وحیدا بین جیش کالبحر یحیط به وبعیاله وحرمه وأطفاله من کل جانب، لا ناصر ینصره، ولا ذاب یذب عنه وعن حرمه، الذین هم حرم رسول الله صلوات الله وسلامه علیه، وثقله الذی أوصی الأمة بحفظه، ورعایته وصیانته، وهو فی کرب عظیم وهم شدید، ان وقف لیستریح بادروا یرمونه بالسهام تارة، وبالرماح أخری، وبالحجارة تارة ثالثة، فإن قاتلهم وأثخن فیهم القتل والجراح حملوا علی عیاله وخیامه وقتلوا أطفاله، أو أضرموا النار فی بعض أطناب خیامه، کی یجبروه علی ترک صولاته والرجوع إلی مرکزه، وان عاد إلی حرمه سمع أصوات البکاء من امرأة فقدت زوجها، أو من أم فقدت ابنها، أو طفلة وطفل تیبست شفاههم وخمدت قواهم من العطش حتی صار لا یستطیع الحراک، ولا یملک حیلة غیر بقایا أنین وصرخات وتأوهات یوصلها إلی أسماع الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه الذی کان أملهم المتبقی وفرصتهم الوحیدة للنجاة، وهو صلوات الله وسلامه علیه یستعین بالله علی هذه الخطوب الجسیمة والرزایا العظیمة ویکثر من قول (لا حول ولا قوة إلا بالله العلی العظیم).

 وحینما لم یستطع القوم مواجهة البطل وجها لوجه، أمروا لعنهم برشقه بالسهام، فانهالت علیه أربعة آلاف نبلة کأنها زخات المطر، فعلقت فی جسده الشریف حتی صارت السهام علی جسده کشوک القنفذ، فامتلأت أعضاء بدنه الشریف بالجراحات(1)، قال الشیخ الطبرسی قدس الله روحه: (قال حمید بن مسلم: فوالله


1- قال ابن شهر آشوب فی مناقب آل أبی طالب ج3 ص258: (وجعل یقاتل حتی قتل ألفاً وتسعمائة وخمسین سوی المجروحین، فقال عمر بن سعد لقومه: الویل لکم أتدرون من تبارزون هذا ابن الأنزع البطین، هذا ابن قتال العرب فاحملوا علیه من کل جانب. فحملوا بالطعن مائة وثمانین وأربعة آلاف بالسهام. قال الطبری: قال أبو مخنف عن جعفر بن محمد بن علی علیه السلام قال: وجدنا بالحسین ثلاثا وثلاثین طعنة وأربعا وثلاثین ضربة. وقال الباقر علیه السلام: وجد به ثلاثمائة وبضعة وعشرین طعنة برمح أو ضربة بسیف أو رمیة بسهم. وروی ثلاثمائة وستون جراحة. وقیل ثلاثا وثلاثین ضربة سوی السهام. وقیل الف وتسعمائة جراحة، وکانت السهام فی درعه کالشوک فی جلد القنفذ).

ص: 225

ما رأیت مکثورا قط قد قتل ولده وأهل بیته وأصحابه أربط جأشا ولا أمضی جنانا منه، إن کانت الرجالة لتشد علیه فیشد علیها بسیفه فیکشفهم عن یمینه وشماله انکشاف المعزی إذا اشتد علیها الذئب. فلما رأی ذلک شمر بن ذی الجوشن أمر الرماة أن یرموه، فرشقوه بالسهام حتی صار کالقنفذ)(1).

فلما أثخنته الجراح، وفتت کبده العطش، وأخذه نزیف الدم من رأسه، ومن قلبه الذی أصیب بسهم له ثلاث شعب، أخرج جزءاً من فؤاده صلوات الله وسلامه علیه، فضعف عن القتال، و(طعنه صالح بن وهب المری علی خاصرته طعنة فسقط الحسین علیه السلام عن فرسه إلی الأرض علی خده الأیمن)(2)، حینئذ نادی شمر بأصحابه لعنهم الله أن یحملوا علیه من کل جانب، قال ابن کثیر: (حتی نادی شمر بن ذی الجوشن: ویحکم ماذا تنتظرون بالرجل؟ فاقتلوه ثکلتکم أمهاتکم. فحملت الرجال من کل جانب علی الحسین وضربه زرعة بن شریک التمیمی علی کتفه الیسری، وضرب علی عاتقه، ثم انصرفوا عنه وهو ینوء ویکبو، ثم جاء إلیه سنان بن أبی عمرو بن أنس النخعی فطعنه بالرمح فوقع)(3)، وقال الصفدی: (وبقی الحسین رضی الله عنه فریدا وقد قتل جمیع


1- إعلام الوری بأعلام الهدی للشیخ الطبرسی ج1 ص468 __ 469.
2- اللهوف فی قتلی الطفوف للسید ابن طاوس ص73 مقتل الحسین.
3- البدایة والنهایة لابن کثیر ج8 ص204.

ص: 226

من کانوا معه من المقاتلة أهله وغیرهم فلم یجسر أحد أن یتقدم إلیه حتی حرضهم شمر بن ذی الجوشن فتقدم إلیه من طعنه ومن ضربه بالسیف حتی صرع عن جواده ثم حز رأسه)(1).

قال المجلسی قدس الله روحه: (وأقبل عدو الله سنان الإیادی وشمر بن ذی الجوشن العامری لعنهما الله فی رجال من أهل الشام حتی وقفوا علی رأس الحسین علیه السلام فقال بعضهم لبعض: ما تنتظرون ؟ أریحوا الرجل، فنزل سنان بن الأنس الإیادی وأخذ بلحیة الحسین وجعل یضرب بالسیف فی حلقه)(2).

5: الشمر لعنه الله یقطع رأس الإمام الشهید صلوات الله وسلامه علیه

قد اختلفت الروایات التاریخیة فی تعیین الشخص الذی باشر قطع الرأس الشریف للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، فالروایات التاریخیة مترددة ما بین أن یکون الفاعل لهذه الجریمة الشنعاء والمصیبة النکراء هو سنان بن انس النخعی أو الإیادی لعنه الله، أو الشمر بن ذی الجوشن الضبابی لعنه الله، وان کان الصحیح کما یقول الصفدی ان الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله هو الذی تولی هذه المصیبة العظیمة، قال الصفدی: (شمر بن ذی الجوشن أبو السابغة العامری ثم الضبابی حی من بنی کلاب...وهو الذی احتز رأس الحسین علی الصحیح... قال خلیفة العصفری الذی ولی قتل الحسین شمر بن ذی الجوشن)(3).

ونقل السید المقرم عن مقتل الخوارزمی: (ثم صاح ابن سعد بالناس: انزلوا


1- الوافی بالوفیات للصفدی ج12 ص265.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج44 ص322.
3- الوافی بالوفیات للصفدی ج 16 ص 105.

ص: 227

إلیه وأریحوه، فبدر إلیه شمر فرفسه برجله وجلس علی صدره وقبض علی شیبته المقدسة وضربه بالسیف اثنتی عشرة ضربة واحتز رأسه المقدس)(1).

ولعل الاختلاف فیمن احتز الرأس الشریف، جاء نتیجة اشتراک أکثر من شخص فی هذا الفعل الفظیع، فکل واحد من هؤلاء الأرجاس أدی جزءاً من المهمة، لذلک جمع ابن شهر آشوب فی کتابه مناقب آل أبی طالب بین کل من سنان بن انس وشمر بن ذی الجوشن لعنه الله فی مسألة قطع الرأس الشریف: (واحتز رأسه سنان بن أنس النخعی، وشمر بن ذی الجوشن. وسلب جمیع ما کان علیه إسحاق بن حیاة الحضرمی...)(2) وان کنا نعتقد بان المهمة الأخیرة قام بها الشمر لعنه الله.

وفی روایة ان الشمر لعنه الله: (جعل یحتز مذبح الحسین «علیه السلام» بسیفه، فلم یقطع شیئا. فقال الحسین «علیه السلام»: یا ویلک أتظن أن سیفک یقطع موضعا طالما قبله رسول الله «صلی الله علیه وآله» فکبه علی وجهه، وجعل یقطع أوداجه، وکان کلما قطع منه عضوا، أو عرقا، أو مفصلا نادی: وا جداه، وا أبا القاسماه، وا علیاه، وا حمزتاه، وا جعفراه، وا عقیلاه، وا غربتاه، وا قلة ناصراه)(3) ونحن وان لم نعثر علی الروایة فی غیر هذا المصدر المنوه إلیه فی الهامش إلا ان ذلک لیس ببعید، ولعل هذا الشیء هو الذی حدا باللعین إلی أن یضرب رقبة الإمام صلوات الله وسلامه علیه اثنتی عشرة ضربة، کما مر قبل قلیل.


1- مقتل الحسین للعلامة السید عبد الرزاق الموسوی المقرم، منشورات مؤسسة النور للمطبوعات ، بیروت __ لبنان.
2- مناقب آل أبی طالب لابن شهر آشوب ج3 ص231.
3- موسوعة کلمات الإمام الحسین علیه السلام للجنة الحدیث فی معهد باقر العلوم علیه السلام ص619.

ص: 228

وفر إلی نحو الخیام جواده           ***        ففرت بنات الوحی ینظرن ما جری

فأبصرن شمرا جالسا فوق صدره   ***        وقد کان للتوحید لوحا ومصدرا

ویفری بحد السیف أوداج نحره    ***        فشلت یداه أی نحر به فری

وشال علی رأس السنان کریمه     ***        کمثل هلال فیه قد لاح نیرا

فزلزلت الأرضون واحمرت السما                ***        علیه ولون الشمس حزنا تغیرا

وأعظم ما رج العوالم والهدی      ***        وزلزل قلب الدین حتی تفطرا

وقوف بنات الوحی فی مجلس حوی           ***        لکل دعی راح یبدی التجبرا

6: الشمر لعنه الله یأمر بقتل النساء ویباشر قتل الأسری

کلمة المسلمین تکاد تکون مجمعة علی عدم جواز قتل المرأة الکافرة حین نشوب الحرب حتی لو قاتلت إلا للضرورة القصوی، کما قال القاضی ابن البراج فی المهذب: (ولا یجوز قتل النساء وإن قاتلن مع أهلهن)(1)، او کما نقل محیی الدین النووی فی المجموع: (ونقل ابن بطال أنه اتفق الجمیع علی المنع من القصد إلی قتل النساء والولدان، ولا یوجب القتال علی الصبی والأعمی والأعرج ولا علی من لا یجد القوة علیه مالا أو جسدا)(2) ولهذا الحکم أدلة شرعیة، فعن الإمام أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه انه سئل: (عن نساء الیهود والنصاری والمجوس، کیف سقطت عنهن الجزیة ورفعت؟ قال: لأن رسول الله صلی الله علیه وآله نهی عن قتل النساء والولدان فی الحرب إلا أن تقاتل، ثم قال: وإن قاتلت فأمسک عنها ما أمکنک)(3)، کذلک أخرج البخاری: (ان امرأة وجدت فی بعض مغازی النبی صلی


1- المهذب للقاضی ابن البراج ج 1 ص 303.
2- المجموع لمحیی الدین النووی ج 19 ص 273.
3- المحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقی ج 2 ص 327.

ص: 229

الله علیه وسلم مقتولة فأنکر رسول الله صلی الله علیه وسلم قتل النساء والصبیان)(1).

فإذا کانت هذه معاملة الإسلام مع نساء الکفار من الیهود والنصاری والمجوس والمشرکین، فمن أین استحل الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله وغیره من الممسوخین لعنهم السله قتل النساء والأطفال والمرضی فی یوم عاشوراء الرهیب، وجواب هذا التساؤل بسیط للغایة فالشمر بن ذی الجوشن وأمثاله لعنهم الله لم یکونوا من أهل الإسلام أصلا، کما سیأتی فی جواب نافع بن هلال له بعد أسره وقبل قتله.

قال الطبری: (وخرجت امرأة الکلبی تمشی إلی زوجها حتی جلست عند رأسه تمسح عنه التراب وتقول هنیئا لک الجنة فقال شمر بن ذی الجوشن لغلام یسمی رستم اضرب رأسها بالعمود فضرب رأسها فشدخه فماتت مکانها)(2).

وقال الطبری وغیره من المؤرخین وبألفاظ متقاربة: (وکان نافع بن هلال الجملی قد کتب اسمه علی أفواق نبله فجعل یرمی بها مسمومة وهو یقول أنا الجملی أنا علی دین علی فقتل اثنی عشر من أصحاب عمر بن سعد سوی من جرح قال فضرب حتی کسرت عضداه وأخذ أسیرا قال فأخذه شمر بن ذی الجوشن ومعه أصحاب له یسوقون نافعا حتی أوتی به عمر بن سعد فقال له عمر بن سعد ویحک یا نافع ما حملک علی ما صنعت بنفسک قال إن ربی یعلم ما أردت قال والدماء تسیل علی لحیته وهو یقول والله لقد قتلت منکم اثنی عشر سوی من جرحت وما ألوم نفسی علی الجهد ولو بقیت لی عضد وساعد ما أسرتمونی فقال له شمر اقتله أصلحک الله قال أنت جئت به فإن شئت فاقتله قال فانتضی شمر سیفه فقال له نافع


1- صحیح البخاری ج 4 ص 21.
2- تاریخ الطبری ج 4 ص 333 __ 334.

ص: 230

أما والله ان لو کنت من المسلمین لعظم علیک أن تلقی الله بدمائنا فالحمد لله الذی جعل منایانا علی یدی شرار خلقه فقتله)(1).

7: الشمر لعنه الله یأمر بقتل الإمام السجاد ویسوق رؤوس الشهداء إلی الکوفة ثم الشام

قال محمد بن سعد فی الطبقات: (وکان علی بن حسین مع أبیه وهو بن ثلاث وعشرین سنة وکان مریضا نائما علی فراشه فلما قتل الحسین علیه السلام قال شمر ابن ذی الجوشن اقتلوا هذا فقال له رجل من أصحابه سبحان الله أنقتل فتی حدثا مریضا لم یقاتل)(2).

وقال ابن عبد البر فی التمهید: (وإنما لم یقاتل علی بن حسین هذا یومئذ مع أبیه لأنه کان مریضا علی فراش لا أنه کان صغیرا قال أبو عمر روی أهل العلم بالأخبار والسیر أنه کان یومئذ مریضا مضطجعا علی فراش فلما قتل الحسین قال شمر بن ذی الجوشن اقتلوا هذا فقال له رجل من أصحابه سبحان الله أنقتل حدثا مریضا لم یقاتل)(3).

ومع ان الإمام السجاد صلوات الله وسلامه علیه قد سلم من القتل بفضل الله سبحانه وتعالی وحکمته، إلا انه صلوات الله وسلامه علیه لم یسلم هو وإخوته وأخواته وعماته من الأسر والضرب المبرح والسبی وغل الیدین والرجلین بالحدید، وهم یشاهدون بأعینهم کیف ان رؤوس أهلیهم وأنصارهم تقطع واحدا بعد الآخر وتوضع علی رؤوس الرماح وتحمل وإیاهم إلی الکوفة حیث ینتظر الدعی عبید الله بن مرجانة لعنه الله، ثم


1- تاریخ الطبری ج 4 ص 336 __ 337، الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج4 ص72، البدایة والنهایة لابن کثیر ج8 ص200.
2- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 5 ص 211 __ 212.
3- التمهید لابن عبد البر ج 9 ص 157.

ص: 231

إلی الشام حیث کان یزید یعد العدة للتحضیر إلی اکبر وأضخم احتفال عرفته آل أمیة والشام.

قال الشیخ المفید قدس الله روحه: (وسرح عمر بن سعد من یومه ذلک __ وهو یوم عاشوراء __ برأس الحسین علیه السلام مع خولی بن یزید الأصبحی وحمید بن مسلم الأزدی إلی عبید الله بن زیاد، وأمر برؤوس الباقین من أصحابه وأهل بیته فنظفت(1)، وکانت اثنین وسبعین رأسا، وسرح بها مع شمر بن ذی الجوشن وقیس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج، فأقبلوا حتی قدموا بها علی ابن زیاد)(2).

ثم أرسل یزید بن معاویة علیه لعنة الله إلی ابن مرجانة لعنه الله أمره بان یرسل إلیه السبایا والرؤوس لیحتفل ویستعرض انتصاراته فی الشام، قال ابن الأثیر: (ثم جاء البرید بأمر یزید بإرسالهم إلیه، فدعا ابن زیاد محفر بن ثعلبة وشمر بن ذی الجوشن وسیرهما بالثقل والرأس)(3).

واخذ ثقل آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم یهدی من دعی إلی عتل زنیم، ومن ظالم إلی اظلم، وهم علی اشد حالات الجهد، وأعظم مراتب العناء، قال الطبری: (ثم إن عبید الله أمر بنساء الحسین وصبیانه فجهزن وأمر بعلی بن الحسین فغل بغل إلی عنقه ثم سرح بهم مع محفز بن ثعلبة العائذی عائذة قریش ومع شمر بن ذی الجوشن فانطلقا بهم حتی قدموا علی یزید فلم یکن علی بن الحسین یکلم أحدا منهما فی الطریق کلمة حتی بلغوا فلما انتهوا إلی باب یزید رفع محفز بن ثعلبة صوته فقال هذا


1- فی بعض المصادر (فقطفت) بدل (فنظفت) وفی بعض المصادر الأخری (فقطعت) ولعل الأصل (فقطعت) ولکنها صحفت.
2- الإرشاد للشیخ المفید ج 2 ص 113 __ 114.
3- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج 4 ص 84.

ص: 232

محفز بن ثعلبة أتی أمیر المؤمنین باللئام الفجرة قال فأجابه یزید بن معاویة ما ولدت أم محفز شر وألأم)(1) وفی روایات علماء المذهب الحق إن من أجاب علی محفز بن ثعلبة هو الإمام السجاد علیه السلام ولیس یزید بن معاویة علیه لعنة الله(2).

فلما قدم الشمر لعنه الله بالسبایا إلی الشام ودخل إلی أمیره یزید علیه لعنة الله رمی رأس سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه بین یدیه، وصار یحکی لیزید علیه لعنة الله قصة خیالیة عن أحداث یوم عاشوراء، فصار یکذب فیها ویطیل الکذب، ویزید علیه لعنة الله یستمع وملؤه الفخر بما فعل بسید الشهداء وأهل بیته وأصحابه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، قال الدینوری فی الأخبار الطوال: (ثم إن ابن زیاد جهز علی بن الحسین ومن کان معه من الحرم، ووجه بهم إلی یزید بن معاویة مع زحر بن قیس ومحقن بن ثعلبة، وشمر بن ذی الجوشن. فساروا حتی قدموا الشام، ودخلوا علی یزید بن معاویة بمدینة دمشق، وأدخل معهم رأس الحسین، فرمی بین یدیه. ثم تکلم شمر بن ذی الجوشن، فقال: یا أمیر المؤمنین، ورد علینا هذا فی ثمانیة عشر رجلا من أهل بیته، وستین رجلا من شیعته، فصرنا إلیهم، فسألناهم النزول علی حکم أمیرنا عبید الله بن زیاد، أو القتال، فغدونا علیهم عند شروق الشمس، فأحطنا بهم من کل جانب، فلما أخذت السیوف منهم مأخذها جعلوا یلوذون إلی غیر وزر، لوذان الحمام من الصقور، فما کان إلا مقدار جزر جزور، أو نوم قائل حتی أتینا علی آخرهم، فهاتیک أجسادهم مجردة، وثیابهم مرملة، وخدودهم معفرة، تسفی علیهم الریاح، زوارهم العقبان، ووفودهم الرخم)(3).


1- تاریخ الطبری ج 4 ص 352.
2- راجع کل من کتابی الإرشاد للشیخ المفید ج2 ص119، وبحار الأنوار للعلامة المجلسی ج45 ص130.
3- الأخبار الطوال للدینوری ص260 __ 261.

ص: 233

8: الشمر لعنه الله یسرق إبلاً للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وذهبا کان لنسائه

 عن الشیخ الطوسی قدس الله روحه فی کتابه الأمالی قال: (واشتد أمر المختار بعد قتل ابن زیاد وأخاف الوجوه وقال: لا یسوغ لی طعام ولا شراب حتی أقتل قاتلة الحسین بن علی «علیه السلام» وأهل بیته، وما من دینی أترک أحدا منهم حیا. وقال: أعلمونی من شرک فی دم الحسین وأهل بیته، فلم یکن یؤتونه برجل فیقولون هذا من قتلة الحسین أو من أعان علیه إلا قتله، وبلغه أن شمر بن ذی الجوشن «لعنه الله» أصاب مع الحسین(1) إبلا فأخذها، فلما قدم الکوفة نحرها وقسم لحومها. فقال المختار: احصوا لی کل دار دخل فیها شیء من ذلک اللحم، فأحصوها فأرسل إلی من کان أخذ منها شیئا فقتلهم وهدم دورا بالکوفة)(2).

وعن ابن أبی الفتح الأربلی فی کشف الغمة عن زکریا بن یحیی بن عمر الطائنی: (قال سمعت غیر واحد من مشیخة طی یقول وجد شمر بن ذی الجوشن فی ثقل الحسین ذهبا فدفع بعضه إلی ابنته ودفعته إلی صائغ یصوغ لها منه حلیا فلما أدخله النار صار هباءا قال وسمعت غیر زکریا یقول صار نحاسا فأخبرت شمرا بذلک فدعا بالصائغ فدفع إلیه باقی الذهب وقال أدخله النار بحضرتی ففعل الصائغ فعاد الذهب هباءا وقال غیره عاد نحاسا)(3).

کان هذا غیضا من فیض وقطرة من بحر وما ارتکبه هذا المسخ لعنه الله بحق الإسلام والنبی صلی الله علیه وآله وسلم وأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أعظم وأکبر من أن تحصیه هذه الوریقات.


1- هکذا فی المصدر والظاهر أنها فی الأصل (من الحسین) فصحفت.
2- الأمالی للشیخ الطوسی ص 243 __ 244.
3- کشف الغمة لابن أبی الفتح الإربلی ج2 ص268.

ص: 234

أمن الشیعة کان الشمر لعنه الله أم من أهل السنة؟

قد حاولت أقلام المؤرخین من أهل السنة قدیما وحدیثا جعل الشمر بن ذی الجوشن الضبابی لعنه الله وغیره من القتلة الذین اشترکوا فی الحرب والسلب والنهب فی یوم عاشوراء الرهیب، فی مصاف الشیعة والموالین لأمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، وبذلوا فی سبیل إثبات ذلک الغالی والنفیس، فحرفت من أجل ذلک النصوص التاریخیة، وزورت الأدلة الاثباتیة، وتواطأ علی الکذب الرواة، وألّفت الکتب وطبعت ووزعت بأعداد خیالیة، وفعلت الدول المستفیدة من تثبیت هذه الفریة المستحیل، کل ذلک وغیره جاء ضمن محاولة فاشلة لإقناع الرأی العام بأن الشیعة هم الذین قتلوا أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وأن أشیاع وأتباع وأولیاء المذاهب الأخری هم بعیدون کل البعد عن المشارکة فی حرب الحسین صلوات الله وسلامه علیه وقتله وسبی حریمه، ومواقع النواصب من السلفیة الیوم ملیئة بالکتب والمقالات المأجورة التی تصور الشیعة بأنهم اناس سفاکون للدماء قتلوا أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین قدیما وهم الآن یبکون علی فعلتهم لا علی فقدهم لأئمتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

والحق ان الشیعة کانوا ولا یزالون بعیدین کل البعد عن الولوغ والمشارکة فی دماء أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وان دماء أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین سفکت بسیوف اتباع الامویین والعباسیین، والذین قد وثّقهم علماء أهل السنة، کعمر بن سعد لعنه الله الذی سبق ذکر توثیقهم إیّاه فی الفقرة السابقة من الزیارة.

والشمر بن ذی الجوشن کان احد الذین بذل خصوم الشیعة الغالی والنفیس فی سبیل إثبات کونه من شیعة أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، فتشبثوا بالطحالب، واعتمدوا علی المغالطات، فتارة ینسبونه الی التشیع لأنه من أهل

ص: 235

الکوفة، لاعتقادهم الفاسد بأن جمیع أهل الکوفة کانوا شیعة، وتارة أخری یستدلون علی تشیعه لعنه الله بأنه کان مع الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه فی حرب صفین، وکل من کان مع أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه فی جیشه فهو من شیعته، وغیر ذلک من السفاسف التی یحسبون أنها أدلة، لکنها إذا ما نوقشت ومحصت کانت ((کَسَرَابٍ بِقِیعَةٍ یَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّی إِذَا جَاءَهُ لَمْ یَجِدْهُ شَیْئًا))(1).

ومسألة کون قتلة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ومنهم الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله لا یمکن فصل القول بها ما لم نتعرف علی الجذور الأصلیة لمصطلح ال_(شیعی)، لنری هل ینطبق هذا الوصف علی قتلة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه أو لا ینطبق، وهذا ما سنعرف حقیقته فیما یأتی من الکلام.

قال أبو الحسن الأشعری الذی إلیه یرجع أتباع المذاهب السنیة الأربعة فی عقائدهم: (وإنما قیل لهم الشیعة؛ لأنهم شایعوا علیاً رضوان الله علیه ویقدمونه علی سائر أصحاب رسول الله صلی الله علیه وسلم)(2).

وقال الشهرستانی: (الشیعة هم الذین شایعوا علیا رضی الله عنه علی الخصوص وقالوا بإمامته وخلافته نصا ووصیة إما جلیا وإما خفیا واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده وإن خرجت فبظلم یکون من غیره أو بتقیة من عنده، وقالوا: لیست الإمامة قضیة مصلحیة تناط باختیار العامة وینتصب الإمام بنصبهم بل هی قضیة أصولیة وهی رکن الدین لا یجوز للرسل علیهم الصلاة والسلام إغفاله وإهماله ولا تفویضه إلی العامة ویجمعهم القول بوجوب التعیین والتنصیص وثبوت عصمة الأنبیاء والأئمة وجوبا عن الکبائر والصغائر والقول بالتولی والتبرؤ قولا


1- سورة النور الآیة رقم 39.
2- مقالات الإسلامیین لأبی الحسن الأشعری ج1 باب مقالات التشیع ص2.

ص: 236

وفعلا وعقدا إلا فی حال التقیة)(1).

وقال ابن حزم الظاهری: (ومن وافق الشیعة فی أن علیا رضی الله عنه أفضل الناس بعد رسول الله صلی الله علیه و سلم وأحقهم بالإمامة وولده من بعده فهو شیعی وإن خالفهم فیما عدا ذلک مما اختلف فیه المسلمون فإن خالفهم فیما ذکرنا فلیس شیعیا)(2).

إذن فأصل إطلاق لفظ الشیعة عند أهل السنة کان علی کل من شایع علیا وقدمه علی سائر الصحابة، ویعتقدون بلزوم وجود النص علی إمامة من یستخلف بعد النبی صلی الله علیه وآله وسلم ، لان الإمامة لیست قضیة مصلحیة تناط باختیار العامة، ویعتقدون أیضا أن الإمامة لا تخرج عن أولاد أمیر المؤمنین علی صلوات الله وسلامه علیه إلا بغصب غاصب، ویعتقدون بعصمة الأنبیاء والأئمة من کل ذنب کبیرا کان أو صغیرا، ویتولون أولیاء علی والأئمة والأنبیاء والرسل الذین هم أولیاء الله ویتبرؤون من أعدائهم أعداء الله. وان جمیع من یعتقد بهذا الاعتقاد هو شیعی وکل من لا یشارکهم هذا الاعتقاد فهو لیس شیعیا کما سبق من قول ابن حزم الظاهری.

وهو نفس ما علیه الشیعة الإمامیة، فقد قال الشیخ المفید فی باب الفرق بین الإمامیة وغیرهم من الشیعة وسائر أصحاب المقالات ما یأتی: (فأما السمة للمذهب بالإمامة ووصف الفریق من الشیعة بالإمامیة فهو عَلَمٌ علی من دان بوجوب الإمامة ووجودها فی کل زمان، وأوجب النص الجلی والعصمة والکمال لکل إمام، ثم حصر الإمامة فی ولد الحسین بن علی)(3).


1- الملل والنحل للشهرستانی ج1 الفصل السادس الشیعة ص145.
2- الفصل فی الملل والأهواء والنحل لعلی بن احمد بن حزم الظاهری ج2 ص90.
3- أوائل المقالات للشیخ المفید ص 38 باب الفرق بین الإمامیة وغیرهم من الشیعة وسائر أصحاب المقالات.

ص: 237

ونحن نتحدی من یأتینا بدلیل یدل علی أن الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله کان ممن یقدم الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه علی سائر الصحابة، ویعتقد بضرورة وجود نص علی إمامته، وانه کان یعتقد بوجوب أن لا تخرج عن أولاده صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، ومنهم الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، وانه کان یعتقد بأن الإمام معصوم من کل صغیرة وکبیرة، وانه کان یتبرأ من أعدائهم ویوالی أولیاءهم، فإذا ما جاؤونا بمثل هذا الدلیل __ ولن یستطیعوا ذلک __ آمنا حینئذ بأن الشمر لعنه الله کان شیعیا، أما لو لم یأتونا بمثل هذا الدلیل فسیثبت حینئذ العکس، وسیکون معلوما عند الجمیع إن الشمر ان لم یکن شیعیا فسیکون حینئذ سنیا، وسیثبت عکس ما أراده أعداء الشیعة، وسیصبح لأهل السنة دور هام فی قتل الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، وأحداث عاشوراء الألیمة، فننصح المسلمین من باقی المذاهب الأخری لا سیما السلفیة منهم بعدم إثارة هذه المواضیع علی شبکات الانترنت أو فی الکتب والمقالات لأنها ستضرهم أکثر مما تنفعهم.

والطبری یعترف بأن الشمر بن ذی الجوشن کان معروفا عند معاویة بن أبی سفیان بالصدق والاستقامة، وکان من ضمن من شهد علی حجر بن عدی 5 صاحب أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، وقد روی الطبری خبر شهادته لعنه الله بأمر من زیاد بن أبیه بقوله: (هذا ما شهد علیه أبو بردة بن أبی موسی لله رب العالمین شهد أن حجر بن عدی خلع الطاعة وفارق الجماعة ولعن الخلیفة ودعا إلی الحرب والفتنة وجمع إلیه الجموع یدعوهم إلی نکث البیعة وخلع أمیر المؤمنین معاویة وکفر بالله عز وجل کفرة صلعاء فقال زیاد علی مثل هذه الشهادة فاشهدوا أما والله لأجهدن علی قطع خیط عنق الخائن الأحمق فشهد رؤوس الأرباع علی مثل شهادته وکانوا أربعة

ص: 238

ثم إن زیادا دعا الناس فقال اشهدوا علی مثل شهادة رؤوس الأرباع...فقال زیاد ابدأوا بأسامی قریش ثم اکتبوا اسم عناق فی الشهود ومن نعرفه ویعرفه أمیر المؤمنین بالنصیحة والاستقامة فشهد إسحاق بن طلحة بن عبید الله وموسی بن طلحة... وشمر بن ذی الجوشن العامری وشداد ومروان)(1).

وسید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه ینادیهم یوم عاشوراء والشمر من ضمنهم بقوله: (یا شیعة آل أبی سفیان إن لم یکن لکم دین وکنتم لا تخافون المعاد فکونوا أحرارا فی دنیاکم...)(2)وهو صریح فی کون الشمر وجمیع من حضر جیش الکفر والإلحاد کانوا شیعة لآل أمیة، وعدم اعتراضهم علی هذا الوصف دلیل قبولهم وإقرارهم به.

هل اشترک الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله فی معرکة صفین؟

أما عن مسألة حضوره لعنه الله فی جیش صفین، فقد روی ذلک فی روایتین نوردهما ونورد ما فیهما من إشکال، الأولی عن: (عمر بن سعد، حدثنی یونس بن أبی إسحاق قال: قال لنا أدهم بن محرز الباهلی ونحن معه بأذرح: هل رأی أحد منکم شمر بن ذی الجوشن؟ فقال عبد الله بن کبار النهدی، وسعید بن خازم السلولی: نحن رأیناه. قال: فهل رأیتما ضربة بوجهه؟ قالا: نعم. قال: أنا والله ضربته تلک الضربة بصفین)(3).

والروایة الثانیة عن: (عمر، عن الصلت بن زهیر النهدی، عن مسلم قال: خرج أدهم بن محرز من أصحاب معاویة بصفین إلی شمر بن ذی الجوشن فاختلفا


1- تاریخ الطبری ج 4 ص 200 __ 201.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج45 ص51 فی أن الحسین علیه السلام تقدم إلی القتال.
3- وقعة صفین لابن مزاحم المنقری ص267 __ 268.

ص: 239

ضربتین، فضربه أدهم علی جبینه فأسرع فیه السیف حتی خالط العظم، وضربه شمر فلم یصنع سیفه شیئا، فرجع إلی عسکره فشرب من الماء وأخذ رمحا، ثم أقبل وهو یقول:

إنی زعیم لأخی باهله   ***        بطعنة إن لم أمت عاجله

وضربة تحت الوغی فاصله           ***        شبیهة بالقتل أو قاتله

ثم حمل علی أدهم وهو یعرف وجهه، وأدهم ثابت له لم ینصرف، فطعنه فوقع عن فرسه، وحال أصحابه دونه فانصرف، فقال شمر: هذه بتلک)(1).

والروایتان ضعیفتان من حیث السند، لان الأولی فیها یونس بن أبی إسحاق، وهو السبیعی، وقد اجتمعت کلمة الشیعة والسنة علی تضعیفه، وعدم الاحتجاج بحدیثه، قال السید الخوئی: (إنه کان من العامة وشدید التعصب)(2)، وفی کتاب العلل لأحمد بن حنبل: (یونس بن أبی إسحاق قال حدیثه حدیث مضطرب)(3)، وقال الرازی عن: (عبد الرحمن قال سألت أبی عن یونس بن أبی إسحاق فقال: کان صدوقا إلا انه لا یحتج بحدیثه)(4).

والروایة الثانیة نقلت عن مسلم، وهو مسلم بن کیسان الأعور، فعن احمد بن حنبل قال: (لا یکتب حدیثه ضعیف الحدیث)(5)، وقال العجلی: (مسلم الأعور کوفی ضعیف الحدیث)(6). وقال العقیأتی: (کان یحیی وعبد الرحمن لا یحدثان عن


1- المصدر السابق ص268.
2- معجم رجال الحدیث للسید الخوئی ج21 ص199.
3- العلل لأحمد بن حنبل ج2 ص519.
4- الجرح والتعدیل للرازی ج9 ص244.
5- العلل لأحمد بن حنبل ج2 ص476.
6- معرفة الثقات للعجلی ج2 ص279.

ص: 240

مسلم الأعور وهو مسلم أبو عبد الله وکان شعبة وسفیان یحدثان عنه وهو منکر الحدیث جدا)(1).

ثم ان الروایتین منقولتان عن عمر بن سعد، وهو عمر بن سعد بن أبی الصید الأسدی، وهو مجهول لم یذکروا له ترجمة، کما صرح بذلک الشیخ علی النمازی الشهرودی بقوله: (عمر بن سعد بن أبی الصید الأسدی: لم یذکروه)(2).

وقد نقل ابن أبی الحدید الروایتین بقوله: (قال نصر: وحدثنا عمرو...)(3) بدلا من (عمر بن سعد) وعمرو المقصود من روایة ابن أبی الحدید هو (عمرو بن شمر أبو عبد الله الجعفی) والذی قال عنه النجاشی: (عمرو بن شمر أبو عبد الله الجعفی عربی، روی عن أبی عبد الله علیه السلام، ضعیف جدا)(4)، وقال العلامة الحلی: (عمرو بن شمر بالشین المعجمة، والراء أخیرا أبو عبد الله الجعفی، کوفی روی عن أبی عبد الله «علیه السلام» وعن جابر، وهو ضعیف جدا...فلا اعتمد علی شیء مما یرویه)(5).

وقال الرازی: (عمرو بن شمر الجعفی أبو عبد الله روی عن عمران بن مسلم والسدی وجابر الجعفی روی عنه أحمد بن یونس سمعت أبی یقول ذلک، نا عبد الرحمن نا محمد بن إبراهیم نا عمرو بن علی أن عمرو بن شمر منکر الحدیث حدث بأحادیث منکرة، نا عبد الرحمن قال قرئ علی العباس بن محمد الدوری قال سمعت


1- ضعفاء العقیلی للعقیلی ج4 ص154.
2- مستدرکات علم رجال الحدیث للشیخ علی النمازی الشاهرودی ج6 ص90.
3- شرح نهج البلاغة لابن ابی الحدید المعتزلی ج5 ص213 من اخبار یوم صفین.
4- رجال النجاشی ص287.
5- خلاصة الأقوال للعلامة الحلی ص378.

ص: 241

یحیی بن معین یقول عمرو بن شمر لیس بثقة، نا عبد الرحمن قال سألت أبی عن عمرو بن شمر فقال منکر الحدیث جدا ضعیف الحدیث لا یشتغل به ترکوه، نا عبد الرحمن قال سئل أبو زرعة عن عمرو بن شمر فقال ضعیف الحدیث)(1).

ثم لو سلمنا جدلا ان الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله کان فی معسکر أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه یوم صفین، فلا یثبت أیضا مدعی من یحاول نسبته إلی أنصار وشیعة أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه لان جیش صفین کان خلیطا من الناس المتشعبة آراؤهم المختلفة عقائدهم المتفرقة قلوبهم، فقد کان فیهم المؤمن المخلص بوده وانتمائه إلی أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وهم الأقلیة عددا، وهؤلاء قد استشهد أکثرهم دفاعا عن أمیر المؤمنین ونصرته.

ومنهم من کان یقاتل حمیة وعصبیة، من دون اعتقاد لإمامة أمیر المؤمنین أو الإیمان بأفضلیته علی من سبقوه، وهؤلاء لا یستهان بعددهم، وقد نقلت الروایات بان قسما کبیرا من جیشه صلوات الله وسلامه علیه کانوا یصلون فی رمضان صلاة التراویح التی سنها وابتدعها عمر بن الخطاب، فلما نهاهم الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه عن إتیان هذه البدعة ضجوا وتململوا حتی خاف الإمام علی جیشه من التفرق فترکهم، فقد روی الشیخ الکلینی فی الکافی: (عن سلیم بن قیس الهلالی قال: خطب أمیر المؤمنین «علیه السلام» فحمد الله وأثنی علیه ثم صلی علی النبی «صلی الله علیه وآله»، ثم قال: ألا إن أخوف ما أخاف علیکم خلتان: إتباع الهوی وطول الأمل... والله لقد أمرت الناس أن لا یجتمعوا فی شهر رمضان إلا فی فریضة وأعلمتهم أن اجتماعهم فی النوافل بدعة فتنادی بعض أهل عسکری ممن یقاتل معی: یا أهل الإسلام غیرت سنة عمر ینهانا عن الصلاة فی شهر رمضان تطوعا ولقد خفت أن


1- الجرح والتعدیل للرازی ج 6 ص 239 __ 240.

ص: 242

یثوروا فی ناحیة جانب عسکری...)(1).

وقسم ثالث قد التحق بالجیش کجاسوس ینقل إلی معاویة بن أبی سفیان أخبار الجیش وتحرکاته، کمثل الأشعث بن قیس وأمثاله، والشمر إن ثبت التحاقه بجیش صفین فهو من القسم الثانی أو الثالث یقینا، لأنه کان ولمدّة قصیرة قبل حرب صفین متواجداً فی الشام عند معاویة بن أبی سفیان، یجلس علی باب قصره الخضراء، وکان من قواده، فقد أورد الشیخ المفید فی کتابه الاختصاص روایة تکشف هذه الحقیقة فقال فی روایة طویلة نقتطع منها قدر الحاجة: (کتب معاویة بن أبی سفیان إلی علی ابن أبی طالب صلوات الله علیه: بسم الله الرحمن الرحیم أما بعد یا علی لأضربنک بشهاب قاطع لا یدکنه الریح ولا یطفئه الماء إذا اهتز وقع وإذا وقع نقب والسلام.

فلما قرأ علی علیه السلام کتابه دعا بدواة وقرطاس ثم کتب: بسم الله الرحمن الرحیم أما بعد یا معاویة فقد کذبت، أنا علی بن أبی طالب، وأنا أبو الحسن والحسین قاتل جدک وعمک وخالک وأبیک، وأنا الذی أفنیت قومک فی یوم بدر ویوم فتح ویوم أحد، وذلک السیف بیدی، تحمله ساعدی بجرأة قلبی کما خلفه النبی صلی الله علیه وآله بکف الوصی، لم أستبدل بالله ربا وبمحمد صلی الله علیه وآله نبیا وبالسیف بدلا والسلام علی من اتبع الهدی.

 ثم طوی الکتاب ودعا الطرماح بن عدی الطائی وکان رجلا مفوها طوالا، فقال له: خذ کتابی هذا فانطلق به إلی معاویة ورد جوابه، فأخذ الطرماح الکتاب ودعا بعمامة فلبسها فوق قلنسوته، ثم رکب جملا... فسار حتی نزل مدینة دمشق فسأل عن قواد معاویة، فقیل له: من ترید منهم ؟ فقال: أرید


1- الکافی للشیخ الکلینی ج8 ص58 __ 63.

ص: 243

جرولا...وأبا الأعور السلمی، وعمرو بن العاص، وشمر بن ذی الجوشن... فقیل إنهم یجتمعون عند باب الخضراء، فنزل وعقل بعیره وترکهم حتی اجتمعوا رکب إلیهم، فلما بصروا به قاموا إلیه یهزؤون به، فقال واحد منهم: یا أعرابی أعندک خبر من السماء ؟ قال: نعم جبرئیل فی السماء وملک الموت فی الهواء وعلی فی القضاء فقالوا له: یا أعرابی من أین أقبلت؟ قال: من عند التقی النقی إلی المنافق الردی، قالوا له: یا أعرابی فما تنزل إلی الأرض حتی نشاورک؟ قال: والله ما فی مشاورتکم برکة ولا مثلی یشاور أمثالکم، قالوا: یا أعرابی فإنا نکتب إلی یزید بخبرک وکان یزید یومئذ ولی عهدهم، فکتبوا إلیه: أما بعد یا یزید فقد قدم علینا من عند علی بن أبی طالب أعرابی له لسان یقول فما یمل، ویکثر فما یکل والسلام...)(1) فالروایة کما تری صریحة فی جعل الشمر بن ذی الجوشن من قواد جیش معاویة بن أبی سفیان لعنه الله.

ثم وفجأة ومن دون سابق إنذار ینتقل من الشام ومن جبهة معاویة بن أبی سفیان إلی جیش أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، ثم یتحول من جبهته إلی جبهة الخوارج الذین انقذوا معاویة بن أبی سفیان فی اللحظات الأخیرة من أن یناله السیف والقتل، کل هذا وغیره یجعلنا متیقنین بأن وجود الشمر بن ذی الجوشن فی ضمن جیش أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه فی أثناء معرکة صفین متردد بین فرضین، فأما أن یکون وجوده مکذوباً مفتعلاً لإغراض لا تخفی، وأما أن یکون قد حضر لأجل التجسس والتخریب وإشاعة الفوضی وبث الضعف والفتنة فی صفوف جیش أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، کما فعل مع مسلم بن عقیل سلام الله علیه وقد ذکر خبره.


1- الاختصاص للشیخ المفید ص139 کتاب معاویة إلی علی علیه السلام وجواب علی علیه السلام علی ید الطرماح إلیه.

ص: 244

هل کان الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله شجاعا؟

حاول البعض تضخیم شخصیة الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله لیطلق علیه بعض المدائح فعدّوه من ذوی الرئاسة تارة وتارة أخری من أصحاب الشجاعة، وتارة ثالثة من المحدثین، قال خیر الدین الزرکلی فی کتابه الأعلام: (شمر بن ذی الجوشن واسمه شرحبیل ابن قرط الضبابی الکلابی، أبو السابغة... کان فی أول أمره من ذوی الریاسة فی هوازن موصوفا بالشجاعة، وشهد یوم صفین مع علی ثم أقام فی الکوفة، یروی الحدیث)(1) وللأسف فقد أعاد بعض المفکرین الشیعة هذا القول فی کتبهم عن حسن نیة منهم، متناسین أن الشجاعة من صفات الکمال التی لا تلیق بمثل هذا الموجود الممسوخ، وان وصفه بالشجاعة شبیه بوصف الشیطان بالنبل أو الکرم.

ونحن نسأل جمیع من وصف الشمر لعنه الله بالشجاعة أو الرئاسة عن دلیلهم الذی إلیه استندوا فی زعمهم هذا، لان کتب التاریخ خالیة عن المواقف التی تکشف شجاعة هذا الموجود الممسوخ، وفی یوم عاشوراء ظهر للعالم جلیا ان هذا اللعین لم یکن یمتلک وجمیع من تحت إمرته أی لون من ألوان الشجاعة، فلم نری له نزالا واحدا مع بطل من إبطال الطف یمکن أن یستدل به علی تلک الشجاعة المزعومة، فأین هو من مقارعة العباس ابن أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه؟ وأین شجاعته یوم کان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه یکر علیهم فینهزم هو وجمیع أفراد جیشه کالجراد المنتشر أو کالغنم إذا اشتد علیها الأسد؟

ونحن وحینما تتبعنا جولات هذا اللعین وصولاته یوم عاشوراء لم نجده قد


1- الأعلام لخیر الدین الزرکلی ج3 ص175.

ص: 245

قاتل إلا ضمن فئة من أصحابه یتحصن بهم من أن یناله سیف أسد من اسود الطف، ولم یقاتل بمفرده أبدا، کما وصف القرآن الکریم المنافقین بقوله ((لَا یُقَاتِلُونَکُمْ جَمِیعًا إِلَّا فِی قُرًی مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَیْنَهُمْ شَدِیدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِیعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّی ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا یَعْقِلُونَ))(1)وکان غایة جهده أن یهجم علی خیام الحسین صلوات الله وسلامه علیه فیطعن الفسطاط، أو یدعو بالنار لیحرق الخیام علی الأطفال والنساء، أو یسرق ما کان فی معسکر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه من الذهب والإبل بعد استشهاد الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وأصحابه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وسیأتی ذکر ذلک إن شاء الله، فأین الشجاعة یا تری من کل هذا؟!

وکدلیل صریح علی عدم تمتع هذا المسخ البشری المسمی بالشمر بالشجاعة تأمل معی فی روایة الطبری التی یقول فیها: (فجعل شمر بن ذی الجوشن یحرضهم __ علی قتل الإمام الحسین __ فمر بأبی الجنوب وهو شاک فی السلاح فقال له أقدم علیه قال وما یمنعک أن تقدم علیه أنت فقال له شمر إلی تقول ذا قال وأنت لی تقول ذا فاستبا فقال له أبو الجنوب وکان شجاعا والله لهممت أن أخضخض السنان فی عینک قال فانصرف عنه شمر وقال والله لئن قدرت علی أن أضرک لأضرنک)(2) فلو کان للشمر لعنه الله رجولة أو شجاعة أو کان معروفا عند الناس بهما لما تجرأ المدعو بأبی الجنوب علیه، ولرد علیه قوله وأوقفه عند حده ولما أظهر عجزه وخنوعه وذله بقوله: (والله لئن قدرت علی أن أضرک لأضرنک) یرید به الغدر والأخذ علی حین غفلة عند أسیاده ابن مرجانة وأمثاله.


1- سورة الحشر الآیة رقم 14.
2- تاریخ الطبری ج 4 ص 344.

ص: 246

هل کتب الشمر لعنه الله کتاب أمان للعباس وإخوته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین؟

لقد أراد البعض عمدا أو جهلا ان یجعل لشمر بن ذی الجوشن لعنه الله فضلا علی أولاد الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه من السیدة أم البنین صلوات الله وسلامه علیها، فزعموا أن الشمر لعنه الله أتی لهم بکتاب أمان لکل من العباس بن علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه وأخوته الثلاثة، صادر من عبید الله بن مرجانة لعنه الله، فیما إذا تخلوا عن نصرة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، وزعموا ان اللعین جاء یوم العاشر أو قبله: (حتی وقف علی أصحاب الحسین فقال أین بنو أختنا فخرج إلیه العباس وجعفر وعثمان بنو علی فقالوا له: مالک؟ وما ترید؟ قال: أنتم یا بنی أختی آمنون قال له الفتیة لعنک الله ولعن أمانک لئن کنت خالنا أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له)(1) والراوی لهذا النص أراد أن یزوّر اعترافا علی لسان أولاد السیدة أم البنین صلوات الله وسلامه علیها بأن الشمر اللعین خالهم وذو رحم ماسة بهم.

وقال ابن کثیر: (فقام شمر بن ذی الجوشن فقال: أین بنو أختنا؟ فقام إلیه العباس وعبد الله، وجعفر وعثمان بنو علی بن أبی طالب، فقال: أنتم آمنون. فقالوا: إن أمنتنا وابن رسول الله صلی الله علیه وسلم، وإلا فلا حاجة لنا بأمانک)(2).

وحینما رجعنا إلی نسب السیدة الطاهرة أم البنین صلوات الله وسلامه علیها وجدنا بأنها لا تشترک نسبیا مع الشمر لعنه الله إلا فی الأب السابع وهو (کلاب)، فنسب السیدة أم البنین صلوات الله وسلامه علیها هو الآتی: (فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربیعة بن الوحید بن کعب بن عامر بن کلاب بن ربیعة بن عامر بن صعصعة بن معاویة بن بکر بن


1- تاریخ الطبری ج 4 ص 315
2- البدایة والنهایة لابن کثیر ج 8 ص 190.

ص: 247

هوازن)(1).

وقال الشیخ التستری قدس الله روحه: (ففی نسب قریش مصعب الزبیری: أم البنین بنت حزام بن خالد بن ربیعة بن الوحید بن کعب بن عامر بن کلاب بن ربیعة)(2).

أما والد الشمر لعنه الله فهو کما: (قال هشام بن محمد بن السائب الکلبی اسمه شرحبیل بن الأعور بن عمرو بن معاویة وهو الضباب بن کلاب بن ربیعة بن عامر بن صعصعة)(3).

أو: (ذو الجوشن... واسمه أوس بن الأعور بن عمرو بن معاویة بن کلاب یعنی ابن ربیعة بن عامر بن صعصعة وولد عمرو بن معاویة یقال لهم الضباب لأن أحد عمرو بن معاویة یقال له ضب فنسبوا إلی ذلک)(4).

فکل من السیدة أم البنین صلوات الله وسلامه علیها والشمر بن ذی الجوشن من حیین مختلفین من کلاب، ومثلهما مثل بنی هاشم وبنی أمیة فهما وان کانا یرجعان إلی عبد مناف إلا أنهما حیان منفصلان نسبا وتاریخا وموقفا، وان محاولة جعل الشمر خالا للعباس واخوته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین نظیر جعل معاویة بن أبی سفیان لعنه الله عما أو خالا للحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما.

والحقیقة ان الذی طلب کتاب الأمان من عبید الله بن زیاد لعنه الله شخص آخر غیر الشمر بن ذی الجوشن، وهو المذکور فی روایة ابن کثیر بالقول: (فاستأمن عبید الله بن أبی المحل لبنی عمته أم البنین بنت حزام من علی: وهم العباس وعبد الله


1- عمدة الطالب لابن عنبة ص 356.
2- قاموس الرجال للشیخ محمد تقی التستری ج 12 ص 195.
3- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 6 ص 46.
4- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج23 ص189.

ص: 248

وجعفر وعثمان. فکتب لهم ابن زیاد کتاب أمان وبعثه عبید الله بن أبی المحل مع مولی له یقال له کرمان، فلما بلغهم ذلک قالوا: أما أمان ابن سمیة. فلا نریده، وإنا لنرجو أمانا خیرا من أمان ابن سمیة)(1).

هل اشترک أهل الشام فی حرب عاشوراء؟

صرحت بعض المصادر التاریخیة ان الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله کان فی یوم عاشوراء قائدا لأربعة آلاف من أهل الشام، قال ابن شهر آشوب: (وجهز ابن زیاد علیه __ أی علی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه __ خمسا وثلاثین ألفا، فبعث الحر فی ألف رجل من القادسیة، وکعب بن طلحة فی ثلاثة آلاف، وعمر بن سعد فی أربعة آلاف، وشمر بن ذی الجوشن السلولی فی أربعة آلاف من أهل الشام...)(2).

وقال الشیخ الصدوق قدس الله روحه فی الأمالی: (وأقبل عدو الله سنان بن أنس الأیادی وشمر بن ذی الجوشن العامری لعنهما الله فی رجال من أهل الشام حتی وقفوا علی رأس الحسین علیه السلام، فقال بعضهم لبعض: ما تنظرون، أریحوا الرجل، فنزل سنان بن أنس الأیادی لعنه الله وأخذ بلحیة الحسین علیه السلام، وجعل یضرب بالسیف فی حلقه وهو یقول: والله إنی لأجتز رأسک وأنا أعلم أنک ابن رسول الله صلی الله علیه وآله وخیر الناس أما وأبا...)(3).

والتمعن فی هذین النصین وغیرهما من النصوص یضعان أمامنا علامة تساؤل مهمة للغایة، وهی هل اشترک أهل الشام وجنود یزید بن معاویة علیه لعنة الله فی الحرب والقتال یوم عاشوراء؟ واثبات اشتراکهم ومساهمتهم فی القتال یوم عاشوراء سیضعنا


1- البدایة والنهایة لابن کثیر ج 8 ص 190.
2- مناقب آل أبی طالب لابن شهر آشوب ج 3 ص 248.
3- الأمالی للشیخ الصدوق ص226.

ص: 249

أمام قضیة جدیدة طالما أثارها من قبل خصوم الشیعة، الذین کانوا ولا یزالون یحاولون إثبات وتأکید ان أهل العراق هم الوحیدون المسؤولون عن مواجهة وقتال الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه فی یوم عاشوراء، لیثبتوا من خلال ذلک أن الشیعة هم الذین قتلوا الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه.

واثبات ان أهل الشام کانوا ضمن المقاتلین یوم عاشوراء وبهذا الکم الهائل من الأفراد والبالغ عددهم أربعة آلاف مقاتل کما نص ابن شهر آشوب، سیقلب السحر علی الساحر، وسیثبت أن أهل الأرض کافة وأهل الإسلام خاصة قد اشترکوا فی دم الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وأهل بیته وأصحابه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وإلا فأین کان أهل المدینة عن النصرة والإمام الحسین قد خرج من بین أظهرهم، وأین کان أهل مکة وقد بقی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بینهم أیاما طویلة، وأین کان أهل البصرة وأهل مصر وأهل باقی المدن الإسلامیة، فالکل قد اختفی، والکل کان ما بین ساکت عن الحق، وما بین رافض لم یتعد رفضه شفتیه، وما بین خاذل بخل ببذل نفسه وخاف الشهادة، وما بین مقاتل ومباشر للقتال والقتل، ولیس الساکت عن النصرة بأحسن من المقاتل والمباشر، لان بسکوت الساکت تجرأ المتجرّئون علی سفک دم سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه، وبخذلان من خذل من أهل الأقطار الإسلامیة أقدم أهل العراق وأهل الشام علی الوقوف بوجهه صلوات الله وسلامه علیه.

ثم ان أهل العراق الذین واجهوا الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه لم یکونوا إلا من أهل المدینة ومکة، فعمر بن سعد بن أبی وقاص لعنهم الله لم یکن من أهل العراق أصلا، فأبوه من بنی زهرة مکی الأصل، فیکون سعد ابنه مکی الأصل نزل الکوفة، وکذلک الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله، فأبوه کما یقال صحابی کان فی المدینة أو قریباً منها، وکذلک عبید الله بن زیاد لعنه الله، وکذلک الآلاف من ذلک الجیش لعنه الله لم

ص: 250

یکونوا إلا من أهل مکة أو المدینة أو مصر أو الیمن أو الشام، فدم الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه متفرق بین کافة البلدان الإسلامیة، ولا معنی لتأکید المؤرخین علی أهل العراق عامة وأهل الکوفة خاصة.

وفیما یأتی جملة من النصوص الأخری التی تؤکد حضور واشتراک أهل الشام فی القتال یوم عاشوراء:

1: روی الشیخ الکلینی قدس الله روحه عن الإمام أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (تاسوعا یوم حوصر فیه الحسین «علیه السلام» وأصحابه رضی الله عنهم بکربلا واجتمع علیه خیل أهل الشام وأناخوا علیه وفرح ابن مرجانة وعمر بن سعد بتوافر الخیل وکثرتها واستضعفوا فیه الحسین صلوات الله علیه وأصحابه رضی الله عنهم وأیقنوا أن لا یأتی الحسین «علیه السلام» ناصر ولا یمده أهل العراق بأبی المستضعف الغریب...)(1)والحدیث صحیح وصریح فی ان خیل اهل الشام قد اجتمعت علی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه فی یوم عاشوراء.

2: قال ابن أعثم فی کتاب الفتوح: (ثم تقدم علی بن الحسین بن علی علیهما السلام وهو یقول:

أنا علی بن الحسین بن علی           ***        من عصبة جد أبیهم النبی

والله لا یحکم فینا ابن الدعی         ***        أطعنکم بالرمح حتی ینثنی

أضربکم بالسیف أحمی عن أبی   ***        ضرب غلام علوی قرشی

ثم حمل رضی الله عنه، فلم یزل یقاتل حتی ضج أهل الشام من یده ومن کثرة من قتل منهم، فرجع إلی أبیه وقد أصابته جراحات کثیرة)(2)،


1- الکافی للشیخ الکلینی ج 4 ص 147.
2- کتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الکوفی ج 5 ص 114 __ 115

ص: 251

وضجیج أهل الشام من حملات علی بن الحسین صلوات الله وسلامه علیه ومن کثرة القتل فیهم دلیل علی وجودهم وبکثافة ملحوظة، وإلا لو کانوا فئة قلیلة لما کان لضجیجهم اثر یذکر.

3: وعن ابن شهر آشوب: (ثم برز أخوه القاسم __ ابن الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه __ وعلیه ثوب وأزار ونعلان فقط وکأنه فلقة قمر وأنشأ یقول:

إنی أنا القاسم من نسل علی          ***        نحن وبیت الله أولی بالنبی

من شمر ذی الجوشن أو ابن الدعی

فقتله عمر بن سعید الأزدی فخر وصاح یا عماه، فحمل الحسین فقطع یده وسلبه أهل الشام من ید الحسین، فوقف الحسین علی رأسه وقال: عز علی عمک أن تدعوه فلا یجیبک أو یجیبک فلا تنفعک إجابته)(1) وقول الراوی (وسلبه أهل الشام من ید الحسین) دلیل آخر علی وجودهم وکثرتهم وإلا لم یستطیعوا سلبه من ید الإمام لو لم تبلغ کثرتهم مقدارا مکنهم من ذلک.

4: وأخرج القاضی النعمان المغربی قصة الشامی التی یرویها الإمام السجاد صلوات الله وسلامه علیه بنفسه حیث یقول: (فما فهمته وعقلته مع علتی وشدتها أنه أتی بی إلی عمر بن سعد. فلما رأی ما بی أعرض عنی، فبقیت مطروحا لما بی. فأتانی رجل من أهل الشام، فاحتملنی، فمضی بی وهو یبکی، وقال لی: یا بن رسول الله، إنی أخاف علیک فکن عندی. ومضی بی إلی رحله وأکرم نزلی، وکان کلما نظر إلی یبکی. فکنت أقول فی نفسی إن یکن عند أحد من هؤلاء خیر فعند هذا الرجل. فلما صرنا إلی عبید الله بن زیاد سأل عنی. فقیل: قد ترک. وطلبت، فلم أوجد. فنادی مناد: من وجد علی بن الحسین، فلیأت به، وله ثلاثمائة درهم. فدخل علی الرجل


1- مناقب آل أبی طالب لابن شهر آشوب ج 3 ص 254 __ 255.

ص: 252

الذی کنت عنده __ وهو یبکی __ وجعل یربط یدی إلی عنقی، ویقول: أخاف علی نفسی یا بن رسول الله إن سترتک عنهم أن یقتلونی. فدفعنی إلیهم مربوطا، وأخذ الثلاثمائة درهم وأنا انظر «إلیه»)(1).

هل کان الشمر لعنه الله من الخوارج؟

وجدت فی بعض البحوث والکتب المعاصرة وصفاً للشمر بن ذی الجوشن لعنه الله بأنه من الخوارج لعنة الله علیهم، کقول السید شرف الدین الموسوی قدس الله روحه فی کتابه (صلح الإمام الحسن «علیه السلام»)حیث یقول: (الخوارج: وهم أعداء علی علیه السلام منذ حادثة التحکیم، کما هم أعداء معاویة. وأقطاب هؤلاء فی الکوفة: عبد الله بن وهب الراسبی، وشبث بن ربعی، وعبد الله بن الکواء، والأشعث بن قیس، وشمر بن ذی الجوشن...)(2).

وخالد محمد خالد فی کتاب (أبناء الرسول فی کربلاء) حیث یقول: (وکان مستشار ابن زیاد لهذه الحملة الباغیة، مسخ شائه الخلق والخلق، اسمه شمر بن ذی الجوشن. رجل مدخول الإسلام، انشقت عنه الأرض بغتة فی الأیام الأولی لفتنة الخوارج الذین ناصبوا الإمام علیا العداء.. فأدلی معهم بدلوه، عاملا لحساب نفسه الخبیثة، أو لحساب قوة خفیة شریرة. ومن تلک الأیام، وهو یکید للإسلام، ویخرب فی صفوفه متخفیا وراء ذلک القناع المشبوه، قناع انتمائه للخوارج وتسلله له بمبادئهم إلی أغراضه المنکرة وأغراض القوی التی یعمل لحسابها...)(3).

وکالشیخ محمد السماوی فی کتابه (أبصار العین فی أنصار الحسین «علیه


1- شرح الأخبار للقاضی النعمان المغربی ج 3 ص 156 __ 157.
2- صلح الحسن علیه السلام للسید شرف الدین ص 70.
3- أبناء الرسول فی کربلاء لخالد محمد خالد ص 108.

ص: 253

السلام») حیث یقول: (شمر بن ذی الجوشن: بفتح الشین وکسر المیم ویجری علی الألسن ویمضی فی الشعر الحدیث کسر الشین وسکون المیم وهو خلاف المضبوط، وذو الجوشن أبوه، واسمه شراحیل بن الأعور قرط بن عمرو بن معاویة بن کلاب الکلابی الضبابی، وهو قاتل الحسین «علیه السلام» وکان أبرص خارجیا)(1).

ولکن وللأسف الشدید لم نعثر علی دلیل تاریخی متین یمکن أن یُرکن إلیه فی إثبات انتماء الشمر بن ذی الجوشن الضبابی لعنه الله لفرقة الخوارج، والنصوص المتقدمة للسید شرف الدین قدس الله روحه وغیره خالیة عن ذکر الدلیل التاریخی الذی اعتمدوه کدلیل علی انتماء الشمر لعنه الله للخوارج.

إضافة إلی أن واحدة من متبنیات الخوارج لعنهم الله الفکریة الأیدلوجیة هی تکفیر کل من أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه واهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وجمیع شیعته، وتکفیر معاویة بن أبی سفیان لعنة الله علیهما وجمیع آل أمیة وشیعتهم علیهم لعنة الله أجمعین(2)، والشمر بن ذی الجوشن لعنه الله وان کان یبغض أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وأولغ فی دمائهم الطاهرة، إلا انه کان یری الطاعة والمعاضدة والنصرة والدفاع عن آل أمیة، فعقیدة الخوارج غیر متحققة بالنسبة للشمر بن ذی الجوشن لعنه الله، نعم هو خارجی بفعله، فلو کان قدر للخوارج أن ینالوا من أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، لما کانوا لیفعلوا أکثر من الذی فعله الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله، فهو لعنة الله علیه أموی الهوی والفکر خارجی الفعل.


1- أبصار العین فی أنصار الحسین «علیه السلام» للشیخ محمد السماوی ص44 __ 45.
2- یقول محمد جعفر شمس الدین فی کتابه دراسات فی العقیدة الاسلامیة: (ذهبوا __ أی الخوارج __ علی اختلافهم إلی القول بتکفیر مرتکب الکبیرة، وخلوده فی النار. بل ذهبت بعض فرقهم، إلی تکفیر مرتکب الذنب مطلقا ، حتی ولو کان من الصغائر. کما حکموا بکفر کل ما خالفهم، وان أطفال المشرکین فی النار مع آبائهم).

ص: 254

نهایة الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله علی ید المختار الثقفی

یقول الأستاذ عباس محمود العقاد متحدثا عن ثورة المختار بن عبید الثقفی وانتقامه من قتلة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه: (ولم تنقض سنوات أربع علی یوم کربلاء حتی کان یزید قد قضی نحبه، ونجمت بالکوفة جریرة العدل التی حاقت بکل من مد یدا إلی الحسین وذویه...فسلط الله علی قاتلی الحسین کفؤا لهم فی النقمة والنکال یفل حدیدهم بحدیده ویکیل لهم بالکیل الذی یعرفونه. وهو المختار بن أبی عبیدة الثقفی داعیة التوابین من طلاب ثأر الحسین. فأهاب بأهل الکوفة أن یکفروا عن تقصیرهم فی نصرته، وأن یتعاهدوا علی الأخذ بثأره فلا یبقین من قاتلیه أحد ینعم بالحیاة، وهو دفین مذال القبر فی العراء.. فلم ینج عبید الله بن زیاد، ولا عمر بن سعد، ولا شمر بن ذی الجوشن، ولا الحصین بن نمیر، ولا خولی بن یزید، ولا أحد ممن أحصیت علیهم ضربة أو کلمة أو مدوا أیدیهم بالسلب والمهانة إلی الموتی أو الأحیاء.. وبالغ فی النقمة فقتل وأحرق ومزق وهدم الدور وتعقب الهاربین، وجوزی کل قاتل أو ضارب أو ناهب بکفاء عمله.. فقتل عبید الله وأحرق، وقتل شمر بن ذی الجوشن وألقیت أشلاؤه للکلاب، ومات مئات من رؤسائهم بهذه المثلات وألوف من جندهم وأتباعهم مغرقین فی النهر أو مطاردین إلی حیث لا وزر لهم ولا شفاعة.. فکان بلاؤهم بالمختار عدلا رحمة فیه، وما نحسب قسوة بالآثمین سلمت من اللوم أو بلغت من العذر ما بلغته قسوة المختار)(1).

وقال الشیخ الطوسی قدس الله روحه: (وطلب المختار شمر بن ذی الجوشن فهرب إلی البادیة، فسعی به إلی أبی عمرة، فخرج إلیه مع نفر من أصحابه فقاتلهم قتالا شدیدا فأثخنته الجراحة، فأخذه أبو عمرة أسیرا، وبعث به إلی المختار فضرب عنقه، وأغلی له دهنا فی قدر وقذفه فیها فتفسخ)(2) فلعنه الله ولعن من رضی بفعله إلی یوم القیامة آمین.


1- المجموعة الکاملة، العبقریات الاسلامیة لعباس محمود العقاد ج 2 ص 271 ط دار الکتاب اللبنانی.
2- الأمالی للشیخ الطوسی ص 244.

ص: 255

لَعَنَ اللهُ أُمَّةً أَسْرَجَتْ وَأَلْجَمَتْ وَتَنَقَّبَتْ وَتَهَیَّأَتْ لِقِتَالِکَ المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

1: وَلَعَنَ اللهُ

2: أُمَّةً أَسْرَجَتْ

3: وَأَلْجَمَتْ

4: وَتَنَقَّبَتْ

5: وَتَهَیَّأَتْ

6: لِقِتَالِکَ

المبحث الثالث: لماذا لعنت هذه الأصناف مع أنها لم تباشر القتال؟

القسم الأول: لو همّ المکلف بما یکون مشترکا ما بین الحلال والحرام من دون القصد إلی جهة الحرام فیه

القسم الثانی: لو همّ المکلف بما هو محرم، أو همّ بما یکون مشترکا بین الحلال والحرام مع قصده ومنذ البدایة لجهة الحرام فیه، مع عدم إتیانه بمقدمة من مقدمات ذلک الفعل

القسم الثالث: لو هم المکلف بما هو محرم، أو هم بما یکون مشترکا بین الحلال والحرام مع قصده ومنذ البدایة لجهة الحرام فیه، ومع إتیانه بمقدمة من مقدمات ذلک الفعل

ص: 256

ص: 257

وَلَعَنَ اللهُ أُمَّةً أَسْرَجَتْ وَأَلْجَمَتْ وَتَنَقَّبَتْ وَتَهَیَّأَتْ لِقِتَالِکَ

اشارة

فی هذه الفقرة الشریفة کغیرها من الفقرات مباحث مهمة نستعرضها فیما یأتی:

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

وردت الألفاظ التی فی هذه الفقرة الشریفة من الزیارة فی عدة زیارات أخری نذکر منها علی سبیل المثال ما یأتی:

ما ذکره محمد بن المشهدی قدس الله روحه فی کتاب المزار حیث روی زیارة لأبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه فی یوم عرفة لمن لم یمکنه حضور الموقف للحج وقدر علی إتیان قبره فی کربلاء جاء فیها: (السلام علیک یا أبا عبد الله، عبدک وابن عبدک، وابن أمتک، الموالی لولیک، المعادی لعدوک، استجار بمشهدک، وتقرب إلیک بقصدک...فلعن الله أمة أسرجت وألجمت وتهیأت لقتالک، یا مولای یا أبا عبد الله قصدت حرمک وأتیت مشهدک، اسأل الله بالثار الذی لک عنده، والمحل الذی لک لدیه ان یصلی

ص: 258

علی محمد وآل محمد وان یجعلنی معکم فی الدنیا والآخرة)(1).

وما ذکره السید ابن طاوس قدس الله روحه فی إقبال الأعمال حیث روی ما نصه: (إذا کنت بمشهد الحسین علیه السلام فی یوم عرفة، فاغتسل غسل الزیارة والبس أطهر ثیابک وطهر عقلک وقلبک مما یقتضی الإبعاد بعقابک و عتابک، لتکون طاهرا من الأدناس، فیصح لک أن تقف بباب طاهر من الأرجاس، واقصد مقدس حضرته وقف علی باب حرمه وکبر الله تعالی وقل: الله أکبر کبیرا والحمد لله کثیرا وسبحان الله بکرة وأصیلا... غذتک ید الرحمة ورضعت من ثدی الإیمان، وربیت فی حجر الإسلام، والنفس غیر راضیة بفراقک، ولا شاکة فی حیاتک، صلوات الله علیک وعلی آبائک وأبنائک. السلام علیک یا صریع العبرة الساکبة، وقرین المصیبة الراتبة، لعن الله أمة استحلت منک المحارم... فلعن الله أمة أسرجت وألجمت وتهیأت لقتالک)(2).

ویمکن أن یستدل علی لعنهم أیضا بالحدیث المروی عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم الذی رواه أبو هریرة قال: (نظر النبی صلی الله علیه وآله إلی علی وفاطمة والحسن والحسین فقال أنا حرب لمن حاربکم وسلم لمن سالمکم)(3) فإذا کان حربهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین کحرب رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فإن الأمة التی أسرجت وألجمت وتنقبت وتهیأت لقتالهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أو لقتال احدهم کأنها فی واقع حالها وحقیقة أمرها قد أسرجت وألجمت والتنقبت وتهیأت لقتال نفس النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ، والإسراج والإلجام و تنقب والتهیؤ لقتال النبی صلی الله علیه وآله وسلم ظلم بل کفر


1- المزار لمحمد بن المشهدی ص 462 __463.
2- إقبال الأعمال للسید ابن طاوس ج2 ص64.
3- المستدرک للحاکم النیسابوری ج 3 ص 149، قال الحاکم بعد ذکر هذا الخبر: (هذا حدیث حسن من حدیث أبی عبد الله أحمد بن حنبل عن تلید بن سلیمان فإنّی لم أجد له روایة غیرها).

ص: 259

وفساد فی الأرض بإجماع المسلمین، والظالم والکافر والمفسد یجوز لعنه بنص القرآن الکریم قال تعالی: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَی عَلَی اللَّهِ کَذِبًا أُولَئِکَ یُعْرَضُونَ عَلَی رَبِّهِمْ وَیَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِینَ کَذَبُوا عَلَی رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَی الظَّالِمِینَ))(1)، وقال تعالی: ((فَهَلْ عَسَیْتُمْ إِنْ تَوَلَّیْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَکُمْ (22) أُولَئِکَ الَّذِینَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَی أَبْصَارَهُمْ))(2)، وقال تعالی: ((الَّذِینَ کَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ کُفَّارٌ أُولَئِکَ عَلَیْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِکَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِینَ))(3).

ویمکن الاستدلال علی جواز وصحة لعنهم بأن فی الإسراج والإلجام والتنقب والتهیؤ لقتال ذریة النبی صلی الله علیه وآله وسلم وعترته واعز الناس وأحبهم إلیه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، أذیً یقینیاً لشخص الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ، للحدیث المروی عنه صلی الله علیه وآله وسلم والذی یقول فیه: (ما بال أقوام یؤذون رحمی، ألا من أذی نسبی فقد آذانی، ومن آذانی فقد آذی الله)(4)، وإدخال الأذی علی شخص الرسول الأکرم محرم بنص الکتاب العزیز ویستحق صاحبه الدخول فی زمرة الملعونین کما قال تعالی: ((إِنَّ الَّذِینَ یُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِی الدُّنْیَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِینًا))(5).

ویمکن أیضا الاستدلال علی صحة وجواز لعنهم بأن فی الإسراج والإلجام وغیرها من الأفعال المشینة التی صدرت من هذه الأمة أذیً یقینیاً لأفراد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عامة وشخص الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه علی وجه الخصوص،


1- سورة هود الآیة رقم 18.
2- سورة محمد الآیة رقم 22__ 23.
3- سورة البقرة الآیة رقم 161.
4- نظم درر السمطین للزرندی الحنفی ص233.
5- سورة الأحزاب الآیة رقم 57.

ص: 260

وهو وإیاهم من المؤمنین بل من سادات المؤمنین وقادة المسلمین، وأذاهم محرم بنص کتاب الله وسنة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم قال تعالی: ((وَالَّذِینَ یُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِینَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَیْرِ مَا اکْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِینًا))(1).

وکذلک یجوز لعنهم لانتفاء الإیمان عنهم ودخولهم فی زمرة الکافرین أو المنافقین أو النواصب وکل هؤلاء یجوز لعنهم، وأما دلیل انتفاء الإیمان عنهم فلقول النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم: (لا یؤمن عبد حتی أکون أحب إلیه من نفسه، وتکون عترتی أحب إلیه من عترته، ویکون أهلی أحب إلیه من أهله، ویکون ذاتی أحب إلیه من ذاته)(2)ومحبة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وأهل بیته وعترته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لا تتوافق بل وتتناقض مع الإسراج والإلجام والتنقب والتهیؤ لقتالهم، فتنتفی هذه المحبة حینئذ وإذا انتفت المحبة انتفی أصل الإیمان واستوجب فاعله الخلود فی النار(3).

وهم ملعونون أیضا بأدلة کررناها فیما سبق فلیرجع إلیها من یرید التفصیل. 


1- سورة الأحزاب الآیة رقم 58.
2- نظم درر السمطین للزرندی الحنفی ص233.
3- وقد قال ابن حبان فی (صحیح ابن حبان ج 15 ص 433 __ 435) (بأن محبة المصطفی صلی الله علیه وسلم مقرونة بمحبة فاطمة والحسن والحسین وکذلک بغضه ببغضهم أخبرنا الحسن بن سفیان حدثنا أبو بکر بن أبی شیبة حدثنا مالک بن إسماعیل عن أسباط بن نصر عن السدی عن صبیح مولی أم سلمة عن زید بن أرقم أن النبی صلی الله علیه وسلم قال لفاطمة والحسن والحسین أنا حرب لمن حاربکم وسلم لمن سالمکم ذکر إیجاب الخلود فی النار لمبغض أهل بیت المصطفی صلی الله علیه وسلم أخبرنا الحسین بن عبد الله بن یزید القطان بالرقة قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا أسد بن موسی قال حدثنا سلیم بن حیان عن أبی المتوکل الناجی عن أبی سعید الخدری قال: قال رسول الله صلی الله علیه وسلم والذی نفسی بیده لا یبغضنا أهل البیت رجل إلا أدخله الله النار).

ص: 261

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

1: وَلَعَنَ اللهُ

الواو هنا عاطفة، وباقی الجملة قد مر توضیحه مرارا فی فقرات سابقة یرجع إلیها من أراد التفصیل.

2: أُمَّةً أَسْرَجَتْ

ذکرنا فی شرح فقرة (فَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً أَسَّسَتْ أَسَاسَ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ عَلَیْکُمْ أَهْلَ الْبَیْتِ) من هذه الزیارة الشریفة، ان هنالک عدة معانٍ قد وردت فی کتب اللغة والمعاجم لکلمة أمة منها:

أ: هی الجماعة من الناس(1)، وقد تکون هذه الجماعة قلیلة، وقد تکون کبیرة عظیمة.

ب: وقد تطلق علی الشخص المفرد الذی یدین بدین ما لوحده(2).

ج: وقد تطلق علی الطریقة والدین(3).

د:وقد تطلق علی القدوة والإمام(4). وقد یکون هذا القدوة والإمام فرداً واحداً وقد یکونوا جماعة، وهذا هو الفارق بین هذا المعنی والمعنی الثانی.

ه_: وقد تطلق علی الحین والزمان(5).


1- مجمع البحرین ج1 ص106.
2- لسان العرب لابن منظور ج12 ص27.
3- الصحاح للجوهری ج5 ص1864.
4- معجم مقاییس اللغة ج1 ص27.
5- لسان العرب لابن منظور ج12 ص27.

ص: 262

والذی یتناسب مع فقرة (وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً أَسْرَجَتْ وَأَلْجَمَتْ وَتَنَقَّبَتْ وَتَهَیَّأَتْ لِقِتَالِکَ) هو المعنی الأول والرابع، فعلی المعنی الأول یصبح معنی الفقرة الشریفة من الزیارة هو (ولعن الله الجماعة التی أسرجت وألجمت و... لقتالک)، وعلی المعنی الرابع (ولعن الله أول من أسرج وألجم وتنقب وتهیأ لقتالک وکان قدوة لغیره فی هذه الأوصاف وإماما لغیره حیث أسرجوا حینما أسرج وألجموا حینما ألجم وتنقبوا حینما تنقب وتهیّأوا حینما تهیأ لقتالک) وباقی المعانی لکلمة الأمة قابلة للانطباق أیضا بتقریب قد مر ذکر تطبیقاته فی فقرة (فَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً أَسَّسَتْ أَسَاسَ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ عَلَیْکُمْ أَهْلَ الْبَیْتِ).

و(أَسْرَجَتْ) مأخوذة من إسراج الدابة، ویکون بوضع الرحل أو السرج الذی یجلس علیه الفارس علی ظهرها، قال ابن منظور: (سرج: السرج: رحل الدابة، معروف، والجمع سروج. وأسرجها إسراجا: وضع علیها السرج)(1)، وقال الزبیدی فی تاج العروس: (والسرج: رحل الدابة، معروف...والجمع سروج. وهو عربی...وأسرجتها: شددت علیها السرج فهی مسرج)(2).

وقد یراد من الإسراج هنا المعنی المجازی وهو الزینة أو تحسین صورة الشیء، وهو کقول القائل (الشمس سراج النهار، والهدی سراج المؤمنین. وسرج الله وجهه وبهجه أی حسنه)(3) فیکون المعنی (ولعن الله امة زینت فی أعین الناس وحسنت قتالک فتجرؤوا علی ارتکابه بعد ان کان عند الله سبحانه وتعالی وعند المسلمین عظیما).


1- لسان العرب لابن منظور ج 2 ص 297.
2- تاج العروس للزبیدی ج3 ص402.
3- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 6 ص 53.

ص: 263

3: وَأَلْجَمَتْ

الواو هنا عاطفة والجملة بالأصل هی (وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً َأَلْجَمَتْ لِقِتَالِکَ)، و(أَلْجَمَتْ) مأخوذة من الإلجام ویکون بوضع اللجام فی فم الدابة لیسهل علی الراکب قیادتها وتوجیهها حیثما یرید، واللجام کما جاء فی کتب المعاجم واللغة: (هی الحدیدة فی فم الفرس، ثم کثر فی کلامهم حتی سموا اللجام بسیوره وآلته لجاما، ففیه الشکیمة وهی الحدیدة المعترضة فی الفم، والفأس وهی الحدیدة القائمة فی الفم، والمسحل وهی حدیدة تحت الحنک، والخطافان وهما حدیدتان معوجتان فی المسحل، والشکیمة من عن یمین وشمال، والفراشتان، وهما حدیدتان تشد بهما أطراف العذارین، والحکمة وهی حلقة تحیط بالمرسن، والحنک من فضة أو حدید(1).

4: وَتَنَقَّبَتْ

الواو عاطفة والجملة بالأصل هی (وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً تَنَقَّبَتْ لِقِتَالِکَ)، و(تَنَقَّبَتْ) قد ورد فی معناها عدة آراء نختار منها ما نراه محتملا ومتسقا مع أجواء الزیارة:

ألف: یحتمل أنها مأخوذة من النقاب الذی تلبسه المرأة لتستر به وجهها، قال الفراهیدی فی کتابه العین: (والنقاب: ما انتقبت به المرأة علی محجرها)(2).

وقال الشیخ الطریحی فی مجمع البحرین: (ونقاب المرأة بالکسر، والجمع نقب ککتاب وکتب. وانتقبت وتنقبت: غطت وجهها بالنقاب)(3).

وقال محمد قلعجی فی معجم لغة الفقهاء: (النقاب:... ستر الوجه کله وظهور


1- تاج العروس للزبیدی: ج17، ص638.
2- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 5 ص 180.
3- مجمع البحرین للشیخ الطریحی ج 4 ص 358.

ص: 264

محجر العین)(1)

والظاهر ان العرب وربما غیرهم کان متعارفا عندهم تغطیة الوجه وترک العینین مکشوفتین عند الحرب، فالتستر بهذه الطریقة لضمان الحیلولة دون کشف هویتهم الحقیقیة للطرف الخصم، حتی لا یُکمن لهم ویُغدر بهم علی غفلة، أو لحمایة مجاریهم التنفسیة من أن یدخل فیها الغبار الکثیف المتطایر من اثر حرکة الأرجل أو حرکة الخیول فی ساحة المعرکة، فیتسبب فی إعاقة قدراتهم القتالیة، وقد تنبه العلامة المجلسی قدس الله روحه إلی هذا الأمر فقال فی کتابه بحار الأنوار: (وتنقبت: لعله کان النقاب بینهم متعارفا عند الذهاب إلی الحرب، بل إلی مطلق الأسفار حذرا من أعدائهم لئلا یعرفوهم فهذا إشارة إلی ذلک)(2) فیصبح معنی العبارة وفقا لهذا التفسیر هو(ولعن الله امة سترت وجوهها وخاضت غمار الحرب وزحفت لقتالک).

باء: ولعل (تَنَقَّبَتْ) هو ترأست من الرئاسة والتسلط، وتکون مأخوذة من (نقب فلان علی بنی فلان فهو ینقب نقبا، فإذا أرید أنه لم یکن نقیبا فصار نقیبا، قیل: قد نقب فهو ینقب نقابة)(3)، وقد ادعی القرطبی فی تفسیره ان هنالک إجماعاً علی أن معنی النقیب هو: (کبیر القوم، القائم بأمورهم الذی ینقب عنها وعن مصالحهم فیها)(4)، أما الشیخ الطوسی قدس الله روحه فصرح بان: (نقیب القوم: کالکفیل والضمین، ینقب عن الأسرار، ومکنون الإضمار)(5).


1- معجم لغة الفقهاء لمحمد قلعجی ص 486.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج 98 ص 301 __ 302.
3- جامع البیان لابن جریر الطبری ج 6 ص 203.
4- تفسیر القرطبی ج 6 ص 112.
5- تفسیر مجمع البیان للشیخ الطبرسی ج 3 ص 294.

ص: 265

ولا شک فی ان فقرة (وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً تَنَقَّبَتْ لِقِتَالِکَ) لو فسرناها بهذا المعنی فستکون ناظرة إلی من تولی النقابة وکفل وضمن لابن زیاد علیه لعائن الله أو یزید بن معاویة علیهما لعائن الله مشارکته ومشارکة قومه بقتال الإمام الحسین علیه السلام وحربه.

وذلک لان الجمهور الأعظم من الناس فی ذلک الوقت کانوا تبعا لساداتهم ورؤسائهم وکبرائهم، فإذا ما شارک احد هؤلاء السادة والکبراء بأمر أو عزم علی فعل اتّبعه الذین هم تحت یدیه اتباعا لا یسأل عن سبب ولا هم یعاتبون.

وابن مرجانة لعنه الله حینما جاء إلی الکوفة بأمر من یزید بن معاویة لعنة الله علیهما استغوی واستدرج واشتری ذمم هؤلاء الکبراء والنقباء لعلمه القاطع ان هؤلاء الأرجاس لو تم شراء ذممهم لتم له السیطرة علی من هم تحت أیدیهم من أفراد قبائلهم.

ومن أمعن النظر حول الترکیبة الاجتماعیة لمجتمع الکوفة وغیره فی ذلک الوقت یجد أنّ الدولة حتی یمکن لها أن تسیطر علی عامة الناس قسمتهم إلی أرباع وجعلت علی کل ربع نقیبا أو رئیسا، فکانت تبلغ أوامرها ونواهیها لهذا الرئیس وهو بدوره ینقلها إلی من تحت یدیه من الناس، وقد تعارفت تسمیتهم تاریخیا باسم (رؤساء الأرباع) وعمر بن سعد وابن مرجانة علیه لعنة الله حینما أرادا تسییر الناس وتجهیزهم لقتال الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، جعلوا الجیش أربعة أقسام علی عدد أرباع أهل الکوفة، فعن الطبری فی تاریخه قال: (لما خرج عمر بن سعد بالناس کان علی ربع أهل المدینة یومئذ عبد الله بن زهیر بن سلیم الأزدی وعلی ربع مذحج وأسد عبد الرحمن بن أبی سبرة الحنفی وعلی ربع ربیعة وکندة قیس بن الأشعث بن قیس وعلی ربع تمیم وهمدان الحر بن یزید الریاحی فشهد هؤلاء کلهم مقتل الحسین إلا

ص: 266

الحر بن یزید فإنه عدل إلی الحسین وقتل معه)(1)، فتکون عبارة الزیارة الشریفة لو فسرناها بهذا المعنی ناظرة إلی لعن هؤلاء الرؤوس الضالة الذین اشترکوا فصاروا سببا لمشارکة من تحت أیدیهم، وقاتلوا فقاتل من هو تحت وصایتهم، فلعنهم الله جمیعا ولعن رؤوس أرباعهم إلا الحر بن یزید الریاحی رضوان الله تعالی علیه، لتوبته وقتاله ودفاعه واستشهاده بین یدی مولاه الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه.

جیم: ولعل (تَنَقَّبَتْ) مأخوذة من التنقیب والبحث والتفتیش عن الأخبار والأحوال، قال ابن منظور فی لسان العرب: (نقب عن الأخبار: أخبر بها. وفی الحدیث: إنی لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس أی أفتش وأکشف)(2).

وعبارة الزیارة الشریفة لو فسرناها بهذا المعنی فستکون شاملة لمن کان یمارس دور التجسس وکشف الأسرار والتفتیش عن کل ما ینفع السلطة الغاشمة ویشدد الخناق علی الثورة الحسینیة وقیادتها، وهؤلاء کانوا من الکثرة بمکان، فالسلطة الأمویة وضعت العیون والرصد منذ الیوم الأول لخروج الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه من المدینة حتی آخر لحظة من لحظات عمره الشریف، یعدون علیه کل صغیرة وکبیرة، ویسجلون من یتصل به، ومن یتعاون معه، ومن یقدم له المساعدة، ومن یدعو لنصرته، فی الکوفة وخارجها، ومن ینوی الالتحاق به والخروج إلیه، وغیر ذلک، فالجواسیس کما عرفنا فی شرح العبارات السابقة من الزیارة هم الذین کتبوا إلی یزید بن معاویة علیهما لعنة الله بأمر مسلم بن عقیل علیه السلام، وهم الذین حذروه من مغبة انقیاد الکوفة إلیه، وخروجها عن أیدی السلطة


1- تاریخ الطبری ج 4 ص 320 __ 321 أحداث سنة إحدی وستین ذکر أسماء من قتل من بنی هاشم مع الحسین علیه السلام وعدد من قتل من کل قبیلة من القبائل التی قاتلته.
2- لسان العرب لابن منظور ج 1 ص 769.

ص: 267

الأمویة، والجواسیس هم الذین فشوا لابن مرجانة لعنه الله مکان ومحل اختفاء مسلم ابن عقیل علیه السلام فاعتقل هو وهانی بن عروة رضوان الله تعالی علیهما وقتلا أبشع قتلة، والجواسیس هم الذین خذلوا الناس عن نصرة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وخوفوهم جیش الشام وبثوا الرعب والخوف فی قلوبهم حتی أرجعوهم علی الأعقاب، والجواسیس هم الذین أوصلوا کل صغیرة وکبیرة إلی ابن مرجانة بخصوص مسیر الإمام الحسین ومن معه وکم عددهم ومن لحق به من أهل الکوفة وأخبار الواقعة لحظة بلحظة إلی آخر رمق للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، والجواسیس هم الذین استمروا بنقل أخبار عمر بن سعد لعنه الله ومدی انقیاده والتزامه بتنفیذ الأوامر الموجهة إلیه، وغیر ذلک من آلاف الموبقات التی ارتکبها هذا الصنف الحقیر المأجور، الذی لعب دورا هاما فی إدارة کفة الصراع ضد الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ونهضته المبارکة.

دال: ولعل معنی (تَنَقَّبَتْ) هو أخذت طرق الأرض وفجاجها ومنعت الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه من المسیر والنجاة بنفسه وبأهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وتکون مأخوذة من النقب (بفتح النون والقاف بعدها...قال ابن وهب المراد بها المداخل وقیل الأبواب وأصل النقب الطریق بین الجبلین وقیل الانقاب الطرق التی یسلکها الناس ومنه قوله تعالی فنقبوا فی البلاد)(1).

أو هی: (مداخل المدینة أبوابها وفوهات طرقها)(2)، و (قیل: هی أبوابها وفوهات طرقها التی یدخل إلیها منها)(3).


1- فتح الباری لابن حجر ج 4 ص 82.
2- مقدمة فتح الباری لابن حجر ص 193.
3- عمدة القاری للعینی ج 10 ص 243.

ص: 268

وقد تبین فی بحوث سابقة ان یزید بن معاویة وابن مرجانة لعنه الله أمرا أن یحال بین الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وبین ان یدخل ارض الکوفة، فأرسلا إلیه الحر بن یزید الریاحی وأمراه ان یجعجع بالإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیهویسوقه إلی ارض مقفرة وان ینزله علی غیر ماء ولا سواد من الناس، تمهیدا لشن الهجوم الحاسم واستئصاله واهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وأمرا بعد ذلک ان یسیر إلیه عمر بن سعد لعنه الله بأربعة آلاف محارب، وألحقوه أربعة آلاف أخری بإمرة شمر بن ذی الجوشن الضبابی لعنه الله، وبقیت العسکر تتوافر علیه بخیلها وسلاحها، وتسد منافذ الأمل فی وجهه ووجه أصحابه وأهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، حتی توسطوه وأحاطوا به من کل حدب وصوب، فصار لا أمل له بان ینفذ إلی الخارج، ولا یستطیع احد ممن یرید نصرته الوصول إلیه والقصد نحوه، وأمر ابن مرجانة لعنه الله بنصب المسالح وهی أشبه بفرق الموت فی عصرنا الحاضر، علی أبواب الکوفة وفی طرقاتها وعلی الطرق المؤدیة منها والیها، لا یجدون أحداً تخلف عن الجیش الباغی، أو قصد نحو الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه لنصرته إلا أخذوه وقتلوه، فتکون هذه الفقرة الشریفة من الزیارة ناظرة إلی کل من حال دون وصوله إلی مأمنه، والنجاة بنفسه وأهل بیته وأصحابه، واخذ دونه الأبواب والطرق والمسالک لعنهم الله جمیعا بما جنوه واقترفوه.

هذه أهم الوجوه لعبارة (تَنَقَّبَتْ) وقد ترکنا وجوها أخری لعدم أهمیتها أو لدخولها تحت احد الوجوه التی ذکرناها آنفا.

5: وَتَهَیَّأَتْ

الواو هنا عاطفة وما بعدها معطوف علی ما سبق، والعبارة بالأصل هی: (وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً تَهَیَّأَتْ لِقِتَالِکَ)، ویمکن لنا ان نتصور للفظ عدة معانٍ محتملة منها:

ص: 269

ألف: قد یکون معنی (تَهَیَّأَتْ) هو الاستعداد أو الإعداد لمقدمات الفعل التی لولاها لما تم، قال الفراهیدی: (والعدة: ما یعد لأمر یحدث فیدخر له. وأعددت الشیء: هیأته)(1). وقد عرف الإعداد فی الاصطلاح بأنه: (ما یلزم من مجموع وجوده وعدمه الوجود)(2).

باء: وقد یکون لفظ (تَهَیَّأَتْ) مأخوذاً من التجهیز، إذ إن واحدة من معانی التجهیز هو التهیؤ، قال محمد قلعجی فی معجم لغة الفقهاء: (التجهیز: التهیؤ لأمر ما...ومنه تجهیز المجاهد: تهیئته للحرب بتدریبه وتزویده بالکراع والسلاح، وتجهیز المیت: تهیئته للدفن بتغسیله وتکفینه)(3).

ولو أخذنا التهیؤ بمعنی إعداد مقدمات الفعل أو التجهیز لأمر ما، فستکون العبارات السابقة واقصد بها عبارات (أَسْرَجَتْ وَأَلْجَمَتْ وَتَنَقَّبَتْ) من مصادیق التهیؤ، ویکون التهیؤ معنی عاماً شاملاً لکل هذه المصادیق.

جیم: وقد یکون بمعنی استتباب الأمر، قال الفراهیدی: (واستتب له الأمر أی تهیأ)(4).

ولا یخفی ان کلا من المعنیین الأخیرین یرجعان إلی المعنی الأول؛ لان التجهیز هو عین الإعداد، والاختلاف بینهما لفظی لا غیر، واستتباب الأمر کذلک لان الاستتباب لا یکون ما لم تکتمل جمیع مقدمات الفعل وإعداداته. فیکون معنی عبارة الزیارة الشریفة وفقا للمعانی السابقة هو: (ولعن الله امة استعدت وأعدت


1- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 1 ص 79.
2- تقریرات آیة الله المجدد الشیرازی للمولی علی الروزدری ج2 ص231.
3- معجم لغة الفقهاء لمحمد قلعجی ص122.
4- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 8 ص 111.

ص: 270

المقدمات التی أدت لقتالک، فجهزت العدة والعدد وسائر الأسباب الأخری حتی استتب لها أمر قتالک).

دال: وقد یکون لفظ (تَهَیَّأَتْ) مأخوذاً من معنی تشوقت، قال ابن منظور فی لسان العرب: (وهاء إلی الأمر یهاء هیئة: اشتاق)(1) فیکون معنی الفقرة الشریفة من الزیارة هو: (ولعن الله امة اشتاقت لقتالک).

6: لِقِتَالِکَ

الظاهر ان اللام(2) فی لفظ (لِقِتَالِکَ) قد جاءت هنا بمعنی (التعلیل) مثلها مثل قول القائل (زرتک لشرفک) أی ان شرفک وعلو منزلتک هو علة زیارتی لک، فیکون معنی الفقرة الشریفة من الزیارة هو: (ان قتالک هو العلة والسبب الذی من اجله تنقبت هذه الأمة وأسرجت وألجمت وتهیأت فاستحقوا اللعن من الله والعذاب الألیم).

وقد جزم البعض بأن (معنی اللام فی الأصل، هو الاختصاص. وهو معنی لا یفارقها، وقد یصحبه معانٍ أخر، وإذا تؤملت سائر المعانی المذکورة وجدت راجعة إلی الاختصاص. وأنواع الاختصاص متعددة، ألا تری ان من معانیها المشهورة التعلیل، قال بعضهم: وهو راجع إلی معنی الاختصاص، لأنک إذا قلت جئتک للإکرام دلت اللام علی ان مجیئک مختص بالإکرام. إذ کان الإکرام سببه، دون غیره)(3)، فیصبح معنی هذه الفقرة الشریفة من الزیارة فیما لو أخذنا اللام فیها بمعنی


1- لسان العرب لابن منظور ج 1 ص 189.
2- قال الحسن بن قاسم المرادی فی کتابه الجنی الدانی فی حروف المعانی ص95: (اللام حرف کثیر المعانی والأقسام. وقد افرد لها بعضهم تصنیفا، وذکر لها نحوا من أربعین معنی...).
3- الجنی الدانی فی حروف المعانی ص109.

ص: 271

الاختصاص هو: (ان الإسراج والإلجام والتنقب والتهیؤ من هذه الأمة الملعونة مختص بقتالک، إذ کان القتال سببه دون غیره).

واما (الکاف) فی (لِقِتَالِکَ) فضمیر متصل یشیر إلی شخص الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، أما لماذا خصت الزیارة الشریفة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بقولها (لقتالک) ولم تقل (لقتالکم) بحیث یشمل الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وبقیة أفراد أهل بیته وإخوته وأصحابه رضوان الله تعالی علیهم اجمعین، فلان المقصود الرئیس والأساس من ذلک الإعداد والتحشید لذلک الجیش الجرار الذی شکله یزید بن معاویة وابن مرجانة وعمر بن سعد لعنهم الله هو القضاء علی شخص الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، دون غیره، ومن تبقی من أهل بیته وأولاده وأصحابه مطلوب من قبلهم بالتبع، وإنما جری علیهم ما جری بسبب نصرتهم له ووقوفهم فی صفه، وللإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه لیلة عاشوراء تصریح مهم یوضح هذه الحقیقة وأبعادها، قال الشیخ الصدوق قدس الله روحه: (فلما وصل الکتاب إلی عمر بن سعد «لعنه الله»، أمر منادیه فنادی: إنا قد أجلنا حسینا وأصحابه یومهم ولیلتهم، فشق ذلک علی الحسین «علیه السلام» وعلی أصحابه، فقام الحسین «علیه السلام» فی أصحابه خطیبا، فقال: اللهم إنی لا أعرف أهل بیت أبر ولا أزکی ولا أطهر من أهل بیتی، ولا أصحابا هم خیر من أصحابی، وقد نزل بی ما قد ترون، وأنتم فی حل من بیعتی، لیست لی فی أعناقکم بیعة، ولا لی علیکم ذمة، وهذا اللیل قد غشیکم فاتخذوه جملا، وتفرقوا فی سواده، فإن القوم إنما یطلبوننی، ولو ظفروا بی لذهلوا عن طلب غیری)(1).


1- الأمالی للشیخ الصدوق ص 220.

ص: 272

وقال الطبری: (فلما کان اللیل قال هذا اللیل قد غشیکم فاتخذوه جملا ثم لیأخذ کل رجل منکم بید رجل من أهل بیتی ثم تفرقوا فی سوادکم ومدائنکم حتی یفرج الله فإن القوم إنما یطلبونی ولو قد أصابونی لهوا عن طلب غیری فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخیه وابنا عبد الله بن جعفر لم نفعل؟ لنبقی بعدک؟ لا أرانا الله ذلک أبدا بدأهم بهذا القول العباس بن علی)(1) وفی هذین النصین دلالة واضحة علی ان القوم کانوا یقصدون بالأساس قتل الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه لکنهم لما تیقنوا بأنهم لن یصلوا إلیه إلا بقتل أهل بیته وأصحابه وأولاده بدأوا بهم فاستأصلوهم رضوان الله تعالی علیهم اجمعین.

وأما (قِتَال) وهو بکسر القاف مصدر قاتل، وقد أوردنا فی عبارة سابقة من عبارات الزیارة ان له معانی متعددة منها:

ألف: قال محمد القلعجی: (القتال بکسر القاف مصدر قاتل، ویقصد به الحرب والمدافعة بالسلاح)(2) سواء أدت هذه المدافعة إلی القتل وإزهاق النفس أو لم تؤدی، وذلک لان القتال أعم من القتل قال ابن منظور فی لسان العرب: (ولیس کل قتال بمعنی القتل)(3).

باء: وقد یأتی القتال بمعنی القتل، واللعن، والإبعاد(4)، أو بمعنی إنزالهم منزلة المقتول الهالک لا یعتد بوجودهم ولا یؤخذ بقولهم. 


1- تاریخ الطبری ج 4 ص 317 __ 318.
2- معجم لغة الفقهاء لمحمد القلعجی ص357.
3- لسان العرب لابن منظور ج11 ص549، تاج العروس للزبیدی ج15 ص609، النهایة فی غریب الحدیث لابن الأثیر ج4 ص13.
4- المصدر السابق.

ص: 273

المبحث الثالث: لماذا لعنت هذه الأصناف مع أنها لم تباشر القتال؟

اشارة

الذی یظهر من المعنی اللغوی السابق ان هذه الأصناف الأربعة وأقصد بهم کل من أسرج وألجم وتنقب وتهیأ لم یشترکوا فی القتال أصلا، أو أنهم اشترکوا ولم یباشروه، إذ لو کانوا قاتلوا وباشروا الحرب لما صح إطلاق وصف (تهیأت) علیهم لان المباشر للقتال لا یقال عنه متهیئ ألبتة، وکذلک من قاتل وسفک الدم لا یعیر أو یعاب علیه بأنه قد أسرج وألجم وتنقب، لان سفکه للدم الحرام أعظم من إسراجه وإلجامه وتنقبه، إذن فهذه الفقرة الشریفة من الزیارة تتحدث عن فئة من الأمة لم تشارک فی القتال أو أنها شارکت ولکنها لم تباشر ذلک بنفسها، والسؤال الذی یطرح نفسه هنا هو: لماذا لعنت هذه الأصناف بالرغم من عدم مشارکتها أو مشارکتها وعدم مباشرتها للقتال والقتل؟ مع ان النصوص الشریفة من العامة والخاصة تصرح بأن من هم بسیئة ولم یعملها لم تکتب علیه ولا یحاسب علیها.

ومن هذه النصوص ما عن الکافی عن ابن بکیر، عن أبی عبد الله أو عن أبی جعفر (علیهما السلام) قال: (إن آدم (علیه السلام) قال: یا رب سلطت علی الشیطان وأجریته منی مجری الدم فاجعل لی شیئا، فقال: یا آدم جعلت لک أن من همّ من ذریتک بسیئة لم تکتب علیه، فإن عملها کتبت علیه سیئة ومن همَّ منهم بحسنة فإن لم یعملها کتبت له حسنة فإن هو عملها کتبت له عشرا)(1).

وقد عد الشیخ الصدوق ذلک من جملة اعتقادات الإمامیة فقال قدس الله روحه: (اعتقادنا فی ذلک أنه ما من عبد إلا وله ملکان موکلان به یکتبان علیه جمیع أعماله. ومن همّ بحسنة ولم یعملها کتب له حسنة، فإن عملها کتب له عشر حسنات، وإن همّ بسیئة لم تکتب علیه حتی یعملها، فإن عملها کتب علیه سیئة واحدة. والملکان


1- الکافی للکلینی ج 2 ص 440 باب فیما أعطی الله عز وجل آدم علیه السلام وقت التوبة الحدیث رقم1.

ص: 274

یکتبان علی العبد کل شیء حتی النفخ فی الرماد)(1).

ومن طرق العامة ما أخرجه جلال الدین السیوطی فی الدر المنثور عن کل من: (ابن أبی شیبة وعبد بن حمید وابن جریر وابن المنذر وابن أبی حاتم عن ابن مسعود قال من همّ بسیئة لم تکتب علیه حتی یعملها)(2).

والجواب عن هذه الشبهة یکمن فی فهم أقسام الهمّ بالسیئة، والفرق ما بین الهمّ الذی تحدثت عنه الأحادیث السابقة وبین التهیؤ والتنقب الذی تحدثت عنه الفقرة الشریفة من الزیارة، ومن هذه الأقسام ما یأتی:

القسم الأول: لو همّ المکلف بما یکون مشترکا ما بین الحلال والحرام من دون القصد إلی جهة الحرام فیه

کمن هم بشراء سیف من شأنه الاستعمال فی الجهاد أو قتل النفس المحترمة، أو بنی سطحا أو منارة تصلح للأذان ولإلقاء مؤمن من علیها، مع عدم قصده للقتل والإلقاء، إلی غیر ذلک مما لا یحصی، ولا خلاف بین المسلمین ان همّاً نفسانیّاً کهذا لا یعاقب علیه المکلف، ولا یذم ولا یعد قبیحا.

القسم الثانی: لو همّ المکلف بما هو محرم، أو همّ بما یکون مشترکا بین الحلال والحرام مع قصده ومنذ البدایة لجهة الحرام فیه، مع عدم إتیانه بمقدمة من مقدمات ذلک الفعل

 کمن هم بالزنا ولم یفعل، أو کمن هم بشراء سیف لیقتل مؤمنا لکنه لم یحرک عضلاته لشرائه، أو هم بشراء سلم لیصعد علیه لسرقة دار احد جیرانه لکنه لم


1- الاعتقادات فی دین الإمامیة للشیخ الصدوق ص 68 باب الاعتقاد فیما یکتب علی العبد.
2- الدر المنثور لجلال الدین السیوطی ج 4 ص 352

ص: 275

یفعل، أو هم بشراء عنب لیعمله خمرا ولکنه لم یفعل، إلی غیر ذلک من الأمثلة الکثیرة، وهذا القسم وان کان قبیحا عقلا وشرعا إلا ان الله سبحانه تفضل علی عباده بأن لم یؤاخذهم علی ما همّوا به ولم یعملوه، وهذا القسم هو الذی تحدثت عنه روایات من همّ بسیئة ولم یعملها والتی سبق ذکر بعض منها.

وربما فصل البعض أکثر فقال: (إن الذی فی النفس علی قسمین؛ وسوسة وعزائم، فالوسوسة: هی حدیث النفس وهو المتجاوز عنه فقط، وأما العزائم: فکلها مکلف بها، وأما قوله لم یکتب علیه فعائد إلی المفهوم به لا علی العزائم إذ مالا یفعل لا یکتب وأما العزم فمکلف به لقوله یحاسبکم به الله)(1).

وربما قسم البعض الآخر الخواطر وما یهم به الإنسان إلی قسمین؛ الأول ما یوطن الإنسان نفسه علی إتیانه وهو غیر معفو عنه، والثانی ما لم یوطن الإنسان نفسه علیه وهو المعفو، قال (القاضی أبو بکر بن الطیب: إن الإنسان یؤاخذ بما وطن علیه بضمیره، وعزم علیه بقلبه من المعصیة)(2)وقال القرطبی بعد ذکره لکلام القاضی أبی بکر بن الطیب ما نصه: (وهذا الذی صار إلیه القاضی هو الذی علیه عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثین والمتکلمین، ولا یلتفت إلی خلاف من زعم أن ما یهم الإنسان به وإن وطن علیه لا یؤاخذ به. ولا حجة له فی قول علیه السلام: «من هم بسیئة فلم یعملها لم تکتب علیه فإن عملها کتبت سیئة واحدة» لان معنی «فلم یعملها» فلم یعزم علی عملها)(3).

أقول: الذی یظهر لی وبعد تتبعی لنصوص کثیرة من القرآن الکریم والسنة


1- شرح سنن النسائی لجلال الدین السیوطی ج 6 ص 157.
2- تفسیر القرطبی ج 4 ص 215.
3- المصدر السابق.

ص: 276

المطهرة ومعاجم اللغة، ان الهم بالشیء اعم من العزم فیشمل العزم وغیره، قال ابن منظور فی لسان العرب: (وهم بالشیء یهم هما: نواه وأراده وعزم علیه)(1)، بل ربما أطلق لفظ (الهم أو الهمة) فی النصوص القرآنیة والروائیة وأرید بها العزم، نظیر قوله تعالی: ((یَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا کَلِمَةَ الْکُفْرِ وَکَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ یَنَالُوا))(2) والآیة کما هو المشهور نزلت فی (طائفة عزموا علی أن یغتالوا سیدنا رسول الله، صلی الله علیه وسلم، فی سفر)(3)، وکقوله سبحانه وتعالی فی التی راودت نبی الله یوسف صلوات الله وسلامه علیه عن نفسه ((وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ))(4) والإجماع قائم علی أنها عزمت علی إغوائه، ولم تکتف بحدیث النفس، ومنها ((یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا اذْکُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَیْکُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ یَبْسُطُوا إِلَیْکُمْ أَیْدِیَهُمْ فَکَفَّ أَیْدِیَهُمْ عَنْکُمْ))(5) قال أبو هلال العسکری فی معجم الفروق اللغویة: (أی صمموا النیة وعزموا علیه ، فیرادف العزم)(6) إلی غیر ذلک من شواهد کثیرة تؤکد علی ان الهم بالشیء یشمل العزم وغیره، نعم یمکن ان یعدّ العزم آخر مرحلة من مراحل الهم بالشیء، إلا ان ذلک لا یمنع من دخوله تحته وشموله به، فإذا کان کذلک شملته أحادیث (من همّ بسیئة) التی سبق ذکرها فی بدایة هذا المبحث، فلا داعیَ حینئذ لإخراجهم العزم من عموم تلک الأحادیث.

ولکن ینبغی التأکید علی ان لیس مطلق الهم أو العزم لا یحاسب علیه ولا یؤاخذ الإنسان علیه، فالأعمال کما هو معلوم علی قسمین، فمنها ما هو قلبی


1- لسان العرب لابن منظور ج 12 ص 620: 621.
2- سورة التوبة الآیة رقم 74.
3- لسان العرب لابن منظور ج 12 ص 620: 621.
4- سورة یوسف الآیة رقم 24.
5- سورة المائدة الآیة رقم 11.
6- الفروق اللغویة لأبی هلال العسکری ص 356 __ 357.

ص: 277

کالإیمان والکفر والنفاق، والتولی والتبری، والمحبة والعداوة، والرضا والسخط، وغیر ذلک مما لا یحصی ذکره، وهذا القسم قوامه وأساسه هو العزم والنیة وتوطین النفس، إذ لیس الکفر إلا إنکار القلب وتوطین النفس علی الجحود بالله وبرسله وإنکار الشرائع والکتب، ولا خلاف بین المسلمین بأن من همّ أو عزم علی شیء من هذا وغیره من معاصی القلب والباطن، لا یعفی عنه ولا یکون مشمولا بأحادیث من همّ بسیئة، فمن هم وعزم علی الکفر کفر وان لم یظهر ذلک علی أفعاله، ومن أحب عمل قوم سخط الله علیهم عد منهم، ومن سخط علی قوم تولاهم الله خرج عن الصراط السوی.

ومن الأعمال ما یحتاج إلی حرکة البدن وإعمال العضلات إضافة إلی النیة والعزم وهی من الکثرة ما لا تحصی، کالسرقة والزنا وشرب الخمر وغیر ذلک، فهذه الأعمال السیئة خطرها الکبیر وفسادها العظیم هو فی تحققها فی الخارج وخروجها من مرحلة الهمة والعزم إلی مرحلة الفعل والتنفیذ، أما ما دامت محبوسة فی النفس ومسیطراً علیها من قبل المکلف فإن ضررها طفیف لا یعتد به، وان کان ینبغی للمؤمن أن یطهر نفسه وینزه قلبه عن کل ما لا یرضی الله ویستجلب سخطه، لکنه سبحانه وتعالی ومن عظیم منّه وکبیر إحسانه علی هذه الأمة المرحومة عفا عن کل ما یهم به العبد ما لم یتجسد هذا العزم والهم بالسیئة بالخارج.

وقد أجاد بعض الأفاضل فی لزوم تخصیص أخبار العفو عمن همّ بسیئة ولم یعملها بما لا یکون داخلا تحت نیة إیصال الأذی بشتی أنواعه وأقسامه إلی شخص النبی أو من له منزلة کمنزلة النبی حیث قال: (والأولی أن یخصص أخبار العفو بما عدا نیة قتل الأنبیاء وأوصیائهم، ونیة إیذائهم ونیة هدم الکعبة وغیرها من المساجد)(1).


1- تعلیقة علی معالم الأصول للسید علی الموسوی القزوینی ج 3 شرح ص 610 __ 611.

ص: 278

القسم الثالث: لو هم المکلف بما هو محرم، أو هم بما یکون مشترکا بین الحلال والحرام مع قصده ومنذ البدایة لجهة الحرام فیه، ومع إتیانه بمقدمة من مقدمات ذلک الفعل

کمن هم بقتل مؤمن فذهب واشتری سیفا لهذا الغرض، أو کمن هم بالزنا فسافر من مکان إلی آخر لأجل ذلک، أو کمن هم بالاشتراک بحرب ضلالة فلبس السلاح وتجهز للخروج، ولا خلاف بین طوائف المسلمین ان من تلبس بمقدمة من مقدمات الحرام فقد تلبس بأصل ذلک الحرام، قال السید علی الموسوی القزوینی: (وعن السید الداماد : إنه نسب إلی فقهائنا وفقهاء العامة وأصولینا وأصولیهم أنهم قد اتفقوا علی أن العزم علی المعاصی ونیتها مما لا یترتب علیه عقاب ومؤاخذة ما لم یتحقق التلبس بالمعصیة)(1).

وکذلک اتفق الفریقان من المسلمین علی ان من نوی الحرام وعزم علی الإتیان به وجاء ببعض مقدماته فعرض له عارض قهری حال ما بینه وبین إتمام ذلک الفعل الحرام، فان أحادیث من هم بسیئة ولم یعملها لا تشمله البتة، ولهذه المسألة شواهد نبویة عدیدة منها: (عن ابن مسعود قال من هم بسیئة لم تکتب علیه حتی یعملها ولو أن رجلا کان بعدن إبین حدث نفسه بان یلحد فی البیت والإلحاد فیه أن یستحل فیه ما حرم الله علیه فمات قبل أن یصل إلی ذلک أذاقه الله من عذاب ألیم)(2) وفی قوله صلی الله علیه وآله وسلم : (فمات قبل ان یصل إلی ذلک) دلالة علی انه جاء ببعض المقدمات ولکن الموت حال ما بینه وبین إتمام ما هم به من الإلحاد فی البیت الحرام، ومع انه لم یصل إلی مراده إلا ان العذاب قد أدرکه.


1- المصدر السابق ج 3 شرح ص 611 __612.
2- الدر المنثور لجلال الدین السیوطی ج 4 ص 352.

ص: 279

واللعن الذی توجه فی الزیارة إلی الأمة التی أسرجت وألجمت وتنقبت وتهیأت لقتال الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه داخل ضمن هذا القسم الثالث، فان هذه الأصناف الأربعة لو سلمنا بعدم مباشرتها القتال إلا أنها أتت بعدة مقدمات من مقدمات القتال، أی أنها أخرجت ما کان مضمرا فی النفس إلی الخارج، وتلبست بالمعصیة، والمتلبس بالمعصیة أو بمقدمة من مقدماتها یحاسب ویعاقب، ولا تشمله أحادیث العفو عمن هم بسیئة ولم یعملها، فیدخل فی ضمن من قاتل والمقاتل ملعون کما أثبتنا ذلک فی مباحث سابقة.

ص: 280

ص: 281

بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی لَقَدْ عَظُمَ مُصَابِی بِکَ

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة.

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة.

1: بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی.

2: لَقَدْ.

3: عَظُمَ.

4: مُصَابِی.

5: بِکَ.

المبحث الثالث: تأملات حول هذه العبارة الشریفة.

   أولا: لماذا هذا التأکید علی عظم المصاب والرزیة؟

   ثانیا: التاثر بالمصیبة یجب ان یکون منسجما مع عظم المصاب.

   ثالثا: الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه عَبرة أم عِبرة؟

ص: 282

ص: 283

بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی لَقَدْ عَظُمَ مُصَابِی بِکَ

اشارة

فی هذه الفقرة الشریفة کغیرها من الفقرات مباحث مهمة نستعرضها فیما یأتی:

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

لقد جاءت هذه العبارة الشریفة من الزیارة فی متون کثیر من الزیارات الأخری، فخطاب الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بعبارة (بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی) قد وردت علی سبیل المثال فی الزیارة المرویة عن مصباح المتهجد للشیخ الطوسی قدس الله روحه فی الصلاة علی الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما والتی جاء فیها: (اللهم صل علی الحسن والحسین عبدیک وولییک وابنی رسولک وسبطی الرحمة وسیدی شباب أهل الجنة... السلام علیک یا أبا عبد الله السلام علیک یا بن رسول الله...بأبی أنت وأمی یا أبا عبد الله لعن الله قاتلک ولعن الله خاذلک ولعن الله من سمع واعیتک فلم یجبک...)(1).

أما عبارة (لَقَدْ عَظُمَ مُصَابِی بِکَ) فهی وان لم تأتِ بالنص فی نصوص


1- مصباح المتهجد للشیخ الطوسی ص401 __ 402.

ص: 284

الزیارات التی سمح لی الوقت بمراجعتها إلا أنها وبلا أدنی شک قد ذکرت بالمعنی فی الکثیر من متون الزیارات المعتمدة والمذکورة فی الکتب المعتمدة منها ما فی کامل الزیارات بسنده عن ابی حمزة الثمالی عن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه فی زیارة طویلة نختار منها محل الشاهد (السلام علیک یا أبا عبد الله إنا لله وإنا إلیه راجعون، ما أعظم مصیبتک عند أبیک رسول الله، وما أعظم مصیبتک عند من عرف الله عز وجل، وأجل مصیبتک عند الملأ الأعلی، وعند أنبیاء الله وعند رسل الله. السلام منی إلیک والتحیة مع عظیم الرزیة... بأبی أنت وأمی یا سیدی، بکیتک یا خیرة الله وابن خیرته، وحق لی أن أبکیک، وقد بکتک السماوات والأرضون والجبال والبحار، فما عذری ان لم أبکک، وقد بکاک حبیب ربی، وبکتک الأئمة صلوات الله علیهم، وبکاک من دون سدرة المنتهی إلی الثری جزعا علیک... بأبی أنت وأمی یا ابن رسول الله، صلی الله علیک)(1).

وفی تهذیب الأحکام للشیخ الطوسی قدس الله روحه: (بأبی أنت وأمی ما أجل مصیبتک وأعظمها عند الله تعالی، وما أجل مصیبتک وأعظمها عند رسول الله «صلی الله علیه وآله»، وما أجل مصیبتک وأعظمها عند أبیک، وما أجل مصیبتک وأعظمها عند الملأ الأعلی وما أجل مصیبتک وأعظمها عند شیعتک خاصة)(2)

وعبارة (یَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَقَدْ عَظُمَتِ الرَّزِیَّةُ وَجَلَّتِ الْمُصِیبَةُ بِکَ عَلَیْنَا وَعَلَی جَمِیعِ أَهْلِ الإِسْلَامِ وَجَلَّتْ وَعَظُمَتْ مُصِیبَتُکَ فِی السَّمَاوَاتِ عَلَی جَمِیعِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ) والتی سبق شرحها فیها إشارة واضحة إلی هذا المعنی، إلی غیر ذلک من النصوص الکثیرة التی أعرضنا عنها خوف الإطالة.


1- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص402 __ 416.
2- تهذیب الأحکام للشیخ الطوسی ج6 ص59.

ص: 285

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

1: بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی

معنی هذه العبارة الشریفة هو (أفدیک بأبی وأمی لو وقع بک بلاء أو نزل بک مکروه) وفیه دلالة علی (تقدیم المفدی فی المحبة والإعزاز علی الوالدین)(1)، قال الخلیل الفراهیدی: (بأبأ: البأبأة: قول الإنسان لصاحبه: بأبی أنت، ومعناه: أفدیک بأبی)(2).

وقال ابن الأثیر: (والباء الأولی فی بأبی أنت وأمی متعلقة بمحذوف، قیل هو اسم فیکون ما بعده مرفوعا تقدیره: أنت مفدی بأبی أنت وأمی. وقیل هو فعل وما بعده منصوب: أی فدیتک بأبی وأمی، وحذف هذا المقدر تخفیفا لکثرة الاستعمال وعلم المخاطب به)(3).

وقد وقع الاختلاف حول صحة التفدی بالأبوین حال موتهما؛ لان البعض ذهب إلی عدم استحسان التفدی بمن هو میت لعدم الفائدة بمثل هذا التفدی قال المیرزا أبو الفضل الطهرانی: (وتتوقف صحة الاستعمال علی حیاة المخاطب وحیاة الوالدین لان المیت لا یفدی ولا یُفدّی)(4) وقال فی موضع آخر: (فیصح __ أی الفداء __ ان کانا حیین ویبطل عند موتهما)(5).


1- شفاء الصدور فی شرح زیارة العاشور للعلامة الحاج میرزا ابی الفضل الطهرانی ترجمة وتحقیق محمد شعاع فاخر ج1 ص397.
2- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج8 ص414.
3- النهایة فی غریب الحدیث لابن الأثیر ج 1 ص 20.
4- شفاء الصدور فی شرح زیارة العاشور للعلامة الحاج میرزا أبی الفضل الطهرانی ترجمة وتحقیق محمد شعاع فاخر ج1 ص397.
5- المصدر السابق ص399.

ص: 286

 واشترط البعض الآخر عدم إسلام الأبوین لیمکن التفدی بهما، قال محیی الدین النووی: (ومن العلماء من منعه __ أی التفدی __ إذا کانا مسلمین)(1).

والصحیح ان التفدی بالأبوین لا یشترط حیاتهما ولا عدم إسلامهما، لان التفدی غالبا لا یراد منه المعنی الحقیقی للتفدی، وإنما هو مما تعارف استعماله عند العرب لإظهار وإفهام الشخص المفدی أنه عزیز فی نفس القائل إلی غایة أنه أرجح من أبیه وأمه بحیث یفدیه بهما، وإلیه ذهب المولی صالح المازندرانی: («بأبی وأمی» کلمة معتادة للعرب یقال لمن یعز علیهم، ولا یختلج فی وهمک أنه کیف یحسن التفدیة هنا بعد الموت وهی غیر ممکنة لأنه لا بشرط فی إطلاقها...ولیس الغرض منها تحقیق الفدیة بل تخییلها وإیهامها للاسترقاق وتخییل المقول له أنه عزیز فی نفس القائل إلی غایة أنه أرجح من أبیه وأمه بحیث یفدیه بهما)(2) وقال فی موضع آخر: («بأبی وأمی أنت» هذه الکلمة لإظهار عزة المخاطب وبیان أنه عزیز فی نفس القائل حتی أنه أرجح ممن هو أقرب الخلق إلیه وأعز علیه وهو أبواه بحیث یفدیه بهما ولا یشترط فی ذلک وجودهما)(3).

وقال محیی الدین النووی: (بأبی وأمی معناه أفدیک بأبی وأمی من کل مکروه ویجوز أن یقول الإنسان فداک أبی وأمی سواء کان أبواه مسلمین أم لا هذا هو الصحیح المختار)(4).

إضافة إلی وجود کم هائل من الأحادیث التی یظهر منها جواز التفدی بالأبوین المیتین المسلمین منها قول أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه: (ألا بأبی وأمی هم من عدة


1- المجموع لمحیی الدین النووی ج 2 ص 35.
2- شرح أصول الکافی للمولی محمد صالح المازندرانی ج 4 ص 151.
3- المصدر السابق ج 6 ص 99.
4- المجموع لمحیی الدین النووی ج 2 ص 35.

ص: 287

أسمائهم فی السماء معروفة، وفی الأرض مجهولة)(1) ومن المتیقن ان أبوی أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لم یکونا علی قید الحیاة وقت التفدیة.

2: لَقَدْ

(اللام) واقعة فی جواب قسم محذوف، والتقدیر (والله لقد عظم مصابی بک) أو غیرها من ألفاظ القسم، أما (قَدْ) فحرف إذا دخل علی الفعل الماضی کما هو الحال فی عبارة (لَقَدْ عَظُمَ مُصَابِی بِکَ) فیفید ثلاثة معانٍ:

الأول: التوقع، کما فی قول القائل (قد خرج زید) قال صاحب کتاب الجنی الدانی فی حروف المعانی: (وأما مع الماضی فتدل علی انه __ الفعل __ کان متوقعا منتظرا، ولذلک یستعمل فی الأشیاء المترقبة...)(2) وهذا المعنی محتمل المراد فی عبارة الزیارة، فبعد ان عددت الزیارة الشریفة مصائب أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین علی نحو العموم، ومصائب سید الشهداء علی نحو الخصوص، وأوضحت الزیارة ان هذه الفاجعة قد عظمت علی جمیع أهل السماوات، فمن الطبیعی والمتوقع ان یعظم هذا المصاب علی الزائر أیضا سواء کان هذا الزائر هو الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه أو غیره من عامة المؤمنین، إذن فحزن المؤمن الزائر بعد کل ذلک الشرح والتبیان لمصائب سید الشهداء متوقع منتظر، لذلک صح استخدام الحرف (قد) بمعنی التوقع.

الثانی: التقریب، قال ابن الخباز: (إذا دخل «قد» علی الماضی اثر فیه معنیین: تقریبه من زمن الحال وجعله خبرا منتظرا. فإذا قلت قد رکب الأمیر فهو کلام لقوم ینتظرون حدیثک)(3). ویمکن تطبیق هذا المعنی علی عبارة الزیارة بأن لفظ (عَظُمَ


1- نهج البلاغة ج 2 ص 126.
2- الجنی الدانی فی حروف المعانی صنعة الحسن بن قاسم المرادی تحقیق الدکتور فخر الدین قباوه ومحمد ندیم فاضل ص256، منشورات محمد علی بیضون دار الکتب العلمیة، بیروت لبنان.
3- المصدر السابق ص257.

ص: 288

مُصَابِی بِکَ) وان کانت قد وقعت بصیغة الماضی إلا ان ذلک لا یعنی انتهاءها واضمحلالها، فعظیم المصاب وغصة الاکتئاب ما زالت ناره مستعرة فی قلب الزائر بل فی قلب المتذکر لرزایا سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه علی مر اللیالی والأیام، فإدخال «قد» علی هذه الجملة تقرب الماضی إلی الحاضر وتجعل منه حالا للزائر.

الثالث: التحقیق والإثبات نحو قوله تعالی: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ))(1) والمعنی ان الفلاح متحقق للمؤمنین ثابت لهم لا محالة، فیصبح معنی (لَقَدْ عَظُمَ مُصَابِی بِکَ) ان عظم المصیبة بک متحقق ثابت فی النفس ولیس هو أمراً مدعی متظاهراً به من قبل الزائر، أو ان عظم المصاب له واقعیة وثبوت تکوینی حقیقی، وکما ان للإیمان صفة تکوینیة حقیقیة ثابتة هی الفلاح کذلک یوجد لمصاب سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه صفة تکوینیة متحققة ثابتة هی عظم هذا المصاب فی العالم الواقعی.

وکیف لا تکون کذلک وقد وصف الإمام زین العابدین صلوات الله وسلامه علیه عظیم رزیة أبیه الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بقوله: (قتل أبو عبد الله وعترته وسبی نساؤه وصبیته وداروا برأسه فی البلدان من فوق عامل السنان وهذه الرزیة التی لا مثلها رزیة أیها الناس فأی رجالات منکم یسرون بعد قتله أم أی فؤاد لا یحزن من أجله أم أی عین منکم تحبس دمعها وتضن عن انهمالها فلقد بکت السبع الشداد لقتله وبکت البحار بأمواجها والسماوات بأرکانها والأرض بأرجائها والأشجار بأغصانها والحیتان فی لجج البحار والملائکة المقربون وأهل السماوات أجمعون یا أیها الناس أی قلب لا ینصدع لقتله أم أی فؤاد لا یحن إلیه أم أی سمع یسمع هذه الثلمة التی ثلمت فی الإسلام ولا یصم)(2).


1- سورة المؤمنون آیة رقم 1.
2- لواعج الأشجان للسید محسن الأمین ص244.

ص: 289

3: عَظُمَ

وهو فعل ماضٍ مشتق من المصدر (عظم) وهو بمعنی الشیء الجلیل، والنازلة الفظیعة، والملمة الکبیرة الجسیمة، قال الجوهری: (عظم الشیء عظما: کبر، فهو عظیم. والعظام بالضم مثله... والعظیمة والمعظمة: النازلة الشدیدة)(1)، وقال ابن منظور: (والعظم: خلاف الصغر. عظم یعظم عظما وعظامة: کبر)(2)، وقال أیضا: (قد جسم الشیء أی عظم)(3).

4: مُصَابِی

و(مُصَاب) قد یکون مصدرا میمیا بمعنی الإصابة قال ابن منظور: (والمصاب: الإصابة)(4) وکذا قال الجوهری(5) فی الصحاح.

5: بِکَ

 الظاهر ان الباء هنا ظرفیة (وعلامتها ان یحسن فی موضعها «فی» نحو ((وَلَقَدْ نَصَرَکُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ))(6)وهی کثیرة فی الکلام)(7)، و(الکاف) کما لا یخفی ضمیر للمخاطب یرجع لشخص سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه.


1- الصحاح للجوهری ج 5 ص 1987 __ 1988.
2- لسان العرب لابن منظور ج 12 ص 410.
3- المصدر السابق ج 12 ص 99.
4- لسان العرب لابن منظور ج 1 ص 536.
5- الصحاح للجوهری ج 1 ص 165.
6- سورة آل عمران آیة رقم 123.
7- الجنی الدانی فی حروف المعانی صنعة الحسن بن قاسم المرادی تحقیق الدکتور فخر الدین قباوه ومحمد ندیم فاضل ص40، منشورات محمد علی بیضون دار الکتب العلمیة، بیروت لبنان.

ص: 290

المبحث الثالث: تأملات حول هذه العبارة الشریفة

اشارة

یمکن من خلال التأمل فی کلمات هذه العبارة الشریفة من الزیارة ان نستنتج عدة من النقاط المهمة التی نلخص بعضا منها فیما یأتی:

أولا: لماذا هذا التأکید علی عظم المصاب والرزیة؟

وقع التأکید علی عظم المصیبة فی عدة فقرات من زیارة عاشوراء کما فی فقرة (یَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَقَدْ عَظُمَتِ الرَّزِیَّةُ وَجَلَّتِ الْمُصِیبَةُ بِکَ عَلَیْنَا وَعَلَی جَمِیعِ أَهْلِ الإِسْلامِ وَجَلَّتْ وَعَظُمَتْ مُصِیبَتُکَ فِی السَّمَاوَاتِ عَلَی جَمِیعِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ) والتی سبق شرحها، ومنها فقرة (بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی لَقَدْ عَظُمَ مُصَابِی بِکَ) والتی نحن فی صدد شرحها، ومنها فقرة (وَأَسْأَلُ اللهَ بِحَقِّکُمْ وَبِالشَّأْنِ الَّذِی لَکُمْ عِنْدَهُ أَنْ یُعْطِیَنِی بِمُصَابِی بِکُمْ أَفْضَلَ مَا یُعْطِی مُصَاباً بِمُصِیبَتِهِ مُصِیبَةً مَا أَعْظَمَهَا وَأَعْظَمَ رَزِیَّتَهَا فِی الإِسْلامِ وَفِی جَمِیعِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض) ومنها عبارة (اللَّهُمَّ لَکَ الْحَمْدُ حَمْدَ الشَّاکِرِینَ لَکَ عَلَی مُصَابِهِمْ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَی عَظِیمِ رَزِیَّتِی).

وهذا التکرار والتذکیر بمسألة عظم المصیبة وشدة الفاجعة یأتی ضمن منهج تربوی دقیق خضعت له فقرات الزیارة الشریفة، فالتکرار کما لا یخفی له أهمیة کبیرة، وفوائد جسیمة ومتعددة، منها ان التکرار یفید فی کثیر من حالاته تهویل وإعظام ذلک الأمر المکرر، وشواهده فی القرآن کثیرة، وکذلک یمکن أن یأتی التکرار للتأکید، ومن فوائد التکرار لزیادة الإفهام للشخص السامع، والتکرار یرکز فی النفس والعقل الفکرة أو المفهوم الذی یکرر من قبل القائل، وربما کان التکرار ضروریا فیما لو اختلف الشیء المکرر من حیث الإجمال والتفصیل أو المبهم والمبین، فما کان مبهما أو مجملا جاز تکراره مع زیادة تفصیل وتبیین، إلی غیر ذلک من الفوائد التی لا مجال لاستقصائها.

ص: 291

 وکل هذه الفوائد والموارد قد تحققت فی الفقرات المکررة من زیارة عاشوراء، وعلیه فتکرار عظم المصیبة وشدید الرزیة للتأکید وإعظام وتهویل تلک الجریمة التی ارتکبت بحق سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه، ولزیادة الإفهام والتفصیل لسعة رقعة واتساع هذه الرزیة، ففی إحدی تلک الفقرات المکررة یوضح الإمام تأثیر هذه المصیبة والرزیة العظیمة فی أهل الإسلام وأهل السماوات والأرض، وفی فقرة ثانیة یوضح تأثیرها فی شخص الزائر، وفی فقرة ثالثة یبین مدی تأثیرها فی أهل الإسلام وفی أهل السماوات وأهل الأرض، وهنالک کما لا یخفی فرق شاسع بین الإسلام وأهل الإسلام، وبین السماوات والأرض وأهل السماوات والأرض، فالزاویة التی ینظر من خلالها إلی عظم المصیبة والرزیة مختلفة، ومقاصد الکلام متنوعة، فیکون التکرار جائزاً بل مستحسناً.

ثانیا: التآثر بالمصیبة یجب ان یکون منسجما مع عظم المصاب

کلما عظمت محبة انسان ما وأهمیته، عظم التأثر بفقده، وزاد ألم فراقه، فحینما یفقد الإنسان صدیقا له فانه یتأثر، لکن تأثره لا یساوی شیئاً بالنسبة إلی فقد هذا الإنسان لأحد أبویه أو لأعز أبنائه، وعلیه ینبغی ووفق هذا المبدأ ان یکون التاثر بمصاب النبی صلی الله علیه وآله وسلم واهل بیته والأئمة المطهرین من أولاده صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین اعظم واکبر من التأثر علی فقد الاصدقاء والابوین واعز الاولاد، وذلک لانهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من حیث الأهمیة اعظم بما لیس له وجه قیاس، إضافة إلی ان التوجیهات النبویة ألزمت الامة بضرورة ان یکون لشخصه المقدس صلی الله علیه وآله وسلم ولاهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین مکانة فی القلوب ومحبة تعظم علی محبة الاهل والاولاد، فبهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أنقذنا الله من ظلمة الجهل الی نور الایمان، وبهم أنقذنا الله من شفا جرف الهلکات ومن النار، وبهم علمنا الله معالم دیننا، وبهم أخرجنا الله من الذل

ص: 292

والامتهان الی العز والکرامة، وما أجمل ما کان یقوله الامام الصادق صلوات الله وسلامه علیه عند ذکره لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم : (بأبی وأمی وقومی وعشیرتی، عجب للعرب کیف لا تحملنا علی رؤوسها والله عز وجل یقول فی کتابه ((وَکُنْتُمْ عَلَی شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَکُمْ مِنْهَا))(1) فبرسول الله «صلی الله علیه وآله» أنقذوا)(2).

وبناء علی ذلک فینبغی علی المؤمن أن یکون حاله عند ذکر مصائب الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ومصائب جده المصطفی وأبیه المرتضی وأمه الطاهرة فاطمة الزهراء وأخیه الإمام الحسن وبقیة أبنائه المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین کما کان له أن یکون عند فقدان أخص أهله به وأقربهم إلیه، وهو اقل مراتب المواساة، وإلا فینبغی علی من کان عارفا بحق الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وحرمته ومنزلته عند الله سبحانه وتعالی، ومقدار ما جری علیه من ظلم وضیم، ان لا یقنع إلا بان تکون مرتبة مصیبته متناسبة مع مرتبة المصاب الذی داهم الإسلام واذهب حرمته، وهو متفاوت من شخص لآخر بحسب المعرفة ودرجاتها.

وأعظم هذه الدرجات فی التفجع والاکتئاب تجدها عند الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لأنهم اعرف الناس بعد الله سبحانه وتعالی بمصاب الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وما جری علیه وما بلغ من تأثیر مصیبته فی الدین بل فی سائر أرجاء هذا الکون، وفی الزیارة المنسوبة إلی الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه کلمات عجیبة وحالات لا یمکن لأمثالی أن یتصوروها ویدرک سرها، لاسیما خطابه للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بقوله: (السلام علیک سلام العارف بحرمتک، المخلص فی ولایتک، المتقرب إلی الله بمحبتک، البریء من أعدائک، سلام من قلبه بمصابک مقروح، ودمعه عند ذکرک مسفوح، سلام المفجوع المحزون،


1- سورة آل عمران الآیة رقم 103.
2- الکافی للشیخ الکلینی ج 8 ص 266.

ص: 293

الواله المستکین. سلام من لو کان معک بالطفوف لوقاک بنفسه حد السیوف وبذل حشاشته دونک للحتوف، وجاهد بین یدیک، ونصرک علی من بغی علیک، وفداک بروحه وجسده، وماله وولده، وروحه لروحک فداء، وأهله لأهلک وقاء فلئن أخرتنی الدهور، وعاقنی عن نصرک المقدور، ولم أکن لمن حاربک محاربا، ولمن نصب لک العداوة مناصبا، فلأندبنک صباحا ومساء، ولأبکین علیک بدل الدموع دما، حسرة علیک وتأسفا علی ما دهاک وتلهفا، حتی أموت بلوعة المصاب وغصة الاکتیاب)(1).

فیتضح من خلال قوله صلوات الله وسلامه علیه: (السلام علیک سلام العارف بحرمتک) ان الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه یتکلم من وحی معرفته بواقع ومستوی المصاب وهو مستوی لیس سهلا علی الإنسان العادی والسطحی فهمه وإدراکه، وهو صلوات الله وسلامه علیه ونتیجة هذه المعرفة یتخذ موقفه الحزین الذی یمکن أن یصل إلی مستوی البکاء بدل الدموع دما، ودوام الحسرة والتأسف والتلهف وان بلغت به لوعة المصاب وغصة الاکتیاب إلی الموت.

فیلزم والحال هذه علی سائر أتباع مذهب أهل البیت أن یتشبهوا بأئمتهم صلوات الله وسلامه علیه فیکثروا من الضجیج والبکاء ودوام الحزن والعزاء، علی مر اللیالی والأیام، شأنهم فی ذلک شأن إمامهم الغائب صلوات الله وسلامه علیه الذی یندب جده الإمام الشهید صباحا ومساء، ویبکی علیه بدل الدموع دما، ویکون شعارهم فی کل ذلک: (بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی لَقَدْ عَظُمَ مُصَابِی بِکَ).

بل ویلزم علی أتباع مذهب الحق ان یظهروا الحزن والتأسف والبکاء علی سائر مصائب أهل البیت صلوات الله وسلامه علیه امتثالا لما ورد فی الزیارة الجامعة الشریفة: (فعلی الأطائب من أهل بیت محمد وعلی صلی الله علیهما وآلهما، فلیبک الباکون، وإیاهم


1- المزار لمحمد بن المشهدی ص 500 __ 501.

ص: 294

فلیندب النادبون، ولمثلهم فلتدر __ فلتذرف __ الدموع، ولیصرخ الصارخون، ویضج الضاجون، ویعج العاجون. أین الحسن أین الحسین، أین أبناء الحسین، صالح بعد صالح، وصادق بعد صادق، أین السبیل بعد السبیل، أین الخیرة بعد الخیرة، أین الشموس الطالعة، أین الأقمار المنیرة، أین الأنجم الزاهرة، أین أعلام الدین وقواعد العلم. أین بقیة الله التی لا تخلو من العترة الهادیة، أین المعد لقطع دابر الظلمة...)(1).

ثالثا: الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه عَبرة أم عِبرة؟

سؤال کثر حوله الکلام فی السنین الأخیرة، وهو ما هو الموقف الذی یجب ان یتخذه الإنسان الموالی لمذهب أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین حیال الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وقضیته العادل وما مر علیه من مصائب ومحن وما مورس ضده وضد أهل بیته وأصحابه من ظلم وتعسف؟

 فذهب البعض إلی ان الموقف لابد ومن حیث المبدأ ان یتصف بالتأثر والمأساویة تجاه کل ما وقع علی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه من مصائب ومحن، وان تفجر فی ذکری استشهاده انهار الدموع، وان یتم التأکید وبالدرجة الأولی علی کل ما من شأنه ان یثیر الحزن ویهیج اللوعة، متمسکین فی کل ذلک بالروایات الصحیحة التی نقلت لنا أحوال الأئمة المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین إذا ما مرت بهم ذکری یوم العاشر من المحرم، فعن أبی بصیر، عن الصادق صلوات الله وسلامه علیه، عن آبائه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین قال: (قال أبو عبد الله الحسین علیه السلام: أنا قتیل العبرة لا یذکرنی مؤمن إلا استعبر)(2).

وعن ابن خارجة، عن أبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه قال: (قال الحسین بن علی


1- المزار لمحمد بن المشهدی ص 578 __ 579.
2- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص215 الباب 36 ما روی أن الحسین علیه السلام قتیل العبرة لا یذکره مؤمن إلا بکی.

ص: 295

علیهما السلام: أنا قتیل العبرة، قتلت مکروبا وحقیق علی الله أن لا یأتینی مکروب إلا أرده واقلبه إلی أهله مسرورا)(1).

وعن أبی عمارة المنشد قال: (ما ذکر الحسین بن علی عند أبی عبد الله علیه السلام فی یوم قط فرئی أبو عبد الله علیه السلام متبسما فی ذلک الیوم إلی اللیل، وکان أبو عبد الله علیه السلام یقول: الحسین عبرة کل مؤمن)(2).

وعن إبراهیم بن أبی محمود قال: قال الرضا صلوات الله وسلامه علیه: (إن المحرم شهر کان أهل الجاهلیة یحرمون فیه القتال، فاستحلت فیه دماؤنا، وهتکت فیه حرمتنا، وسبی فیه ذرارینا ونساؤنا، وأضرمت النیران فی مضاربنا، وانتهب ما فیها من ثقلنا، ولم ترع لرسول الله صلی الله علیه وآله حرمة فی أمرنا، إن یوم الحسین علیه السلام أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذل عزیزنا بأرض کرب وبلاء، أورثتنا الکرب والبلاء إلی یوم الانقضاء فعلی مثل الحسین فلیبک الباکون فإن البکاء علیه یحط الذنوب العظام. ثم قال علیه السلام: کان أبی إذا دخل شهر المحرم لا یری ضاحکا، وکانت الکآبة تغلب علیه حتی یمضی منه عشرة أیام، فإذا کان یوم العاشر کان ذلک الیوم یوم مصیبته وحزنه وبکائه، ویقول: هو الیوم الذی قتل فیه الحسین علیه السلام)(3).

وعن علی بن الحسن بن فضال، عن أبیه، عن الرضا صلوات الله وسلامه علیه قال: (من ترک السعی فی حوائجه یوم عاشوراء قضی الله له حوائج الدنیا والآخرة، ومن کان


1- ثواب الأعمال للشیخ الصدوق ص98 ثواب من زار قبر الحسین صلوات الله وسلامه علیه.
2- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص214 __ 215 الباب 36 ما روی أن الحسین علیه السلام قتیل العبرة لا یذکره مؤمن إلا بکی.
3- الأمالی للشیخ الصدوق ص190حدیث الرضا علیه السلام عن یوم عاشوراء.

ص: 296

یوم عاشوراء یوم مصیبته وحزنه وبکائه، جعل الله عز وجل یوم القیامة یوم فرحه وسروره، وقرت بنا فی الجنان عینه، ومن سمی یوم عاشورا یوم برکة وادخر فیه لمنزله شیئا لم یبارک له فیما ادخر، وحشر یوم القیامة مع یزید وعبید الله بن زیاد وعمر بن سعد __ لعنهم الله __ إلی أسفل درک من النار)(1).

فالروایات کما تری واردة بلفظ العَبرة والتی هی بمعنی استجلاب الدمع أو تردد البکاء فی الصدر، کذلک الروایات جعلت من الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وما جری علیه مصدرا من مصادر اللوعة والألم وانهمار الدمع، وان سیرة الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین قائمة علی استذکار کل ما من شأنه ان یستدر اللوعة ویزید البکاء.

إضافة إلی اعتماد أنصار هذا الرأی علی الروایات المستفیضة التی وردت فی حق الباکین والمتوجعین علی مصیبة أبی عبد الله الحسین صلوات الله وسلامه علیه، والتی یطول بنا المقام لو أردنا استقصاءها.

لکن هذا الکلام لم یعجب طائفة أخری من الناس الذین رأوا أنّ الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه لم یقتل لیبکی علیه فقط، أو لینصب له مجالس اللطم والعزاء، وإنما ضحی بنفسه من اجل أهداف أسمی وغایات أعظم، فهو قد خرج لطلب الإصلاح فی امة النبی صلی الله علیه وآله وسلم ، لذلک رأی هذا البعض ان تحجیم هذا العطاء وهذه الغایات فی عقد مجالس الرثاء والنوح والبکاء ظلم لسید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه ولثورته العظیمة، لذلک شجع أنصار هذا التیار الفکری علی إقامة المؤتمرات ومعارض الصور والرسم وکل ما لا یدخل البکاء والنوح فی ضمنه، والاستغناء عن مسیرات اللطم وغیرها بالمظاهرات السلمیة، ورفع اللافتات بدل رفع الأیدی ولطم الصدور.


1- علل الشرائع للشیخ الصدوق ج1 ص227 الباب 162 العلة التی من اجلها صار یوم عاشوراء أعظم الأیام مصیبة.

ص: 297

وکم من مرة ومرة سمعنا وسمع الناس کلمات التشنیع والقدح والذم من أنصار الطائفة الثانیة علی أنصار ومؤیدی إقامة مجالس العزاء والبکاء فی أیام عاشوراء، بذریعة ان هذه المجالس تجعل من الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه عبرة __ بالفتح __ بینما المفروض ان یکون الإمام الحسین بزعمهم عبرة __ بالکسر __ بینما الواقع العملی یکذب هذه الذریعة فکل مجالس الرثاء والعزاء الیوم بحمد الله تجمع ما بین العبرة __ بالکسر __ وما بین العبرة __ بالفتح __ فالخطیب یبدأ بالوعظ والإرشاد واستلهام الدروس والعبر من حیاة سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه وباقی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومن ثم یجعل مسک الختام مکرساً لذکر مصائب العترة الطاهرة ورزایاهم یوم العاشر من المحرم، بل وحتی قصائد اللطم الیوم أصبحت بحمد الله عبارة عن مزیج ما بین الصور المأساویة التی حملتها ثورة عاشوراء وما بین عدة من المعالجات العقائدیة والاجتماعیة التی یعیشها الإنسان الموالی والمؤمن بقضیة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، فما یتمسک به المتحاملون علی مجالس الرثاء والبکاء واللطم والعزاء عار عن الحقیقة ومن ورائه أسباب ودواعٍ تهدف فی الغالب إلی القضاء علی الشعائر الحسینیة وهدمها شعیرة بعد شعیرة.

 ثم إننا لم نعرف سبب إصرار بعض الأشخاص والجهات والأحزاب علی جعل یوم عاشوراء یوم مسیرات ومؤتمرات سیاسیة مع ان التوجیه الوارد عن أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین هو جعل یوم عاشوراء یوم حزن وبکاء ومصیبة ولا أری وجها معقولا ومقبولا لمثل هذه الأفعال غیر الابتعاد الکبیر ما بین هذه الأحزاب والجهات السیاسیة وما بین خط أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، هذا فیما لو أحسنا الظن بهم ولم نقل ان العملیة مدروسة بدقة للتغطیة والتمویه علی مصیبة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه أو الاستفادة منها لإغراض شخصیة فئویة.

ص: 298

ص: 299

فَأَسْأَلُ اللهَ الَّذِی أَکْرَمَ مَقَامَکَ وَأَکْرَمَنِی بِکَ

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

المبحث الثالث: أنواع الکرامة الممنوحة للإمام الحسین علیه السلام

   أولا: المقامات التی أعطیت لسائر الأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین باستثناء مقام النبوة

   ثانیا: المقامات التی أعطیت للنبی الخاتم وباقی الأئمة

   ثالثا: المقامات التی اشترک فیها مع بعض المعصومین واختلف فیها مع البعض الآخر

   رابعا: المقامات التی انفرد بها الإمام الحسین علیه السلام عن باقی المعصومین

1: برکة التربة الحسینیة وعظیم منفعتها

2و3: فضل زیارته وکرامة زواره عند الله

   فضل زیارة الإمام الحسین علیه السلام

القسم الأول: آداب ما قبل الخروج إلی الزیارة

القسم الثانی: آداب المسیر إلی مرقد الإمام الحسین علیه السلام

القسم الثالث: آداب الحضور والتشرف فی مرقد سید الشهداء علیه السلام

المبحث الرابع: إکرامنا بسید الشهداء علیه السلام

ص: 300

ص: 301

فَأَسْأَلُ اللهَ الَّذِی أَکْرَمَ مَقَامَکَ وَأَکْرَمَنِی بِکَ

اشارة

فی هذه الفقرة الشریفة من الزیارة مباحث مهمة نستعرضها فیما یأتی:

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

لا خلاف بین الإمامیة أعزهم الله ان للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه مقاما کریما عند الله سبحانه وتعالی، شأنه فی ذلک شأن سائر أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وقد ورد ذکر لهذه المنزلة والمقام فی متون کثیر من الزیارات الشریفة، نختار منها علی سبیل الاختصار ما یأتی:

ففی کتاب المزار لمحمد بن المشهدی قال: (زیارة أخری لهم علیهم السلام: یستحب لمن أراد زیارتهم ان یغتسل أولا ثم یأتی بسکینة ووقار، فإذا ورد إلی الباب الشریف وقف علیه وقال: یا موالی یا أبناء رسول الله، عبدکم وابن أمتکم، الذلیل بین أیدیکم، والمضعف فی علو قدرکم، والمعترف بحقکم، جاءکم مستجیرا بکم، قاصدا إلی حرمکم، متوسلا إلی مقامکم، متوسلا إلی الله بکم)(1).


1- المزار لمحمد بن المشهدی ص 88.

ص: 302

ومنها ما جاء فی الزیارة الجامعة الشریفة: (فبلغ الله بکم أشرف محل المکرمین، وأعلی منازل المقربین، وارفع درجات المرسلین، حیث لا یلحقه لاحق، ولا یفوقه فائق، ولا یسبقه سابق، ولا یطمع فی إدراکه طامع. حتی لا یبقی ملک مقرب، ولا نبی مرسل، ولا صدیق، ولا شهید، ولا عالم ولا جاهل، ولا دنی ولا فاضل، ولا مؤمن صالح، ولا فاجر طالح، ولا جبار عنید، ولا شیطان مرید، ولا خلق فیما بین ذلک شهید إلا عرفهم جلالة أمرکم، وعظم خطرکم، وکبر شأنکم، وتمام نورکم، وصدق مقاعدکم، وثبات مقامکم، وشرف محلکم ومنزلتکم عنده، وکرامتکم علیه، وخاصتکم لدیه، وقرب منزلتکم منه)(1).

وفی فقرة (وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً دَفَعَتْکُمْ عَنْ مَقَامِکُمْ وَأَزَالَتْکُمْ عَنْ مَرَاتِبِکُمُ الَّتِی رَتَّبَکُمُ اللَّهُ فِیهَا) التی سبق ذکرها وشرحها تصریح واضح لهذا المقام والمنزلة، وهذه العبارة واللاتی قبلها وان وردت فی حق أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عموما، إلا أن الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه داخل ضمنها لأنه صلوات الله وسلامه علیه فرد من أفراد أهل هذا البیت الطاهر صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

وفی کتاب المزار للشهید الأول قدس الله روحه: (یا مولای یا أبا عبد الله یا ابن رسول الله عبدک وابن عبدک وابن أمتک الذلیل بین یدیک والمصغر فی علو قدرک والمعترف بحقک جاءک مستجیرا بک قاصدا إلی حرمک متوجها إلی مقامک متوسلا إلی الله تعالی بک أأدخل یا مولای أأدخل یا ولی الله أأدخل یا ملائکة الله الحافین المحدقین بهذا الحرم المقیمین فی هذا المشهد)(2) وفیه نص صریح بذکر المقام الکریم لأبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه إذ لولا تکریم الله سبحانه وتعالی لمقامه وإعزازه وتفضیله لما صح التوسل به والتوجه إلی الله بواسطته. 


1- المزار لمحمد بن المشهدی ص 529 __ 530.
2- المزار للشهید الأول ص155.

ص: 303

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

1: فَأَسْأَلُ اللهَ

ال_(الفاء) حرف ابتداء جاء لاستئناف جملة جدیدة، لا تشریک فیما بینها وبین الجملة السابقة.

و(أَسْأَلُ) مشتقة من السؤال أو المسألة وهی بمعنی الاستعطاء أو الطلب، قال ابن منظور: (وسألته الشیء وسألته عن الشیء سؤالا ومسألة، قال ابن بری: سألته الشیء بمعنی استعطیته إیاه)(1).

وقال الشیخ الطوسی فی تفسیره التبیان: (والسؤال والطلب معناهما واحد)(2).

وأما لفظ الجلالة (اللَّهَ) فهو معلوم المعنی بدیهی الدلالة.

2: الَّذِی أَکْرَمَ

و(الَّذِی) من الأسماء الموصولة وهو فی محل نصب نعت __ صفة __ للفظ الجلالة.

و(أَکْرَمَ) من التکرم بمعنی التنزه والترفع، قال الخلیل الفراهیدی: (وتکرم «عن الشائنات» أی: تنزه، وأکرم نفسه عنها ورفعها)(3)، وقال ابن منظور: (وتکرم عن الشیء وتکارم: تنزه)(4).

وقد یکون بمعنی الإعزاز والمحبة، قال ابن منظور: (وأعززته: أکرمته وأحببته)(5).


1- لسان العرب لابن منظور ج 11 ص 319.
2- التبیان للشیخ الطوسی ج 6 ص 6.
3- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 5 ص 368.
4- لسان العرب لابن منظور ج 12 ص 512.
5- لسان العرب لابن منظور ج 5 ص 375.

ص: 304

وقد یکون بمعنی التفضیل والاختیار، قال الشیخ الطریحی: (قوله ((قَالَ أَرَأَیْتَکَ هَذَا الَّذِی کَرَّمْتَ عَلَیَّ))(1) أی أخبرنی عن هذا الذی کرمت علی أی فضلته واخترته علی وأنا خیر منه)(2).

وقد یکون بمعنی الإعظام والتبجیل، قال ابن منظور: (وأکرم الرجل وکرمه: أعظمه ونزهه)(3).

3: مَقَامَکَ

وال_(مَقَامَ) تارة یطلق ویراد منه المعنی المادی فیقصد منه الإقامة إذا کان مفتوحا، أو موضع القیام إذا کان مضموما، قال ابن منظور: (وأما المَقام والمُقام فقد یکون کل واحد منهما بمعنی الإقامة، وقد یکون بمعنی موضع القیام، لأنک إذا جعلته من قام یقوم فمفتوح، وإن جعلته من أقام یقیم فمضموم، فإن الفعل إذا جاوز الثلاثة فالموضع مضموم المیم، لأنه مشبه ببنات الأربعة نحو دحرج وهذا مدحرجنا. وقوله تعالی: لا مقام لکم، أی لا موضع لکم، وقرئ لا مقام لکم، بالضم، أی لا إقامة لکم. وحسنت مستقرا ومقاما، أی موضعا)(4).

وتارة یطلق ال_(مَقَامَ) ویراد به المعنی المجازی أو المعنوی، فیکون بمعنی المنزلة الحسنی، فتقول فلان ذو مقام عند السلطان، أی ذو منزلة حسنة عنده، وکل من المعنی المادی والمعنوی المجازی یمکن ان یکون مقصودا فی هذه الفقرة الشریفة من الزیارة لما سیأتی من ان مثوی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ومقام دفنه مما کرم وفضل وشرف من قبل الله سبحانه وتعالی کما شرف منزلته ورتبته. 


1- سورة الإسراء الآیة رقم 62.
2- مجمع البحرین للشیخ الطریحی ج 4 ص 34.
3- لسان العرب لابن منظور ج 12 ص 512.
4- المصدر السابق ص498.

ص: 305

4: وَأَکْرَمَنِی بِکَ 

و(وَأَکْرَمَنِی) یتبین معناها بمراجعة معنی (أَکْرَمَ) الذی سبق توضیحه آنفا، و(بِکَ) الباء هنا سببیة والکاف ضمیر یرجع إلی شخص الإمام أبی عبد الله الحسین صلوات الله وسلامه علیه.

فیکون معنی هذه الفقرة الشریفة بحسب ما مر من معانٍ لغویة هو: (فأسأل واطلب واستعطی الله الذی نزه مقامک ورفع قدرک واعز منزلتک الحسنی لدیه، والذی شرف وفضل ونزه مثواک ومحل قبرک وتربتک التی فیها ثویت، والذی فضلنی ونزهنی وأعزنی بسببک أن یرزقنی طلب ثأرک مع إمام منصور من أهل بیت محمد صلی الله علیه وآله).

المبحث الثالث: أنواع الکرامة الممنوحة للإمام الحسین علیه السلام

اشارة

ربما أمکن تقسیم مقامات سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه التی منحها الله سبحانه وتعالی له إلی أربعة أقسام رئیسة هی کل من:

أولا: المقامات التی أعطیت لسائر الأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین باستثناء مقام النبوة

 وان کان المعنی اللغوی للنبوة متحققاً للإمام الحسین وسائر أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أیضا، وذلک لان النبی لغة مشتق من النبأ وهو الخبر فالنبی هو من اخبر عن الله سبحانه ولو بواسطة الوحی أو غیر ذلک من الوسائل المعتد بها شرعا، قال الجوهری فی الصحاح: (النبأ: الخبر، تقول نبأ ونبأ، أی: أخبر، ومنه أخذ النبی لأنه أنبأ عن الله تعالی، وهو فعیل، بمعنی فاعل)(1)، وسائر الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین 


1- الصحاح للجوهری ج 1 ص 74

ص: 306

أخبروا عن الله سبحانه وبلغوا أحکامه بوساطة النبی الأکرم صلی الله علیه وآله وسلم وهو أفضل من جبرائیل علیه السلام، فتکون نبوتهم بالمعنی اللغوی أفضل وأکمل من سائر الأنبیاء.

إلا ان المعنی الاصطلاحی للنبی متفق عند سائر المسلمین علی انعدامه فی غیر النبی المصطفی صلی الله علیه وآله وسلم وذلک لوجود النص القطعی علی ختم النبوة بنبوة النبی الأعظم محمد بن عبد الله صلی الله علیه وآله وسلم ، وحدیث النبی صلی الله علیه وآله وسلم وقوله لأمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه: (أنت منی بمنزلة هارون من موسی إلا انه لا نبی بعدی)(1) فکأن النبی صلی الله علیه وآله وسلم أراد من قوله أنت منی بمنزلة هارون إعطاء منزلة الکمال الذی لولا خاتمیة نبوته صلی الله علیه وآله وسلم لکان نبیا.

 فالإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وسائر الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومن ضمنهم الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه لهم منازل الأنبیاء لکنهم لیسوا کذلک إجماعا، وقد مر فی مبحث سابق إثبات أفضلیتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین علی سائر الأنبیاء باستثناء نبینا صلی الله علیه وآله وسلم ، ومن کان أفضل من سائر الأنبیاء حوی واجتمعت فیه وله سائر فضائلهم ومنازلهم.

ثانیا: المقامات التی أعطیت للنبی الخاتم وباقی الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین

ذکرنا فی مباحث سابقة ان بعض المقامات اشترک فیها سائر أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین مع النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ، وقسمنا هذه المنازل إلی قسمین:

القسم الأول: تلک المنازل التی منحت لهم قبل ان یخلق الله هذا العالم، وخصصنا بالذکر کلاً من: 


1- الکافی للکلینی: ج8، ص107. صحیح مسلم: ج7، ص120.

ص: 307

1: عالم الأشباح والأنوار.

2: عالم الطینة.

3: عالم الأظلة. 

4: عالم الذر.

5: عالم الأصلاب.

والقسم الثانی: تلک المنازل والمراتب التی منحت لهم بعد إیجادهم وتحقق أنوارهم فی الخارج، وقد قسمنا هذه المراتب والمنازل بحسب الإجمال إلی ثلاثة أقسام هی:

1: مرتبة الاصطفاء علی جمیع العالمین.

2: مرتبة الوصایة والخلافة للنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم .

3: مرتبة تربیة الأمة عقائدیا وتزکیتهم روحیا.

وقد مر الکلام مفصلا عن کل قسم من هذین القسمین، وبینا الروایات الدالة علی تفضیلهم وتنزیههم وتکریمهم فی جمیع هذه العوالم، کما وتوجد مقامات آخر لم نذکرها لبداهتها وشهرتها عند عامة الموالین نظیر مقام العصمة والعلم وغیرهما من المقامات التی أصبحت من بدیهیات المذهب الحق مذهب أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

ثالثا: المقامات التی اشترک فیها مع بعض المعصومین واختلف فیها مع البعض الآخر

لا نرید فی هذا القسم إجراء إحصاء کامل لجمیع المسائل التی یشترک فیها الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه مع بعض الأئمة المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین والتی

ص: 308

اختلف فیها فی نفس الوقت مع البعض الأخر منهم، لکننا نشیر إلی البعض منها ونترک استنباط الباقی للقارئ وفطنته، وقد وقع اختیاری علی التالی:

1: ان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه اشترک مع کل من أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب والسیدة الزهراء والإمام الحسن المجتبی صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی انه وإیاهم من أصحاب الکساء الذین جمعهم النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فی حادثة متواترة عند الخاص والعام تحت کساء یمانی أو خیبری وسماهم بأهل بیته ونزل بحقهم وشأنهم قوله تعالی: ((إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا))(1)وقد تقدم الکلام عن هذه الحادثة مرارا خلال البحوث السابقة.

2: ان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه اشترک مع أبیه أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه بأن کلیهما موصوف علی لسان الروایات والزیارات الشریفة ب_(ثار الله) و(قتیل الله)، ولم أجد بحسب المصادر التی بین یدی نصا أطلق لقب (ثار الله) أو (قتیل الله) علی غیر الإمام الحسین وأبیه الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیهما من سائر المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

3: ان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه اشترک مع أخیه الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه بأنهما سبطا النبی صلی الله علیه وآله وسلم من دون سائر الخلق أجمعین، وان أمهما سیدة نساء العالمین صلوات الله وسلامه علیها، وهی أفضل أمهات الأئمة بل أفضل من والدة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ، ووالدة أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، علی الرغم من منزلتهما وفضلهما، وإنهما سیدا شباب أهل الجنة، إلی غیر ذلک الکثیر الکثیر من المنازل المشترکة بینهما صلوات الله وسلامه علیهما.


1- سورة الأحزاب الآیة رقم 33.

ص: 309

رابعا: المقامات التی انفرد بها الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه عن باقی المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین
اشارة

المقامات التی أعطیت لسید الشهداء والتی اختص بها دون بقیة الأئمة المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لا یمکن ان تحصی علی هذه العجالة والاختصار الذی نحن فیه، وحال الباحث فیها والمحصی لها کحال من یقف أمام بحر عمیق مترامی الأطراف وهو یحمل بیدیه إناء صغیر یرید وضع ذلک البحر فی هذا الإناء، أو کالواقف أمام جبل عظیم شامخ یرید ضمه بین ذراعیه، فکما لا یستطیع الإناء ان یسع البحر الواسع، وکما لا تستطیع الید البشریة ان تحیط بالجبل وتحتضنه، کذلک لا یستطیع جمیع البشر من غیر المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین الإحاطة وفهم واستیعاب مقام سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه، فالاعتراف بالقصور قبل البدء هو الأنسب بحالنا، ولکن ما لا یدرک کله لا یترک کله، ومن لا یستطیع ان یصل إلی کنه مقام أبی عبد الله الحسین صلوات الله وسلامه علیه، فانه علی اقل التقادیر یستطیع ان یصل إلی بعضها من خلال ما ذکره أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أنفسهم، فیمکن لمتتبع الزیارات والروایات الشریفة الصادرة فی حق سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه ان یعثر علی بعض تلک المقامات، فمقام سید الشهداء، وشهید الشهداء، ومن طیف برأسه فی البلدان وهو یرتل القرآن، وانه شبیه یحیی بن زکریا علیه السلام، وانه قتیل الأدعیاء، هی قطرة من ذلک البحر العظیم الواسع.

إلا ان کثیرا من الأحادیث الشریفة أکدت وبشکل ملفت للانتباه علی أربعة مقامات مهمة، أوضحها حدیث (محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر وجعفر بن محمد «علیهما السلام» یقولان: إن الله «تعالی» عوض الحسین «علیه السلام» من قتله أن جعل الإمامة فی ذریته، والشفاء فی تربته، وإجابة الدعاء عند قبره، ولا تعد أیام

ص: 310

زائریه جائیا وراجعا من عمره. قال محمد بن مسلم: فقلت لأبی عبد الله «علیه السلام»: هذا الجلال ینال بالحسین «علیه السلام» فماله فی نفسه؟ قال: إن الله «تعالی» ألحقه بالنبی «صلی الله علیه وسلم» فکان معه فی درجته ومنزلته، ثم تلا أبو عبد الله ((وَالَّذِینَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّیَّتُهُمْ بِإِیمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّیَّتَهُمْ)))(1).

وقد ورد هذا المعنی أیضا فی الزیارة المرویة عن الإمام المهدی المنتظر صلوات الله وسلامه علیه والتی جاء فیها: (السلام علی من جعل الشفاء فی تربته، السلام علی من الإجابة تحت قبته، السلام علی من الأئمة من ذریته)(2).

والروایات الشریفة فی استحباب الدعاء عند قبره الشریف وتحت قبته المنیفة فوق الإحصاء، کذلک الحال فی استحباب التبرک بتربته واتخاذها مسبحة یسبح لله سبحانه فیها، ویسجد علیها، وتتخذ دواءً یستشفی بها من کل مرض وأمناً من کل خوف ویسراً من کل عسر، کذلک بالنسبة إلی فضل زیارته وکرامة الزائر والألطاف التی تسبغ علیه ببرکة زیارة سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه، وواحدة من هذه الکرامات والألطاف هی ما بینته الروایة السابقة من عدم احتساب أیام زیارة زواره من أعمارهم، وفیما یأتی جملة من تلک الروایات نذکرها للقارئ الکریم تبرکا وتشویقا للمقصرین وتعریفا للقاصرین، نفعنا الله وإیاهم بزیارته وتربته وجمیع ألطافه ومقاماته فی الدنیا والآخرة.

1: برکة التربة الحسینیة وعظیم منفعتها
اشارة

وفیما یأتی جملة من الفوائد والبرکات التی اختصت بها التربة الحسینیة المقدسة:


1- الأمالی للشیخ الطوسی ص317.
2- المزار لمحمد بن المشهدی ص497.

ص: 311

ألف: ان السجود علیها یخرق الحجب السبعة

عن معاویة بن عمار قال: (کان لأبی عبد الله علیه السلام خریطة دیباج صفراء فیها تربة أبی عبد الله علیه السلام، فکان إذا حضرته الصلاة صبه علی سجادته وسجد علیه، ثم قال علیه السلام: السجود علی تربة أبی عبد الله علیه السلام یخرق الحجب السبع)(1).

وکتعلیق علی هذا الحدیث الشریف یقول الشیخ وحید الخراسانی: (فإن السجود أعظم عبادة أمر الله سبحانه نبیه صلی الله علیه وآله وسلم به للاقتراب إلیه...والإمام المعصوم یتوسل فی سجوده الذی هو نهایة تقربه بتراب الحسین علیه السلام، لکی یخرق به الحجب السبع. فماذا یمکن أن یقال فی شأن دم صار ذلک التراب بإضافته إلیه خارقا للحجاب بین العبد وربه، وموصلا لعباد الله إلی منتهی کرامة الله)(2).

باء: انها شفاء من کل داء وامن من کل خوف وبأس 
اشارة

وفیما یخص الاستشفاء بالتربة الحسینیة وکونها دواء من کل داء روی محمد بن سلیمان البصری عن أبیه، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: (فی طین قبر الحسین علیه السلام الشفاء من کل داء، وهو الدواء الأکبر)(3) وعن أبی عبد الله الصادق أیضا انه صلوات الله وسلامه علیه قال: (طین قبر الحسین فیه شفاء وإن أخذ علی رأس میل)(4).

لکن الأحادیث الأخری وضعت شرطین لإمکان الانتفاع بطین قبر المولی


1- مصباح المتهجد للشیخ الطوسی ص734.
2- منهاج الصالحین للشیخ وحید الخراسانی ج 1 ص 361 __362.
3- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص462.
4- المزار للشیخ المفید ص144 __ 145.

ص: 312

صلوات الله وسلامه علیه وحتمیة الانتفاع بآثارها، الأول هو اعتراف واعتقاد أخذها والمستشفی بها لحرمة وحق وولایة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، والشرط الثانی ان لا تکون العلة التی یتداوی منها علة الموت، فعن أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (لو أن مریضا من المؤمنین یعرف حق أبی عبد الله الحسین علیه السلام وحرمته وولایته، أخذ له من طین قبر الحسین علیه السلام مثل رأس الأنملة کان له دواء)(1).

وقال صلوات الله وسلامه علیه أیضا: (من أصابته علة فتداوی من طین قبر الحسین علیه السلام شفاه الله من تلک العلة، إلا أن تکون علة السام)(2).

هل الاستشفاء بتربة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ینفع المخالفین؟

ولعل الإطلاق فی هذین الحدیثین بقوله صلوات الله وسلامه علیه (لو ان مریضا من المؤمنین) وقوله صلوات الله وسلامه علیه (من أصابته علة فتداوی) مطلق لا یختص بموالی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وان کان موالیهم أولی الناس بالاستفادة من برکاتها، فیصبح کل من یأخذ من طین قبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وهو یری لأبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه حرمة وحقاً فإنه ینتفع بها وتکون له شفاء حتی وان کان من المخالفین، اللهم إلا أن یقال ان معنی قوله صلوات الله وسلامه علیه (مریضا من المؤمنین یعرف حق أبی عبد الله الحسین علیه السلام) هو خصوص الموالی لهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، لان الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وأصحابهم ومن جاء بعدهم غالبا ما یعبرون بالمؤمن أو المؤمنین ویقصدون منه خصوص الموالی دون المخالف، وهو احتمال غیر بعید، ولکن لو وجد من المخالفین من یعرف حق الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ویکون موصوفا


1- مصباح المتهجد للشیخ الطوسی ص732.
2- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص462.

ص: 313

بالإیمان بالمعنی الأعم وتناول من تربة قبره الشریف متیقنا بنفعها وبرکتها فإننا نرجو له الاستفادة من أثرها وتحصیل منفعتها وتکون له شفاء ورحمة لسببین:

احدهما: ان الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین باب رحمة فتحت لعموم المسلمین بل لعموم البشر، وبرکاتهم وألطافهم وعطاؤهم من عطاء الله ورحمته وفیضه وهو عام للموالین وغیرهم ولمن هو مسلم موحد وغیره، وقد ورد فی الدعاء المعروف (یا من یعطی من سأله، یا من یعطی من لم یسأله ولم یعرفه تحننا منه ورحمة)(1) فلیس بعیداً والحال هذه ان تعم برکة تربة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه الموالی والمخالف بل المسلم وغیره، وما ینقل من القصص بانتفاع بعض من غیر المسلمین بهذه التربة الطاهرة خیر شاهد وقرینة علی ما قدمنا.

والسبب الثانی: لیکون الانتفاع بتربته الطاهرة بالنسبة للمخالفین أو غیر المسلمین حجة علیهم ودلیلا علی صدق ما یدعو إلیه أتباع أهل البیت وأئمتهم الطاهرون صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وهو سبب عقلائی وجیه یصحح إمکان بل استحسان تحقق اثر الشفاء بالتربة الحسینیة بالنسبة للمخالفین بل وغیر المسلمین.

ولکن یستثنی الناصبی من ذلک کله لانتفاء جمیع الشروط فیه فهو لیس من أهل الإیمان ولا یری حقا للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ولا حرمة لتربته الطاهرة، فیکون انتفاء الفائدة والأثر بسبب وجود المانع وهو النصب.

أما بالنسبة إلی بقیة فوائد التربة الطاهرة للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه فقد ورد فی الروایات الشریفة أنها أمان من کل خوف وحفظ من کل سوء، فعن عیسی بن سلیمان، عن محمد بن زیاد، عن عمته قالت: (سمعت أبا عبد الله علیه السلام


1- إقبال الأعمال للسید بن طاوس ج3 ص211.

ص: 314

یقول: إن فی طین الحائر الذی فیه الحسین علیه السلام، شفاء من کل داء وأمانا من کل خوف وحفظا من کل سوء)(1).

وعن الصادق صلوات الله وسلامه علیه أنه قیل له: (تربة قبر الحسین علیه السلام شفاء من کل داء، فهل هی أمان من کل خوف؟ فقال: نعم، إذا أراد أحدکم أن یکون آمنا من کل خوف فلیأخذ المسبحة من تربته، ویدعو بدعاء المبیت علی الفراش ثلاث مرات، ثم یقبلها ویضعها علی عینیه ویقول: اللهم إنی أسألک بحق هذه التربة، وبحق صاحبها، وبحق جده وبحق أبیه، وبحق أمه وأخیه، وبحق ولده الطاهرین اجعلها شفاء من کل داء، وأمانا من کل خوف، وحفظا من کل سوء، ثم یضعها فی جیبه فان فعل ذلک فی الغداة فلا یزال فی أمان الله حتی العشاء وإن فعل ذلک فی العشاء فلا یزال فی أمان الله حتی الغداة)(2).

تنبیهات مهمة تتعلق بأکل التربة الحسینیة

ولکن یجب علی الموالین ان یتنبهوا علی عدة أمور مهمة تتعلق بالاستشفاء بطین أو تراب قبر الحسین صلوات الله وسلامه علیه وتربة کربلاء، وأهمها ما یأتی:

أولا: حرمة أکل التراب والطین عموما لثبوت الضرر فی أکله

 ان الأحادیث الشریفة عن المعصومین صرحت بشکل لا یقبل الشک بحرمة أکل التراب والطین مطلقا باستثناء طین قبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، لترتب الضرر الفادح علی بدن الإنسان، وقد شبه أکله فی بعض الروایات کأکل لحم الخنزیر، فعن أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه: (الطین حرام کله کلحم الخنزیر


1- مصباح المتهجد للشیخ الطوسی ص734.
2- وسائل الشیعة للحر العاملی ج 11 ص 428.

ص: 315

ومن أکله ثم مات فیه لم أصل علیه)(1) وعن أبی عبد الله علیه السلام قال: (أکل الطین یورث النفاق)(2)، وعن أبی جعفر الباقر صلوات الله وسلامه علیه قال: (إن التمنی عمل الوسوسة وأکثر مصائد الشیطان أکل الطین وهو یورث السقم فی الجسم ویهیج الداء ومن أکل طینا فضعف عن قوته التی کانت قبل أن یأکله وضعف عن العمل الذی کان یعمله قبل أن یأکله حوسب علی ما بین قوته وضعفه وعذب علیه)(3).

ثانیا: استثناء طین قبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بشرطین مهمین

ان المستثنی من طین قبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وتربة کربلاء المقدسة هو ان لا یؤکل منها إلا لغرض الاستشفاء من علة أو داء، وان لا یزید مقدار الأکل بأکثر من مقدار حبة حمص أو عدس، والروایات الشریفة صریحة فی النهی عن أخذها من دون حاجة الاستشفاء ومن دون أن یزید مقدارها عن حمصة ومن أکل لغیر هذا القصد أو أکثر من هذا المقدار فقد أکل من لحم أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فقد روی حنان بن سدیر عن أبیه عن أبی عبد الله علیه السلام أنه قال: من أکل من طین قبر الحسین علیه السلام غیر مستشف به فکأنما أکل من لحومنا)(4).

وفی روایة ثانیة عنه صلوات الله وسلامه علیه قال: (فقبلها قبل کل شیء وضعها علی عینیک، ولا تناول منها أکثر من حمصة فإنه من تناول أکثر من ذلک فکأنما أکل من لحومنا ودمائنا)(5).


1- الکافی للشیخ الکلینی ج 6 ص 265.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق ص266.
4- مصباح المتهجد للشیخ الطوسی ص 733.
5- الدعوات لقطب الدین الراوندی ص 186.

ص: 316

ثالثا: جواز أکل التربة الحسینیة لا یتعدی إلی باقی قبور المعصومین 

حکم جواز أکل طین قبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه والاستشفاء به وبتربة کربلاء المقدسة، لا یتعدی بحسب الظاهر إلی غیره من الأئمة صلوات الله وسلامه علیه حتی تراب قبر النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وأمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، وما روی فی کامل الزیارة عن: (محمد بن الحسن بن علی بن مهزیار، عن جده علی بن مهزیار، عن الحسن بن سعید، عن عبد الله بن عبد الرحمان الأصم، قال: حدثنا أبو عمرو شیخ من أهل الکوفة، عن أبی حمزة الثمالی، عن أبی عبد الله علیه السلام، قال: کنت بمکة __ وذکر فی حدیثه __ قلت: جعلت فداک إنی رأیت أصحابنا یأخذون من طین الحائر لیستشفون به هل فی ذلک شیء مما یقولون من الشفاء، قال: قال: یستشفی بما بینه وبین القبر علی رأس أربعة أمیال، وکذلک قبر جدی رسول الله صلی الله علیه وآله، وکذلک طین قبر الحسن وعلی ومحمد، فخذ منها، فإنها شفاء من کل سقم وجنة مما تخاف)(1) فانه ضعیف لوجود (عبد الله بن عبد الرحمان الأصم) ضمن سنده وهو کما یقول ابن الغضائری: (عبد الله بن عبد الرحمان الأصم، المسمعی، أبو محمد. ضعیف، مرتفع القول. له کتاب فی الزیارات، ما یدل علی خبث عظیم، ومذهب متهافت. وکان من کذابة أهل البصرة)(2) .

وقال العلامة الحلی: (عبد الله بن عبد الرحمان الأصم المسمعی، بصری ضعیف غال، لیس بشیء، وله کتاب فی الزیارات یدل علی خبث عظیم ومذهب متهافت، وکان من کذابة أهل البصرة)(3).


1- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص 470.
2- رجال ابن الغضائری لأحمد بن الحسین الغضائری الواسطی البغدادی ص76 __ 77.
3- خلاصة الأقوال للعلامة الحلی ص372

ص: 317

رابعا: تفضیل تربة کربلاء علی غیرها لا یعنی أفضلیة الإمام الحسین علی النبی صلی الله علیه وآله وسلم

تخصیص جواز أکل طین قبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه للاستشفاء دون بقیة المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین حتی النبی الأکرم صلی الله علیه وآله وسلم لا یدل قطعا علی أفضلیة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه علی النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم والإمام أمیر المؤمنین علی ابن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، کما یحاول النواصب وأعداء أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین تثبیته ورمی الشیعة به، لان من قواعد المذهب الحق وأسسه ان النبی صلی الله علیه وآله وسلم هو أفضل الخلق وأکرمهم، کذلک ثبت بالدلیل والروایات الکثیرة ان الإمام أمیر المؤمنین أفضل من الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیهما، بل ان کل ما عند الإمام الحسین من کرامة ومقام وفضل إنما یرجع سببه إلی کل من النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم والإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، فلولا وجود النبی لما وجد إسلام ولا دین ولما وجدت إمامة ووصایة، فالنبی وأمیر المؤمنین هما الأصل والحسین صلوات الله وسلامه علیه فرع من ذلک الأصل، وعلیه فیکون تقدیس الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه فی حقیقته تقدیساً للنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وتقدیساً لأمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، وتعظیم الکل وتقدیسهم هو فی حقیقته تعظیم وتقدیس لله سبحانه وتعالی.

خامسا: هل یجب قراءة الأدعیة والختومات علی التربة قبل تناولها؟

وردت روایات عدة فی آداب التربة وکیفیة أخذها وطریقة تناولها، وذکرت هذه الروایات الشریفة الأدعیة والختومات الخاصة بالتربة الحسینیة من حین أخذها إلی حین تناوله، وسنکتفی بذکر روایتین ونترک التفصیل طلبا للاختصار، ولان کثیرا من کتب الأدعیة والزیارات قد تکفلت بهذه المهمة، فالأولی ما رواه یونس بن ظبیان عن أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (طین قبر الحسین علیه السلام شفاء من

ص: 318

کل داء، فإذا أکلت، فقل: بسم الله وبالله، اللهم اجعله رزقا واسعا وعلما نافعا وشفاء من کل داء إنک علی کل شیء قدیر، اللهم رب التربة المبارکة ورب الوصی الذی وارته صل علی محمد وآل محمد واجعل هذا الطین شفاء من کل داء وأمانا من کل خوف)(1).

وروی حنان بن سدیر عن أبیه عن أبی عبد الله علیه السلام أنه قال: (من أکل من طین قبر الحسین علیه السلام غیر مستشف به فکأنما أکل من لحومنا فإذا احتاج أحدکم للأکل منه لیستشفی به، فلیقل: بسم الله وبالله، اللهم رب هذه التربة المبارکة الطاهرة، ورب النور الذی أنزل فیه ورب الجسد الذی سکن فیه ورب الملائکة الموکلین به صل علی محمد وآل محمد واجعله لی شفاء من داء __ کذا وکذا __، واجرع من الماء جرعة خلفه، وقل: اللهم اجعله رزقا واسعا وعلما نافعا وشفاء من کل داء وسقم. فإن الله تعالی یدفع عنک بها کل ما تجد من السقم والهم والغم إن شاء الله تعالی)(2).

والذی نود الإشارة إلیه هو ان جملة من فقهاء المذهب الأعلام ذهبوا إلی ان هذه الأدعیة والأحراز هی شروط کمالیة لسرعة إجابة الدعاء وسرعة حصول التأثیر، ولیست شرطا لأصل تأثیرها وجواز تناولها، وفی هذا الصدد یقول السید السیستانی: (یستثنی من الطین طین قبر الإمام الحسین علیه السلام للاستشفاء، ولا یجوز أکله لغیره، ولا أکل ما زاد عن قدر الحمصة المتوسطة الحجم، ولا یلحق به طین قبر غیره حتی قبر النبی صلی الله علیه وآله والأئمة علیهم السلام، نعم لا بأس بأن یمزج بماء أو مشروب آخر علی نحو یستهلک فیه والتبرک بالاستشفاء بذلک الماء


1- مصباح المتهجد للشیخ الطوسی 733.
2- مصباح المتهجد للشیخ الطوسی 733.

ص: 319

وذلک المشروب ... قد ذکر لأخذ التربة المقدسة وتناولها عند الحاجة آداب وأدعیة خاصة، ولکن الظاهر أنها شروط کمال لسرعة تأثیرها لا أنها شرط لجواز تناولها)(1).

وقال السید الکلبایکانی: (یستثنی من الطین طین قبر الحسین علیه السلام للاستشفاء، فإن تربته المقدسة شفاء من کل داء، وهی من الأدویة المفردة، ولا تمر بداء إلا هضمته. ولا یجوز أکلها لغیر الاستشفاء، ولا أکل ما زاد عن قدر الحمصة المتوسطة. ولا یلحق به طین قبر النبی والأئمة علیهم السلام علی الأحوط إن لم یکن أقوی. نعم لا بأس بأن یمزج طینها بماء أو عصیر والتبرک والاستشفاء بذلک الماء أو العصیر، ولا بد أن یستهلک التراب فی السائل، وکذا لا بأس بالاستشفاء بغیر الأکل، بأن یمسح التراب بموضع الوجع أو یحمله معه تبرکا مع مراعاة احترامه ... لأخذ التربة الحسینیة المقدسة والاستشفاء بها وتناولها عند الحاجة آداب وأدعیة مذکورة فی محالها، خصوصا فی کتب المزار، کمزار بحار الأنوار، والظاهر أنها جمیعا شروط لسرعة تأثیرها لا لجواز تناولها)(2).

سادسا: ضرورة احترام التربة الحسینیة وحفظها فی المکان المناسب

صرحت الروایات الشریفة بلزوم احترام التربة الحسینیة الشریفة وخصوصا التی تؤخذ للاستشفاء والتداوی، فینبغی علی حاملها إلی منزله أو غیره من المواضع، أن لا یضعها فی الثیاب الوسخة أو فی الأوعیة التی تستلزم قلة احترامها، فقد روی عن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه فی حق تربة جده صلوات الله وسلامه علیه: (وإنما یفسدها ما یخالطها من أوعیتها وقلة الیقین لمن یعالج بها...ولقد بلغنی ان بعض من یأخذ من


1- منهاج الصالحین للسید السیستانی ج 3 ص 302 مسألة رقم 920 و 921.
2- هدایة العباد للسید الکلبایکانی ج 2 ص 233 مسألة رقم 818 و 819.

ص: 320

التربة شیئا یستخف به حتی أن بعضهم یضعها فی مخلاة البغل والحمار وفی وعاء الطعام والخرج فکیف یستشفی به من هذا حاله عنده)(1).

فینبغی علی من یرید الاحتفاظ بتربة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ان یهتم بها ویحفظها کما یحتفظ التجار والأغنیاء بجواهرهم وان یختار لها الموالی مکانا یناسب قداستها وأهمیتها، فالتربة الحسینیة لا تقل أهمیة عن الجوهر والدر والیاقوت، بل هی أغلی من کل ذلک، فکم من غنی لم ینتفع بجواهره وذهبه وفضته فی دفع المرض عن نفسه والألم والأوجاع عن جسده، ومات وهو ینظر حسرة إلی ما جمعه وأخفاه عن أقرب مقربیه، کذلک الجواهر لا تدفع عن قلوب مدخریها وجامعیها الخوف والرعب فیما لو ألمّ بهم حادث تطیر منه القلوب وترتعد منه الفرائص، لکن التربة الحسینیة المطهرة تمتلک کل هذا التأثیر، فهی فی واقعها أغلی من کل غال ونفیس، فیجب علی من یرید تحصیل آثارها المبارکة ان یحرص علی تکریمها وتقدیسها وإجلالها لینتفع بها ولا ترفع البرکة عنها.

سابعا: استهزاء المخالفین بالاستشفاء بالتربة الحسینیة لا وجه له 

من یتابع القنوات الفضائیة المعادیة لفکر أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وأولیائهم، ومن یتأمل فی المواقع الالکترونیة المدعومة من قبل الجهات التکفیریة الضالة، یجدهم یطیلون التشنیع ویطنبون فی القدح والذم بشیعة أهل البیت الکرام، وعلمائهم الأعلام، بسبب توسلهم وتعظیمهم وتقدیسهم واستشفائهم بتربة سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه، بحجة ان المسلم علیه ان یلتجئ إلی القرآن الکریم حین مرضه لقوله سبحانه وتعالی ((وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِینَ وَلَا یَزِیدُ الظَّالِمِینَ إِلَّا خَسَارًا))(2)،


1- وسائل الشیعة الحر العاملی ج24 ص.228
2- سورة الإسراء الآیة رقم 82.

ص: 321

ولان المسلم مأمور باللجوء إلی الأسباب الطبیعیة فی معالجة أمراض البدن، ولان أکل التراب بصورة مطلقة یضر بالبدن ویسبب ما لا یحصی من الأمراض القاتلة.

أقول: ان استهزاءهم بالاستشفاء بتربة سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه عجیب للغایة؛ لأنهم وبشهادة کتبهم یجوزون أکل التراب والفحم والجص، أما بجواز مطلق أو مع الکراهة، قال عبد الله بن قدامة: (قال أحمد: أکره أکل الطین ولا یصح فیه حدیث إلا أنه یضر بالبدن ویقال إنه ردیء وترکه خیر من أکله وإنما کرهه أحمد لأجل مضرته فإن کان منه ما یتداوی به کالطین الأرمنی فلا یکره، وإن کان مما لا مضرة فیه ولا نفع کالشیء الیسیر جاز أکله لأن الأصل الإباحة والمعنی الذی لأجله کره ما یضر وهو منتف ههنا فلم یکره)(1).

وقال البیهقی فی السنن الکبری: (باب ما جاء فی أکل الطین قد روی فی تحریمه أحادیث لا یصح شیء منها)(2)

وقال ابن حزم: (وأکل الطین لمن لا یستضر به حلال، وأما کل ما یستضر به من طین أو إکثار من الماء أو الخبز فحرام؛ لأنه لیس مما فصل تحریمه لنا فهو حلال، وأما کل ما أضر فهو حرام)(3).

وقد عدّ أکله فی أثناء الصیام لا یوجب الکفارة، قال السرخسی: (وإذا أکل الصائم الطین أو الجص أو الحصاة متعمدا فعلیه القضاء ولا کفارة علیه وقد بینا هذا ومراده طین الأرض)(4).


1- المغنی لعبد الله بن قدامة ج 11 ص 88.
2- السنن الکبری للبیهقی ج10 ص11.
3- المحلی لابن حزم ج 7 ص 430.
4- المبسوط للسرخسی ج3 ص100.

ص: 322

وقال المرداوی: (یکره أکل التراب والفحم. جزم به فی الرعایتین والحاویین وغیرهم)(1).

وقد حکموا علی بعض أنواع الطین بجواز أکلها لأنها مما یستشفی به، کالطین المسمی بالطین الارمنی، والطین البحاری، قال الشیخ محمد الحنفی: (وأکل الطین البحاری لا بأس به ما لم یسرف وکراهة أکله لا لحرمته بل لأنه یهیج الدم)(2).

وقال البهوتی: (فإن کان منه __ أی الطین __ ما یتداوی به کالطین الأرمنی لم یکره؛ لأنه لا ضرر فیه وکذا یسیر تراب، وطین بحیث لا یضر فلا یکره لانتفاء علة الکراهة)(3).

فیتضح مما سبق ان أهل السنة یذهبون إلی ان التراب أو الطین ان کان فیه ضرر فیکره، وان لم یکن فیه نفع أو ضرر کالشیء الیسیر فهو جائز، أما ان کان مما یستشفی به فأکله جائز کالطین الارمنی والطین البحاری.

والاستشفاء بالتربة الحسینیة من قبل الموالین المقدسین لإمامهم الشهید وتربته الطاهرة، هو من قبیل الطین الذی یستشفی به، فیکون جائزا بلا خلاف، وإذا أردنا ان نتنزل ونحکم من باب إلقاء الحجة علی الخصم بان أکل تربة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه من قبل الموالین وبمقدار هو اقل من الحمصة المتوسطة الحجم یکون داخلا فی قولهم: (وإن کان مما لا مضرة فیه ولا نفع کالشیء الیسیر جاز أکله؛ لأن الأصل الإباحة والمعنی الذی لأجله کره ما یضر وهو منتف ههنا فلم یکره)(4).


1- الإنصاف للمرداوی ج 10 ص 368.
2- تکملة البحر الرائق لمحمد بن حسین بن علی الطوری القادری الحنفی ج 2 شرح ص338.
3- کشاف القناع للبهوتی ج 6 ص 246.
4- المغنی لعبد الله بن قدامة ج 11 ص 88.

ص: 323

فیصبح حکم أکل التربة الحسینیة بالمقدار المتقدم صحیحا علی وفق مبانی مذهب أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومبانی المخالفین، ومن یستهزئ بموالی أهل البیت فانه فی الحقیقة یستهزئ بأئمة مذهبه؛ لأنهم حکموا بجواز أکل مطلق التراب بل جوزوا أکل الفحم والجص، بینما حرم علماؤنا الأعلام رضوان الله تعالی علیهم اجمعین ذلک کله.

إضافة إلی بطلان ما تذرع به المخالفون من لزوم الاکتفاء بالقرآن لأنه شفاء ورحمة للمؤمنین، لان القرآن لا یرید بقوله ((وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِینَ وَلَا یَزِیدُ الظَّالِمِینَ إِلَّا خَسَارًا))(1) ان یحصر أسباب الشفاء بالقرآن الکریم، بل یرید سبحانه ان یبین ان واحدة من وسائل الشفاء هو القرآن الکریم، وإلا لو حکموا علی الشیعة وأتباع أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بالکفر والانحراف والضلال بسبب استشفائهم بتربة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، فیجب علیهم حینئذ ان یحکموا بکفر وضلال وانحراف جمیع الطوائف الأخری من أتباع المذاهب السنیة بسبب ترکهم للاستشفاء بالقرآن وذهابهم إلی المستشفیات والعیادات الطبیة وأخذهم للأدویة الکیمیائیة، والتی تصنع غالبا فی بلاد الکفر، وهو أمر لا یقبل به مسلم، فمن یصحح فعل المذاهب الإسلامیة فی استعمالهم للطین الأرمنی والبحاری للاستشفاء وذهابهم إلی المستشفیات واستعمالهم للمواد والتراکیب الکیمیائیة، علیه کذلک ان یصحح فعل أتباع أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی استشفائهم بتربة إمامهم المظلوم صلوات الله وسلامه علیه.

 ثم ان الأسباب التی أودعها الله سبحانه وتعالی فی هذا الکون تفوق تفکیر الناس وعقولهم ولا تنحصر فی المادیات فقط، فلیس قمیص نبی الله یوسف صلوات الله وسلامه علیه الذی کانت له خاصیة إرجاع بصر نبی الله یعقوب بعد ان ابیضت عیناه من الحزن، فلیس هذا القمیص بأکرم علی الله سبحانه وتعالی من تربة سال علیها اطهر دم وأزکاه،


1- سورة الإسراء الآیة رقم 82.

ص: 324

ولیست بقرة بنی إسرائیل التی تکلم عنها القرآن الکریم فی سورة البقرة، والتی أحیا الله بها قتیل بنی إسرائیل، بأکرم علی الله سبحانه وتعالی من خلیفة الله فی أرضه، وحجته علی عباده، وسید شباب أهل الجنة صلوات الله وسلامه علیه.

جیم: استحباب اتخاذ التربة الحسینیة مسبحة للذکر 

 قد وردت أخبار عدة فی فضل اتخاذ المسبحة من طین التربة الحسینیة، وان الشیعی لا یستغنی عن أربعة أشیاء إحداهن السبحة التی من طین قبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، فعن أبی الحسن موسی بن جعفر علیه السلام: (لا تستغنی شیعتنا عن أربع خمرة یصلی علیها، وخاتم یتختم به، وسواک یستاک به، وسبحة من طین قبر أبی عبد الله علیه السلام فیها ثلاث وثلاثون حبة...)(1)، وقد صرحت هذه الأخبار ان لهذه المسبحة فضیلتین تضاف إلی الفضائل السابقة الذکر:

الفضیلة الأولی: ان التسبیح بها والتهلیل والاستغفار وسائر أقسام الذکر یضاعف أضعافا کثیرة، بالنسبة إلی غیرها من بقیة أنواع المسبحة.

الفضیلة الثانیة: استمرار صفة وثواب التسبیح لحاملها ما دامت فی یده حتی وان قلب أحجارها من دون ذکر.

فعن محمد بن عبد الله المشهدی فی کتاب المزار، عن الامام الصادق صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (من أدار الحجیر من تربة الحسین علیه السلام فاستغفر به مرة واحدة کتبت له بالواحدة سبعون مرة، ومن أمسک السبحة بیده ولم یسبح بها ففی کل حبة منها سبع مرات)(2).


1- روضة الواعظین للفتال النیسابوری ص412.
2- المزار لمحمد بن المشهدی ص 367.

ص: 325

وعن أبی الحسن الرضا صلوات الله وسلامه علیه قال: (من أدار الطین من التربة فقال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أکبر. مع کل حبة منها کتب الله له بها ستة آلاف حسنة، ومحا عنه ستة آلاف سیئة، ورفع له ستة آلاف درجة، وأثبت له من الشفاعة مثلها)(1).

وسُئل أبو عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه عن استعمال التربتین من طین قبر حمزة وقبر الحسین علیهما السلام والتفاضل بینهما، فقال علیه السلام: (السبحة التی هی من طین قبر الحسین علیه السلام تسبح بید الرجل من غیر أن یسبح)(2).

وعن الشیخ الصدوق قدس الله روحه، عن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (السجود علی طین قبر الحسین علیه السلام ینور إلی الأرض السابعة، ومن کانت معه سبحة من طین قبر الحسین علیه السلام کتب مسبحا بها)(3).

وعن محمد بن عبد الله بن جعفر الحمیری قال: (کتبت إلی الفقیه(4) أسأله هل یجوز أن یسبح الرجل بطین القبر؟ وهل فیه فضل؟ فأجاب...تسبح به، فما فی شیء من السبح أفضل منه، ومن فضله أن المسبح ینسی التسبیح ویدیر السبحة فیکتب له ذلک التسبیح)(5). ولیس ذلک بعجیب؛ إذ إن کل ما فی السماوات وما فی الأرض یسبح الله ویقدسه، قال تعالی: ((تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِیهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَیْءٍ إِلَّا یُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَکِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِیحَهُمْ إِنَّهُ کَانَ حَلِیمًا غَفُورًا))(6).


1- المزار لمحمد بن المشهدی ص367.
2- المصدر السابق ص367 __ 368.
3- من لا یحضره الفقیه للشیخ الصدوق ج1 ص269.
4- الفقیه هنا فی هذه الروایة هو الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه.
5- وسائل الشیعة للحر العاملی ج10 ص420 __ 421.
6- سورة الإسراء الآیة رقم 44.

ص: 326

وقال سبحانه: ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ یُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِی السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّیْرُ صَافَّاتٍ کُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِیحَهُ وَاللَّهُ عَلِیمٌ بِمَا یَفْعَلُونَ))(1)، والتربة الحسینیة من ضمن هذه الموجودات المسبحة والمصلیة لله سبحانه، وفرقها عن غیرها کما هو ظاهر الروایات ان باقی الموجودات تسبح وتصلی لله سبحانه وتسبیحها وصلاتها لنفسها خاصة، أما التربة الحسینیة فتسبح وتصلی وصلاتها وتسبیحها لحاملها، لذلک یکتب مسبحا حتی لو غفل عن التسبیح والتقدیس.

ثم ان التأکید علی اتخاذ التربة الحسینیة __ علی ساکنها آلاف التحیة والسلام __ مسبحة فی الید وتربة تحت الجبین، لعله ناتج إضافة إلی مسألة قداستها، عن حرص ومراعاة الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لإدامة واستمرار حالة الشد العاطفی والمعنوی ما بین الموالی وما بین الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، والإبقاء علی کربلاء واسم کربلاء وما حصل وجری فی کربلاء ماثلا حاضرا عند الإنسان الموالی، فمن کان سجوده الدائم علی تراب کربلاء، کانت کربلاء حاضرة عنده اسما وحدثا، ومن کانت مسبحة طین قبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، أو مسبحة تراب کربلاء فی یده، کانت البرکة فی یده تتقلب مع حبات هذه المسبحة المبارکة.

دال: استحباب وضع التربة الحسینیة مع المیت عند الغسل وفی القبر

ان کان الإنسان الموالی یحتاج إلی حمل التربة الحسینیة المقدسة فی دار الدنیا للأمن من الأخطار والمکاره ونزول النوائب والشدائد، فهو فی رحلته إلی عالم الآخرة اشد احتیاجا واضطرارا إلی اصطحاب التربة الحسینیة معه، لان مکاره وشدائد وأخطار ذلک العالم تفوق مکاره عالم الدنیا وشدائده وأخطاره، ولا سیما


1- سورة النور الآیة رقم 41.

ص: 327

عند سؤال الملکین منکر ونکیر، ورفع الحجاب دون المیت ومعاینة أعماله متجسدة أمام ناظریه، وهو بدار غربة ووحشة لا أنیس له ولا جلیس قد خلی بینه وبین عمله، لا یجد من ضیق لحده متسعا ولا من کربته فرجا، ولو کشف الغطاء ما بیننا وبینهم لرأینا: (وقد ارتسخت أسماعهم بالهوام فاستکت، واکتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت، وتقطعت الألسنة فی أفواههم بعد ذلاقتها، وهمدت القلوب فی صدورهم بعد یقظتها. وعاث فی کل جارحة منهم جدید بلی سمجها، وسهل طرق الآفة إلیها، مستسلمات فلا أید تدفع، ولا قلوب تجزع لرأیت أشجان قلوب، وأقذاء عیون. لهم فی کل فظاعة صفة حال لا تنتقل، وغمرة لا تنجلی... وإن للموت لغمرات هی أفظع من أن تستغرق بصفة أو تعتدل علی قلوب أهل الدنیا)(1).

لذلک وردت الأحادیث الشریفة عن الأئمة المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین باستحباب وضع التربة الحسینیة مع المیت فی قبره وخلطها فی ماء غسله لتکون له أمانا من مخاوفه ومعینة له علی شدائد الموت ووحشة القبر وهول الحساب، فعن محمد بن عبد الله بن جعفر الحمیری قال: (کتبت إلی الفقیه علیه السلام أسأله عن طین القبر یوضع مع المیت فی قبره، هل یجوز ذلک أم لا؟ فأجاب ... توضع مع المیت فی قبره، ویخلط بحنوطه. إن شاء الله)(2).

وعن جعفر بن عیسی أنه سمع أبا الحسن صلوات الله وسلامه علیه یقول: (ما علی أحدکم إذا دفن المیت ووسده التراب أن یضع مقابل وجهه لبنة من الطین، ولا یضعها تحت رأسه)(3).


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج11 ص151.
2- وسائل الشیعة للحر العاملی ج 3 ص 29.
3- وسائل الشیعة للحر العاملی ج3 ص30.

ص: 328

2و3: فضل زیارته صلوات الله وسلامه علیه وکرامة زواره عند الله سبحانه وتعالی
اشارة

ان فضیلة استجابة الدعاء تحت القبة الشریفة للإمام أبی عبد الله الحسین صلوات الله وسلامه علیه، وعدم حساب أیام زواره من حین ذهابهم إلی زیارته إلی ان یرجعوا إلی دیارهم وأهلیهم هی بعض ما أعطاه الله سبحانه وتعالی للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وکرامة خص بها زواره، لذلک جمعنا کلا المقامین والکرامتین فی محور واحد، وسنذکر فیما یأتی وإتماماً للفائدة مجموعة أخری من تلک الکرامات والفضائل التی خص الله سبحانه وتعالی بها الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وزائریه، مع بعض التعلیقات والفوائد التی نرجو الله أن ینفعنا بها وجمیع زائری قبر أبی عبد الله الحسین صلوات الله وسلامه علیه.

فضل زیارة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه
اشارة

من یرجع إلی أحادیث المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ویلاحظ مدی اهتمامهم وتشجیعهم وحثهم لشیعتهم علی زیارة قبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه یری نفسه أمام کم هائل من الآثار تحدثت جمیعها عن عظمة إتیان قبره الطاهر، وعظمة الآثار والفوائد التی تجنی نتیجة زیارة روضته المقدسة، ونحن وان کنا لا نستطیع ان نأتی علی آخرها فی هذا العرض المختصر إلا أننا نستطیع ان ننتهل من بعضها ونتبرک بإیراد قسم منها لیعرف أتباع أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عظمة إمامهم الشهید صلوات الله وسلامه علیه وکرامته وما لهم من الأجر والثواب علی زیارته، وما تعوده علیهم هذه الرحلة المبارکة إلی قبره الشریف من المنافع، ویمکن لنا تقسیم هذه المنافع والعوائد إلی قسمین:

ص: 329

القسم الأول: منافع وعوائد زیارة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه المادیة الدنیویة

وهی کثیرة جدا، فمنها ان زیارته صلوات الله وسلامه علیه تدفع الهدم الذی هو عبارة عن وقوع الأبنیة علی رؤوس ساکنیها، والغرق والحریق، فقد روی الشیخ الصدوق قدس الله روحه عن الإمام محمد بن علی الباقر صلوات الله وسلامه علیهما انه قال: (مروا شیعتنا بزیارة الحسین بن علی علیهما السلام فإن زیارته تدفع الهدم والغرق والحرق وأکل السبع، وزیارته مفترضة علی من أقر للحسین علیه السلام بالإمامة من الله عز وجل)(1).

ومنها ان زیارته صلوات الله وسلامه علیه تزید الرزق وتمد فی العمر وتدفع مقادیر السوء، فعن محمد بن مسلم عن أبی جعفر الباقر صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (مروا شیعتنا بزیارة قبر الحسین علیه السلام، فان إتیانه یزید الرزق ویمد فی العمر ویدفع مدافع السوء وإتیانه مفترض علی کل مؤمن یقر له بالإمامة من الله)(2).

وعن عبد الملک الخثعمی، عن الإمام أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه، قال: (قال لی: یا عبد الملک لا تدع زیارة الحسین بن علی علیهما السلام ومر أصحابک بذلک، یمد الله فی عمرک ویزید الله فی رزقک، ویحییک الله سعیدا ولا تموت إلا سعیدا ویکتبک سعیدا)(3).

ومنها ان زیارته صلوات الله وسلامه علیه تطیل العمر، وترکها ینقص من عمر الإنسان ثلاثین سنة، فعن منصور بن حازم قال سمعناه __ أی الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه __: (من أتی علیه حول لم یأت قبر الحسین علیه السلام انقص الله من عمره حولا، ولو قلت إن أحدکم لیموت قبل اجله بثلاثین سنة لکنت صادقا، وذلک لأنکم تترکون


1- من لا یحضره الفقیه للشیخ الصدوق ج 2 ص 582.
2- تهذیب الأحکام للشیخ الطوسی ج 6 ص 42.
3- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص 286.

ص: 330

زیارة الحسین علیه السلام، فلا تدعوا زیارته یمد الله فی أعمارکم ویزید فی أرزاقکم، وإذا ترکتم زیارته نقص الله من أعمارکم وأرزاقکم فتنافسوا فی زیارته، ولا تدعوا ذلک فان الحسین شاهد لکم فی ذلک عند الله وعند رسوله، وعند أمیر المؤمنین وعند فاطمة علیهم السلام)(1).

ومنها ان أیام زائری الحسین صلوات الله وسلامه علیه لا تحسب من أعمارهم ما داموا فی زیارة إمامهم الشهید صلوات الله وسلامه علیه، فعن الهیثم بن عبد الله الرمانی، عن الإمام أبی الحسن الرضا صلوات الله وسلامه علیه، عن أبیه الإمام موسی الکاظم صلوات الله وسلامه علیه، قال: (قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق علیهما السلام: إن أیام زائری الحسین علیه السلام لا تحسب من أعمارهم ولا تعد من آجالهم)(2).

ومنها استجابة الدعاء فی مشهده الشریف عموما وتحت قبته صلوات الله وسلامه علیه علی وجه الخصوص بإذن الله تعالی، وان من جاء إلی حرمه مکروبا أو خائفا أو محتاجا قضیت حاجته ونفست عنه کربته وأمن من خوفه بإذن الله سبحانه، فعن أبی الصباح الکنانی قال: (سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول :. إن إلی جانبکم قبرا ما أتاه مکروب إلا نفس الله کربته، وقضی حاجته، وإن عنده لأربعة آلاف ملک منذ قبض، شعثا غبرا یبکونه إلی یوم القیامة، فمن زاره شیعوه إلی مأمنه، ومن مرض عادوه، ومن مات اتبعوا جنازته)(3).

وعن إسماعیل بن جابر، عن أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه قال: (إن الحسین علیه السلام قتل مکروبا، وحقیق علی الله أن لا یأتیه مکروب إلا رده الله مسرورا)(4)


1- المصدر السابق ص284 __ 285.
2- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص 259 __ 260.
3- مستدرک الوسائل للمیرزا النوری ج 10 ص 238.
4- المصدر السابق ص239.

ص: 331

القسم الثانی: منافع وعوائد زیارة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه المعنویة والأخرویة

واما فوائد ومنافع وعوائد زیارته صلوات الله وسلامه علیه الأخرویة فهی أکثر من ان تعد أو تحصی، ومن تأمل فی اجر الزائر وکرامته وما یتحف به من العطایا الربانیة یری العجب العجاب، ویری ما للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه من الولایة التکوینیة والمنزلة الملکوتیة، التی بها یعطی الرحمن سبحانه وتعالی لزواره من الأجر والثواب بلا وزن ولا حساب، ولیس ذلک بعجیب، ألیس قد وهب الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه کل ما عنده لله سبحانه وتعالی، وأعطی فی سبیله النفس والمال والولد، فمن الطبیعی جدا ان یعطیه الله سبحانه وتعالی ما لا نقدر علی تصوره ولا یخطر علی أذهاننا المحدودة.

والروایات الشریفة بینت بعض هذه الکرامات المعنویة والأخرویة التی یسعد بها الزائر لقبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ونحن نختار منها لا علی نحو الحصر والاستقصاء ما یأتی:

منها ان زائره صلوات الله وسلامه علیه یکتبه الله سبحانه وتعالی عنده فی أعلی علیین کما فی الصحیحة المرویة عن ابن قولویه القمی عن علی بن الحسن بن بابویه وجماعة من مشایخه، عن علی بن ابراهیم بن هاشم، عن أبیه، عن محمد بن أبی عمیر عن عُیَینة بیاع القصب، عن أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (من أتی الحسین عارفا بحقه کتبه الله فی أعلی علیین)(1).

ومنها ان زیارته صلوات الله وسلامه علیه تعدل عمرة مقبولة کما فی الصحیحة المرویة عن ابن قولویه عن أبیه رحمه الله، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد وعبد الله ابنی محمد ابن عیسی، عن موسی بن القاسم، عن الحسن بن الجهم، قال: قلت لأبی الحسن علیه السلام: ما تقول فی زیارة قبر الحسین علیه السلام، فقال لی: ما تقول أنت فیه،


1- المزار لمحمد بن المشهدی ص326.

ص: 332

فقلت: بعضنا یقول: حجة، وبعضنا یقول: عمرة، فقال: هو عمرة مقبولة)(1).

ومنها ان زیارته صلوات الله وسلامه علیه تعدل عمرة مبرورة مع رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم کما فی موثقة فضیل بن یسار عن أبی جعفر الباقر صلوات الله وسلامه علیه أنّه قال: (زیارة قبر الحسین علیه السلام وزیارة قبر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وزیارة قبور الشهداء تعدل حجة مبرورة مع رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم )(2).

ومنها ان زیارته صلوات الله وسلامه علیه تعدل عند الله سبحانه وتعالی ألف حجة وألف عمرة مبرورة متقبلة، ویمحی من دیوان الأشقیاء ویسجل فی دیوان السعداء کما فی الحدیث المروی عن عبد الله بن میمون القداح عن أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه قال: (قلت له: ما لمن أتی قبر الحسین علیه السلام عارفا بحقه غیر مستکبر ولا مستنکف؟ قال علیه السلام یکتب له ألف حجة وألف عمرة مبرورة وان کان شقیا کتب سعیدا ولم یزل یخوض فی رحمة الله عز وجل)(3).

والظاهر ان هذا التفاوت فی الأجر تابع لدرجات الإخلاص والمعرفة وحال الزائر، إذ لیس العارف کغیره، ولیس المخلص کمن هو اقل إخلاصا، ولیس الضاحک الفاکه کالباکی الحزین المتفجع .

ومنها ان زائره یلقی الله ولیس علیه ذنب فإن بکاه غفر الله ذنبه صغیرا أو کبیرا قلیلا کان أو کثیرا، فعن الشیخ الصدوق قدس الله روحه عن: (محمد بن علی ماجیلویه رضی الله عنه قال: حدثنا علی بن إبراهیم بن هاشم عن أبیه عن الریان بن شبیب قال: دخلت علی الرضا علیه السلام فی أول یوم من المحرم فقال :... یا ابن شبیب ان المحرم هو الشهر


1- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص292.
2- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص293.
3- المصدر السابق ص274.

ص: 333

الذی کان أهل الجاهلیة یحرمون فیه الظلم والقتال لحرمته فما عرفت هذه الأمة حرمة شهرها ولا حرمة نبیها، لقد قتلوا فی هذا الشهر ذریته وسبوا نساءه وانتهبوا ثقله فلا غفر الله لهم ذلک أبدا. یا ابن شبیب ان کنت باکیا لشیء فابک للحسین بن علی بن أبی طالب علیهم السلام... یا بن شبیب ان بکیت علی الحسین حتی تصیر دموعک علی خدیک غفر الله لک کل ذنب أذنبته صغیرا کان أو کبیرا قلیلا کان أو کثیرا یا بن شبیب ان سرک ان تلقی الله عز وجل ولا ذنب علیک فزر الحسین علیه السلام یا بن شبیب ان سرک ان تسکن الغرف المبنیة فی الجنة مع النبی صلی الله علیه وآله وسلم فالعن قتلة الحسین یا بن شبیب ان سرک أن یکون لک من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسین بن علی علیه السلام فقل متی ذکرته: لیتنی کنت معهم فأفوز فوزا عظیما یا بن شبیب ان سرک أن تکون معنا فی الدرجات العلی من الجنان فاحزن لحزننا وافرح لفرحنا وعلیک بولایتنا فلو ان رجلا أحب حجرا لحشره الله عز وجل معه یوم القیامة)(1).

کیف یکون کل هذا الأجر والثواب لمجرد الزیارة لقبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه؟

ربما استکثر بعض المشککین لهذا الثواب الذی اعد لزائر قبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بحجة ان الثواب المترتب علی الزیارة لا یساوی العمل والجهد الذی یبذله الزائر فی زیارته لقبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه.

ویمکن ان یجاب عن هذا الإشکال بما یأتی:

أولا: ان الثواب فی مسألة زیارة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه کما فی سائر العبادات الواجبة والمستحبة لیس أمرا استحقاقیا حتی یرد هذا الاعتراض، بل الثواب کما هو ثابت فی محله هو تفضلی یمن به الله سبحانه وتعالی علی عباده بهدف الکرامة لهم،


1- عیون أخبار الرضا صلوات الله وسلامه علیه للشیخ الصدوق ج 2 ص 268 __ 269.

ص: 334

أو استنقاذهم من النار، أو لأمر غیر ذلک، وهو أمر لیس بالقبیح عقلا ولا شرعا.

 ثانیا: ان الثواب علی فعل بسیط من حق الله سبحانه وتعالی، ولیس لأحد ان یمنع الله سبحانه وتعالی عن ممارسة شیء من حقوقه، وذلک لان هذا العالم، وکذلک عالم الآخرة وما فیه، بل وکل العوالم التی نعرفها والتی لا نعرفها، هی ملک لله تبارک وتعالی وتحت سلطانه یعطی منها ما یشاء لمن یشاء وبالمقدار الذی یشاء، کما قال سبحانه وتعالی ((لَا یُسْأَلُ عَمَّا یَفْعَلُ وَهُمْ یُسْأَلُونَ))(1)، وقال سبحانه وتعالی فی آیة أخری ((وَاللَّهُ یَرْزُقُ مَنْ یَشَاءُ بِغَیْرِ حِسَابٍ))(2).

ثالثا: ان لله سبحانه وتعالی موازین ومقاییس فی مسألة الثواب والعقاب لا یمکن لأمثالنا من ذوی العقول المحدودة فهمها ولا تحدیدها، فمسألة الثواب والعقاب تخضع لملایین من المعادلات الغیبیة، ومأخوذ فیها آلاف الاعتبارات غیر المنظورة من البسطاء أمثالنا والتی لا یطلع علیها إلا علام الغیوب، ولنضرب علی ذلک مثالا عملیا، ففی القصة المشهورة التی عن أنس قال: (کنت عند الحسین علیه السلام فدخلت علیه جاریة فحیته بطاقة ریحان فقال لها أنت حرة لوجه الله فقلت تحییک بطاقة ریحان لا خطر لها فتعتقها قال کذا أدبنا الله قال الله تعالی وإذا حییتم بتحیة فحیوا بأحسن منها أو ردوها وکان أحسن منها عتقها)(3) ففی ذلک الوقت کانت الجاریة تساوی عشرات الدنانیر ان لم نقل المئات منها، بینما طاقة الورد لا تساوی درهما أو جزء درهم، بل ویمکن الحصول علیها مجانا من بعض البساتین، لذلک قال انس عنها: (لا خطر لها) أی لا قیمة لها، لکن الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه کان ینظر إلی شیء خفی عن انس الذی کان ینظر إلی موضوع عتق الجاریة من اجل طاقة ورد بنظرة سطحیة مادیة


1- سورة الأنبیاء الآیة رقم 23.
2- سورة البقرة الآیة رقم 212.
3- کشف الغمة لابن أبی الفتح الإربلی ج 2 ص 240 __ 241.

ص: 335

ساذجة، فالإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه قد اخذ فی قرار عتقه عشرات المنافع ومئات الاعتبارات، وعدّ هذا الکرم اللامحدود وغیر المتناسب مع حجم الفعل هو مما أدّب الله سبحانه وتعالی به أولیاءه وخلفاءه المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، والثواب الجزیل الذی یعطیه الله سبحانه علی الفعل الصغیر هو من هذا القبیل فتأمل.

رابعا: ان الله سبحانه وتعالی مهما أعطی عباده من الثواب والأجر یوم المعاد من قصور مشیدة، وولدان مخلدین، وحور عین، وانهار من عسل وخمر ولبن وماء، وغیر ذلک مما یمکن أو لا یمکن تصوره، فهو لا یخرج عن ملکه سبحانه وتعالی، فالعبد وما یعطی من الثواب، هو ملک لله وفی ملک الله سبحانه وتعالی، لا ینقص من ملکه شیئا، ولا یزید فیه شیئا، فالعطاء الإلهی لزائر قبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه مهما بلغ هو من باب إیصال الخیر للعباد والتفضل علیهم بالنعم وهو أمر راجح عقلا وشرعا.

وقد حکی صاحب کتاب (طرائف المقال) السید علی البروجردی حکایة عن تشرف السید محمد بحر العلوم بحضوره بین یدی الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه وإجابته عن مثل هذا الموضوع الذی نحن بصدد إثباته لذا رأیت ان اعرضها بین یدی القارئ الکریم للفائدة، وهی کما رواها السید علی البروجردی مع بعض التصرف البسیط کالتالی: (سمعت من بعض الاثبات والثقات أنه طاب ثراه یزور سید الشهداء علیه السلام فی کل سنة مکررا، إلا أنه یجیء إلی زیارته ماشیا دفعة وراکبا فی الأخری، وذات یوم وهو یمشی فی الطریق ویقصر خطاه حرصا لزیادة الثواب، فبینما هو کذلک یمشی التفت إلی جزاء هذه الخطوات وما أعد لزیارة مولانا سید الشهداء، وتعجب مستکثرا فی قلبه هذا الجزاء الجزیل فی مقابل الخطوات الیسیرة.

فماشاه أثناء الطریق رجل، فسأله عن حاله وعما یجول فی فکره، فامتنع أولا من الإظهار، وأبرز المطلب بعد الإصرار والإبرام، وقال: کیف یعطی الثواب کذا

ص: 336

وکذا علی مثل خطوة واحدة؟.

فشرع ذلک الرجل الذی مشی معه فی حکایة نافعة مغنیة عن جوابه، وهی أن ملکا من الملوک کان یدور فی مملکته لأجل الصید مع عساکره. واتفق ان حل علیه الغروب فافترق من عسکره وتاه عنهم، فغلب علیه العطش والجوع، فرأی أثناء سیره وهو علی هذه الحال خیمة، فذهب نحوها إلی أن وصل إلیها فوجد فیها امرأة فقیرة، فلما رأته وهو بحالة یرثی لها أنزلته فی خیمتها وأکرمته کمال الإکرام، ولم یکن لها من الأموال إلا شاة واحدة، فذبحتها للسلطان من دون علمها بکونه سلطانا. وکان لها ابن یرفض ان تذبح شاتهم الوحیدة لهذا الضیف، لکن أمه کانت تقول له: ان إکرام الضیف مقدم علی جمیع الأمور، والسلطان یستمع مقالتهما.

فلما أصبح الصباح وبعد ان أکل السلطان ونام وارتاح قام لیذهب، فأعطی ابن المرأة الفقیرة خاتما وقال له: اذهب إلی دار السلطان فی الغد فانه لا یمنعک الحجاب، ولو منعوک أظهر الخاتم فانهم یخلون سبیلک، لعله یعطیک شیئا.

فانصرف السلطان ولحق بعسکره، وقال للحفظة والحجاب: ان سیأتی فی الغد شاب بصفة کذا وکذا وفی یده خاتمی فلا تمنعوه من الدخول حتی یصل إلی.

فذهب الشاب فی الغد إلی دار الملک، فلم یمنعه حتی دخل فی مجلس السلطان فأکرمه وآواه إلی جنبه. ثم أمر بإحضار أمنائه ووزرائه فی مملکته، فحکی لهم ما جری له مع والدة الشاب وإکرامها له، ثم سألهم أنی أرید الصلة والعوض عن إکرامها، فما الشیء اللائق بحالها وحال ولدها؟ فأجاب کل منهم علی حسب همته، فسکت السلطان إلی أن أتموا کلامهم، فرفع رأسه وقال لهم: ان تلک المرأة قد صرفت لی منتهی الوسع والطاقة وأتلفت جمیع مالها فی سبیلی، وأنی لو صرفت لها جمیع ما

ص: 337

فی یدی لکنت مثلها، ولم أزد علی إعطائها شیئا.

 ثم أخذ ید الشاب فأجلسه فی محله ووضع تاجه علی رأسه، وجعله سلطانا وأمر الوزراء بالقیام علی خدمته، وصیر نفسه مثل أحد الخدمة والغلمان.

ثم التفت ذلک الرجل المرافق للسید بحر العلوم بعد الحکایة وقال له: ان سید الشهداء علیه الصلاة والسلام قد أعطی دمه ودماء أولاده وعشیرته، وصارت نساؤه وأخواته وبناته المحجبات الطاهرات مسبیات، ونهبت أمواله فی سبیل الله تعالی وإطاعته والامتثال لأمره وترویج شریعة جده، فأصاب بما أصاب، ومصیبة أعظم المصیبات، قتلوه عطشانا بشط فرات، فمهما أعطی عوضا عن هذه المصائب العظیمة فقلیل فی جنب عظمته وجلالته.

فبینما السید بحر العلوم یتفکر فی الجواب مستحسنا إیاه، فالتفت بعد عدة خطوات لیکمل الحدیث مع ذلک الرجل فوجده قد غاب عن النظر، فتنبه السید بحر العلوم علی أنه حجة الله فی الأرضین)(1).

هل یحق للمخالفین السخریة من کثرة ثواب الزیارة وعظمة أجرها؟ 

وربما یستشکل ان هذا الثواب الکبیر المبالغ به قد یعرض المذهب الإمامی أعزه الله إلی السخریة من المخالفین والنواصب الذین یسخرون من المذهب لأمور ابسط واقل من هذا بکثیر، فکیف بالذی نحن فیه؟!

أقول: لیس للمخالف من أی مذهب کان أن یعترض علی ما فی زیارة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه من الثواب والأجر، لعدة أسباب منها:

أولا: لان الاعتراض کما بینا فیما سبق هو اعتراض علی الله سبحانه وتعالی، إذ إن


1- طرائف المقال للسید علی البروجردی ج2 ص 378 __ 380.

ص: 338

مسألة الثواب والعقاب هی من حقوق الله سبحانه وتعالی ولیس للعباد فیها اختیار، إضافة إلی عدم وجود المانع العقلی أو الشرعی الذی یحول دون حصول ذلک.

ثانیا: ان لدی المخالفین أشیاء رووها عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم أو عن الصحابة والتابعین أعظم بکثیر مما روینا من جزیل الثواب وعظیم الأجر علی زیارة قبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، فهم قد رووا مثل هذا الأجر أو أعظم علی أشیاء هی مساویة أو اقل بکثیر من مسألة زیارة قبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، وفیما یأتی جملة من تلک المسائل التی أوجبوا علیها عظیم الثواب وجزیل الأجر مع کونها اقل مؤونة وأهمیة من زیارة قبر سید شباب أهل الجنة صلوات الله وسلامه علیه.

 منها ما رواه البخاری عن: (عطاء بن یزید عن حمران قال رأیت عثمان... توضأ فأفرغ علی یدیه ثلاثا ثم تمضمض واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل یده الیمنی إلی المرفق ثلاثا ثم غسل یده الیسری إلی المرفق ثلاثا ثم مسح برأسه ثم غسل رجله الیمنی ثلاثا ثم الیسری ثلاثا ثم قال رأیت رسول الله صلی الله علیه وسلم توضأ نحو وضوئی هذا ثم قال من توضأ نحو وضوئی هذا ثم یصلی رکعتین لا یحدث نفسه فیهما بشیء غفر له ما تقدم من ذنبه)(1).

أقول: وصورة هذا الوضوء وان کان باطلا علی وفق متبنیات مذهب أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین إلا أننا ذکرناه وغیره من الموارد التی ستأتی من باب الإلزام للمخالف، إذ لو کانت زیارة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وما فیها من الأجر والثواب یستلزم سخریتهم، مع ان الزائر فی زیارته للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه یتوضأ عشرات المرات، ویصلی عشرات الرکعات التی لا یحدث فیها نفسه، فإذا کان هذا


1- صحیح البخاری ج 2 ص 235.

ص: 339

الأمر یستوجب سخریتهم فإن حدیث عثمان بن عفان وما فیه من الثواب علی مجرد وضوء ورکعتین یستلزم سخریة أعظم.

وعن مسلم فی صحیحه عن: (أبی هریرة ان رسول الله صلی الله علیه وسلم قال: إذا قال القارئ غیر المغضوب علیهم ولا الضالین فقال من خلفه آمین فوافق قوله قول أهل السماء غفر له ما تقدم من ذنبه)(1).

أقول: قول المصلی (آمین) بعد قول الإمام (غیر المغضوب علیهم ولا الضالین) هو مبطل للصلاة علی وفق مذهب أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لورود النصوص الکثیرة علی عدم صحة ذلک، ثم هل یعقل ان یغفر للمصلی کل ذنوبه لمجرد قوله آمین، فان کان ما یقوله أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی ثواب زیارة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه یوجب السخریة من المخالفین فإن السخریة علی مثل هذه الأحادیث اکبر.

وفی مسند أبی یعلی عن: (سهل بن معاذ بن أنس عن أبیه أن رسول الله صلی الله علیه وسلم قال: من أکل طعاما ثم قال الحمد لله الذی أطعمنی هذا الطعام ورزقنیه من غیر حول منی ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه ومن لبس ثوبا قال الحمد لله الذی کسانی هذا ورزقنیه من غیر حول منی ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه)(2).

ومنها ما عن ابن عساکر: (أخبرنا أبو القاسم إسماعیل بن محمد الحافظ أنا أبو علی الدقاق الحافظ إجازة أنا الفضل بن محمد قال سمعت أبا الحسن علی بن محمد بن فورک وکان شیخا صالحا یقول سمعت أبا بکر محمد بن القاسم المعدل المدینی یقول سمعت أبا بکر یرویه وکان من الأبدال یقول رأیت رسول الله «صلی الله علیه وسلم»


1- صحیح مسلم ج 2 ص 18.
2- مسند أبی یعلی لأبی یعلی الموصلی ج 3 ص 67.

ص: 340

ومعه أحمد بن حنبل فقلت یا رسول الله من هذا فقال هذا أحمد بن حنبل ولی الله وولی رسول الله ...أنفق علی الحدیث ألف دینار فقال رسول الله «صلی الله علیه وسلم» یا أبا بکر الله ینظر فی کل یوم سبعین ألف نظرة فی تربة أحمد بن حنبل رحمة الله علیه ومن یزوره غفر الله له ومن یحبه أحبه الله ومن یبغض أحمد فقد أبغضنی ومن أبغضنی فقد أبغض الله)(1).

أقول: لیس احمد بن حنبل مهما بلغت درجة أهمیته ومنزلته عند أصحابه بأعظم وأجل وأکرم من منزلة ابن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وسید شباب أهل الجنة صلوات الله وسلامه علیه، ومن یستخف ویستکثر علی ما أعطاه الله سبحانه وتعالی لزوار قبر سید الشهداء الذی ضحی بدمه وماله وأهله وأصحابه لنصرة الدین وعزة الإسلام، فعلیه ان یقهقه ضاحکا من غفران ذنوب زوار احمد بن حنبل وهذه الکرامات المزعومة لمجرد انه انفق علی الحدیث ألف دینار، وهل یستوی من انفق علی الحدیث ألف دینار مع من انفق علی الإسلام وعزته الروح والدم والمال والأهل ؟!.

وعن البخاری: (عن أبی صالح عن أبی هریرة ان رسول الله صلی الله علیه وسلم قال: من قال سبحان الله وبحمده فی یوم مائة مرة حطت خطایاه وان کانت مثل زبد البحر)(2).

وعن احمد بن حنبل فی مسنده: (عن أنس بن مالک قال إذا بلغ الرجل المسلم أربعین سنة آمنه الله من أنواع البلایا من الجنون والبرص والجذام وإذا بلغ الخمسین لین الله عز وجل علیه حسابه وإذا بلغ الستین رزقه الله إنابة یحبه علیها وإذا بلغ السبعین أحبه الله وأحبه أهل السماء وإذا بلغ الثمانین تقبل الله منه حسناته ومحا عنه


1- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 5 ص 333 __ 334.
2- صحیح البخاری ج 7 ص 168.

ص: 341

سیئاته وإذا بلغ التسعین غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وسمی أسیر الله فی الأرض وشفع فی أهله)(1).

أقول: ان هذه الکرامات المزعومة فی حدیث انس بن مالک التی رواها احمد ابن حنبل فی مسنده، هی تمنح للمسلم لمجرد وصوله إلی سن الأربعین أو الخمسین إلی التسعین، لا لعمل یستوجب ذلک، فلیکن المسلم الشیعی مشمولا بها، مع إننا لا نقول بان الإنسان یغفر له ذنبه لمجرد وصوله لسن التسعین، فهذه المراتب والصفات والکرامات لا تنال إلا برحمة الله سبحانه وتعالی والعمل، وان کان قلیلا.

بعض آداب زیارة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه 
اشارة

فی أثناء تتبعی للروایات التی تحدثت عن زیارة قبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وغیرها وجدت ان جملة من هذه الروایات الشریفة قد ذکرت مجموعة من الآداب التی ینبغی علی الزائر مراعاتها لیجنی الثمرات الدنیویة والأخرویة من زیارته لقبر سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه، وفیما یأتی جملة من هذه الآداب، وسنقسم هذه الآداب إلی ثلاث أقسام هی:

القسم الأول: آداب ما قبل الخروج إلی الزیارة، وهی کالتالی:

 أولا: آداب النیة والقصد: ذکرنا فی بحوث سابقة ان الأجر الأخروی یدور مدار النیة، وبالنوایا تتفاضل الدرجات ویعظم الأجر، وعلیه فینبغی للزائر ان یعرف کیف یستفید من توجیه نیته بالصورة التی تعود علیه بأعلی مراتب الأجر وأکمل درجات المثوبة، والروایات الشریفة ذکرت ثلاثة أو أکثر من الأسباب والدواعی التی


1- مسند احمد بن حنبل ج2 ص89.

ص: 342

لو جعلها الزائر أمام ناظره منذ البدایة لحصل علی عظیم المثوبة، وهذه الأسباب هی:

ألف: ان ینوی الزائر بزیارته لقبر سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه بالدرجة الأولی وجه الله سبحانه وتعالی، والدار الآخرة، وحبا وتشوقا إلی شخص الإمام الحسین، وحبا لرسول الله ولأمیر المؤمنین والسیدة فاطمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فقد ورد فی الأخبار ان عقد نیة الزیارة بهذه الکیفیة فیه أجر عظیم، فعن هارون بن خارجة، عن أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه قال: (قلت: جعلت فداک ما لمن أتی قبر الحسین زائرا له عارفا بحقه یرید به وجه الله تعالی والدار الآخرة، فقال له: یا هارون من أتی قبر الحسین علیه السلام زائرا له عارفا بحقه یرید به وجه الله والدار الآخرة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)(1).

وعن محمد بن مسلم قال: (قلت لأبی عبد الله (علیه السلام) ما لمن أتی قبر الحسین (علیه السلام)، قال: من أتاه شوقا إلیه کان من عباد الله المکرمین، وکان تحت لواء الحسین بن علی حتی یدخلهما الله الجنة)(2).

وعن ذریح المحاربی، عن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (...والله ان الله لیباهی بزائر الحسین والوافد یفده الملائکة المقربون وحملة عرشه، حتی أنه لیقول لهم: أما ترون زوار قبر الحسین أتوه شوقا إلیه والی فاطمة بنت رسول الله، أما وعزتی وجلالی وعظمتی لأوجبن لهم کرامتی ولأدخلنهم جنتی التی أعددتها لأولیائی ولأنبیائی ورسلی...)(3).


1- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص273.
2- المصدر السابق ص271.
3- المصدر السابق ص271 __ 272.

ص: 343

باء: یستحب ان یکون هدف وغایة الزائر لقبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه هو الزیارة فقط دون غیرها من الأعمال الدنیویة، فان فی ذلک الخیر کله، فعن موسی بن القاسم الحضرمی، قال: (ورد أبو عبد الله علیه السلام فی أول ولایة أبی جعفر(1) فنزل النجف فقال: یا موسی اذهب إلی الطریق الأعظم فقف علی الطریق وانظر فإنه سیجیئک رجل من ناحیة القادسیة، فإذا دنا منک فقل له: هاهنا رجل من ولد رسول الله صلی الله علیه وآله یدعوک، فإنه سیجیء معک. قال: فذهبت حتی قمت علی الطریق والحر شدید، فلم أزل قائما حتی کدت أعصی وانصرف وأدعه، إذ نظرت إلی شیء مقبل شبه رجل علی بعیر، قال: فلم أزل انظر إلیه حتی دنا منی، فقلت له: یا هذا هاهنا رجل من ولد رسول الله صلی الله علیه وآله یدعوک وقد وصفک لی، فقال: اذهب بنا إلیه، قال: فجاء حتی أناخ بعیره ناحیة قریبا من الخیمة، قال: فدعا به فدخل الأعرابی إلیه ودنوت أنا، فصرت علی باب الخیمة اسمع الکلام ولا أراهما. فقال له أبو عبد الله علیه السلام: من أین قدمت؟، قال: من أقصی الیمن... قال: فیم جئت هاهنا؟، قال: جئت زائرا للحسین علیه السلام، فقال أبو عبد الله علیه السلام: فجئت من غیر حاجة لیس إلا للزیارة، قال: جئت من غیر حاجة لیس إلا ان أصلی عنده وأزوره واسلم علیه وارجع إلی أهلی. قال له أبو عبد الله علیه السلام: وما ترون فی زیارته؟، قال: إنا نری فی زیارته البرکة فی أنفسنا وأهالینا وأولادنا وأموالنا ومعایشنا وقضاء حوائجنا، قال: فقال له أبو عبد الله: أفلا أزیدک من فضله فضلا یا أخا الیمن؟، قال: زدنی یا بن رسول الله، قال: ان زیارة أبی عبد الله علیه السلام تعدل حجة مقبولة متقبلة زاکیة مع رسول الله علیه السلام، فتعجب من ذلک، فقال: أی والله وحجتین مبرورتین متقبلتین زاکیتین مع رسول الله


1- وهو الملقب بالمنصور من حکام بنی العباس لعنه الله.

ص: 344

صلی الله علیه وآله، فتعجب من ذلک، فلم یزل أبو عبد الله علیه السلام یزید حتی قال: ثلاثین حجة مبرورة متقبلة زاکیة مع رسول الله صلی الله علیه وآله)(1).

جیم: محافظة الزائر لقبر سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه __ بل لسائر قبور المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین __ علی خلوص النیة منذ الشروع فی سفر الزیارة حتی العودة، وان لا یدخل إلی نفسه العجب والریاء والعصبیة والتکبر والخیلاء والبطر وغیر ذلک من القبائح المفسدة للنیة والمحبطة للأجر، لذلک وردت الروایة بلزوم ان لا تکون الزیارة بداعی السمعة والریاء وغیر ذلک، فعن یونس بن عبد الرحمان، عن قدامة بن مالک، عن أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (من زار الحسین محتسبا لا أشرا ولا بطرا، ولا ریاء ولا سمعة، محصت عنه ذنوبه کما یمحص الثوب فی الماء، فلا یبقی علیه دنس، و یکتب له بکل خطوة حجة وکلما رفع قدما عمرة)(2).

دال: ملاحظة الآداب العامة للسفر والتی ذکرت فی کثیر من کتب الأدعیة والحدیث کالصدقة قبل الخروج والوصیة وان تکون نفقة السفر من طعام ولباس وأمثال هذه الأمور من المال الحلال الذی لا یتعلق به حق للآخرین کالمسروق أو المغصوب، وقد ترکنا هذا القسم من الآداب العامة لإمکان ان یراجعها القارئ الکریم فی مظانها.

القسم الثانی: آداب المسیر إلی مرقد الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه

وهی کثیرة ربما تفوق الإحصاء، لکننا اخترنا ما یکون لها شاهد روائی أو عقلائی، وهی باختصار کالتالی:


1- المزار لمحمد بن المشهدی ص 332 __ 333.
2- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص 273.

ص: 345

ألف: یستحب للزائر إتیان قبر أبی عبد الله الحسین صلوات الله وسلامه علیه ماشیا من بلده أو من حیث یتمکن من ذلک، لورود عدة من الروایات الشریفة الحاثة علی ذلک ولما فیه من الأجر العظیم، فعن عن الحسین بن علی بن ثویر بن أبی فاختة قال: (قال لی أبو عبد الله علیه السلام: یا حسین من خرج من منزله یرید زیارة الحسین بن علی ابن أبی طالب علیه السلام إن کان ماشیا کتب الله له بکل خطوة حسنة وحط بها عنه سیئة، حتی إذا صار بالحائر کتبه الله من المفلحین، وإذا قضی مناسکه کتبه الله من الفائزین، حتی إذا أراد الانصراف أتاه ملک فقال له: أنا رسول الله ربک یقرئک السلام ویقول لک: استأنف العمل فقد غفر لک ما مضی)(1).

وعن جابر المکفوف، عن أبی الصامت قال: (سمعت أبا عبد الله علیه السلام وهو یقول: من أتی قبر الحسین علیه السلام ماشیا کتب الله له بکل خطوة ألف حسنة، ومحا عنه ألف سیئة ورفع له ألف درجة)(2).

وعن سدیر الصیرفی، عن أبی جعفر علیه السلام فی زیارة الحسین علیه السلام قال: (ما أتاه عبد فخطا خطوة إلا کتب الله له حسنة، وحط عنه سیئة)(3). وعن بشیر الدهان عن أبی عبد الله علیه السلام قال: إن الرجل لیخرج إلی قبر الحسین علیه السلام فله إذا خرج من أهله بأول خطوة مغفرة لذنبه، ثم لم یزل یقدس بکل خطوة حتی یأتیه...)(4).

وعن محمد بن جعفر الرزاز، عن محمد بن الحسین بن أبی الخطاب، عن أحمد


1- تهذیب الأحکام للشیخ الطوسی ج6 ص43.
2- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص255.
3- المصدر السابق ص256.
4- ثواب الأعمال للشیخ الصدوق ص91.

ص: 346

ابن بشیر، عن أبی سعید القاضی قال: دخلت علی أبی عبد الله علیه السلام فی غرفة له فسمعته یقول: من أتی قبر الحسین ماشیا کتب الله له بکل خطوة وبکل قدم یرفعها ویضعها عتق رقبة من ولد إسماعیل)(1).

ویدل علی استحباب المشی إلی قبر الإمام المظلوم صلوات الله وسلامه علیه الخبر المشهور بین الخاصة والعامة عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم انه قال: (أفضل الأعمال أحمزها(2))(3)والمشی کما هو معلوم اشد وأصعب من الرکوب فیکون أفضل قطعا.

ویدل علی استحباب ذلک أیضا الخبر المروی عند الخاصة والعامة عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم انه قال: (من اغبرت قدماه فی سبیل الله حرمهما الله علی النار)(4) وزیارة قبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه مصداق واضح من مصادیق هذا الحدیث، إذ ان القدم إنما تغبر بالتراب عادة بسبب المشی دون الرکوب.

ویدل علی استحباب المشی إلی قبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ان فی المشی إظهاراً للشوق وعظیم المحبة، والتی من اجلها یتجشم الزائر کل ما فی المشی من صعوبة ومخاطر ومشاق، وفیه أیضا إظهار لشوکة التشیع وقوته، وتماسک أتباعه، وتمسکهم بولائهم لائمتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وکل هذه الأمور راجحة شرعا وحسنة عقلا.

باء:ان یحاول فی أثناء الطریق، بل وفی مطلق الأزمنة، السعی إلی زیادة معرفته بالإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وسائر المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وفهم اکبر مقدار ممکن


1- وسائل الشیعة للحر العاملی ج14 ص442.
2- أی أشدها وأمتنها، وأکثرها مشقة، راجع کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج3 ص168.
3- تذکرة الفقهاء للعلامة الحلی ج8 ص172، وراجع تفسیر الرازی ج2 ص217.
4- المعتبر للمحقق الحلی ج2 ص317، وراجع صحیح البخاری ج1 ص218.

ص: 347

من مراتبهم ومقاماتهم؛ لان الروایات الشریفة صرحت بأن الأجر علی قدر المعرفة، حتی ان بعض الزائرین یعطی بکل خطوة حسنة، بینما البعض الآخر یعطی بکل خطوة ألف حسنة، أما الصنف الآخر فیعطی فی کل قدم یرفعها ویضعها عتق رقبة من ولد إسماعیل علیه السلام، ولیس هذا التفاضل والتمایز إلا بسبب المعرفة وشدة الإخلاص والیقین ومراعاة حالة التأدب بالآداب الشرعیة عموما وبآداب الزیارة علی وجه الخصوص.

جیم: ان یتخلق فی أثناء طریقه إلی زیارة قبر سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه، بل وفی مطلق أیام حیاته، بمکارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، ولیضع أمام ناظریه ان جمیع أقواله وأفعاله وتصرفاته تنعکس علی مذهب أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین سلبا أو إیجابا، والحفاظ علی سمعة وکرامة وبیضة المذهب مسؤولیة الجمیع لا سیما المتدینین من أتباعه، فعلیهم والحال هذه ان ینزهوا أنفسهم عن کل ما من شأنه ان ینقص من قدرهم، وان تکون علیهم سیماء الوقار والهیبة والشدة فی تطبیق الأحکام الشرعیة ومراعاة الحدود الإلهیة، وعدم التهاون فی إقامة الواجبات کالصلاة والحجاب وحفظ اللسان والعین والأذن مما یحرم الکلام فیه والنظر إلیه وسماعه فقد جاء فی صحیحة هشام بن الحکم قال: (سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: إیاکم ان تعملوا عملا یعیرونا __ أی المخالفین __ به، فان ولد السوء یعیر والده بعمله، وکونوا لمن انقطعتم إلیه زینا ولا تکونوا علینا شینا...ولا یسبقوکم __ یعنی بذلک المخالفین __ إلی شیء من الخیر فانتم أولی به منهم)(1).

وعن سلیمان بن مهران قال: (دخلت علی الصادق جعفر بن محمد علیهما السلام وعنده نفر من الشیعة، فسمعته وهو یقول: معاشر الشیعة، کونوا لنا زینا،


1- الکافی للشیخ الکلینی ج2 ص219.

ص: 348

ولا تکونوا علینا شینا، قولوا للناس حسنا، واحفظوا ألسنتکم وکفوها عن الفضول وقبیح القول)(1).

دال: ینبغی علی زائری قبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه حال مشیهم بل فی مطلق حالاتهم، بل وفی مطلق أیام حیاتهم، ان یعین غنیهم فقیرهم، وان یوقر صغیرهم کبیرهم، وان یعین قویهم ضعیفهم، وان تسود بینهم حال مسیرهم وحین وصولهم وفی أثناء رجوعهم روح المحبة والألفة والتراحم والتکافل، لینظر الله لهم بعین رحمته، ویشملهم بلطفه، ویرفعهم ویعزهم بسبب تراحمهم وتکافلهم بان یجعل کلمتهم العلیا علی من خالفهم. لان عزتهم فی وحدتهم وذلهم وانکسارهم فی فرقتهم، قال سبحانه وتعالی: ((وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِیحُکُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِینَ))(2).

هاء: المحافظة علی نقاوة وصفاء ونزاهة المسیر نحو قبر سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه وعدم إدخال وإقحام کل ما لا یمت بصلة إلی القضیة الحسینیة ومراسیم عاشوراء، ولعل اخطر آفة یمکن ان تسری إلی هذه المسیرات العبادیة هی آفة التحزب وإقحام السیاسة وشعاراتها واستغلال حشود الزائرین وجموعهم فی أغراض سیاسیة أو انتخابیة أو دعائیة والخروج بها عن الحالة العبادیة والروحیة، فحری بالزائرین الکرام ان لا یضعوا أمام نواظرهم غیر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وإقامة شعائر الزیارة، وان لا یمنحوا الآخرین فرصة استغلالهم لتحقیق مآرب سیاسیة أو شخصیة، وعدم رفع أی شعارات أو هتافات وأمثال هذه الأفعال لصالح جهات أو أحزاب أو أشخاص مهما کانت لهذه الجهات أو الأشخاص أهمیة دنیویة أو أخرویة، وان تصبح شعاراتهم وهتافاتهم وجمیع


1- الأمالی للشیخ الصدوق ص484.
2- سورة الأنفال الآیة رقم 46.

ص: 349

تصرفاتهم خالصة لوجه الله سبحانه وتعالی وللإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وقضیته ومصیبته ومصیبة أهل بیته وأصحابه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

القسم الثالث: آداب الحضور والتشرف فی مرقد سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه 

وهی کثیرة أیضا، لا یتناسب الإتیان علی جمیعها مع ما نحن فیه من محاولة الاختصار، وهذه الآداب تنقسم إلی آداب ظاهریة، وآداب باطنیة معنویة، وفیما یأتی جملة منها معتمدین علی ما یکون مسنداً بالدلیل القرآنی أو الروائی، مع مراعاتنا للمهم منها دون غیره.

ألف: ان شدة التأدب ومراعاة شروط الاحترام والتقدیس فی مقامات الأئمة الأطهار وروضاتهم المطهرة تابع لمستوی معرفة الزائر بإمامه المزور، وهذه المعرفة تابعة بدورها إلی مستواه العقلی والفکری من جهة، والی مستواه التربوی الذی نشأ علیه وترعرع من جهة ثانیة، فیجب علی أولیاء الأمور، وأرباب الأسر آباء کانوا أو أمهات، ان یربوا أولادهم علی تعظیم واحترام وإجلال رموز هذا الدین وأعمدته، وان یکون شخص النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ، وأشخاص الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، أعظم فی أنفسهم من کل عظیم علی وجه الأرض، حتی من الأب والأم أنفسهما، فمثلما لا یسمح الآباء ان ینادیهم أبناؤهم بأسمائهم، کذلک فلیشددوا علی أبنائهم بعدم ذکرهم لاسم النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ، أو باقی المعصومین وکذلک السیدة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بأسمائهم، من دون إتباع الاسم بقول (علیه السلام) أو (علیها السلام) أو (علیهم السلام) أو الصلاة علی النبی وآله حین ذکر اسم النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم .

کذلک یجب علی الآباء، وکل من یجعل نفسه فی مقام المربی، کمعلمی

ص: 350

المدارس وأساتذتهم الکرام، ان یوجهوا الأبناء ومن هم تحت أیدیهم وفی عهدتهم، إلی مراعاة ضوابط الأدب مع تلک الذوات الطاهرة، أکثر من مراعاتهم للأدب مع آبائهم وأمهاتهم ومعلمیهم، فمثلما لا یقبل الآباء ان یرفع الابن أو التلمیذ صوته فی وجه والدیه ومعلمیه، ولا یستهزئ بکلماتهم، ولا یستخف بأوامرهم، کذلک یجب علیهم ان لا یقبلوا علی هؤلاء الأبناء ان یرفعوا أصواتهم فی محضر المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عند أداء مراسم الزیارة، وان لا یستهزأ بشیء من أقوالهم وأفعالهم فی أثناء الزیارة او غیرها، وتأدیبه وتوجیهه وإفهامه ان فی عدم التأدب حبط الأعمال وذهاب الثواب من جهة، واستحقاق العقاب من جهة أخری، لان الله سبحانه وتعالی مثلما توعد بالنار علی عقوق الوالدین کذلک توعد بها کل من أساء الأدب وعق النبی صلی الله علیه وآله وسلم أو احد المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ((یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَکُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِیِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ کَجَهْرِ بَعْضِکُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُکُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ))(1).

إذن فمسؤولیة تقدیس النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وبقیة أشخاص المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین هی مسؤولیة الآباء والمربین قال سبحانه وتعالی: ((یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَکُمْ وَأَهْلِیکُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَیْهَا مَلَائِکَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا یَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَیَفْعَلُونَ مَا یُؤْمَرُونَ))(2)، ومن ثم إذا کبر الإنسان واشتد عوده صارت مسؤولیته الشخصیة، فإذا ما بدر تقصیر لا سمح الله من أبویه أو معلمیه أو مجتمعه المحیط به تدارکها بنفسه وأصلح ما فسد من حاله بسعیه، وهو أمر ممکن لیس بالعسیر، فیجب علی الإنسان ان یسعی إلی زیادة معرفته بأئمته لترتفع مرتبتهم ومحبتهم فی نفسه، فانه کلما کبرت وتعاظمت مرتبتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی نفس الإنسان صغرت وتدنت مرتبة من سواهم


1- سورة الحجرات الآیة رقم 2.
2- سورة التحریم الآیة رقم 6.

ص: 351

فی عینه، وصار لدیه شعور بوجوب ولزوم مراعاة الأدب والاحترام معهم بحسب حالهم وشأنهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

باء: قد ورد وصف روضات الأئمة الطاهرین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی عدة زیارات شریفة بأنها من ضمن البیوت التی أذن الله سبحانه وتعالی فی رفعها وإقامتها وتشییدها کی یذکر فیها اسمه ویسبح له فیها بالغدو والآصال، فقد جاء فی زیارة الجامعة الکبیرة ما نصه: (خلقکم الله أنوارا فجعلکم بعرشه محدقین. حتی منّ علینا بکم فجعلکم فی بیوت أذن الله أن ترفع ویذکر فیها اسمه)(1)، وفی هذه العبارة إشارة إلی قوله سبحانه وتعالی ((فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَیُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ فِیهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ))(2)والتی تطلق فی عرف المتشرعة علی المساجد، لذلک حکم بعض الأعلام من فقهاء المذهب بإلحاق روضات قبورهم الطاهرة بالمساجد کالشیخ المفید قدس الله روحه وابن الجنید ووافقهما الشهید الأول قدس الله روحه قائلا: (وألحق المفید وابن الجنید المشاهد المشرفة بالمساجد وهو حسن لتحقق معنی المسجدیة فیها وزیادة)(3).

وکذا فعل الشهید الثانی قدس الله روحه حیث قال: (وألحق جماعة من الأصحاب المشاهد بالمساجد وهو حسن بل الأمر فی المشاهد أغلظ لتأدیتها فائدة المسجد وتزید شرف المدفون بها)(4).

وقد علل آقا رضا الهمدانی إلحاق مشاهد الأئمة الأطهار بالمساجد بقوله: (لان المشاهد من المشاعر العظام التی تشد الرحال للتشرف بها فلا یبعد دعوی کون


1- المزار لمحمد بن المشهدی ص529.
2- سورة النور الآیة رقم 36.
3- ذکری الشیعة فی أحکام الشریعة للشهید الأول ج1 ص278.
4- روض الجنان للشهید الثانی ص81.

ص: 352

دخول الجنب والحائض هتکا لحرمتها عند المتشرعة)(1)

وأما علماؤنا المتأخرون فتکاد تجمع کلمتهم نصا أو احتیاطا علی إلحاق روضات الأئمة الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بالمساجد، وفی هذا الصدد یقول السید أبو القاسم الخوئی: (یلحق بالمساجد، المصحف الشریف، والمشاهد المشرفة، والضرایح المقدسة)(2).

ویقول السید محمد سعید الحکیم: (والأحوط وجوبا إلحاق المشاهد المشرفة بالمساجد فی الأحکام)(3).

وقال السید السیستانی: (المشاهد المشرفة للمعصومین علیهم السلام تلحق بالمساجد علی الأحوط ولا یلحق بها أروقتها...کما لا یلحق بها الصحن المطهر وإن کان الإلحاق أحوط)(4).

وبناءً علی إلحاق قبور المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وروضاتهم المطهرة بالمساجد المجعولة من الشارع المقدس محلا للصلاة والذکر، یلحقها کذلک أحکامها، فلا یدخلها من الزائرین جنب ولا حائض، کما یحرم علی الزائر تنجیسها أو تنجیس ما فیها من الأدوات والفرش والکتب وغیر ذلک، وکذلک یجب علیه کفایة إزالة النجاسة عنها، إلی غیر ذلک من الأمور التی یجب مراعاتها فی المساجد.

والروایات فی ذلک کثیرة منها ما عن أبی بصیر قال: (دخلت المدینة، وکانت معی جویریة لی، فأصبت منها ثم خرجت إلی الحمام فلقیت أصحابنا الشیعة


1- مصباح الفقیه (ط.ق) لآقا رضا الهمدانی ج 1 ق 1 ص 236.
2- منهاج الصالحین للسید الخوئی ج 1 ص 116 مسألة رقم 442.
3- مصباح المنهاج، الطهارة للسید محمد سعید الحکیم ج 3 ص 415.
4- المسائل المنتخبة للسید السیستانی ص 28 __ 29 مسألة رقم 39.

ص: 353

متوجهین إلی أبی عبد الله علیه السلام، فخفت أن یسبقونی ویفوتنی الدخول إلیه، فمشیت معهم حتی دخلت الدار، فلما مثلتُ بین یدی أبی عبد الله علیه السلام نظر إلی ثم قال: یا أبا بصیر أما علمت أن بیوت الأنبیاء وأولاد الأنبیاء لا یدخلها الجنب. فاستحییت، فقلت له: یا بن رسول الله، إنی لقیت أصحابنا فخشیت أن یفوتنی الدخول معهم، ولن أعود إلی مثلها وخرجت)(1).

ومنها روایة جابر عن الإمام علی بن الحسین صلوات الله وسلامه علیه أنه قال: (أقبل أعرابی إلی المدینة فلما قرب المدینة خضخض ودخل علی الحسین علیه السلام وهو جنب فقال له: یا أعرابی أما تستحی الله تدخل إلی إمامک وأنت جنب ...)(2).

جیم: وردت بعض الروایات الشریفة والتی نصت علی استحباب أن یأتی الزائر قبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه فور وصوله إلی ارض کربلاء المقدسة وهو علی وعثاء سفره حزینا کئیبا شعثا مغبرا، مستذکرا حال إمامه الشهید الذی قتل وهو کئیب حزین شعث مغبر، وهو ما أوصی به الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه احد أصحابه بقوله: (إذا أردت أنت قبر الحسین علیه السلام فزره وأنت کئیب حزین شعث مغبر، فان الحسین علیه السلام قتل وهو کئیب حزین، شعث مغبر جائع عطشان)(3).

وفی روایة ثانیة عن المفضل بن عمر، قال: (قال أبو عبد الله علیه السلام: تزورون خیر من أن لا تزورون ولا تزورون خیر من أن تزورون، قال: قلت: قطعت ظهری، قال: تالله ان أحدکم لیذهب إلی قبر أبیه کئیبا حزینا، وتأتونه أنتم بالسفر


1- الإرشاد للشیخ المفید ج2 ص185.
2- مصباح الفقیه لآقا رضا الهمدانی ج1 ق1 ص236.
3- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص252.

ص: 354

کلا حتی تأتونه شعثا غبرا)(1).

لذلک أفتی الشهید الأول قدس الله روحه واستنادا إلی هذه الروایات وغیرها بقوله: (ویستحب لزائره أن یأتیه محزونا أشعث أغبر جائعا عطشانا، ولا یتخذ فی طریقه السفر، ولا یتطیب ولا یدهن ولا یکتحل، ویأکل الخبز واللبن، ویزوره بالمأثور)(2).

ولکن طائفة أخری من الروایات الشریفة أوصت بأهمیة أن یأتی الزائر قبل زیارته إلی نهر الفرات فیغتسل قبل دخوله إلی حرم الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه لأداء مراسیم الزیارة، منها ما عن بشیر الدهان، عن أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (...ان المؤمن إذا أتی قبر الحسین علیه السلام عارفا بحقه فاغتسل فی الفرات ثم خرج کتب له بکل خطوة حجة وعمرة مبرورات متقبلات وغزوة مع نبی مرسل أو إمام عدل)(3).

ومنها ما عن صفوان الجمال عن أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (من اغتسل بماء الفرات وزار قبر الحسین علیه السلام کان کیوم ولدته أمه صفرا من الذنوب ولو اقترفها کبائر وکانوا یحبون الرجل إذا زار قبر الحسین علیه السلام اغتسل وإذا ودع لم یغتسل ومسح یده علی وجهه إذا ودع)(4).

وعن بشیر الدهان عن رفاعة النحاس عن أبی عبد الله علیه السلام قال: (أخبرنی أبی ان من خرج إلی قبر الحسین علیه السلام عارفا بحقه غیر مستکبر وبلغ الفرات ووقع فی الماء وخرج من الماء کان مثل الذی یخرج من الذنوب وإذا مشی إلی


1- الدروس الشرعیة فی فقه الإمامیة للشهید الأول: ج2، ص12.
2- الدروس للشهید الأول ج 2 ص 12.
3- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص343.
4- المصدر السابق.

ص: 355

الحسین علیه السلام فرفع قدما ووضع أخری کتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سیئات)(1).

ولعل هذا الاختلاف ما بین المجموعتین من الروایات جاء لتبیان حالة التخییر بالنسبة للزائر، فمن استطاع منهم ان یبقی علی صفة الجائع العطشان الأشعث الأغبر من دون ان تضعفه هذه الصفات عن الدعاء والزیارة تعین علیه البقاء، لوجود کثیر من الأخبار التی بینت ان قبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه هو محل للحزن والبکاء والمصیبة من الملائکة ومؤمنی الجن والأولیاء من الإنس، فعن علی عن صفوان الجمال، عن أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه قال: (سألته فی طریق المدینة ونحن نرید مکة، فقلت: یا ابن رسول الله ما لی أراک کئیبا حزینا منکسرا ؟ فقال: لو تسمع ما أسمع لشغلک عن مساءلتی، فقلت: وما الذی تسمع ؟ قال: ابتهال الملائکة إلی الله جل وعز علی قتلة أمیر المؤمنین وقتلة الحسین علیه السلام ونوح الجن وبکاء الملائکة الذین حوله وشدة جزعهم، فمن یتهنأ مع هذا بطعام أو شراب أو نوم)(2).

وفی روایة أخری ان الله سبحانه وکل بقبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه (أربعة آلاف ملک شعث غبر یبکون الحسین «علیه السلام» إلی یوم القیامة، فلا یأتیه أحد إلا استقبلوه، ولا یرجع أحد من عنده إلا شیعوه، ولا یمرض أحد إلا عادوه، ولا یموت أحد إلا شهدوه)(3).

وفی روایة ثالثة: (إن الله وکل بقبر الحسین (علیه السلام) أربعة آلاف ملک،


1- تهذیب الأحکام للشیخ الطوسی ج6 ص53.
2- کامل الزیارات لمحمد بن قولویه ص496.
3- المصدر السابق ص174.

ص: 356

شعثا غبرا، یبکونه من طلوع الفجر إلی زوال الشمس، فإذا زال هبط أربعة آلاف ملک، وصعد أربعة آلاف ملک، فلم یزل یبکونه حتی یطلع الفجر، ویشهدون لمن زاره بالوفاء، ویشیعونه إلی أهله)(1).

وفی روایة رابعة: (وکل الله تبارک وتعالی بالحسین علیه السلام، سبعین ألف ملک یصلون علیه کل یوم، شعثا غبرا، ویدعون لمن زاره)(2).

فالأکمل بحال الزائر ان یأتیه أشعث أغبر ولا یتهنأ عنده بطعام أو شراب وان تکون أحداث کربلاء ومصائب العترة الطاهرة وآلام سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه ماثلة أمامه، وقولنا الأکمل لان الملائکة الکرام اتصفوا بهذه الصفة، ولو لم تکن هذه الصفات صفات کمال أو کان الکمال فی غیرها لما اتصفوا بها.

أما من کان یضر به طول الجوع والعطش، ولا یصبر علی البقاء أشعث أغبر، ویضعفه ذلک عن الدعاء والزیارة، أو غیر ذلک من الأسباب، جاز له الغسل ولبس النظیف من الثیاب، وما ذکر من الأجر فی روایات الاغتسال لعله بهدف إفهام الزائر ان غسله وتنظیفه لبدنه ولباسه غیر منهی عنه بل هو مستحب أیضا وان کان لیس بمستوی مرجوحیة البقاء أشعث أغبر عطشانا جائعا کئیبا مواساة لسید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه وتشبها بالملائکة الحافین بقبره الشریف، (وعلی الجملة أن التقیید تضییق علی المکلف، وفی رفعة امتنان مطلقا سواء أکان المقید من الأمور الإلزامیة أو غیرها)(3).


1- کامل الزیارات لمحمد بن قولویه: ص175.
2- المصدر السابق ص233.
3- کتاب الصلاة التنقیح فی شرح العروة الوثقی تقریرا لبحث آیة الله العظمی السید أبو القاسم الخوئی دام ظله العالی تألیف المیرزا علی التبریزی الغروی ج1 شرح ص90.

ص: 357

ولکن ینبغی لمن یرید الأکل والشرب والغسل وأمثال هذه الأمور ان لا یکون فی جمیع تصرفاته هذه قاصدا البهجة والسرور وغیر ذلک من الحالات التی تفرغ الزیارة من محتواها الروحی والعاطفی، فمن قصد ذلک صار مشمولا بالتوبیخ الموجه من الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه وقوله: (...ولا تزورون خیر من أن تزورون... تالله ان أحدکم لیذهب إلی قبر أبیه کئیبا حزینا، وتأتونه أنتم بالسفر کلا حتی تأتونه شعثا غبرا)(1).

دال: ان یستحضر فی نفسه ویستشعر __ سواء فی طریقه إلی زیارة قبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه أو عند وصوله إلی ارض کربلاء أو عند الدخول إلی الحرم الشریف __ انه تحت نظر وعین الإمام المعصوم صلوات الله وسلامه علیه، أما مباشرة واما بإخبار الملائکة إیاه، فقد وردت الأخبار الشریفة ان الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین موصوفون بالإحاطة بأحوال شیعتهم وحتی غیر شیعتهم، بإذن وبإقدار من الله سبحانه وتعالی، فهم وکما فی جملة من الروایات یعلمون من یأتی أبوابهم ویعلمون بمکانهم من قبل ان یستأذنوا علیهم، فعن (عبد الله بن عطاء المکی قال اشتقت إلی أبی جعفر علیه السلام وأنا بمکة فقدمت المدنیة ما قدمتها إلا شوقا إلیه فأصابتنی تلک اللیلة مطرة وبرد شدید فانتهیت إلی بابه نصف اللیل فقلت ما اطرقه هذه الساعة وانتظر حتی أصبح وانی لأفکر فی ذلک إذ سمعته یقول یا جاریة افتحی الباب لابن عطا فقد أصابه برد شدید فی هذه اللیلة قال فجاءت ففتحت الباب فدخلت علیه)(2).

وکذلک وردت جملة أخری من الروایات الشریفة المؤکدة علی انهم


1- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص250.
2- بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار ص277 باب14 فی ان الأئمة علیهم السلام یعلمون من یأتی أبوابهم ویعلمون بمکانهم من قبل ان یستأذنوا علیهم.

ص: 358

صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین یعرفون الإضمار وحدیث النفس قبل ان یخبروا به، وانهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین کانوا یخبرون شیعتهم بأفعالهم وسرهم وأفعال غیبهم وهم غیب عنهم، وانهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین یعلمون من یأتی أبوابهم ویعلمون بمکانهم من قبل أن یستأذنوا علیهم، وانهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعینیعرفون من یمرض من شیعتهم ویحزنون ویدعون ویؤمنون علی دعاء شیعتهم وهم غیب عنهم، وانهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین یعرفون من یدخل علیهم بالخیر والشر والحب والبغض کل ذلک بإذن الله وإقداره لهم علی ذلک ولیس هذا من الشرک أو الغلو فی شیء کما یقول النواصب ومن لا حظ له من الولایة فی شیء، فالقرآن الکریم یحدثنا عن بعض الأولیاء ممن هم لیسوا بأنبیاء کالخضر صلوات الله وسلامه علیه وذی القرنین صلوات الله وسلامه علیه وصاحب عرش بلقیس والذی ورد فی بعض الأخبار انه وصی نبی الله سلیمان صلوات الله وسلامه علیه، وغیرهم ممن أعطاهم الله سبحانه وتعالی القدرة علی الاطلاع علی عالم الغیب والولایة علی ما تحت أیدیهم من الموجودات، والقرآن یصرح جهارا ان الخضر صاحب نبی الله موسی صلوات الله وسلامه علیه قد علمه الله سبحانه وتعالی علما لم یعلمه لنبی من أنبیاء أولی العزم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، قال سبحانه وتعالی: ((قَالَ لَهُ مُوسَی هَلْ أَتَّبِعُکَ عَلَی أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا *قَالَ إِنَّکَ لَنْ تَسْتَطِیعَ مَعِیَ صَبْرًا * وَکَیْفَ تَصْبِرُ عَلَی مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا))(1) وبهذا العلم استطاع ان یعلم ان السفینة کانت لمساکین یعملون فی البحر وکان وراءهم ملک یأخذ کل سفینة غصبا لذلک عابها کی لا یطمع فی أخذها ذلک الملک، وبهذا العلم الإلهی أیضا استطاع ان یعلم ان فی قتل الغلام مصلحة لأبویه المؤمنین الذین أراد ربهما ان یبدلهما عنه خیرا منه زکاة واقرب رحما، وبذلک العلم عرف ان ذلک الجدار الذی بناه من غیر اخذ أیة أجرة کان تحته کنز أخفاه رجل صالح ومات وله غلامان یتیمان فأراد الله سبحانه ان


1- سورة الکهف الآیة 66 __ 68.

ص: 359

یبقی تحت ذلک الحائط إلی ان یکبرا ویبلغا أشدهما ثم یستخرجا کنزهما، کل ذلک من فضل الله ورحمته الذی من علی هؤلاء الأولیاء بالعلم وکشف الحجاب لیقوموا علی مصالح العباد ویغیثوا من لیس له مغیث إلا الله سبحانه وتعالی.

وذو القرنین الذی أعطاه الله من کل شیء سببا قال تعالی: ((وَیَسْأَلُونَکَ عَنْ ذِی الْقَرْنَیْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَیْکُمْ مِنْهُ ذِکْرًا * إِنَّا مَکَّنَّا لَهُ فِی الْأَرْضِ وَآَتَیْنَاهُ مِنْ کُلِّ شَیْءٍ سَبَبًا))(1)، وفوض إلیه ان یحسن لمن یشاء ویعذب من یشاء، قال سبحانه وتعالی: ((قُلْنَا یَا ذَا الْقَرْنَیْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِیهِمْ حُسْنًا))(2).

فلماذا یستکثر الجهال ان یعطی الله سبحانه وتعالی النبی صلی الله علیه وآله وسلم والأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین مثل الذی أعطاه للخضر وذی القرنین، ولماذا یستبعدون ان یکون فی أمة محمد صلی الله علیه وآله وسلم التی هی خیر الأمم أمثال الخضر وذی القرنین مع ان أمته صلی الله علیه وآله وسلم هی خیر الأمم وینبغی ان یکون فیها رجال ونساء أکمل وأفضل من جمیع رجال ونساء الأمم السابقة، فإذا کانت مریم أفضل نساء تلک الأمم ینبغی وبحکم الفطرة السلیمة ووفقاً لمبدأ أفضلیة امة نبینا علی سائر الأمم ان یکون فی الأمة الاسلامیة سیدة مریم وسائر نساء الأمم السابقة، وهو حاصل فعلا علی وفق الأصول العقائدیة لمذهب أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فالسیدة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها هی أفضل نساء عالمها وجمیع العوالم السابقة، وإذا کان فی الأمم السابقة رجال أولیاء کمثل الخضر وذی القرنین ووصی نبی الله سلیمان الذین کشف عن بصرهم وبصیرتهم الحجاب وأعطاهم الله سبحانه وتعالی ولایة علی کثیر من أسباب الکون فلابد ووفقا لمبدأ أفضلیة امة نبینا صلی الله علیه وآله وسلم علی سائر الأمم ان یکون فیها


1- سورة الکهف الآیة رقم 82 __ 83.
2- سورة الکهف الآیة رقم 86.

ص: 360

رجال أکمل وأفضل وذوو إمکانیات وقابلیات وکمالات ارفع من جمیع الأولیاء فی الأمم السابقة، وهذا ما کان فعلا فالأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أعطاهم الله سبحانه وتعالی ما لم یعطِ قبلهم من الأولیاء، فلا ینبغی بعد کل هذا ان یستکثر مستکثر، أو یرمینا بالغلو بعض من جهل مراتبهم ومقاماتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

وبالعودة إلی موضوع آداب الحضور والتشرف فی المرقد الطاهر للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه أقول: یجب علی المؤمن المقر والمعترف بأن الإمامة مرتبة یستطیع معها ان یعلم بتعلیم من الله سبحانه وتعالی حدیث نفس الزائر وما یسر ویضمر فی قلبه، ویعلم بتفاصیل حال الزائر وشخصه من قبل ان یستأذن للدخول علی الإمام صلوات الله وسلامه علیه، ویعلم ما فی قلوب زواره من الخیر والشر، ویعلم کذلک فقره ومرضه واحتیاجه وخوفه وجمیع ما یهمه أمره وجمیع تفاصیل حیاته، فیجب علی الزائر وفقا لهذه المرتبة من المعرفة عدة أمور مهمة منها:

1: ان یحافظ الزائر فی أثناء دخوله لحرم الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بل لسائر مشاهد المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین علی سلامة ما فی ضمیره ونزاهة ما یجول بخاطره من أفکار وخطرات وحدیث نفس وان یصرف فکره ونفسه عن کل ما لا یلیق مع ذلک المکان الطاهر، ولیلقن الزائر نفسه ویؤدبها علی ان الإمام الذی هو فی حرمه الشریف مطلع علی کل ما یجول فی خاطره.

والاهم من ذلک کله ان یطهر الإنسان نفسه وعقله وضمیره من أمرین مهمین:

الأول: من العقائد الفاسدة والأفکار التی تخالف الدین وتتعارض مع المنهج الذی بذل من أجله الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه دمه الطاهر وضحی بأهله وأولاده وإخوته وأصحابه من أجله.

ص: 361

الثانی: هو رذائل الأخلاق ومساوئ الصفات والملکات، وصغائر الذنوب وکبائرها، لینسجم بذلک مع طهارة صاحب القبر ومشهده الطاهر، فالزیارة لمشاهد المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من أفضل فرص التوبة من الذنب والاستغفار والإقلاع عن المعاصی.

2: ینبغی علی الزائر ان یحفظ جوارحه الظاهریة من ان یصدر منه ومنها ما یسیء به أدب الحضور فی مجلس الإمام وتحت نظره الشریف، فلا یتکلم بالمحرم کالغیبة والکذب وسائر المحرمات اللسانیة، ولا ینظر الرجل إلی وجوه النساء ولا النساء کذلک إلی وجوه الرجال بغیر القصد المباح شرعا، ولا یستمع إلی أحادیث الناس المحیطین به وخصوصیاتهم ومشاکلهم التی یبثونها إلی الإمام صلوات الله وسلامه علیه أو إلی أشخاص برفقتهم، وبالجملة کل ما یعد حراما خارج الحرم الشریف فهو فی داخله أشد حرمة لوجود الإمام صلوات الله وسلامه علیه وحضوره، وکل ما یعد خلاف الأدب شرعا وعرفا فانه لا ینبغی للزائر ان یأتی به داخل الحرم الشریف.

3: لا ینبغی للزائر ان یرفع صوته عند قبر النبی صلی الله علیه وآله وسلم وقبر الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وسائر قبور أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، أما حرمة رفع الصوت عند قبر النبی صلی الله علیه وآله وسلم فلقوله سبحانه وتعالی ((یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَکُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِیِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ کَجَهْرِ بَعْضِکُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُکُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ))(1)، واما حرمته عند بقیة المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین (لما ورد ان حرمتهم کحرمة النبی صلی الله علیه وآله)(2)، فینبغی علی الزائر ان لا یرفع صوته داخل الحضرة المقدسة حتی فی أثناء دعائه وزیارته بالمأثور أو غیر المأثور، لان غرض الزائر من رفع صوته ان کان هو


1- سورة الحجرات الآیة رقم 2.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج97 ص125 الباب الثالث آداب الزیارة وأحکام الروضات.

ص: 362

إسماع الإمام ألفاظ الزیارة فقد ثبت فیما سبق ان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وسائر الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین یعلمون حتی ما یضمره الزائر فی قلبه وما یمر بخطرات عقله، فیکون رفع الصوت حینئذ لا فائدة منه، فضلا عن النهی بالآیة الشریفة السابقة، وفضلا عن احتمال إیذاء باقی الزائرین فی حالة رفع الصوت والتشویش علی أسماعهم، فورود عدة محاذیر شرعیة یکفی فی القول بعدم رجحان رفع الصوت ان لم نقل بحرمته کما عرفت من قول العلامة المجلسی قدس الله روحه.

هاء: یجب مراعاة زائر روضات الأئمة الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین حال أخوانه الزائرین ممن لم یمنّ الله علیه بالقوة، من ضعاف المؤمنین وکبار السن والأطفال والنساء، فلا یؤذین أحدا منهم بتدافعه أو بکلامه، ولیعلم الزائر الکریم ان الله أخفی أولیاءه فی خلقه، فلا یؤذین أحداً منهم مخافة ان یکون هو ذلک الولی، کما فی الحدیث المروی عن أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه حیث قال: (ان الله تبارک وتعالی أخفی أربعة فی أربعة: أخفی رضاه فی طاعته فلا تستصغرن شیئا من طاعته، فربما وافق رضاه وأنت لا تعلم. وأخفی سخطه فی معصیته فلا تستصغرن شیئا من معصیته، فربما وافق سخطه معصیته وأنت لا تعلم. وأخفی إجابته فی دعوته فلا تستصغرن شیئا من دعائه، فربما وافق إجابته وأنت لا تعلم. وأخفی ولیه فی عبادة فلا تستصغرن عبدا من عبید الله، فربما یکون ولیه وأنت لا تعلم)(1)، وحتی لو لم یکن أغلب الزائرین من هؤلاء الأولیاء، فهم داخلون تحت وصف أهل الإیمان حتما، وأذی المؤمن حرام حرمة مغلظة، ومرتکبه ملعون، وقد مر فی بحوث سابقة طائفة من الآیات والأحادیث الشریفة اللاعنة لمؤذی المؤمنین، ویدخل تحت عنوان أذی المؤمنین من یقف فی طریق مرورهم بحیث یقطع أو یعرقل انسیابیة مشیهم


1- الخصال للشیخ الصدوق ص209 __ 210.

ص: 363

وزیارتهم، حتی لو کان وقوفه فی طریقهم لغرض الصلاة أو الدعاء أو الجلوس أو الانتظار، ویدخل فی عنوان الأذی التدافع المفرط للوصول إلی الشباک الطاهر لقبر المعصوم صلوات الله وسلامه علیه لما یسببه من حرج وألم وانزعاج لبقیة أخوانه الزائرین، ولان الوصول إلی الشباک الطاهر مستحب، لکن إیذاء المؤمنین لا سیما الضعاف منهم والمرضی حرام علی مرتکبه، فضلا عن منافاته للأخلاق الحمیدة، ولما یعطیه من صورة سلبیة للشخص المرتکب للتدافع، فان تدافعه لا یعبر البتة عن شوقه وحبه، بل یعکس عدم رقة قلبه، وعدم حرصه علی مشاعر وآلام الآخرین.

واو: یستحب لزائر قبور المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ان یزور نیابة عن أرحامه ومتعلقیه لا سیما الوالدین، وعلی الخصوص الأموات منهم؛ لأنهم أحوج ما یکونون إلی الأعمال الصالحة، وزیارة مشاهد المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من أعظم تلک الأعمال، وکذلک یستحب له تقدیم الآخرین بالدعاء؛ لان الوارد فی الروایات الشریفة هو استجابة الدعاء الذی یقدم صاحبه حاجات الآخرین علی حاجته، وان یعم بدعائه جمیع المؤمنین وأهل الخیر والصلاح.

وینبغی علی الزائر ان یجعل قسطا من دعائه للطلب من الله سبحانه وتعالی والإمام المعصوم صلوات الله وسلامه علیه بأن یقیه وجمیع أخوته فی الإیمان والنسب وجمیع أتباع أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین میتة السوء، والعاقبة غیر الصالحة، وان لا ینقلب وإیاهم عن الحق واتباع منهج أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وان لا یسلب نعمة الإیمان، وان یکثر الإلحاح علی الله سبحانه وتعالی والإمام صلوات الله وسلامه علیه بأن یفک رقبته ورقابهم من النار؛ لأنها المسألة التی إذا ما أعطیت للزائر لا یضره ما منع عنه، وإذا منعت عنه لا یفیده کل ما یعطی له.

ص: 364

المبحث الرابع: إکرامنا بسید الشهداء علیه السلام

اشارة

حاولت جاهدا ان أجد أشیاء محددة یمکن تلخیصها علی شکل نقاط استطیع من خلالها حصر واستقصاء جمیع أو اغلب مراتب الإکرام التی منّ الله سبحانه بها علینا بواسطة وسبب الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه فلم افلح فی ذلک، ولا أظن احد من الناس إلی یومنا هذا قد افلح فی هذه المهمة، لان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه نعمة من النعم الإلهیة، بل هو من أعظم النعم والألطاف والمنن التی منحت للبشریة، ونعم الله سبحانه وتعالی لا یمکن للعادین حصرها ولا إحصاؤها، وکیف یطیقون ذلک وقد اخبر الله سبحانه وتعالی فی کتابه الناطق والنبأ الصادق عن عدم إمکان ذلک بقوله: ((وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِیمٌ))(1)، هذا فضلا عن النعم الأخری المتفرعة والمتولدة من وجوده صلوات الله وسلامه علیه واستشهاده وثواب زیارته والبکاء علیه، ومن کل نعمة من هذه النعم تتولد نعم أخری لا علم لأحد بها إلا الله سبحانه وتعالی ولو أراد الحامدون أن یحمدوا الله علی نعمة المن علی هذا العالم بسید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه وبقیة النعم المتفرعة علی وجوده صلوات الله وسلامه علیه لما استطاعوا إلی ذلک سبیلا، وکیف یستطیعون ذلک ولسان حالهم یقول کما قال الإمام علی بن الحسین السجاد صلوات الله وسلامه علیه فی احد ادعیته: (فآلاؤک جمة ضعف لسانی عن إحصائها، ونعماؤک کثیرة قصر فهمی عن إدراکها فضلا عن استقصائها. فکیف لی بتحصیل الشکر وشکری إیاک یفتقر إلی شکر فکلما قلت لک الحمد، وجب علی لذلک أن أقول لک الحمد)(2).

لکن ما لا یدرک کله لا یترک کله، وما لم نستطع احتواءه واستقصاءه تفصیلا نستطیع علی اقل التقادیر ان نحیط به إجمالا، ویمکن تلخیص وجوه إکرامنا بسید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه بثلاث مراحل هی کالتالی:


1- سورة النحل الآیة رقم 18.
2- الصحیفة السجادیة (ابطحی) للإمام زین العابدین صلوات الله وسلامه علیه ص 409 __ 410.

ص: 365

أولا: إکرامنا بأصل نعمة الوجود بسببه صلوات الله وسلامه علیه وسبب بقیة المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین 

کثیراً ما نقرأ فی الروایات الشریفة والأدعیة المبارکة والزیارات المقدسة ان أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین __ ومن ضمنهم النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بل هو سیدهم __ هم العلة والسبب الذی من أجله خلق الله سبحانه الخلق وکوّن الکون، ولولاهم لما وجدت سماء مبنیة ولا ارض مدحیة، ولا شمس مضیئة، ولا لأنعم الله بالوجود علی کل موجود، وهذا لیس من الغلو فی شیء، أو من القول بلا دلیل حاشا أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من القول بغیر دلیل، ونستطیع من خلال بعض الخطوات الاستدلالیة البسیطة إثبات هذه الحقیقة من القرآن الکریم والسنة المطهرة، وهذه الخطوات هی کالتالی:

أولا: من یدقق النظر والفکر فی أجزاء هذا الکون أولا، وفی نصوص القرآن الکریم والسنة المطهرة ثانیا، یجد ان کل جزء من أجزاء الکون موجود لهدف وغایة، قد تصل إلیها عقولنا تارة، وقد تغفل أو تعمی عنها تارات أخری، فالغائیة والهدفیة متحققة وعلی أساسها قد وجد الوجود وکون الکون، وهو أمر یکاد یکون بدیهیا ومستغنیا عن البرهان، لا سیما للمؤمنین بوجود الله سبحانه وتعالی وحکمته.

وثانیا: ان کل جزء من أجزاء الکون قد اوجد من اجل جزء آخر منه، وجمیعها من اجل الإنسان، ومن تأمل آیات الکتاب العزیز یجد هذا المعنی واضحا جدا، فحینما یتکلم عن الحیوانات والغایة من وجودها یقول سبحانه وتعالی ((وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَکُمْ فِیهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْکُلُونَ))(1)، ثم یجمل سبحانه وتعالی القول فی آیة ثالثة لیجعل کل ما فی الأرض مخلوقا للإنسان فیقول: ((هُوَ الَّذِی خَلَقَ لَکُمْ مَا فِی الْأَرْضِ جَمِیعًا


1- سورة النحل الآیة رقم 5.

ص: 366

ثُمَّ اسْتَوَی إِلَی السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمٌ))(1)، وحینما یتکلم سبحانه وتعالی عن أجزاء الکون الأخری کالشمس والقمر واللیل والنهار یقول: ((وَسَخَّرَ لَکُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَیْنِ وَسَخَّرَ لَکُمُ اللَّیْلَ وَالنَّهَارَ))(2)، إذن فالإنسان وبحسب هذه الآیات الشریفة سبب لخلق الأرض وما علیها، والشمس والقمر، واللیل والنهار، وسائر الأنعام، وهو علة من أجله تم إیجادها، فهو علتها الغائیة کما یقول الحکماء والفلاسفة، ولولاه لما خلقن ولا اوجدن.

ثالثا: والإنسان کما لا یخفی علی احد مؤمن وکافر، ومن غیر المعقول ان تخلق السماوات والأرض والشمس والقمر والبحار والجبال بما فیها من اجل الإنسان الکافر، فلابد حینئذ ان تکون کل هذه الموجودات مخلوقة للإنسان المؤمن، دون الکافر، کما قال الله سبحانه وتعالی: ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ اللَّهِ الَّتِی أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّیِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِیَ لِلَّذِینَ آَمَنُوا فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا خَالِصَةً یَوْمَ الْقِیَامَةِ کَذَلِکَ نُفَصِّلُ الْآَیَاتِ لِقَوْمٍ یَعْلَمُونَ))(3) فهی للذین آمنوا أصالة ویشارکهم الذین کفروا فیها بالتبع، أما یوم القیامة فلیس للکافر فی النعم نصیب، وهی للذین آمنوا خالصة.

رابعا: ان هؤلاء المؤمنین الذین خلق الله الکون وما فیه من أجلهم صنفان أیضا، فمنهم مأموم تابع، ومنهم إمام متبوع وهو المعبر عنه فی بعض الروایات بالحجة، والإمامة منصب واسع یشمل الأنبیاء والأوصیاء، وما دونهم مأموم تابع، والإمام والحجة فی کثیر من الروایات الشریفة، هو سبب وعلة وجود غیره من بقیة أصناف أهل الإیمان من المأمومین، ولولا وجوده المقدس لساخت الأرض وانمحت


1- سورة البقرة الآیة رقم 29.
2- سورة ابراهیم الآیة رقم 33.
3- سورة الأعراف الآیة رقم 32.

ص: 367

من الوجود، فعن أبی حمزة قال: (قلت لأبی عبد الله علیه السلام: أتبقی الأرض بغیر إمام ؟ قال: لو بقیت الأرض بغیر إمام لساخت)(1).

وعن محمد بن الفضیل، عن أبی الحسن الرضا علیه السلام قال: قلت له: أتبقی الأرض بغیر إمام ؟ قال: لا، قلت: فإنا نروی عن أبی عبد الله علیه السلام أنها لا تبقی بغیر إمام إلا أن یسخط الله تعالی علی أهل الأرض أو علی العباد، فقال: لا، لا تبقی إذا لساخت)(2).

وعن (أبی جعفر __ الباقر __ علیه السلام قال: لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها، کما یموج البحر بأهله)(3).

وسبب ذلک یعود إلی أنه لولا وجود الحجج من الأنبیاء والأوصیاء لم یعبد الله سبحانه، ولکان الناس أمة واحدة علی الکفر والإلحاد، والکافر کما عرفنا سابقا لیس أهلا لان توجد الأرض والسماوات من أجله، ومع انحصار الإنسان بصنف الکافر لا یبقی هدف ولا غایة لان تخلق الأرض وبقیة أجزاء الکون، فتنمحی حینئذ وتفنی، فالإمام __ بغض النظر عن کونه نبیا أو رسولا أو وصیا __ هو الأمان لأهل الأرض من ان تزول ومن علیها، وهو سبب بقائهم ولأجله یرزقون، وهو سبب وجودهم وعلة إنشائهم.

خامسا: کما هو معلوم فإن الإسلام هو دین الله سبحانه وتعالی فی الأرض، وحجته البالغة علی العباد، کما قال تعالی ((إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ))(4)، والإسلام دین


1- الکافی للشیخ الکلینی ج 1 ص179.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- سورة آل عمران الآیة رقم 19.

ص: 368

تکامل وفقا لتکامل البشریة، حتی ختم علی ید النبی الأعظم محمد بن عبد الله صلی الله علیه وآله وسلم ، وسبب اختیار النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لمهمة الخاتمیة هو تلک المواصفات والقابلیات الکمالیة التی یتفرد بها عن سائر من سبقوه من الأنبیاء والرسل صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وجمیع أهل الأرض، فهو صلی الله علیه وآله وسلم إمامهم وخیرتهم وسیدهم، لان مرتبة (خاتم الأنبیاء والمرسلین) فوق کل الرتب التی یمکن ان یتمتع بها الأنبیاء والمرسلون، فلا ضیر ان یکون حاملها فوق کل الأنبیاء والمرسلین، ولو لم یکن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم أکملهم وأقدرهم علی أداء الرسالة الخاتمة لما ختمت الشرائع علی یدیه الکریمتین، ولو لم تختم الشرائع لبقی الإسلام الذی هو دین الله سبحانه وتعالی ناقصا لا یحقق الغرض من تشریعه وتأسیسه، ولبقیت الناس علی الشریعة الیهودیة المحرفة والمسیحیة المشرکة، ولورث أهل الشرک والکفر الأرض ومن علیها، ولتخلف الهدف الذی من أجله خلق الکون، إذ ان الکون __ وکما عرفنا سابقا __ وما فیه مخلوق للمؤمن فإذا لم یکن هنالک مؤمن لم یکن هنالک سبب لبقائه واستمراره، بل لم یکن هنالک سبب لخلقه من الأساس، لان الله سبحانه وتعالی یعلم غیب السماوات والأرض قبل خلق السماوات والأرض، لأنه من غیر المعقول ان یخلق الله الکون لیتکامل ولیرث الذین آمنوا الأرض ومن علیها ویتمتعوا بخیراتها، ثم لا یتحقق الهدف، ویرثها الذین کفروا والمشرکون، فالنبی صلی الله علیه وآله وسلم ووجوده وإکماله للشرائع السماویة وإرساله بالرسالة الخاتمة هو الذی حقق الهدف والغایة من الخلق، وبه استمر خط التوحید واکتمل، وبسببه سیرث الذین آمنوا الأرض ومن علیها، فهو السبب الذی تفضل الله سبحانه وتعالی به علی کل جزء من أجزاء الکون بنعمة الوجود.

 سادسا: ان مبدأ الخاتمیة کان مشروعا طویل الأمد یمتد بامتداد عمر البشریة، ویستمر إلی آخر یوم من أیامها، وهو أمر یحتاج إلی أشخاص یحملون حمل الرسالة

ص: 369

ویستمرون فی تبلیغها وحفظها وصیانتها من التلاعب والتحریف والتزویر کما فعل بالشرائع السابقة والأدیان السالفة، وهی مهمة لا یتسع لها العمر الطبیعی للنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فکان ولابد ان یکون له أوصیاء وحجج یؤدون هذا الدور المکمل، فکان الأئمة الاثنا عشر صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین هم الحجج الذین أکملوا مسیرة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وحفظوا شریعته.

فلولا وجود أشخاصهم المقدسة لبقیت الرسالة الخاتمة بلا راع ولا حفیظ، ولوقع المحذور الذی بیناه فی النقطة السابقة، ولاستولی الباطل علی أهله وعطلت حدود الإسلام وفروضه، ولضاعت جهود الأنبیاء العظام والرسل الکرام والأوصیاء والشهداء منذ أبینا آدم صلوات الله وسلامه علیه إلی نبینا المصطفی صلی الله علیه وآله وسلم، وبذلک یضیع هدف الخلق وعلة الإیجاد بالتقریب الذی تقدم فی النقاط السابقة، فبوجودهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین منّ الله سبحانه وتعالی علی الخلق بالخلق وعلی الکون بالتکوین والإنشاء، فهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین علة غائیة وسببیة لإکرام العباد بنعمة الوجود بل بکل النعم الأخری المتفرعة علی ذلک.

سابعا: الأئمة والحجج من أولاد أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین قضی الله سبحانه وتعالی وقدر ان یولدوا من سیدة نساء العالمین السیدة فاطمة صلوات الله وسلامه علیها، التی کما فی الروایات الشریفة لم یکن لها کفو غیر أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، فهی صلوات الله وسلامه علیها سبب فی وجودهم وهم سبب لإیجاد هذا العالم بکل تفاصیله، وسبب السبب سبب أیضا، وعلة العلة علة أیضا.

وبهذا التقریب، استطعنا ان نثبت ان شاء الله، کون أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عموما، والإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه الذی هو مورد کلامنا فی هذه الصفحات علی وجه الخصوص، هم السبب الذی به منّ الله سبحانه وتعالی علینا وعلی کل ما فی الوجود بنعمة الوجود. 

ص: 370

ثانیا: إکرامنا بما لا یحصی من النعم الدنیویة المحضة، أو التی لها عوائد أخرویة

مهما أراد العقل البشری المحدود ان یحیط ببرکات وجود سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه وانعکاسات هذا الوجود علی سائر الناس عموما وعلی الموالین بوجه الخصوص فلن یستطیع إلی ذلک سبیلا، وقد مر فیما سبق جملة من هذه العوائد والمنافع، فالإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه مفزع للمکروبین، وملاذ للمحتاجین، وأمان للخائفین، لا یأتیه آت منهم إلا ورجع وله من کربه فرج عاجلا أو آجلا، ومن فقره غنی وسرور، ومن خوفه أمن وطمأنینة، فکم من عبد أمسی وأصبح خائفا مرعوبا وحیدا وجلا هاربا طریدا قد ضاقت علیه الدنیا بما رحبت، لم یجد له حیلا ولا لخوفه أمنا ولا لهروبه مأوی غیر قبر سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه، فأبدله الله بکرامة سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه أمنا وطمأنینة وعافیة وفرجا من ذلک کله.

وکم من مؤمن وموالٍ أودع فی مطامیر السجون ومضائق الحبوس وکربها، مغلولا مقهورا، ذلیلا بین حدیدها وزبانیتها، لا یدری أی مثلة یمثل به، ولا أی قتلة یقتل، قد أبدل ببرکة سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه وکرامته بالفرج بعد الشدة والعافیة بعد البلاء والسعة بعد الضیق.

ولو أحصینا أولئک الذین منّ الله علیهم بسبب الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وبواسطته بالفرج من کربتهم والغنی من فقرهم والأمن من خوفهم منذ ان استشهد الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه إلی وقتنا هذا لفاق إحصاؤهم الحد ولتوقف دون بلوغ آخرهم العد، وکیف یحصیهم المحصون ولیس من الموالین شخص إلا ولحقته برکة وجوده المقدس یوما من أیام عمره أو اغلب أیامه ان لم نقل کلها، والذی یخفی من

ص: 371

ألطاف سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه ومننه الباطنة أکثر وأکثر.

ومن أنواع إکرامنا بسید الشهداء إضافة إلی ما سبق، هو تلک الخاصیة الإلهیة الموجودة فی تربته الطاهرة، فخاصیة الشفاء من کل داء هی من أعظم برکات وجوده وکرامات الله سبحانه وتعالی ومننه التی وهبها الله لشیعة سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه، فکل من عجز الأطباء والحکماء عن علاجه فانه سیجد عند سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه بغیته، وکل من لم یجد له من مرضه راحة فانه سیجد فی تربة سید الشهداء راحته بإذن الله سبحانه وتعالی، فکم من عبد سقیم موجوع، له من آلامه أنین وعویل، یتقلب علی فراش علته، لا یسیغ طعاما ولا یستعذب شرابا، قد أبدل ببرکات تربة سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه صحة فی البدن، وسلامة فی العیش، بمنّ الله ورحمته وبتوسط وکرامة سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه.

 ومن أنواع إکرامنا بسید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه هو ذلک الأجر الذی یعطی لزائریه وقاصدیه والباکین أو المتباکین علی مصابه ورزایاه، حتی لمن یخرج من عینه قطرة دمع بقدر جناح البعوضة، وثواب التألیف والرثاء له وإقامة مجالس الندب والعزاء، وإقامة شعائره، فلو ألفّت فی هذه المسائل کتب ما استطاع احد استقصاء فضلها ولا إحصاء ما یتفضل به الله سبحانه علی فاعلیها ومقیمیها.

کل هذا یخص الفرد بوصفه فردا، أما ما یخص المجتمع بوصفه مجتمعا، فمن أعظم درجات الإکرام الممنوحة له بتوسط سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه هو بقاء نعمة الإسلام الذی انزل من الله سبحانه وتعالی والذی لولا الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وثورته المبارکة ونهضته الإلهیة لعاد جاهلیة جهلاء، ولحرفت آل أمیة کل حکم من أحکامه، ولمزق کتاب الله سبحانه وتعالی وحرفت آیاته وبدلت أصوله، ولصار الدین الذی بذلت من

ص: 372

أجله الدماء وأعطی الأنبیاء العظام والأوصیاء الکرام کل غال ونفیس ألعوبة بید صبیان آل أمیة یحلون منه ما یلائم شهواتهم ومصالحهم الجاهلیة ویحرمون منه ما لا یتوافق مع جاهلیتهم، ولصار شرب الخمر ونکاح المحارم واللعب بالقرود من الدین ولما عبد الله سبحانه وتعالی حق عبادته، فالأمة الإسلامیة جمعاء مُدینة لأبی الأحرار وسید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه، فکما الأمة مُدینة للنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لإخراجهم من الظلمات إلی النور ومن الجهل إلی المعرفة ومن الکفر إلی الإیمان، ومن النار إلی الجنة، کذلک هی مُدینة لسید الشهداء علی إبقاء هذه المسیرة وهذا الدین خالصا من تلاعب أهل الجاهلیة، ونزیها من تحریف حکام الجور وأئمة الضلالة، وقد صدق من قال إنّ (الإسلام محمدی الوجود حسینی البقاء).

ومن أنواع الإکرام الشاملة لجمیع أفراد المجتمع، لا سیما الموالی منه، هو إکرامنا بشتی أنواع العلوم والمعارف الإلهیة والشرعیة، بتوسط سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه، فهو کما فی کثیر من الروایات الشریفة واسطة فیض لجمیع ما یصدر وما ینزل من عالم الغیب إلی عالم الشهادة، شأنه فی ذلک شأن بقیة الأئمة الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وتوجد علی هذه الحقیقة روایات کثیرة منها ما عن أبی حمزة الثمالی عن علی بن الحسین صلوات الله وسلامه علیهما قال: (قلت جعلت فداک کل ما کان عند رسول الله صلی الله علیه وآله فقد أعطاه أمیر المؤمنین بعده ثم الحسن بعد أمیر المؤمنین علیه السلام ثم الحسین ثم کل إمام إلی أن تقوم الساعة قال نعم مع الزیادة التی تحدث فی کل سنة وفی کل شهر أی والله وفی کل ساعة)(1).

وقد عقد الشیخ الکلینی قدس الله روحه عدة أبواب تتکلم جمیعها عن هذه الحقیقة منها الباب الذی عنونه باسم: (فی أن الأئمة علیهم السلام یزدادون فی لیلة


1- بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار ص 415.

ص: 373

الجمعة)(1)، ومنها (لولا أن الأئمة علیهم السلام یزدادون لنفد ما عندهم)(2)، ومنها (أن الأئمة علیهم السلام یعلمون جمیع العلوم التی خرجت إلی الملائکة والأنبیاء والرسل علیهم السلام)(3).

هذا ما یشارک به الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه سائر المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أما ما یختص به صلوات الله وسلامه علیه فهو یفوق الإحصاء، فالعلوم التی خرجت علی یدیه أجلّ من ان یبینها هذا الإجمال، ولو ألفت موسوعات کاملة بخصوص دعاء عرفة فقط، وما یحتویه من علوم ومعارف عقلیة وشرعیة وأخلاقیة وأدبیة، لما أتی علی کل ما فیه من غوامض وأسرار ومعارف یعجز عن الإتیان بها أو تصویرها غیره صلوات الله وسلامه علیه وغیر من هو منهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

ثالثا: إکرامنا یوم القیامة بغفران الذنوب ورفع الدرجات بفضل سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه

ستبدأ یوم القیامة مرحلة جدیدة من مراحل الإکرام والتکریم لشیعة الإمام الحسین ومحبیه وزائریه والباکین علیه ونادبیه ومن خط فی سبیله کتابا أو شعرا أو نثرا، وهذه المرحلة ذات عوائد أعظم بکثیر من تلک التی کانت للمؤمنین فی عالم الدنیا، فنعم الدنیا مهما بلغت درجة أهمیتها، فإنها تبقی محدودة ووقتیة وزائلة أما ما یعطی لشیعة الإمام الحسین ومحبیه وموالیه یوم القیامة فهو دائم باقٍ لا یزول ولا یضمحل.

إضافة إلی ان العالم الدنیوی لیس له قابلیة استیعاب النعم الإلهیة الحقیقیة


1- الکافی للشیخ الکلینی ج 1 ص 253.
2- المصدر السابق ج 1 ص 254.
3- المصدر السابق ج 1 ص 255.

ص: 374

فلیس للدنیا ان تسع مثلا جنة أو بیتاً یعطی للمؤمن من ذهب أو من لؤلؤ، أما یوم القیامة فله هذه القابلیة، فالکرم والإکرام الواقعی سیظهر فی ذلک العالم بما لا یقاس مع عالم لدنیا.

وسیری شیعة الحسین صلوات الله وسلامه علیه ومحبّوه ان لله سبحانه وتعالی مع محبی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه تعاملا خاصا، وکما فی بعض الروایات ان ما من احد من أهل المحشر إلا ویتمنی انه قد زار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه لما یفعل بزواره وشیعته ومحبیه من الإکرام، وسیجنی المؤمنون بإمامة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وقضیته ثمار أعمالهم التی أجهدوا فیها أبدانهم فی سبیل الإمام الحسین وزیارته وإحیاء شعائره، فکم من ذنب عظیم سیغفر وکم من امر مخوف مهول سیکفی وکم من درجة من درجات الجنة سترفع لمحبی الإمام الحسین وشیعته، وکم لله سبحانه وتعالی من عتیق من عتقاء ناره، اعتق بفضل الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وسببه، جعلنا الله سبحانه وتعالی وسائر شیعة أهل البیت منهم، اللهم آمین یا رب العالمین.

ص: 375

أَنْ یَرْزُقَنِی طَلَبَ ثَأرِکَ  مَعَ إِمَامٍ مَنْصُورٍ مِنْ أَهْلِ بَیْتِ مُحَمَّدٍ  صَلَّی اللهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

المبحث الثالث: ثار الإمام الحسین علیه السلام أهمیته وبعض المسائل المتعلقة به

   أولا: هل یمکن لثار الإمام الحسین علیه السلام أن یکون مهما؟ وما درجة أهمیته؟

ثانیا: لماذا التأکید علی ثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه دون غیره من الأنبیاء الأوصیاء والأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین؟

   ثالثا: ما معنی کون النصرة لطلب ثار الإمام الحسین رزقا من الله سبحانه وتعالی؟

   رابعا: هل یشترط وجود الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه فی مسألة أخذ الثار؟

   خامسا: کیف یطلب المؤمن ان یرزق طلب الثار واغلب الظن انه سیموت قبله؟

المبحث الرابع: من هم أهل البیت المقصودون فی آیة التطهیر

   ألف: تحریر محل النزاع حول هذه الآیة المبارکة

   باء: استعمالات لفظ الأهل فی القرآن الکریم واللغة

   جیم: القرآن یجرد البعض من صفة الأهل مع أنهم موصوفون بها لغة وعرفا

   دال: هل للسنة النبویة المطهرة إمکانیة تخصیص عمومات القرآن الکریم؟

   هاء: هل فسر النبی قدس الله روحه آیة التطهیر، وهل خصصها بفئة معینة دون أخری؟

المبحث الخامس: الصلاة علی النبی صلی الله علیه وآله وبعض ما یتعلق بها

   أولا: تخصیص النبی قدس الله روحه للصلاة علیه وتعلیمه الأمة کیفیة الصلاة علیه

   ثانیا: هل یجوز للمسلم أن یقول: (علی صلوات الله علیه)؟

   ثالثا: سبب رفضهم للصلاة علی غیر الأنبیاء والمرسلین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین

   رابعا: حرموا الصلاة علی علی علیه السلام وصلوا علی أبی بکر وعمر وعلی الجواری

ص: 376

ص: 377

أَنْ یَرْزُقَنِی طَلَبَ ثَارِکَ مَعَ إِمَامٍ مَنْصُورٍ مِنْ أَهْلِ بَیْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّی اللهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ

اشارة

فی هذه الفقرة الشریفة من الزیارة مباحث مهمة نستعرضها فیما یأتی:

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة

وردت روایات کثیرة عن الأئمة الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین تحدثت جمیعها عن الشخص الذی ستوکل له مهمة الأخذ بثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، وقد أوضحت بعضها ان الذی سیأخذ بثاره صلوات الله وسلامه علیه وثار بقیة أهل بیته وأصحابه الکرام صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین هو رجل من آل رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، وفی بعضها الآخر القائم أو قائم آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم، والمقصود من کل ذلک هو الإمام المهدی الحجة بن الحسن عجل الله تعالی فرجه الشریف، ومن هذه الروایات ما عن أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه فی تفسیر قوله تعالی: ((وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِیِّهِ

ص: 378

سُلْطَانًا فَلَا یُسْرِفْ فِی الْقَتْلِ إِنَّهُ کَانَ مَنْصُورًا))(1)، قال صلوات الله وسلامه علیه: (ذلک قائم آل محمد، یخرج فیقتل بدم الحسین علیه السلام، فلو قتل أهل الأرض لم یکن مسرفا، وقوله: ((فَلَا یُسْرِفْ فِی الْقَتْلِ)) لم یکن لیصنع شیئا یکون سرفا(2)، ثم قال أبو عبد الله علیه السلام: یقتل والله ذراری قتلة الحسین علیه السلام بفعال آبائها)(3).

وعن أبی جعفر الباقر صلوات الله وسلامه علیه فی قوله ((مَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِیِّهِ سُلْطَانًا فَلَا یُسْرِفْ فِی الْقَتْلِ إِنَّهُ کَانَ مَنْصُورًا))(4) قال: (هو الحسین بن علی علیهما السلام قتل مظلوما ونحن أولیاؤه والقائم منا إذا قام طلب بثأر الحسین علیه السلام، فیقتل حتی یقال قد أسرف فی القتل وقال: المقتول الحسین، وولیه القائم والإسراف فی القتل أن یقتل غیر قاتله ((إِنَّهُ کَانَ مَنْصُورًا)) فإنه لا یذهب من الدنیا حتی ینتصر برجل من آل رسول الله علیهم الصلاة والسلام یملأ الأرض قسطا وعدلا کما ملئت جورا وظلما)(5).

وفی الدعاء المعروف بدعاء الندبة المروی عن الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه ورد


1- سورة الإسراء الآیة رقم 33.
2- ومعنی قوله صلوات الله وسلامه علیه (لم یکن لیصنع شیئا یکون سرفا) ان (لا) فی الآیة هی (لا النافیة) ولیس (لا الناهیة) أی ان الإسراف منفی عن قتله لأعداء الله وقتلة الحسین بالغاً ما بلغ عددهم وجمعهم. وقد یکون معنی العبارة ان الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه معصوم لا یصدر عنه السرف، إذ السرف والإسراف مثلبة وکبیرة لا یمکن أن تصدر عنه، وعلیه فمهما قتل من أعداء الله وقتلة الإمام الحسین فیکون بذلک مصیبا محقا لا یخرج بذلک عن حد الاعتدال بالغاً ما بلغ عدد أولئک الذین سیقتص الإمام المهدی منهم ثارات جده الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه.
3- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص 135 __ 136.
4- سورة الإسراء الآیة رقم 33.
5- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج 44 ص 218.

ص: 379

صریحا قوله: (أین الطالب بذحول الأنبیاء وأبناء الأنبیاء، أین الطالب بدم المقتول بکربلاء، أین المنصور علی من اعتدی علیه وافتری، أین المضطر الذی یجاب إذا دعا)(1).

وفی الزیارة المرویة فی البحار:(السلام علی الإمام العالم، الغائب عن الأبصار... الذی یظهر فی بیت الله الحرام ذی الأستار وینادی بشعار یا لثارات الحسین، أنا الطالب بالأوتار أنا قاصم کل جبار أنا القائم المنتظر بن الحسن علیه وآله أفضل السلام)(2).

وعن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه قال: (... القائم إذا خرج یطلب بدم الحسین وهو قوله نحن أولیاء الدم وطلاب الدیة)(3).

إضافة إلی ذلک فان المرتکز عند عامة المتشرعة من المؤمنین قدیما وحدیثا ان هنالک یوماً لابد وان یأتی یوم یأخذ الله سبحانه وتعالی فیه بثارات الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وأهل بیته وأصحابه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین الذین قتلوا فی یوم عاشوراء علی رمضاء کربلاء.

وقد ارتکز أیضا عندهم أن أخذ الثار هذا سیکون علی ید الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه حین ظهوره وإعلاء کلمة الإسلام وجعلها العلیا، ولیس هذا الارتکاز عند المتشرعة بالأمر الحادث بل هو قدیم متصل بأیام الأئمة المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وقد صرحوا به أمامهم ولم ینهوا المؤمنین عنه فصار أمرا مفروغا من شرعیته بإقرار نفس المعصوم صلوات الله وسلامه علیه، وتائیة دعبل الخزاعی رحمه الله التی


1- المزار لمحمد بن المشهدی ص579.
2- بحار الأنوار ج99 ص193.
3- بحار الأنوار ج 24 ص224.

ص: 380

ألقاها بمحضر ومسمع الإمام علی بن موسی الرضا صلوات الله وسلامه علیه خیر دلیل علی هذا الارتکاز الشرعی، فحینما یذکر دعبل الخزاعی مصائب أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وما جری علیهم من قتل وسبی، یعقب موضحا بان لهذه المصائب والآلام نهایة، وان لهذه الجرائم یوما یقتص فیه من مرتکبیها، وان الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه هو من سیقتص ویأخذ بالثار منهم، فنراه یقول:

دیار رسول الله أصبحن بلقعا         ***        وآل زیاد تسکن الحجرات

وآل رسول الله تدمی نحورهم      ***        وآل زیاد ربة الحجلات

وآل رسول الله یسبی حریمهم       ***        وآل زیاد آمنوا السربات

فلولا الذی أرجوه فی الیوم أو غد                ***        تقطع نفسی إثرهم حسرات

خروج إمام لا محالة خارج           ***        یقوم علی اسم الله والبرکات

یمیز فینا کل حق وباطل                ***        ویجزی علی النعماء والنقمات(1)

وفی قصیدة السید حیدر الحلی رحمه الله التی قرأها بمحضر الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه والتی جاء فیها:

فاشحذ شبا عضب له    ***        الأرواح مذعنة مطیعه

واطلب به بدم القتیل     ***        بکربلا فی خیر شیعه

ماذا یهیجک إن صبرت               ***        لوقعة الطف الفظیعه

أتری تجیء فجیعة       ***        بأمض من تلک الفجیعه

حیث الحسین علی الثری              ***        خیل العدی طحنت ضلوعه

قتلته آل أمیة                ***        ظام إلی جنب الشریعه


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج 49 ص 250.

ص: 381

ورضیعه بدم الورید      ***        مخضب فاطلب رضیعه

یا غیرة الله اهتفی          ***        بحمیة الدین المنیعه

ودعی جنود الله تملأ    ***        هذه الأرض الوسیعه

واستأصلی حتی الرضیع                ***        لآل حرب والرضیعه

ما ذنب أهل البیت        ***        حتی منهم أخلوا ربوعه(1)

ولم نسمع من الإمامین علی بن موسی الرضا والإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیهما اعتراضاً علی محتوی القصیدتین ومضمونیهما، وهو ما یسمی فی علم الأصول بإقرار المعصوم وهو من الأقسام التی یمکن ان یرکن إلیها فی باب الحجیة والإثبات، إذ لو کان فیهما خطأ عقائدی لا ینسجم مع خط وعقائد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لوجب علی المعصوم تبیانه والرد علیه وبما انه لم یرد ولم یبین خلافه فیکون داخلا قطعا فی باب الصحیح الموافق للحق.

أما السؤال بالتوفیق لطلب ثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه مع الإمام المهدی صاحب العصر والزمان صلوات الله وسلامه علیه، فهو أمر علی اقل التقادیر مباح جائز، وإلا فهو من أعظم الأمور الراجحة، إذ ان مجرد الفوز بالمشارکة والانضمام تحت رایة بقیة الله فی أرضه، والانخراط فی جیشه المنصور، هو من أعظم النعم علی المؤمن، والتی ینبغی علی الموالی ان یدعو الله سبحانه وتعالی صباحا ومساء للتوفیق إلیها ونیلها، فکیف إذا انظم إلی هذا الشرف شرف آخر والی هذه النعمة نعمة أخری والی هذا الرزق رزق آخر، وهو الفوز بالطلب بدم سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه، هذا الشرف الذی تتمناه الملائکة قبل الآدمیین، والأولیاء قبل غیرهم، جعلنا الله وجمیع الموالین من الطالبین بثار الإمام الحسین وأهل بیته وأصحابه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.


1- دیوان السید حیدر الحلی ج 1 ص 37.

ص: 382

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة

1: أَنْ یَرْزُقَنِی

(أَنْ) هنا مصدریة، ومعنی الرزق فی (یَرْزُقَنِی) هو کل ما ینتفع به من العطاء النازل من الله سبحانه وتعالی، فکل عطاء مستمر یسمی رزقاً، قال الجواهری فی الصحاح: (الرزق: ما ینتفع به والجمع الأرزاق. والرزق العطاء، وهو مصدر قولک: رزقه الله)(1).

وقال أبو هلال العسکری فی الفروق اللغویة: (إن الرزق هو العطاء الجاری فی الحکم علی الإدرار ولهذا یقال أرزاق الجند لأنها تجری علی إدرار)(2).

والرزق کما یکون للأبدان کذلک یکون للأرواح والقلوب، فرزق البدن طعام وشراب ولباس وغیر ذلک من النعم المتعلقة بالبدن، أما رزق الأرواح والقلوب فالعلم والحکمة وکل فیض تحیا به الروح ویتکامل به القلب، قال ابن الأثیر: (والأرزاق نوعان: ظاهرة للأبدان کالأقوات، وباطنة للقلوب والنفوس کالمعارف والعلوم)(3).

وللإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه تقسیم آخر للرزق أوضحه فی أثناء حدیثه للإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه قائلا: (واعلم یا بنی أن الرزق رزقان: رزق تطلبه، ورزق یطلبک فإن أنت لم تأته أتاک)(4).

والرزق یکون من الله سبحانه وتعالی علی نحوین فتارة یفعله ویوجده ویعطیه لعباده أو


1- الصحاح للجوهری ج 4 ص 1481.
2- الفروق اللغویة لأبی هلال العسکری ص 254.
3- النهایة فی غریب الحدیث لابن الأثیر ج 2 ص 219.
4- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج100 ص39.

ص: 383

لأحدهم مباشرة من دون واسطة، وأخری مع الواسطة، قال الشیخ الطوسی فی تفسیر البیان: (وکل رزق فهو من الله تعالی إما بأن یفعله أو یفعل سببه)(1).

2: طَلَبَ ثَارِکَ

(طَلَبَ) قد یکون بمعنی محاولة وجدان الشیء، أو الشیء الذی یکون للإنسان عند آخر من حق یطالبه به، قال الخلیل الفراهیدی: (طلب: الطلب: محاولة وجدان الشیء. والطلبة: ما کان لک عند آخر من حق تطالبه به. والمطالبة: أن تطالب إنسانا بحق لک عنده، ولا تزال تطالبه وتتقاضاه بذلک)(2).

وقال ابن منظور: (الطلب: محاولة وجدان الشیء وأخذه. والطلبة: ما کان لک عند آخر من حق تطالبه به. والمطالبة: أن تطالب إنسانا بحق لک عنده، ولا تزال تتقاضاه وتطالبه بذلک)(3).

و(ثَارِکَ) الضمیر عائد إلی الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، والثار کما مر فی فقرة سابقة یطلق ویراد منه الدم، قال الزبیدی فی تاج العروس: (الثأر، بالهمز وتبدل همزته ألفا: الدم نفسه)(4).

وقد یطلق الثار ویراد به العدو، قال ابن منظور: (وفی حدیث عبد الرحمن یوم الشوری: لا تغمدوا سیوفکم عن أعدائکم فتوتروا ثأرکم، الثأر ههنا: العدو لأنه موضع الثأر)(5).


1- التبیان للشیخ الطوسی ج 9 ص 360.
2- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 7 ص430.
3- لسان العرب لابن منظور ج 1 ص 559.
4- تاج العروس للزبیدی ج 6 ص 138 فصل الثاء المثلثة مع الراء.
5- لسان العرب لابن منظور ج 4 ص 98.

ص: 384

3: مَعَ إِمَامٍ مَنْصُورٍ

(مَعَ) ظرف مکان وهی هنا بمعنی المصاحبة.

 (إِمَامٍ) والإمام لغة هو القدوة فکل من اقتدی به سمی إماما، قال الخلیل الفراهیدی: (وکل من اقتدی به، وقدم فی الأمور فهو إمام، والنبی علیه السلام إمام الأمة، والخلیفة: إمام الرعیة. والقرآن: إمام المسلمین.. والمصحف الذی یوضع فی المساجد یسمی الإمام)(1).

والإمام سواء فی اللغة أو الشرع لفظ مشترک یطلق علی إمام الحق والعدل، وکذلک علی إمام الجور والضلالة، لان کلاًّ منهما قدوة یقتدی به أتباعه، ویقدموه فی أمورهم علی غیره، قال الله سبحانه وتعالی فی وصف أئمة الحق والهدی: ((وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَیْنَا إِلَیْهِمْ فِعْلَ الْخَیْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِیتَاءَ الزَّکَاةِ وَکَانُوا لَنَا عَابِدِینَ))(2).

وقال سبحانه وتعالی أیضا: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَکَانُوا بِآَیَاتِنَا یُوقِنُونَ))(3).

وقال سبحانه وتعالی فی وصف أئمة الضلالة والکفر: ((وَإِنْ نَکَثُوا أَیْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِی دِینِکُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْکُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَیْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ یَنْتَهُونَ))(4)، وقال سبحانه وتعالی أیضا: ((وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً یَدْعُونَ إِلَی النَّارِ وَیَوْمَ الْقِیَامَةِ لَا یُنْصَرُونَ))(5).


1- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 8 ص 428 __ 429.
2- سورة الأنبیاء الآیة رقم 73.
3- سورة السجدة الآیة رقم 24.
4- سورة التوبة الآیة رقم 12.
5- سورة القصص الآیة رقم 41.

ص: 385

وقال ابن منظور: (والإمام: کل من ائتم به قوم کانوا علی الصراط المستقیم أو کانوا ضالین)(1).

و(مَنْصُورٍ) والنصر هو إعانة المظلوم، قال الخلیل الفراهیدی: (النصر: عون المظلوم)(2)، والمنصور هو المعان علی عدوه قال ابن منظور: (وقد نصره ینصره نصرا إذا أعانه علی عدوه وشد منه)(3).

والنصرة وان کانت معونة إلا أنها لا تکون إلا علی العدو، قال أبو هلال العسکری فی الفروق اللغویة: (الفرق بین النصر والمعونة: النصر: یختص بالمعونة علی الأعداء. والمعونة: عامة فی کل شیء. فکل نصر معونة ولا ینعکس)(4).

والمقصود بالإمام المنصور هنا هو الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه، والناصر له هو الله سبحانه وتعالی، والآیات التی ستظهر قبله وعلی یدیه، والملائکة والمؤمنون من الإنس والجن وغیرهم.

4: مِنْ أَهْلِ بَیْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّی اللَّهُ عَلَیْهِ وآله 

(أَهْلِ) الأهل هم قرابة الرجل الأدنین، قال أبو هلال العسکری: (إن الأهل یکون من جهة النسب والاختصاص فمن جهة النسب قولک أهل الرجل لقرابته الأدنین)(5).

(بَیْتِ) والبیت لغة قد أطلق علی عدة معانٍ، فأطلق مثلا علی الخیمة من


1- لسان العرب لابن منظور ج 12 ص 24.
2- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 7 ص 108.
3- لسان العرب لابن منظور ج 5 ص 211.
4- الفروق اللغویة لأبی هلال العسکری ص 540.
5- المصدر السابق ص 84.

ص: 386

القصب أو الشعر، قال ابن منظور: (وقد یقال للمبنی من غیر الأبنیة التی هی الأخبیة بیت، والخباء: بیت صغیر من صوف أو شعر)(1).

وأطلق علی الدار والقصر قال ابن منظور: (وبیت الرجل داره، وبیته قصره، ومنه قول جبریل، علیه السلام: بشر خدیجة ببیت من قصب)(2).

وأطلق علی القبر، قال ابن منظور: (والبیت القبر، علی التشبیه)(3).

وکثیراً ما یطلق علی الأشخاص المنتمین لصاحب البیت قاصدین به أهل الشرف والسؤدد من أقارب الرجل الأدنین، قال ابن منظور: (وبیت العرب: شرفها، والجمع البیوت... والبیت من بیوتات العرب: الذی یضم شرف القبیلة... وقال العباس یمدح سیدنا رسول الله، صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: حتی احتوی بیتک المهیمن من خندف، علیاء تحتها النطق، جعلها فی أعلی خندف بیتا، أراد ببیته: شرفه العالی)(4).

(مُحَمَّدٍ) هو النبی الأعظم سید ولد آدم وخیر الخلق وخاتم المرسلین محمد بن عبد الله علیه وعلی آله آلاف التحیة والتسلیم.

(صَلَّی اللَّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ) ورد للفظ الصلاة معانٍ عدة، منها:

ألف: وردت بمعنی الدعاء، قال الفراهیدی: (وصلوات الرسول للمسلمین: دعاؤه لهم وذکرهم ...وصلاة الناس علی المیت: الدعاء)(5).


1- لسان العرب لابن منظور ج 2 ص 14.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق ص15.
4- المصدر السابق ج 2 ص15.
5- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 7 ص 153 __154.

ص: 387

وقال ابن سلام فی غریب الحدیث: (قال أبو عبید: کل داع فهو مصل وکذلک هذه الأحادیث التی جاء فیها ذکر صلاة الملائکة ... فهو عندی کله الدعاء)(1)، وقال الجوهری: (الصلاة: الدعاء)(2).

باء: وجاءت بمعنی الرحمة أو الترحم، قال الجوهری فی الصحاح: (والصلاة من الله تعالی: الرحمة)(3)، وقال ابن منظور: (وصلاة الله علی رسوله: رحمته له وحسن ثنائه علیه)(4).

جیم: وجاءت بمعنی التعظیم والتشریف وإعلاء الشأن، قال ابن منظور: (وقیل: أصلها فی اللغة التعظیم، وسمیت الصلاة المخصوصة صلاة لما فیها من تعظیم الرب __ تعالی وتقدس __ ... وأما قولنا: اللهم صل علی محمد، فمعناه عظمه فی الدنیا بإعلاء ذکره وإظهار دعوته وإبقاء شریعته، وفی الآخرة بتشفیعه فی أمته وتضعیف أجره ومثوبته)(5).

وقال الطریحی فی مجمع البحرین: (قال بعض الأفاضل: «الصلاة» وان کانت بمعنی الرحمة لکن المراد بها هنا الاعتناء بإظهار شرفه ورفع شأنه، ومن هنا قال بعضهم: تشریف الله محمدا صلی الله علیه وآله بقوله: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِکَتَهُ یُصَلُّونَ عَلَی النَّبِیِّ یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَیْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِیمًا))(6) أبلغ من تشریف آدم بالسجود)(7).


1- غریب الحدیث لابن سلام ج 1 ص 178.
2- الصحاح للجوهری ج 6 ص2402.
3- المصدر السابق ج 6 ص2402.
4- لسان العرب لابن منظور ج 14 ص 465.
5- المصدر السابق ج 14 ص 466.
6- سورة الأحزاب الآیة رقم 56.
7- مجمع البحرین للشیخ الطریحی ج 2 ص 631.

ص: 388

دال: وجاءت بمعنی الاستغفار، قال ابن منظور: (والصلاة: الدعاء والاستغفار)(1)، وقال فی موضع ثانٍ: (ومن الصلاة بمعنی الاستغفار حدیث سودة: أنها قالت یا رسول الله، إذا متنا صلی لنا عثمان بن مظعون حتی تأتینا، فقال لها: إن الموت أشد مما تقدرین، قال شمر: قولها صلی لنا أی استغفر لنا عند ربه)(2).

هاء: وجاءت بمعنی اللزوم، قال ابن منظور: (وقال الزجاج: الأصل فی الصلاة اللزوم. یقال: قد صلی واصطلی إذا لزم، ومن هذا من یصلی فی النار أی یلزم النار)(3).

وقال أیضا: (قال الأزهری: والقول عندی هو الأول، إنما الصلاة لزوم ما فرض الله تعالی، والصلاة من أعظم الفرض الذی أمر بلزومه)(4).

وعلیه یصبح معنی الآیة المبارکة: ((یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَیْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِیمًا))(5)، هو الأمر بلزوم واتباع النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ولزوم عترته وآله صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، لأنه صلی الله علیه وآله وسلم جعل من الصلاة علیهم جزءاً من الصلاة علیه ونهی عن ان یصلی علیه دون آله وسماها بالصلاة البتراء أی الناقصة.

واو: وجاءت الصلاة بمعنی تالی السابق، فکل من سبق فی سباق ما یسمی فائزا، وکل من یتلوه ویأتی بعده مباشرة وبلا فصل یسمی مصلیا، قال الفراهیدی:


1- لسان العرب لابن منظور ج 14 ص 464.
2- المصدر السابق ج14 ص 465.
3- المصدر السابق
4- المصدر السابق.
5- سورة الأحزاب الآیة رقم 56.

ص: 389

(وإذا أتی الفرس علی أثر الفرس السابق قیل: قد صلی وجاء مصلیا لان رأسه یتلو الصلا الذی بین یدیه)(1).

قال الجوهری:

(والمصلی: تالی السابق. یقال: صلی الفرس، إذا جاء مصلیا، وهو الذی یتلو السابق، لان رأسه عند صلاه)(2).

فتکون الصلاة علی النبی وآله صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین تستبطن معنی التتالی والتتابع ما بین النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وبقیة الأطهار من آله صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، ویکون هذا التتالی والتتابع بلا فصل بینهما، ویکون معنی ((یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَیْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِیمًا))(3) هو وجوب الإتباع والموالاة بین النبی صلوات الله وسلامه علیه وآله الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بلا فصل بینهما.

و(وَآلِهِ) هم أهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أنفسهم، قال أبو هلال العسکری: (وقال المبرد: إذا صغرت العرب الآل قالت أهل، فیدل علی أن أصل الآل الأهل، وقال بعضهم: الآل عیدان الخیمة وأعمدتها وآل الرجل مشبهون بذلک لأنهم معتمده، والذی یرفع فی الصحاری آل لأنه یرتفع کما ترفع عیدان الخیمة، والشخص آل لأنه کذلک)(4) .

وسیأتی تفصیل لمعنی الصلاة علی النبی وآله صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ووجوبها وفضلها وأشیاء آخر فی مبحث مستقل ان شاء الله.


1- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج 7 ص 153.
2- الصحاح للجوهری ج 6 ص 2402.
3- سورة الأحزاب الآیة رقم 56.
4- الفروق اللغویة لأبی هلال العسکری ص 84 ___ 85.

ص: 390

المبحث الثالث: ثار الإمام الحسین علیه السلام أهمیته وبعض المسائل المتعلقة به

أولا: هل یمکن لثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه أن یکون مهما؟ وما درجة أهمیته؟

یمکن لنا ومن خلال قرائن عدیدة وأحادیث کثیرة أن نکتشف أهمیة وقیمة وعظمة الطلب بثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وفیما یأتی جملة من تلک الأحادیث والقرائن.

ألف: نستطیع ونتیجة للأخبار والروایات التی تقدمت فی المبحث الأول ان نکتشف بأن واحدة من المهام الجسام والوظائف العظام التی سیحققها الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه حین خروجه هو الطلب بثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، وقد أکدت الروایات الشریفة عن الأئمة المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعینعلی هذه المهمة تأکیدا ملفتا للانتباه، مما یدل علی ان المسألة أکثر من مجرد مسألة القرابة والنسب الذی یجمع ما بین الإمام الحسین والإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیهما، وان جعل ثارات الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه والمطالبة به کشعار هو أکبر من کونه مسألة عاطفیة أو مذهبیة أو فئویة، وذلک لان الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه لا یقوم ولا یخرج بهدف العاطفة والفئویة بل یخرج لإنقاذ الإنسانیة جمعاء فلابد أن تکون أهدافه وشعاراته إنسانیة عامة لا تتقید بفئة ولا تختص بطائفة، وعلیه فحینما یرفع الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه ثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه شعارا له فان رزایا وهموم وآلام البشریة جمعاء فی ماضیها وحاضرها ومستقبلها ستنطوی تحته ، فیکون رفعه رفعا لثارات جمیع المؤمنین والمضطهدین والمحرومین.

ص: 391

فیکون دعاء الزائر فی الزیارة وقوله (أَنْ یَرْزُقَنِی طَلَبَ ثَأرِکَ مَعَ إِمَامٍ مَنْصُورٍ مِنْ أَهْلِ بَیْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّی اللَّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ) هو فی حقیقته سؤال لطلب ثار کل الأنبیاء العظام والأوصیاء الکرام وسائر الأئمة وشیعتهم وجمیع المحرومین والمستضعفین منذ آدم إلی حین قیام الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه، وسیأتی لاحقا تفصیل أکثر لهذه الحقیقة.

باء: ویمکن استنتاج أهمیة الطلب بثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه من خلال الشخص السائل، إذ ان السائل لطلب الثار مع الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه هو الإمام المعصوم صلوات الله وسلامه علیه، فأمر یتمناه المعصوم صلوات الله وسلامه علیه لابد أن یکون عظیما، وإذا کان عظیما فی نظر المعصوم فلابد ان یکون عظیما عند الله سبحانه وتعالی، فیجب علی عامة المؤمنین من شیعة أهل البیت وأسوة بأئمتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أن یتمنوا ذلک ویطلبوا من الله سبحانه وتعالی أن یرزقهم إیاه، ولو أن مؤمنا أفنی عمره فی طلب هذه المرتبة، بالتزکیة والإعداد والتربیة ما کان ملوما، لأنه حینئذ قد أفنی عمره فی رضا الله سبحانه وتعالی وطاعته.

باء: ویمکن استنتاج أهمیة الطلب بثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه من خلال الشیء المسؤول به، لان السؤال بحق وشأن الشیء العظیم یستدعی ان یکون الشیء المطلوب عظیما أیضا، والإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه وقبل سؤال الطلب بثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه مع الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه، سأل الله بمقام الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وکرامته عند الله سبحانه وتعالی، وسأل الله سبحانه وتعالی بالإکرام الذی جعله لموالی الإمام الحسین وشیعته، وقد عرفنا سابقا أهمیة ذلک وعظمة مرتبته، فلابد والحال هذه أن یکون الشیء المطلوب یتناسب مع عظمة هذه المراتب، لقبح ان یسأل الشیء الصغیر التافه بالشیء العظیم الأهمیة والجلیل المنزلة والمرتبة، وهو أمر یکاد یکون

ص: 392

بدیهیا، فلابد ان یکون طلب ثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه له من الأهمیة والمنزلة ما یستدعی ان یسأل عنه بالشیء العظیم.

دال: ونستطیع ان نکتشف أهمیة الطلب بثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه من خلال أهمیة صاحب الثار صلوات الله وسلامه علیه، وفی هذا الصدد یقول المیرزا محمد تقی الأصفهانی: (الفوز بثواب طلب ثأر مولانا الحسین الإمام المظلوم الغریب الشهید «علیه السلام»: وهذا أمر لا یقدر علی إحصاء ثوابه أحد إلا الله العزیز الحمید جل شأنه، لأن عظمة شأن الثأر بقدر عظمة صاحبه، فکما لا یقدر أحد علی الإحاطة بالشؤون الحسینیة إلا الله عز وجل، کذلک لا یقدر غیره علی إحصاء ثواب طلب ثأره، فإنه الذی ورد فی زیارته: السلام علیک یا ثار الله وابن ثاره ولو لم یکن فی الدعاء بتعجیل ظهور مولانا صاحب الزمان عجل الله تعالی فرجه سوی هذا الثواب، لکفی فضلا وشرفا وشأنا فکیف وفیه من الفضل ما لا یحصی، ومن الثواب ما لا یستقصی)(1).

ثانیا: لماذا التأکید علی ثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه دون غیره من الأنبیاء الأوصیاء والأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین؟

حینما سینطلق الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه بثورته المبارکة ضد أهل الظلم فانه وکما ذکرنا من قبل سیرفع ثارات الإمام الحسین شعارا له کما ورد فی الزیارة المنقولة فی بحار الأنوار: (السلام علی الإمام العالم، الغائب عن الأبصار... الذی یظهر فی بیت الله الحرام ذی الأستار وینادی بشعار یا لثارات الحسین، أنا الطالب بالأوتار أنا قاصم کل جبار أنا القائم المنتظر بن الحسن علیه وآله أفضل السلام)(2).


1- مکیال المکارم للمیرزا محمد تقی الأصفهانی ج 1 ص419 – 422.
2- بحار الأنوار ج99 ص193.

ص: 393

وان أول دم سینتصر له هو دم الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، کما فی الروایة التی عن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه والتی جاء فیها: (... القائم إذا خرج یطلب بدم الحسین وهو قوله نحن أولیاء الدم وطلاب الدیة)(1).

والسؤال الذی یطرح نفسه هو: إذا کان دم الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه هو محور النهضة المهدویة وان ثار الإمام الحسین سیکون الهدف منها فأین یا تری بقیة ثارات الأنبیاء والأوصیاء والأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین؟ ولماذا لا یکون شعار النهضة المهدویة المبارکة أکثر شمولیة وسعة، بحیث تدخل تلک الدماء العظیمة ضمن أهداف النهضة وشعاراتها؟.

ویمکن لنا تلخیص الإجابة عبر النقاط التالیة:

ألف: ان النهضة المهدویة المبارکة وان أخذت دماء الإمام الحسین وثاراته شعارا لها حین انطلاق شرارتها الأولی، إلا ان هذا لا یعنی بان قائدها المعصوم قد نسی أو تناسی دماء الأنبیاء والأوصیاء وباقی الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین حاشاه، فقد ورد فی دعاء الندبة المبارک قوله صلوات الله وسلامه علیه: (أین الطالب بذحول الأنبیاء وأبناء الأنبیاء، أین الطالب بدم المقتول بکربلاء، أین المنصور علی من اعتدی علیه وافتری، أین المضطر الذی یجاب إذا دعا)(2) فدماء الأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وأبناء الأنبیاء من الأوصیاء والصلحاء غیر منسیة ولا مهملة من الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه، وکیف ینساها وهو یأخذ بحقوق ودماء عامة المؤمنین صغیرها وکبیرها حتی من کان منهم مجهولا ولا یشار إلیه بالبنان، فکیف بدماء الأنبیاء وأوصیائهم ودماء الأئمة من أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین؟!


1- بحار الأنوار ج 24 ص224.
2- المزار لمحمد بن المشهدی ص579.

ص: 394

باء: أوضحنا إجمالا فیما سبق ان انتصار الإمام المهدی عجل الله تعالی فرجه الشریف للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه هو انتصار لجمیع الأنبیاء والرسل وأخذه بثارات الإمام الحسین هو فی واقعه أخذٌ لثارات الأنبیاء وأولادهم، ومطالبته بدم الحسین وأهل بیته هو مطالبة بدماء جمیع المظلومین، وذلک لان قضیة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه هی قضیة کل الأنبیاء والأوصیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین منذ خلق الله الأرض ومن علیها والی قیام الإمام المنصور المهدی بن الحسن صلوات الله وسلامه علیه، فالإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه قد صرح مرات عدیدة بأنه لم یخرج أشرا ولا بطرا ولا ظالما ولا مفسدا ولکنه خرج طلبا للإصلاح فی امة جده المصطفی صلی الله علیه وآله وسلم ، وان هدفه من النهضة هو رفع ید الظلم والظالمین عن المؤمنین وإعادتهم إلی الصراط المستقیم، وهذا هو نفس الهدف الذی کان یعمل جمیع الأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین علی تحقیقه، وعلیه فقضیة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه هی قضیة کل الأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، کما أن محنته هی محنة الأنبیاء جمیعا وأوصیائهم وباقی الأئمة المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، والقصاص من قتلته هو فی الحقیقة قصاص من جمیع القتلة والمتجبرین الذین أذاقوا الأنبیاء والمؤمنین شدید العذاب، لان هؤلاء هم امتداد لأولئک .

فشعار (یا لثارات الحسین) هو المعبر عن آلام الإنسانیة بشکل عام وعن معاناة الأنبیاء والمصلحین بشکل خاص، لذلک سیتخذه الإمام المهدی المنتظر صلوات الله وسلامه علیه عنوانا لثورته الإنسانیة، ویکون دم الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه هو محور التغییر الذی یمثل کل تلک الدماء والأرواح التی سفکت وأزهقت سواء کانت لأنبیاء الله ورسله صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وأولادهم، أو للقادة والمصلحین والشهداء إلی زمن قیام الإمام المهدی أرواحنا فداه .

ص: 395

ثالثا: ما معنی کون النصرة لطلب ثار الإمام الحسین رزقا من الله سبحانه وتعالی؟

الرزق کما یقول الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه: (الرزق مقسوم علی ضربین: أحدهما واصل إلی صاحبه وإن لم یطلبه. والآخر معلق بطلبه. فالذی قسم للعبد علی کل حال آتیه وإن لم یسع له، والذی قسم له بالسعی فینبغی أن یلتمسه من وجوهه)(1)، وکما یقول الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه رزقان، رزق یطلبک ورزق تطلبه، والذی یظهر من نص زیارة عاشوراء ان التوفیق لطلب ثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه مع الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه هو من مصادیق القسم الثانی من أقسام الرزق، أی من الرزق الذی تطلبه، لأنه لو کان من الرزق الذی یطلبک لما کان ضروریا ان یطلبه الإمام المعصوم صلوات الله وسلامه علیه ویتوسل إلی الله سبحانه وتعالی لنیله.

وکونه من الرزق الذی یجب علی الإنسان طلبه یستتبع شیئین مهمین:

 ألف: ان رزق التوفیق لنصرة الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه وطلب ثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه هو لیس من الأمور الاستحقاقیة اللازمة التی ینالها المرء بالاستحقاق الذاتی، بل هو من الأمور التفضلیة التی یمن بها الله سبحانه علی من یشاء من عباده، فلو کانت النصرة وطلب الثار بالاستحقاق لکان الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أولی الناس وأحقهم به، فلا داع حینئذ ان یسأله المعصوم من الله سبحانه وتعالی فی الزیارة، وهذا هو الظاهر من عبارة الزیارة.

والذی یخطر بالبال ان الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین خارجون عن هذا الظاهر وهم أولی الناس بنصرة الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه وأحقهم بطلب ثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه، وهم خارجون عن هذه القاعدة دون غیرهم من الناس، وتوسلهم


1- المقنعة للشیخ المفید ص 586 __ 587.

ص: 396

صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وطلبهم من الله سبحانه وتعالی النصرة وطلب الثار فی الزیارة لتبیان الأهمیة من جهة ولتعلیم الناس وتوجیههم من جهة ثانیة ولإیضاح ان هذا الشرف وهذه المنزلة لا تنال إلا بالدعاء والطلب والتوفیق الإلهی مهما کانت درجة الإنسان فی سلم الکمال، إذ قد تعطی لإنسان فقیر معدم مغمور الذکر خامل النسب ویحرم منها عالم مشهور بورعه وعلمه وتقواه، نسأل الله أن یمن علینا ذلک بلطفه ورحمته.

باء: ان التوفیق لطلب الثار بمعیة الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه وان کان من الأمور التفضلیة التی یمن الله سبحانه وتعالی بها علی بعض عباده دون بعضهم الآخر، إلا ان هذا المنّ والتفضل والفیض لیس جزافیا، لان الله سبحانه وتعالی حکیم فی کل أفعاله وعطایاه، فلا یفعل العبث ولا یعطی جزافا، وعلیه فلابد ولکی یستحق الإنسان ان یمن علیه بالتوفیق لطلب الثار مع الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه ان یوجد فی نفسه شروط ذلک وأسبابه، شأنه شأن جمیع الأمور والأرزاق التی یطلب من الإنسان السعی لتحصیلها، مثل الفلاح الذی فی سبیل جنی ثمرة التفاح أو غیرها من الثمار، فإن علیه ان یحرث الأرض ویزرع النبتة ویوصل إلیها الماء والشمس ویمنع وصول الطیر والآفات إلیها ویصبر علیها الأیام واللیالی وربما الأشهر والأعوام، حتی یجنی بعد کل ذلک التعب الثمرة المرجوة، وکل هذا الجد والجهد والتعب فی سبیل تفاحة لذتها وفائدتها محدودة ووقتیة وضیقة، فکیف بالذی یرید الوصول إلی هدف وثمرة یتمنّی نیلها والوصول إلیها الملائکة الکرام والرسل والأنبیاء العظام، فإن التعب سیکون أکثر والجهد أعظم بکثیر من زارع نبتة التفاح، ومثل هذه المراتب لا ینالها إلا ذو حظ عظیم ولا یتوصل إلیها العبد مهما أوتی من جهد وجد وطاقة إلا بتوفیق الله سبحانه وتعالی ومنّه ولطفه، نسأل الله سبحانه وتعالی ان یرزقنا وجمیع الموالین طلب ثار الإمام الشهید صلوات الله وسلامه علیه مع الإمام المهدی المنصور عجل الله تعالی فرجه الشریف. 

ص: 397

رابعا: هل یشترط وجود الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه فی مسألة أخذ الثار؟

والذی یظهر من عبارة الزیارة الشریفة ان حضور الإمام المعصوم المنصور صلوات الله وسلامه علیه شرط فی طلب الثار المقصود فی فقرة الزیارة، والإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه فی هذه الفقرة الشریفة لا یقصد کل طلب، وإنما یقصد طلبا خاصا وهو الذی مع الإمام المنصور صلوات الله وسلامه علیه، لان طلب الثار مع الإمام المهدی له قیمة أخری تختلف عن کل طلب، لان الجهاد مهما کانت درجة أهمیته عظیمة، إلا انه مع الإمام المعصوم وتحت رایته أعظم وأعظم، لاسیما تحت رایة الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه الذی ورد النص بعظیم أهمیته، ولان نصرته وکما ذکرنا سابقا هی نصرة لجمیع الشرائع والأنبیاء والسنن.

إضافة إلی ان الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه یعلم بتعلیم من الله سبحانه وتعالی أین یطلب الثار، وممن یطلب الثار، علی نحو التحدید والدقة، لان طلب الثار لیس بالأمر الهین، لان الأمر یتعلق بالدماء والأعراض والأموال، وهو أمر عظیم لا یمکن الحکم به والتجرؤ علیه بغیر نص وأذن قطعی، ولا یمتلک هذا النص والأذن غیر الإمام المهدی المنصور صلوات الله وسلامه علیه.

إضافة إلی ان عملیة اخذ ثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه هی عملیة تحتاج إلی إمکانات مادیة وعسکریة عظیمة، لان بعض من یطلب منه ثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه قد یکون الآن حاکم دولة عظمی، أو قائداً من أولئک الذین تقف خلفه الجیوش الجرارة، أو غیر ذلک، واخذ الثار من هؤلاء یستلزم إمکانات لا تخفی علی المتأمل، وهذه الإمکانات لا تتحقق فی غیر عصر خروج الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه. 

ص: 398

لذلک نری أنّ جمیع تلک الثورات التی خرجت للطلب بثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه عبر التاریخ لم تؤتِ ثمارها کاملة، لضعفها من الناحیة المادیة والعسکریة وغیر ذلک من الشروط التی لها مدخلیة فی تحقیق النصر الکامل، وأوضح دلیل علی ذلک ثورة المختار فبالرغم من کل الجهود التی بذلها المختار وأتباعه للنیل من قتلة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه والأخذ بثاره، إلا انه عجز عن الوصول إلی الکثیرین ممن اشترکوا فی تلک الفاجعة، فیزید بن معاویة لعنه الله وبطانته الکافرة من آل أمیة لعنهم الله، وغیرهم الآلاف قد فروا من سیفه، أو لم یصل إلیهم لسبب وآخر.

هذا فیما لو قلنا إنّ طلب الثار سیقتصر علی تلک الأمة التی ارتکبت فاجعة عاشوراء، ولم نذهب إلی ان الطلب بالثار سیشمل __ کما هو الصحیح __ جمیع الأمم التی أتت بعد تلک الأمة المنحوسة أو قبلها، فیشمل امة رضیت، وأمة مهدت، وأمة دافعت عن الجناة وصححت أفعالهم، وغیر هذه الأمم ممن لا یحیط بعلمهم وخبرهم إلا الله سبحانه وتعالی والإمام المهدیصلوات الله وسلامه علیه.

فیتبین ونتیجة لهذا العرض، ان الثار الحقیقی لدم الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه لن یتحقق إلا فی زمن الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه، وان جمیع الحروب والثورات التی قامت أو ستقام فی یوم من الأیام بهدف الأخذ بثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه ستکون ناقصة من حیث الأثر وسیکتب لها عدم النجاح، أو النجاح الجزئی، لذلک ورد وصف ال_(مَنْصُور) فی العبارة التی نحن بصدد شرحها، فالوحید الذی سیکتب له النصر وتکون ثورته لأخذ الثار متکاملة هو الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه، فحری بالمؤمن ان یحافظ علی نفسه ویدخرها للمشارکة مع صاحب العصر والزمان صلوات الله وسلامه علیه، ولا یسمح ببذل مهجته إلا تحت رایته، کما قال الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه: (کأنی بقوم قد خرجوا بالمشرق یطلبون الحق

ص: 399

فلا یعطونه، ثم یطلبونه فلا یعطونه، فإذا رأوا ذلک وضعوا سیوفهم علی عواتقهم فیعطون ما سألوه فلا یقبلونه حتی یقوموا ولا یدفعونها إلا إلی صاحبکم قتلاهم شهداء أما إنی لو أدرکت ذلک لاستبقیت نفسی لصاحب هذا الأمر)(1).

وبناء علی صحة هذا الحدیث فإن الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه مع انه یحکم علی قتلاهم بأنهم شهداء، إلا انه صلوات الله وسلامه علیه یبین بان المرتبة الأفضل والأحسن والأکمل هی فی عدم المشارکة واستبقاء النفس إلی صاحب العصر والزمان صلوات الله وسلامه علیه.

خامسا: کیف یطلب المؤمن ان یرزق طلب الثار واغلب الظن انه سیموت قبله؟

وربما یقال: کیف یمکن أن نصحح ان یطلب الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه او سائر الزائرین بهذه الزیارة الشریفة أن یرزقه الله سبحانه وتعالی طلب ثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه مع الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه وهو یعلم یقینا بأن عمره لن یصل إلی ذلک الیوم، لان الغالب فی ظن اغلب الداعین بهذا الدعاء __ ان لم یکن مقطوعا به __ هو عدم بلوغهم إلی ذلک الیوم الموعود، وعلیه، ألیس فی هذا الدعاء نوع من العبثیة وعدم الدقة فی الطلب؟.

أقول: ان هذا الدعاء من الإمام صلوات الله وسلامه علیه ومن سائر شیعته الکرام هو علی نحو الترجی والتمنی والالتماس لوجه من وجوه الخیر، وهو أمر حسن ومستساغ شرعا وعقلا، وقد وردت نصوص عن أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین تؤکد علی أن العبد یستطیع أن یبلغ بنیته وقصده مراتب عالیة من الکمال، حتی وان لم یوفق لفعل وتحقیق تلک النیة وذلک القصد فی الخارج، منها ما عن أبی بصیر، عن الإمام


1- کتاب الغیبة لمحمد بن إبراهیم النعمانی ص 281 __ 282.

ص: 400

الصادق صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (إن العبد المؤمن الفقیر لیقول یا رب ارزقنی حتی أفعل کذا وکذا من البر ووجوه الخیر، فإذا علم الله ذلک منه بصدق نیته کتب الله له من الأجر مثل ما یکتب له لو عمله، إن الله واسع کریم)(1).

وعن أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه أیضا قال: (ما من مؤمن سن علی نفسه سنة حسنة أو شیئا من الخیر ثم حال بینه وبین ذلک حائل إلا کتب الله له ما أجری علی نفسه أیام الدنیا)(2).

وعن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه أیضا عن آبائه صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، قال: (قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم من تمنی شیئا وهو لله عز وجل رضا لم یخرج من الدنیا حتی یعطاه)(3).

وقد ورد فی کثیر من الأخبار ان الإنسان مع من أحب وله مثل أجره فان کان خیرا فخیر وان کان شرا فشر، کما روی عن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (ان الله یحشر الناس علی نیاتهم یوم القیامة)(4)، وروی المخالفون قریباً من هذا عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم انه قال: (یحشر الناس علی نیاتهم)(5)، وعنه صلی الله علیه وآله وسلم أیضا: (الأعمال بالنیة ولکل امرئ ما نوی)(6).

وربما شارک الإنسان أجر أناس عاشوا قبله أو بعده بمئات السنین بل وبآلاف السنین أیضا، لا لشیء إلا لأنه محب لعملهم، کما فی الحدیث المروی عن أمیر


1- المحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقی ج1 ص261.
2- المصدر السابق ص28.
3- الأمالی للشیخ الصدوق ص 674.
4- المحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقی ج1 ص262.
5- سنن ابن ماجة لمحمد بن یزید القزوینی ج2 ص1414.
6- صحیح البخاری ج1 ص20 کتاب الإیمان.

ص: 401

المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه لما فرغ من قتل الخوارج یوم النهروان (قام إلیه رجل فقال: یا أمیر المؤمنین طوبی لنا إذ شهدنا، معک هذا الموقف، وقتلنا معک هؤلاء الخوارج فقال أمیر المؤمنین «علیه السلام» والذی فلق الحبة وبرأ النسمة، لقد شهدنا فی هذا الموقف أناس لم یخلق الله آباءهم ولا أجدادهم بعد، فقال الرجل: وکیف یشهدنا قوم لم یخلقوا؟ قال: بلی قوم یکونون فی آخر الزمان یشرکوننا فیما نحن فیه، ویسلمون لنا، فأولئک شرکاؤنا فیما کنا فیه حقا حقا)(1).

وعن أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه: (إنما یجمع الناس الرضا والسخط، فمن رضی أمرا فقد دخل فیه ومن سخطه فقد خرج منه)(2).

ویوجد توجیه ثانٍ وجواب آخر، وهو ان المشهور ان لم نقل المتواتر والمتسالم به عند أصحاب المذهب الحق مذهب أتباع أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ان هنالک رجعة عند خروج الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه یحیی الله سبحانه وتعالی بها بعض المؤمنین وبعض الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أو جمیعهم علی اختلاف الآراء فی ذلک، لینعموا بنصرة الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه والعیش فی دولته الکریمة تلک الدولة التی کانت حلم جمیع الأنبیاء والمرسلین والأوصیاء والصالحین منذ ان خلق الله سبحانه وتعالی أبا البشر آدم صلوات الله وسلامه علیه، وقد وردت عدة نصوص شرعیة عن الأئمة الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وعلماء الطائفة الأبرار رحمهم الله توضح حقیقة الرجعة وإمکان وقوعها فی زمن الإمام المهدی المنتظر صلوات الله وسلامه علیه، بل ووقوعها فعلا فی الأمم السالفة.

وقد الفت فی إثباتها واستقصاء مسائلها عشرات الرسائل والمؤلفات والمصنفات العلمیة، وقد عد محقق کتاب (الإیقاظ من الهجعة بالبرهان علی الرجعة) للحر


1- المحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقی ج1 ص262.
2- المصدر السابق.

ص: 402

العاملی(1) أربعة وأربعین مصنفا فی موضوع الرجعة وقد ذکر أسماءها وأسماء مصنفیها تفصیلا، وهذا الإکثار فی التصنیف ان دل علی شیء فانه یدل علی أهمیة موضوع الرجعة ومدی اهتمام العلماء الماضین والمتأخرین والمعاصرین بهذا الموضوع لأنه یعد من إحدی عقائد الشیعة الإثنی عشریة.

ومن تلک الأقوال التی حکت إجماع الشیعة الاثنی عشریة علی الاعتقاد بالرجعة وإمکانها هو قول الشریف المرتضی قدس الله روحه حینما سُئل عن حقیقة الرجعة، لأن شذاذ الإمامیة یذهبون إلی أن الرجعة رجوع دولتهم فی أیام القائم علیه السلام من دون رجوع أجسامهم، فأجابهم قدس الله روحه بقوله: (إعلم أن الذی تذهب الشیعة الإمامیة إلیه أن الله تعالی یعید عند ظهور إمام الزمان المهدی علیه السلام قوما ممن کان قد تقدم موته من شیعته، لیفوزوا بثواب نصرته ومعونته ومشاهدة دولته. ویعید أیضا قوما من أعدائه لینتقم منهم، فیلتذوا بما یشاهدون من ظهور الحق وعلو کلمة أهله. والدلالة علی صحة هذا المذهب أن الذی ذهبوا إلیه مما لا شبهة علی عاقل فی أنه مقدور لله تعالی غیر مستحیل فی نفسه، فإنا نری کثیرا من مخالفینا ینکرون الرجعة إنکار من یراها مستحیلة غیر مقدورة. وإذا أثبت جواز الرجعة ودخولها تحت المقدور، فالطریق إلی إثباتها إجماع الإمامیة علی وقوعها، فإنهم لا یختلفون فی ذلک. وإجماعهم قد بینا فی مواضع من کتبنا أنه حجة، لدخول قول الإمام علیه السلام فیه، وما یشتمل علی قول المعصوم من الأقوال لا بد فیه من کونه صوابا)(2).

ومن الأحادیث الصریحة فیما نحن فیه ما روی عن المفضل بن عمر قال: (ذکرنا القائم علیه السلام ومن مات من أصحابنا ینتظره، فقال لنا أبو عبد الله علیه


1- الإیقاظ من الهجعة بالبرهان علی الرجعة للحر العاملی تحقیق مشتاق مظفر.
2- رسائل المرتضی للشریف المرتضی ج 1 ص 125 __ 126، المسألة الثامنة، حقیقة الرجعة.

ص: 403

السلام: إذا قام أتی المؤمن فی قبره فیقال له: یا هذا إنه قد ظهر صاحبک، فإن تشأ أن تلحق به فالحق، وإن تشأ أن تقیم فی کرامة ربک فأقم)(1).

ومثله عن سیف بن عمیرة، قال: (قال لی أبو جعفر «علیه السلام»: المؤمن لیخیر فی قبره، إذا قام القائم، فیقال له: قد قام صاحبک، فإن أحببت أن تلحق به فالحق، وإن أحببت أن تقیم فی کرامة الله فأقم)(2).

وقد زخرت الزیارات الشریفة بحقیقة أنهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین سیرجعون، وکذلک سیرجع جمع من شیعتهم ومحبیهم لغرض النصرة والعیش تحت ظلهم ورعایتهم، ومن هذه الزیارات الشریفة زیارة الجامعة التی تسالمت صحة صدورها وعلو مضامینها، والتی جاء فی بعض فقراتها المبارکة: (أشهد الله وأشهدکم أنی مؤمن بکم وبما آمنتم به کافر بعدوکم وبما کفرتم به، مستبصر بشأنکم وبضلالة من خالفکم، موال لکم ولأولیائکم، مبغض لأعدائکم ومعاد لهم، سلم لمن سالمکم وحرب لمن حاربکم محقق لما حققتم، مبطل لما أبطلتم، مطیع لکم، عارف بحقکم، مقر بفضلکم، محتمل لعلمکم، محتجب بذمتکم معترف بکم، ومؤمن بإیابکم، مصدق برجعتکم، منتظر لأمرکم، مرتقب لدولتکم...)(3).

ومنها ما ورد فی زیارة الإمام صاحب العصر والزمان صلوات الله وسلامه علیه: (مولای فان أدرکنی الموت قبل ظهورک، فانی أتوسل بک وبآبائک الطاهرین إلی الله تعالی، واسأله ان یصلی علی محمد وآل محمد وان یجعل لی کرة فی ظهورک، ورجعة فی أیامک، لأبلغ من طاعتک مرادی، وأشفی من أعدائک فؤادی)(4)


1- الغیبة للشیخ الطوسی ص 459.
2- دلائل الإمامة لمحمد بن جریر الطبری «الشیعی» ص 479.
3- من لا یحضره الفقیه للشیخ الصدوق ج 2 ص 614.
4- المزار لمحمد بن المشهدی ص 588.

ص: 404

وفی زیارة أخری جاء فیها: (وان حال بینی وبین لقائه الموت الذی جعلته علی عبادک حتما وأقدرت به علی خلیقتک رغما، فأحینی عند ظهوره خارجا من حفرتی، مؤتزرا بکفنی، حتی أجاهد بین یدیه فی الصف الذی أثنیت علیهم فی کتابک، فقلت: ((کَأَنَّهُمْ بُنْیَانٌ مَرْصُوصٌ))(1)، اللهم طال الانتظار، وشمت بنا الفجار، وصعب علینا الانتصار، اللهم أرنا وجه ولیک المیمون فی حیاتنا وبعد المنون. اللهم إنی أدین لک بالرجعة بین یدی صاحب هذه البقعة، الغوث الغوث الغوث یا صاحب الزمان، قطعت فی وصلتک الخلان، وهجرت لزیارتک الأوطان)(2) وتوجد زیارات أخری یطول ذکرها قد ترکناها روما للاختصار.

فیتحصل مما سبق ان سؤال الإمام صلوات الله وسلامه علیه وباقی المؤمنین الکرام صحیح موافق للموازین الشرعیة حتی وان حال دون تحقق مرادهم الموت الذی جعله الله حقا علی عباده، لان استجابة دعائه صلوات الله وسلامه علیه ودعاء شیعته الکرام سیکون فی الرجعة التی ستقع یقینا حین خروج الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه.

المبحث الرابع: من هم أهل البیت المقصودون فی آیة التطهیر

ألف: تحریر محل النزاع حول هذه الآیة المبارکة

آیة التطهیر هی قوله سبحانه وتعالی: ((إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا))(3)، وهذه الآیة المبارکة هی جزء من آیة نزلت مع مجموعة من الآیات الأخری والتی تحدثت عن زوجات النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ، تبدأ من قوله


1- سورة الصف الآیة رقم 4.
2- المصدر السابق ص 658.
3- سورة الأحزاب الآیة رقم 33.

ص: 405

سبحانه وتعالی: ((یَا أَیُّهَا النَّبِیُّ قُلْ لِأَزْوَاجِکَ إِنْ کُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَیَاةَ الدُّنْیَا وَزِینَتَهَا فَتَعَالَیْنَ أُمَتِّعْکُنَّ وَأُسَرِّحْکُنَّ سَرَاحًا جَمِیلًا))(1)، وتنتهی عند قوله سبحانه وتعالی: ((وَاذْکُرْنَ مَا یُتْلَی فِی بُیُوتِکُنَّ مِنْ آَیَاتِ اللَّهِ وَالْحِکْمَةِ إِنَّ اللَّهَ کَانَ لَطِیفًا خَبِیرًا))(2)، وآیة التطهیر جاءت ضمن الآیة الثالثة والثلاثین من هذه السورة وهو قوله سبحانه وتعالی: ((وَقَرْنَ فِی بُیُوتِکُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِیَّةِ الْأُولَی وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِینَ الزَّکَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا))(3).

وبسبب وقوع جملة ((إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا)) فی ضمن هذه الآیة والآیات التی تحدثت عن نساء النبی صلی الله علیه وآله وسلم وقع اختلاف قدیم جدید __ قدیم حدوثا جدید استمرارا __ حول دلالة هذه الجملة من الآیة الشریفة، فأجمع أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وشیعتهم علی أنها وان وردت فی سیاق الحدیث عن زوجات النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ، إلا أن سبب نزولها یتعلق بالخمسة أهل الکساء، وهم کل من النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم والإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، والسیدة الطاهرة فاطمة البتول صلوات الله وسلامه علیها، والإمامین الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما، ولهم إضافة إلی إجماعهم أدلة وروایات عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم مرویة عن طریق مخالفیهم، سنتعرض إلی بعضها لاحقا.

أما باقی المذاهب الإسلامیة فقد تشعبت کلمتهم وتفرقت علی أقوال عدیدة، فمنهم من خص هذه الجملة فی الآیة المبارکة بنساء النبی صلی الله علیه وآله وسلم ولم یدخل معهن غیرهن إلا النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ، ومنهم من جعل من نساء النبی صلی الله علیه وآله وسلم


1- سورة الأحزاب الآیة رقم 28.
2- سورة الأحزاب الآیة رقم 34.
3- سورة الأحزاب الآیة رقم 33.

ص: 406

جزءاً وفرداً من الأفراد المشمولین بهذه الآیة المبارکة، وادخل معهن الخمسة من أهل الکساء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، ومنهم من فتح الباب علی مصراعیه لیدخل فی ضمن الآیة کل من حرمت علیه الصدقة، فیشمل أزواج النبی صلی الله علیه وآله وسلم ، والخمسة أهل الکساء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وجمیع آل عبد المطلب، فیدخل بنو العباس قاطبة، وآل الحارث بن عبد المطلب، لقوله صلی الله علیه وآله وسلم کما ورد عندهم لربیعة بن الحارث والعباس ابنی عبد المطلب: (ان الصدقة لا تنبغی لآل محمد، إنما هی أوساخ الناس)(1).

فیتحصل مما سبق ان الخمسة من أهل الکساء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین مجمع علی دخولهم عند الشیعة وغیرهم ولا یخالف ذلک إلا شاذ لا یعتد برأیه، أما الباقون فمختلف فیهم، فالبحث إذن یجب ان یتمحور لیس فی دخول أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وشمولهم بآیة التطهیر، لان ذلک مسلم به ومجمع علیه کما عرفت، وإنما البحث حول دخول غیرهم معهم فی حکم الآیة الشریفة، وهو ما سیتضح فی الفقرات اللاحقة إن شاء الله سبحانه وتعالی.

باء: استعمالات لفظ الأهل فی القرآن الکریم واللغة

قد أطلق لفظ الأهل ولفظ أهل البیت فی القرآن الکریم وأرید به معانٍ عدیدة منها :

1: قد أطلق لفظ الأهل علی أتباع دین معین کتسمیة القرآن الکریم الیهود والنصاری بأهل الکتاب، ویقصد بهم الذین یدینون بالیهودیة والنصرانیة، قال سبحانه وتعالی: ((یَا أَهْلَ الْکِتَابِ لِمَ تَکْفُرُونَ بِآَیَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ))(2)


1- صحیح مسلم ج3 ص119، باب ترک استعمال آل النبی علی الصدقة.
2- سورة آل عمران الآیة 70.

ص: 407

وقال سبحانه وتعالی أیضا: ((قُلْ یَا أَهْلَ الْکِتَابِ لَسْتُمْ عَلَی شَیْءٍ حَتَّی تُقِیمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِیلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَیْکُمْ مِنْ رَبِّکُمْ))(1).

وقال سبحانه وتعالی فی آیة ثالثة: ((وَلْیَحْکُمْ أَهْلُ الْإِنْجِیلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِیهِ وَمَنْ لَمْ یَحْکُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِکَ هُمُ الْفَاسِقُونَ))(2).

2: وأطلق لفظ الأهل علی سکان مدینة معینة أو قریة معینة، نظیر قوله سبحانه وتعالی: ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَی آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَیْهِمْ بَرَکَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَکِنْ کَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا کَانُوا یَکْسِبُونَ))(3).

وقال سبحانه وتعالی فی آیة ثانیة: ((وَمِمَّنْ حَوْلَکُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِینَةِ مَرَدُوا عَلَی النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَیْنِ ثُمَّ یُرَدُّونَ إِلَی عَذَابٍ عَظِیمٍ))(4).

وقال سبحانه وتعالی: ((وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِینَةِ یَسْتَبْشِرُونَ))(5).

3: وقد أطلق لفظ الأهل علی أفراد ومجامیع یجتمعون فی مکان واحد ویشترکون فی نفس المصیر کإطلاقه علی أهل النار وأهل الجنة، أو کقوله تعالی ((فَانْطَلَقَا حَتَّی إِذَا رَکِبَا فِی السَّفِینَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَیْئًا إِمْرًا))(6) لتغرق أهلها أی أهل السفینة، وسموا أهلا لاشتراکهم فی نفس المصیر ان غرقوا غرقوا بأجمعهم وان نجوا نجوا بأجمعهم أیضا.


1- سورة المائدة الآیة 68.
2- سورة المائدة الآیة 47.
3- سورة الأعراف الآیة 96.
4- سورة التوبة الآیة 101.
5- سورة الحجر الآیة 67.
6- سورة الکهف الآیة 71.

ص: 408

4: وقد أطلق فی بعض الآیات الشریفة وأرید به الأم والأخت کما فی قوله تعالی فی قصة نبی الله موسی صلوات الله وسلامه علیه: ((وَحَرَّمْنَا عَلَیْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّکُمْ عَلَی أَهْلِ بَیْتٍ یَکْفُلُونَهُ لَکُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ))(1)، ولم یکن فی بیت نبی الله موسی صلوات الله وسلامه علیه بحسب ما تتبعنا إلا أمه وأخته، وهو المقدار المتیقن من آیات القرآن الکریم لان الآیات الشریفة إنما تحدثت عن أمه صلوات الله وسلامه علیه وأخته فتکونان مشمولتین بلفظ أهل بیته قطعا وغیرهم یحتاج إلی دلیل إضافی.

5: وأطلق لفظ الأهل وأرید به الأخ کما فی قوله تعالی: ((وَاجْعَلْ لِی وَزِیرًا مِنْ أَهْلِی * هَارُونَ أَخِی))(2) فعبر عن نبی الله هارون صلوات الله وسلامه علیه بأنه من أهل نبی الله موسی صلوات الله وسلامه علیه.

6: وأطلق لفظ الأهل علی الولد کما فی قوله تعالی: ((وَنَادَی نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِی مِنْ أَهْلِی وَإِنَّ وَعْدَکَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْکَمُ الْحَاکِمِینَ))(3).

7: وقد أطلق لفظ الأهل علی بنات الرجل من صلبه کما فی قوله سبحانه وتعالی فی قصة نبی الله لوط صلوات الله وسلامه علیه: ((قَالَ إِنَّ فِیهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِیهَا لَنُنَجِّیَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ کَانَتْ مِنَ الْغَابِرِینَ))(4).

وقال سبحانه وتعالی: ((فَأَنْجَیْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ کَانَتْ مِنَ الْغَابِرِینَ))(5)، والمعلوم تاریخیا ان لوطا لم یکن له إلا بنتان أو ثلاثة حین خروجه من تلک القریة التی عذب أهلها


1- سورة القصص الآیة 12.
2- سورة طه الآیة 29-30.
3- سورة هود الآیة 45.
4- سورة العنکبوت الآیة 32.
5- سورة الأعراف الآیة 83.

ص: 409

وهن المذکورات فی قوله تعالی: ((وَجَاءَهُ قَوْمُهُ یُهْرَعُونَ إِلَیْهِ وَمِنْ قَبْلُ کَانُوا یَعْمَلُونَ السَّیِّئَاتِ قَالَ یَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِی هُنَّ أَطْهَرُ لَکُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِی ضَیْفِی أَلَیْسَ مِنْکُمْ رَجُلٌ رَشِیدٌ))(1).

8: وقد أطلق لفظ الأهل علی الزوجة أیضا قال أبو بکر الجصاص: (الأهل اسم یقع علی الزوجة وعلی جمیع من یشتمل علیه منزله ...)(2)، وفی معاجم اللغة: (الآهل الذی له زوجة. وعیال، وسار بأهله أی بزوجته و أولاده، وأهل الرجل وتأهل: تزوج، والتأهل: التزوج، وفی الدعاء: آهلک الله فی الجنة إیهالا أی زوجک فیها)(3).

وقد ورد هذا الاستعمال فی القرآن أیضا، نظیر قوله سبحانه وتعالی: ((إِذْ قَالَ مُوسَی لِأَهْلِهِ إِنِّی آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِیکُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِیکُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّکُمْ تَصْطَلُونَ))(4).

وکذلک قوله سبحانه وتعالی: ((قَالُوا أَتَعْجَبِینَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَکَاتُهُ عَلَیْکُمْ أَهْلَ الْبَیْتِ إِنَّهُ حَمِیدٌ مَجِیدٌ))(5).

وکقوله سبحانه وتعالی: ((وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِیصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَیَا سَیِّدَهَا لَدَی الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِکَ سُوءًا إِلَّا أَنْ یُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِیمٌ))(6).

9: وقد یطلق لفظ الأهل علی العشیرة والأقرباء بصورة عامة کما فی قوله تعالی: ((وَاذْکُرْ فِی الْکِتَابِ مَرْیَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَکَانًا شَرْقِیًّا))(7)


1- سورة هود الآیة 78.
2- أحکام القرآن للجصاص 2 ص 277.
3- قاموس اللغة ج3 ص331.
4- سورة النمل الآیة 7.
5- سورة هود الآیة 73.
6- سورة یوسف الآیة 25.
7- سورة مریم الآیة 16.

ص: 410

فیتضح مما سبق أنّ القرآن الکریم أطلق لفظ ال_(أهل) علی مصادیق عدة، فأطلقه علی الواحد کما فی نبی الله هارون صلوات الله وسلامه علیه، وابن نبی الله نوح صلوات الله وسلامه علیه، وأطلقه علی الاثنین کابنتی نبی الله لوط صلوات الله وسلامه علیه، وأطلقه علی الأخت وعلی الأم کما فی أم وأخت نبی الله موسی صلوات الله وسلامه علیه، وأطلقه علی الزوجة کزوجتی نبی الله إبراهیم الخلیل ولوط صلوات الله وسلامه علیهما، وأطلقه علی الجماعة البالغة من العدد مبلغا عظیما، کأهل الکتاب وغیرهم، وأطلقه علی الجماعة المحدودة والمتوسطة العدد کأهل السفینة وأهل القریة.

جیم: القرآن یجرد البعض من صفة الأهل مع أنهم موصوفون بها لغة وعرفا

لا یخفی علی مسلم ان لله سبحانه وتعالی علی الناس ولایتین، ولایة تکوینیة وأخری تشریعیة، فمثلما انه سبحانه وتعالی یحیی من یشاء، ویعطی من یشاء، ویمیت من یشاء، ویرزق من یشاء، بحسب المصلحة والحکمة، کما قال سبحانه وتعالی: ((وَرَبُّکَ یَخْلُقُ مَا یَشَاءُ وَیَخْتَارُ مَا کَانَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَی عَمَّا یُشْرِکُونَ))(1)، کذلک سبحانه یشرع ما یشاء ویحکم بما یشاء، ویفرض علی عباده ما یشاء، علی وفق ما یراه سبحانه وتعالی مناسبا، وله مدخلیة فی تکامل الإنسان وتنظیم مصالحه الفردیة والاجتماعیة، وبما یعود علیه بالخیر والفائدة والصلاح، قال سبحانه وتعالی: ((إِنَّ اللَّهَ یَحْکُمُ مَا یُرِیدُ))(2)، وهذا الأمر لا یحتاج إلی دلیل لبداهته عند کل معتقد بالدین الإسلامی، بل وحتی الأدیان الأخری تری مثل هذا الحق لله سبحانه وتعالی.

ویتفرع علی هذه الحقیقة البدیهیة، أنّ الله سبحانه وتعالی مثلما له حق التشریع،


1- سورة القصص الآیة رقم 68.
2- سورة المائدة الآیة رقم 1.

ص: 411

کذلک له سبحانه وتعالی حق توسیع ما یشاء من المفاهیم والحقائق الشرعیة، أو تضییق وحصر ما یشاء من تلک المفاهیم، وله سبحانه وتعالی الحق فی إضافة مصادیق معینة إلی مفهوم معین، أو نفیها عنه، کل ذلک خاضع للعلم الإلهی والحکمة والمصلحة، وهذا ما حصل فی مصطلح (الأهل) فی القرآن الکریم، إذ نراه سبحانه استخدم ولایته التشریعیة فجرد ومحا صفة الأهل عن ابن نبی الله نوح صلوات الله وسلامه علیه، فقال سبحانه وتعالی: ((قَالَ یَا نُوحُ إِنَّهُ لَیْسَ مِنْ أَهْلِکَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَیْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّی أَعِظُکَ أَنْ تَکُونَ مِنَ الْجَاهِلِینَ))(1)، فمع ان المعنی اللغوی والعرفی یجعل من ابن نبی الله نوح صلوات الله وسلامه علیه من اقرب وأوضح مصادیق الأهل، إلا انه سبحانه وتعالی أخرجه من ذلک لسبب کفره وعدم صلاحه.

ومثلما ان لله سبحانه وتعالی ولایة علی نفی بعض الأفراد عن ان یشملهم وصف الأهل، کذلک له سبحانه الحق فی تخصیص بعض أفراد الأهل بحکم من الأحکام التشریعیة أو التکوینیة، واستثناء البعض الآخر من هذه الأحکام، کما استثنی سبحانه وتعالی زوجة نبی الله لوط صلوات الله وسلامه علیه من حکم النجاة من العذاب، قال تعالی: ((فَأَنْجَیْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِینَ))(2)، وکما فی قوله تعالی: ((وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِیءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوکَ وَأَهْلَکَ إِلَّا امْرَأَتَکَ کَانَتْ مِنَ الْغَابِرِینَ))(3).

فیتبین مما سبق شیئان مهمان هما:

1: ان لله سبحانه وتعالی حق تضییق أو توسیع ما یشاء من المفاهیم والحقائق


1- سورة هود الآیة رقم 46.
2- سورة الأعراف الآیة رقم 83.
3- سورة العنکبوت الآیة رقم 33.

ص: 412

الشرعیة، حتی وان کان هذا التوسیع مخالفاً للمفهوم العرفی واللغوی، کما فی مسألة ابن نبی الله نوح فمع ان المدلول العرفی واللغوی یتناوله إلا ان المدلول الشرعی لا یشمله، فإذا ما أردنا التعریف الشرعی لأهل بیت نبی الله نوح صلوات الله وسلامه علیه فان ابنه وبحسب الشرع لا یدخل فیهم البتة.

2: ان لله سبحانه وتعالی حق تخصیص بعض أفراد العموم بحکم من الأحکام التشریعیة أو التکوینیة، واستثناء البعض الآخر من هذه الأحکام، کما فی حکم النجاة من العذاب بالنسبة إلی زوجة نبی الله لوط صلوات الله وسلامه علیه، فمع ان القرآن اقر لها بصفة الأهل إلا انه استثناها من حکم من الأحکام التکوینیة.

دال: هل للسنة النبویة المطهرة إمکانیة تخصیص عمومات القرآن الکریم؟

لا یخفی أنّ فی القرآن الکریم أحکاماً عامة أو مطلقة کثیرة، وقد خصصت أو قیدت أکثرها، وهذا التقیید أو التخصیص تارة یقع بنص قرآنی ثانٍ، کما مر فی الآیتین اللتین تکلمتا عن ابن وزوجة نبیی الله نوح ولوط صلوات الله وسلامه علیهما، وتارة یقع بنص من السنة النبویة المطهرة، التی اجمع الموالف والمخالف علی ان لها قابلیة التخصیص والتقیید لعمومات وإطلاقات القرآن الکریم، قال المحقق الحلی: (المسألة الثانیة: تخصیص الکتاب بالکتاب جائز، کقوله تعالی: ((فَإِذا لَقِیتُمُ الَّذِینَ کَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ))(1)، ثم قال فی موضع آخر: ((حَتَّی یُعْطُوا الْجِزْیَةَ عَنْ یَدٍ))(2). وکذلک __ یجوز __ تخصیص الکتاب بالسنة قولا، کتخصیص آیة المواریث(3) بقوله علیه السلام: «القاتل


1- سورة محمد الآیة رقم 4.
2- سورة التوبة الآیة رقم 29.
3- آیة المواریث هی قوله تعالی فی الآیة رقم 11 من سورة النساء: ((یُوصِیکُمُ اللَّهُ فِی أَوْلَادِکُمْ لِلذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَیَیْنِ فَإِنْ کُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَیْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَکَ وَإِنْ کَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَیْهِ لِکُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَکَ إِنْ کَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ یَکُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ کَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِیَّةٍ یُوصِی بِهَا أَوْ دَیْنٍ آَبَاؤُکُمْ وَأَبْنَاؤُکُمْ لَا تَدْرُونَ أَیُّهُمْ أَقْرَبُ لَکُمْ نَفْعًا فَرِیضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ کَانَ عَلِیمًا حَکِیمًا)).

ص: 413

لا یرث»، وفعلا(1)، کتخصیص آیة الجلد(2)برجمه علیه السلام ماعزا(3). وبالإجماع(4)، کالتسویة بین العبد والأمة فی تنصیف الحد، تخصیصا لآیة الجلد)(5).

وقال الآمدی: (المسألة الخامسة یجوز تخصیص عموم القرآن بالسنة. أما إذا کانت السنة متواترة، فلم أعرف فیه خلافا، ویدل علی جواز ذلک ما مر من الدلیل العقلی. وأما إذا کانت السنة من أخبار الآحاد، فمذهب الأئمة الأربعة جوازه)(6).

وقال الخطیب البغدادی: (خبرنا أبو سعید محمد بن موسی الصیرفی قال حدثنا أبو العباس محمد بن یعقوب الأصم قال ثنا محمد بن إسحاق الصاغانی قال حدثنا روح بن عبادة قال حدثنا الأوزاعی عن مکحول قال: القرآن أحوج إلی السنة من السنة إلی القرآن)(7).

وعن: (الفضل بن زیاد قال سمعت أحمد بن حنبل وسئل عن الحدیث الذی


1- یعنی وکذلک یجوز تخصیص الکتاب العزیز بفعل النبی صلی الله علیه وآله وسلم .
2- آیة الجلد هی قوله تعالی فی الآیة رقم 2 من سورة النور: ((الزَّانِیَةُ وَالزَّانِی فَاجْلِدُوا کُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْکُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِی دِینِ اللَّهِ إِنْ کُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْیَوْمِ الْآَخِرِ وَلْیَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ)).
3- آیة الجلد عامة فی جلد کل زانٍ، سواء کان محصنا أی متزوجا أم غیر محصن، فلما رجم النبی صلی الله علیه وآله وسلم احد الصحابة والذی کان اسمه ماعزا وکان متزوجا، علمنا ان حکم الجلد الذی فی الآیة خاص بالذی یزنی وهو غیر متزوج، أما المتزوج فیرجم.
4- یعنی وکذا یجوز تخصیص الکتاب العزیز بالإجماع.
5- معارج الأصول للمحقق الحلی ص95 __ 96.
6- الأحکام للآمدی ج 2 ص 322.
7- الکفایة فی علم الروایة للخطیب البغدادی ص 30.

ص: 414

روی أن السنة قاضیة علی الکتاب قال: ما أجسر علی هذا ان أقوله! ولکن السنة تفسر الکتاب وتعرف الکتاب وتبینه)(1).

وعن: (حسان بن عطیة قال کان جبرائیل ینزل علی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم بالسنة کما ینزل علیه بالقرآن یعلمه إیاها کما یعلمه القرآن)(2).

ولتخصیص عموم القرآن الکریم بالسنة المطهرة أمثلة کثیرة جدا لا یتناسب ذکر جمیع مصادیقها فی مثل ما نحن فیه من الاختصار، ولکن ما لا یدرک کله لا یترک کله، وسنأتی علی عدة من الأمثلة التی ذکرها المخالف قبل الموالف، ونترک الباقی للکتب المختصة فی هذا المجال، ومن هذه الأمثلة ما یأتی:

1: قال الخطیب البغدادی: (قال الله تعالی: یوصیکم الله فی أولادکم للذکر مثل حظ الأنثیین فان کن نساء فوق اثنتین فلهن ثلثا ما ترک وان کانت واحدة فلها النصف ولأبویه لکل واحد منهما السدس مما ترک إن کان له ولد فإن لم یکن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث، فکان ظاهر هذه الآیة یدل علی أن کل والد یرث ولده وکل مولود یرث والده حتی جاءت السنة بأن المراد ذلک مع اتفاق الدین بین الوالدین والمولودین وأما إذا اختلف الدینان فإنه مانع من التوارث واستقر العمل علی ما وردت به السنة فی ذلک)(3).

2: قال الخطیب البغدادی أیضا: (وقال الله تعالی: والسارق والسارقة فاقطعوا


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق ص27، وراجع أیضا ما قاله ابن حجر عند إیراده للحدیث: (وأخرج البیهقی بسند صحیح عن حسان بن عطیة احد التابعین من ثقات الشامیین...___ ثم ذکر الخبر__) راجع فتح الباری لابن حجر ج13 ص248.
3- الکفایة فی علم الروایة للخطیب البغدادی ص28 باب تخصیص السنن لعموم محکم القرآن وذکر الحاجة فی المجمل إلی التفسیر والبیان.

ص: 415

أیدیهما، فکان ظاهر هذا القول یوجب القطع علی کل سارق بسرقته کثرت أو قلت حتی دلت السنة ان المراد به بعض السراق وهو من بلغت سرقته فی القیمة ربع دینار فصاعدا واما من لم تبلغ قیمة سرقته هذا القدر فلا قطع فیه... ولما ذکرناه نظائر کثیرة فی الکتاب والسنة اقتصرنا منها علی ما أوردناه)(1).

3: وعن (علی بن زید عن الحسن ان عمران بن حصین کان جالسا ومعه أصحابه فقال رجل من القوم لا تحدثونا إلا بالقرآن قال فقال له ادنه فدنا فقال أرأیت لو وکلت أنت وأصحابک إلی القرآن أکنت تجد فیه صلاة الظهر أربعا وصلاة العصر أربعا والمغرب ثلاثا تقرأ فی اثنتین؟ أرأیت لو وکلت أنت وأصحابک إلی القرآن أکنت تجد الطواف بالبیت سبعا والطواف بالصفا والمروة؟ ثم قال: أی قوم خذوا عنا فإنکم والله إن لا تفعلوا لتضلن)(2).

فیتمخض للباحث مما سبق الحقائق التالیة:

* ان السنة المطهرة لها قابلیة التخصیص لعمومات القرآن الکریم، وهی کما قال احمد بن حنبل، تفسر الکتاب وتعرف الکتاب وتبینه.

* وان السنة المطهرة خصصت کثیراً من عمومات القرآن الکریم وقد اتضح فیما سبق بعض النماذج المهمة لهذه الحقیقة.وان البعض قد صرح بأن القرآن بحاجة إلی السنة أکثر من احتیاج السنة للقران.

* وان السنة لاسیما التی تتعلق بتفسیر القرآن وتوضیحه وتقییده أو تخصیصه شأنها فی الأهمیة والوجوب شأن القرآن الکریم، من حیث ان مصدرهما واحد فکلاهما کان ینزل بهما جبرائیل علیه السلام إلی النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ، ومن


1- المصدر السابق ص29 __ 30.
2- المصدر السابق ص30 __31.

ص: 416

حیث الإلزامیة والوجوب، لقوله سبحانه وتعالی: ((وَمَا آَتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِیدُ الْعِقَابِ))(1).

* وعلیه یصبح النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم هو المعبر الحقیقی والواقعی للمفاهیم الشرعیة فإذا ما وسع مفهوما من المفاهیم الشرعیة أو ضیقه فإننا نستدل علی ان الله سبحانه وتعالی هو الذی أراد تضییق أو توسعة ذلک المفهوم، لقوله تعالی: ((وَمَا یَنْطِقُ عَنِ الْهَوَی * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْیٌ یُوحَی * عَلَّمَهُ شَدِیدُ الْقُوَی))(2).

ولیس القول بتخصیص السنة المطهرة للقرآن الکریم وتفسیرها وتبیینها من القول الجزاف وبلا دلیل یرکن إلیه، فقد وردت أحادیث کثیرة تقرر هذه الحقیقة وتشدد علیها، منها أحادیث الأریکة التی اخبر بها النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم أمته عن قوم کانوا موجودین فعلا فی أیام حیاته الشریفة، أو انهم سیأتون بعد ذلک، لا یرتضون السنة النبویة الشریفة، ولا یعتقدون بحرمتها وأهمیتها، ویکتفون بالقرآن الکریم فقط، وهم المقصودون من قوله صلی الله علیه وآله وسلم : (بحسب امرئ قد شبع وبطن وهو متکئ علی أریکته لا یظن أن لله حراما إلا ما فی القرآن وانی والله قد حرمت ونهیت ووعظت بأشیاء انها لمثل القرآن أو أکثر)(3).

وعن عبید الله بن أبی رافع عن أبیه أبی رافع قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم : (لا أعرفن الرجل یأتیه الأمر مما أمرت به أو نهیت عنه فیقول ما ادری ما هذا، عندنا کتاب الله لیس هذا فیه)(4).


1- سورة الحشر الآیة رقم 7.
2- سورة النجم الآیة 3 __ 5.
3- الکفایة فی علم الروایة للخطیب البغدادی ص25.
4- المصدر السابق.

ص: 417

وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم : (ألا عسی رجل ان یبلغه عنی حدیث وهو متکئ علی أریکته فیقول لا أدری ما هذا علیکم بالقرآن فمن بلغه عنی حدیث فکذب به أو کذب علیّ متعمدا فلیتبوأ مقعده من النار)((1).

وعن الحسن بن جابر قال سمعت المقدام بن معد یکرب یقول: (حرم رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أشیاء یوم خیبر ثم قال یوشک رجل متکئ علی أریکته یحدث بحدیثی فیقول بیننا وبینکم کتاب الله فما وجدنا فیه من حلال استحللناه وما وجدنا فیه من حرام حرمناه وان ما حرم رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم مثل ما حرم الله عز وجل)((2)،(3).


1- ()الکفایة فی علم الروایة للخطیب البغدادی ص26.
2- ()الکفایة فی علم الروایة للخطیب البغدادی ص24.
3- وأقول مستفهما بعد معرفة هذه الأحادیث الأخیرة: إذا کان الصحابة قد سمعوا هذا الکلام من النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ، وعلموا یقینا ان القرآن لا یستغنی عن السنة المطهرة، وان من یستغنی بأحدهما دون الأخر فقد باء بالخسران المبین، فما معنی قول عمر بن الخطاب حینما کان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم علی فراش موته: (ان النبی صلی الله علیه __ واله __ وسلم قد غلب علیه الوجع وعندکم القرآن حسبنا کتاب الله) والذی رواه البخاری فی صحیحه وغیره بقوله: (لما حضر رسول الله صلی الله علیه __ واله __ وسلم وفی البیت رجال فیهم عمر بن الخطاب قال النبی صلی الله علیه __ واله __ وسلم هلم اکتب لکم کتابا لا تضلوا بعده فقال عمر: إن النبی صلی الله علیه __ واله __ وسلم قد غلب علیه الوجع وعندکم القرآن حسبنا کتاب الله فاختلف أهل البیت فاختصموا منهم من یقول قربوا یکتب لکم النبی صلی الله علیه __ واله __ وسلم کتابا لن تضلوا بعده ومنهم من یقول ما قال عمر فلما أکثروا اللغو والاختلاف عند النبی صلی الله علیه __ واله __ وسلم قال رسول الله صلی الله علیه __ واله __ وسلم قوموا قال عبید الله وکان ابن عباس یقول إن الرزیة کل الرزیة ما حال بین رسول الله صلی الله علیه __ واله __ وسلم وبین ان یکتب لهم ذلک الکتاب من اختلافهم ولغطهم) صحیح البخاری ج 7 ص9 کتاب المرضی والطب.

ص: 418

هاء: هل فسر النبی صلی الله علیه وآله وسلم آیة التطهیر، وهل خصصها بفئة معینة دون أخری؟

ذکرنا فی بدایة البحث ان آیة التطهیر وهی قوله تعالی: ((إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا)) قد نزلت ضمن مجموعة من الآیات التی تحدثت عن زوجات النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ، وقد جاء اللفظ فیها مطلقا، فلم یتقید التطهیر وإذهاب الرجس بفرد من أفراد أهل البیت، ومن حق الباحث عن الحقیقة ان یتساءل: هل قام النبی صلی الله علیه وآله وسلم بتخصیص هذا العموم أم لا؟ لان التخصیص ان کان قد صدر من النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فیلزم علی کل مسلم قبوله والخضوع له شاء أم أبی، فان لم یقبل عد من المتمردین ودخل فی زمرة المبشرین بالنار کما نصت علیه الأحادیث السابقة، أما إذا لم یرد عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم أی تخصیص لأفراد أهل البیت فسیبقی حینئذ لفظ أهل البیت علی عمومه، ویدخل فی أهل البیت کل من ینطبق علیه الوصف لغة وعرفا، ویکون حکم التطهیر وإذهاب الرجس شاملا للزوجة والبنت والابن والأقارب الأدنین والکثیرین من غیر هؤلاء.

ونظرة بسیطة إلی الأحادیث الشریفة توصلنا إلی ان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لم یترک الآیة المبارکة علی عمومها، لیدخل کل من هب ودب فی ضمنها، بل خصصها بأفراد معدودین، واتبع فی تخصیصها شتی الوسائل اللفظیة منها والعملیة، وفیما یأتی جملة من تلک الروایات الدالة علی تخصیصها، وسنختصر علی إیراد ما صححه المخالف قبل الموالف تارکین عشرات الروایات الأخری التی طعنوا فیها لغایات لا تخفی علی لبیب.

1: فقد أخرج مسلم فی صحیحه: («حدثنا» أبو بکر بن أبی شیبة ومحمد بن عبد الله بن نمیر «واللفظ لأبی بکر» قالا حدثنا محمد بن بشر عن زکریاء عن مصعب

ص: 419

ابن شیبة عن صفیة بنت شبیة قالت: قالت عائشة خرج النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم غداة وعلیه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علی فأدخله ثم جاء الحسین فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علی فأدخله ثم قال: ((إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا)))(1).

2: وعن الترمذی فی سننه: (حدثنا محمود بن غیلان، أخبرنا أبو أحمد الزبیری، أخبرنا سفیان عن زبید عن شهر بن حوشب عن أم سلمة أن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم جلل علی الحسن والحسین وعلی وفاطمة کساء ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بیتی وحامتی; أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهیرا. فقالت أم سلمة: وأنا معهم یا رسول الله؟ قال: إنک علی خیر) (2).

وقال معلقا علی هذا الحدیث: (هذا حدیث حسن صحیح. وهو أحسن شیء روی فی هذا الباب. وفی الباب عن أنس وعمر بن أبی سلمة وأبی الحمراء)(3).

3: وعن الترمذی أیضا قال: (حدثنا عبد بن حمید أخبرنا عفان بن مسلم أخبرنا حماد بن سلمة أخبرنا علی بن زید عن أنس بن مالک: أن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم کان یمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج لصلاة الفجر یقول: الصلاة یا أهل البیت ((إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا)))(4).

وقال معلقا: (هذا حدیث حسن غریب من هذا الوجه إنما نعرفه من حدیث حماد بن سلمة. وفی الباب عن أبی الحمراء معقل بن یسار وأم سلمة)(5).


1- صحیح مسلم ج 7 ص130.
2- سنن الترمذی للترمذی ج5 ص360 __ 361.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق ص31.
5- المصدر السابق.

ص: 420

4: وعن الحاکم النیسابوری فی کتابه المستدرک علی الصحیحین: (حدثنا أبو العباس محمد بن یعقوب ثنا العباس بن محمد الدوری ثنا عثمان بن عمر ثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دینار ثنا شریک بن أبی نمر عن عطاء بن یسار عن أم سلمة رضی الله عنها انها قالت: فی بیتی نزلت هذه الآیة ((إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا)) قالت: فأرسل رسول الله صلی الله علیه وآله إلی علی وفاطمة والحسن والحسین رضوان الله علیهم أجمعین فقال: اللهم هؤلاء أهل بیتی قالت أم سلمة یا رسول الله ما أنا من أهل البیت قال إنک أهلی خیر وهؤلاء أهل بیتی اللهم أهلی أحق)(1).

 وقال الحاکم النیسابوری معقبا علی هذا الحدیث: (هذا حدیث صحیح علی شرط البخاری ولم یخرجاه)(2).

5: وعن الحاکم النیسابوری أیضا قال: (حدثنا أبو العباس محمد بن یعقوب أنبأ العباس بن الولید بن مزید أخبرنی أبی قال سمعت الأوزاعی یقول حدثنی أبو عمار قال حدثنی واثلة بن الأسقع رضی الله عنه قال جئت أرید علیا رضی الله عنه فلم أجده فقالت فاطمة رضی الله عنها انطلق إلی رسول الله صلی الله علیه وآله یدعوه فاجلس فجاء مع رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فدخل ودخلت معهما قال فدعا رسول الله صلی الله علیه وآله حسنا وحسینا فاجلس کل واحد منهما علی فخذه وأدنی فاطمة من حجره وزوجها ثم لف علیهم ثوبه وأنا شاهد فقال ((إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا)) اللهم هؤلاء أهل بیتی).

ثم عقب علیه مباشرة بقوله: (هذا حدیث صحیح علی شرط مسلم ولم


1- المستدرک للحاکم النیسابوری ج 2 ص 416.
2- المصدر السابق.

ص: 421

یخرجاه)(1).

6: وعن الحاکم أیضا قال: (حدثنی أبو الحسن إسماعیل بن محمد بن الفضل ابن محمد الشعرانی ثنا جدی ثنا أبو بکر بن أبی شیبة الحزامی ثنا محمد بن إسماعیل بن أبی فدیک حدثنی عبد الرحمن بن أبی بکر الملیکی عن إسماعیل بن عبد الله بن جعفر بن أبی طالب عن أبیه قال: لما نظر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم إلی الرحمة هابطة قال ادعوا لی ادعوا لی، فقالت صفیة: من یا رسول الله؟ قال أهل بیتی علیا وفاطمة والحسن والحسین، فجیء بهم فألقی علیهم النبی صلی الله علیه وآله وسلم کساءه ثم رفع یدیه ثم قال: اللهم هؤلاء آلی فصل علی محمد وعلی آل محمد وأنزل الله عز وجل ((إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا)))(2).

 ثم علق علیه الحاکم النیسابوری بقوله: (هذا حدیث صحیح الإسناد ولم یخرجاه).

7: قال الذهبی فی سیر أعلام النبلاء: (وقال شهر: عن أم سلمة: إن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم جلل علیا وفاطمة وابنیهما بکساء، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بیت بنتی وحامتی، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهیرا فقلت: یا رسول الله أنا منهم؟ قال: إنک إلی خیر)(3).

وقال الذهبی معقبا علی هذا الحدیث: (إسناده جید، روی من وجوه عن شهر. وفی بعضها یقول: «دخلت علیها أعزیها علی الحسین». وروی نحوه الأعمش، عن جعفر بن عبد الرحمن، عن حکیم بن سعد، عن أم سلمة)(4).


1- المصدر السابق.
2- المستدرک للحاکم النیسابوری ج 3 ص 147 __ 148.
3- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 3 ص 283.
4- المصدر السابق.

ص: 422

8: وقد صحح ابن تیمیة __ علی تعصبه ولجاجته وعناده __ نزولها فی کل من النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وابنته وبعلها وابنیها صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، حیث قال فی کتابه منهاج السنة ما نصه: (وأما حدیث الکساء فهو صحیح رواه أحمد والترمذی من حدیث أم سلمة ورواه مسلم فی صحیحه من حدیث عائشة قالت خرج النبی صلی الله علیه و سلم ذات غداة وعلیه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علی فأدخله ثم جاء الحسین فأدخله معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علی فأدخله ثم قال ((إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا)) وهذا الحدیث قد شرکه(1)فیه فاطمة وحسن وحسین رضی الله عنهم)(2).

9: وقال الثعالبی فی تفسیره لآیة التطهیر: («الرجس» اسم یقع علی الإثم وعلی العذاب وعلی النجاسات والنقائص، فأذهب الله جمیع ذلک عن أهل البیت، قالت أم سلمة: نزلت هذه الآیة فی بیتی ; فدعا رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم علیا وفاطمة وحسنا وحسینا فدخل معهم تحت کساء خیبری، وقال: «هؤلاء أهل بیتی، وقرأ الآیة، وقال اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهیرا، قالت أم سلمة: فقلت: وأنا یا رسول الله، فقال: أنت من أزواج النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وأنت إلی خیر»)(3).

ثم قال بعد إیراده لهذا الکلام: (والجمهور علی هذا، وقال ابن عباس وغیره: أهل البیت: أزواجه خاصة، والجمهور علی ما تقدم).


1- یعنی بذلک الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه.
2- منهاج السنة النبویة لابن تیمیة ج5 ص13.
3- تفسیر الثعالبی ج4 ص346.

ص: 423

تطبیق القواعد السابقة علی هذه الروایات النبویة

الأحادیث التی مرت کانت جزءاً من کم هائل من تلک التی رواها علماء ورواة المذاهب الأخری والتی صرحوا فیها بأن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم قد خصص عموم آیة التطهیر بخمسة أشخاص تحدیدا، ووفقا لقاعدة ان السنة النبویة لها الحق فی تخصیص عمومات القرآن الکریم، وانها بمنزلة المفسر والمعرف والمبین لحقائق آیاته الشریفة، کما قال احمد بن حنبل، فیجب حینئذ رفع الید عن ذلک العموم وإخراج کل من یشملهم وصف أهل البیت سواء کان هذا الشمول لغویا أو عرفیا، وإبقاء هؤلاء الخمسة الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فقط من دون منازع.

وان هذا التخصیص النبوی لمصداق أهل البیت الذین أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهیرا، أوضحه النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بعدة أشکال وصور، منها لفظیة ومنها فعلیة، فجمعهم فی بیت واحد وإخراج کل من هم خارج هذا البیت من أزواجه وغیرهن تخصیص ، وجمعهم تحت کساء واحد تخصیص ثانٍ یضاف إلی ما سبق، وهذا التخصیص الثانی أراد منه النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم إخراج سائر من کان داخل البیت باستثناء من أدخلهم بنفسه تحت الکساء، ثم تلاوته للآیة المبارکة بعد دخولهم تخصیص ثالث، ثم قوله صلی الله علیه وآله وسلم : (هؤلاء أهل بیتی فاذهب عنهم الرجس...) تخصیص رابع وقاطع علی ان المخصوصین بهذه الآیة الشریفة هم فقط الموجودون تحت هذا الکساء، إذ لو کان غیرهم قد شارکهم بهذا الوصف لما صح من النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ان یقول: (هؤلاء أهل بیتی) ولقال صلی الله علیه وآله وسلم : (هؤلاء من أهل بیتی) فیجعلهم جزءاً من مجموعة، وهذا بدیهی لکل من عرف کلام العرب ومارسه، فکیف یخفی علی النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ذلک وهو أفصح من نطق بالضاد، ثم یختم النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم کل الشکوک ویغلق کل الأبواب التی

ص: 424

یمکن للآخرین استغلالها لإغراض شخصیة أو سیاسیة فیرفض صلی الله علیه وآله وسلم دخول أم سلمة معهم داخل الکساء، حتی بعد أن طالبت هی بذلک فی قولها: (یا رسول الله ما أنا من أهل البیت؟) أو (یا رسول الله أنا منهم؟) أو غیر ذلک، فیجیبها بما یقطع علیها وعلی غیرها کل أمل بقوله: انک إلی خیر أو علی خیر أو أنتِ من أزواج النبی أو غیر ذلک، وهو تخصیص قاصم لظهر کل من قال بدخول زوجات النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ضمن أهل البیت الذین تحدثت عنهم آیة التطهیر.

والسؤال الذی یطرح نفسه بقوة هو لماذا هذا الإصرار من النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم علی تکرار التخصیص مرة بعد مرة؟ ولا أظن بأن الجواب یخفی علی اللبیب العالم بما وقع بعد استشهاد النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ورحیله عن هذه الدنیا الفانیة، وما جری وصار علی أهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من غصب حقوقهم وإبعادهم عن منازلهم وإقصائهم عن مراتبهم التی رتبهم الله فیها، فکان النبی صلی الله علیه وآله وسلم یضع کل تلک التخصیصات عسی أن یحول دون أن تسرق منهم هذه الصفة __ صفة أهل البیت المطهرین والمنزهین عن کل رجس __ أو یبقی الحقیقة واضحة للباحثین عنها فیما لو تجرأت السیاسة والساسة التعدی علی هذا الحق.

ووفقا لقاعدة ان السنة المطهرة لا سیما التی صدرت من النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بهدف تفسیر القرآن وتبیینه هی من أقسام الوحی الذی کان ینزل به جبرائیل علیه السلام علی النبی صلی الله علیه وآله وسلم لیبلغها للأمة ویبین معناها وخصوصیاتها ومن المقصود بها، فیکون تخصیص النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لهذه الآیة المبارکة من قسم الوحی الذی نزل به جبرائیل علیه السلام علی النبی صلی الله علیه وآله وسلم وأمره بتبلیغه لسائر أفراد الأمة، وبعبارة ثانیة ان هذا التخصیص لعموم آیة التطهیر هو لیس أمرا شخصیا عاطفیا قام به رجل تجاه ابنته وزوجها وابنیها، بل هو أمر وإرادة إلهیة

ص: 425

خارجة عن الدوافع الشخصیة، حکم به الله وأراده وبلغه بصورة رسمیة بواسطة جبرائیل علیه السلام إلی شخص النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بوصفه نبیا لا بوصفه والدا أو غیر ذلک من العناوین.

 ویلزم وفقا لکون تخصیص أیة التطهیر بالخمسة من أهل الکساء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وان هذا التخصیص وحی من الله سبحانه وتعالی وجوب الإقرار لهم بذلک من جمیع المسلمین، ومن یرفض منهم هذا التخصیص أو یحاول ان یدخل معهم غیرهم فان أحادیث الأریکة التی مرت ستشمله لا محالة، وسیؤدی إدخال غیرهم معهم إلی إدخال أمر فی الدین لیس منه ویؤدی بالإنسان إلی ان ینصب نفسه کمشرع مع الله سبحانه وتعالی ورسوله الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فیدخل فی الضلالة من حیث یعلم أو لا یعلم.

لماذا ندخل باقی أفراد الأئمة المعصومین ضمن أهل البیت مع ان حدیث الکساء لا یشملهم؟

ذکرنا سابقا ان واحدة من حقوق وصلاحیات النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم هی إمکان تخصیص أو توسعة المفاهیم والحقائق الشرعیة علی وفق ما یرضی الله سبحانه وتعالی، وقد عرفنا سابقا ان باقی المذاهب الإسلامیة قبل الشیعة یعتقدون ویصححون روایات تخصیص النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم آیة التطهیر بالخمسة أهل الکساء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وهو اعتقاد حق لا ریب فیه، لکن أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وتبعا لهم شیعتهم علی مر الأیام والأعوام، کانوا ولا یزالون یعتقدون بأن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم قد خصص آیة التطهیر بأربعة عشر شخصا، هم کل من أهل الکساء الذین سبق ذکرهم فی الأحادیث السابقة، وتسعة من أولاد الإمام الحسین صلی الله علیه وآله وسلم أولهم الإمام علی

ص: 426

ابن الحسین وآخرهم الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وهذا التخصیص وان لم یرد عن طریق المخالفین، فهو لا یضر ألبتة، لأنهم لا ینقلون شیئا یکون فیه حجة لخصومهم علیهم فی أغلب الأحیان، فیصبح الاعتقاد بدخول الأئمة التسعة من ذریة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أمر مذهبی بل من ضروریات مذهب الشیعة الاثنی عشریة، ومن لم یعتقد بذلک فلیس منهم.

وفیما یأتی جملة من تلک الروایات الشریفة عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم والأئمة المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین التی تلحق الأئمة التسعة من ذریة الإمام الحسین بأصحاب الکساء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین:

منها ما عن علی بن الحسین بن محمد، قال: حدثنا هارون بن موسی التلعکبری، قال حدثنا عیسی بن موسی الهاشمی بسر من رأی، قال حدثنی أبی، عن أبیه، عن آبائه، عن الحسین بن علی، عن أبیه علی علیه السلام قال: دخلت علی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فی بیت أم سلمة وقد نزلت هذه الآیة ((إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا)) فقال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: یا علی هذه الآیة نزلت فیک وفی سبطی والأئمة من ولدک. فقلت: یا رسول الله وکم الأئمة بعدک؟ قال: أنت یا علی، ثم ابناک الحسن والحسین، وبعد الحسین علی ابنه، وبعد علی محمد ابنه، وبعد محمد جعفر ابنه، وبعد جعفر موسی ابنه، وبعد موسی علی ابنه، وبعد علی محمد ابنه، وبعد محمد علی ابنه، وبعد علی الحسن ابنه، والحجة من ولد الحسن، هکذا وجدت أسامیهم مکتوبة علی ساق العرش، فسألت الله تعالی عن ذلک فقال: یا محمد هم الأئمة بعدک مطهرون معصومون وأعداؤهم ملعونون)(1).


1- کفایة الأثر للخزاز القمی ص155 __ 156.

ص: 427

ومنها ما عن عبد الرحمان بن کثیر قال: (قلت لأبی عبد الله علیه السلام: ما عنی الله تعالی بقوله: ((إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا)) قال: نزلت فی النبی صلی الله علیه وآله، وأمیر المؤمنین، والحسن، والحسین، وفاطمة علیهم السلام. فلما قبض الله نبیه، کان أمیر المؤمنین، ثم الحسن، ثم الحسین علیهم السلام.

ثم وقع تأویل هذه الآیة: ((وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَی بِبَعْضٍ فِی کِتَابِ)) فکان علی بن الحسین علیه السلام، ثم جرت فی الأئمة من ولده الأوصیاء، فطاعتهم طاعة الله ومعصیتهم معصیة الله)(1).

وعن محمد بن علی الحلبی، (عن أبی عبد الله علیه السلام فی قوله عز وجل: ((رَبِّ اغْفِرْ لِی وَلِوَالِدَیَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَیْتِیَ مُؤْمِنًا)) یعنی الولایة، من دخل فی الولایة دخل فی بیت الأنبیاء علیهم السلام، وقوله: ((إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا)) یعنی الأئمة علیهم السلام وولایتهم، من دخل فیها دخل فی بیت النبی صلی الله علیه وآله)(2).

وقد ورد فی الزیارة الجامعة: (السلام علیکم یا أهل بیت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائکة ومهبط الوحی ومعدن الرسالة وخزان العلم ومنتهی الحلم وأصول الکرم وقادة الأمم وأولیاء النعم وعناصر الأبرار ودعائم الأخیار وساسة العباد وأرکان البلاد وأبواب الإیمان)(3).

فوصف الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه بأنه (مِنْ أَهْلِ بَیْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّی اللَّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ) صحیح وعلیه إجماع الفرقة الناجیة أعزها الله، بل ان وصف الإمام المهدی


1- الإمامة والتبصرة لابن بابویه القمی ص 47 __ 48.
2- الکافی للشیخ الکلینی ج1 ص423.
3- عیون أخبار الرضا علیه السلام للشیخ الصدوق ج 1 ص 305.

ص: 428

صلوات الله وسلامه علیه بأنه من أهل بیت محمد صلی الله علیه وآله وسلم قد ورد حتی فی روایات باقی المذاهب الإسلامیة، ففی مسند احمد بن حنبل عن أبی سعید الخدری قال: (قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم لا تقوم الساعة حتی یملک رجل من أهل بیتی أجلی أقنی یملأ الأرض عدلا کما ملئت قبله ظلما یکون سبع سنین)(1).

وعن أبی سعید الخدری أیضا قال: (قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم لا تقوم الساعة حتی تمتلئ الأرض ظلما وعدوانا قال ثم یخرج رجل من عترتی أو من أهل بیتی یملؤها قسطا وعدلا کما ملئت ظلما وعدوانا)(2).

المبحث الخامس: الصلاة علی النبی صلی الله علیه وآله وبعض ما یتعلق بها

أولا: تخصیص النبی صلی الله علیه وآله وسلم للصلاة علیه وتعلیمه الأمة کیفیة الصلاة علیه

لا یخفی ان الصلاة علی النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم أمر مفروغ من مشروعیته لان القرآن الکریم صرح بأن الله سبحانه وتعالی یصلی علیه صلی الله علیه وآله وسلم وأمر المؤمنین بالصلاة علیه والتسلیم له بقوله: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِکَتَهُ یُصَلُّونَ عَلَی النَّبِیِّ یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَیْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِیمًا))(3).

فمشروعیة الصلاة علی النبی صلی الله علیه وآله وسلم أمر مجمع علیه، وکذلک أجمعت مصادر المسلمین وبمختلف مصادرهم الروائیة علی تحدید وتخصیص النبی الأعظم لصیغة هذه الصلاة التی أمر القرآن الکریم بأن یصلی علیه بها، ومصادر الشیعة


1- مسند احمد لأحمد بن حنبل ج 3 ص 17.
2- المصدر السابق ج 3 ص 36.
3- سورة الأحزاب الآیة رقم 56.

ص: 429

الإمامیة أعزهم الله سبحانه وتعالی نصوصها تفوق حد الإحصاء، وکذلک مصادر بقیة المذاهب الإسلامیة، وفیما یأتی جملة من تلک المصادر مقتصرین علی ما جاء فی اصح کتبهم عندهم، فمنها:

ما أخرجه البخاری فی صحیحه عن: (عبد الرحمن بن أبی لیلی قال لقینی کعب بن عجرة فقال: ألا أهدی لک هدیة سمعتها من النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم؟ فقلت: بلی، فأهدها لی، فقال: سألنا رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فقلنا یا رسول الله کیف الصلاة علیکم أهل البیت فان الله قد علمنا کیف نسلم قال قولوا اللهم صلّ علی محمد وعلی آل محمد کما صلیت علی إبراهیم وعلی آل إبراهیم انک حمید مجید اللهم بارک علی محمد وعلی آل محمد کما بارکت علی إبراهیم وآل إبراهیم انک حمید مجید)(1).

وعن أبی سعید الخدری قال: (قلنا یا رسول الله هذا التسلیم فکیف نصلی علیک؟ قال: قولوا اللهم صل علی محمد عبدک ورسولک کما صلیت علی آل إبراهیم وبارک علی محمد وعلی آل محمد کما بارکت علی إبراهیم)(2).

وقال أبو صالح عن اللیث: (علی محمد وعلی آل محمد کما بارکت علی آل إبراهیم)(3)، وعن إبراهیم بن حمزة قال حدثنا ابن أبی حازم والدراوردی عن یزید وقال: (کما صلیت علی إبراهیم وبارک علی محمد وآل محمد کما بارکت علی إبراهیم وآل إبراهیم)(4).


1- صحیح البخاری ج 4 ص 118 __ 119.
2- المصدر السابق ج 6 ص 27.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.

ص: 430

إذن فالنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم خصص وفسر کیفیة الصلاة علیه بأنها مقرونة بالصلاة علی أهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، ووفقا للقواعد التی أوضحناها فی المبحث السابق یصبح هذا التخصیص من قبیل الوحی المنزل من الله سبحانه وتعالی علی نبیه، فیجب علی الأمة بمختلف طوائفها ومذاهبها التقید بإلحاق آله صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین معه صلی الله علیه وآله وسلم فی الصلاة لیمتثل بذلک الأمر الوارد فی الآیة المبارکة، ومن تخلف عن ذلک أو بدل فقد بدل أمرا نبویا ووحیا سماویا ونصب نفسه فی مقام التشریع مع الله سبحانه وتعالی ورسوله الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم .

نعم قد ورد نص یتیم ووحید بإدخال أشخاص آخرین مع أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فقد أخرج البخاری عن ابی حمید الساعدی: (انهم قالوا: یا رسول الله کیف نصلی علیک؟ قال: قولوا اللهم صل علی محمد وأزواجه وذریته کما صلیت علی آل إبراهیم وبارک علی محمد وأزواجه وذریته کما بارکت علی آل إبراهیم انک حمید مجید)(1).

وهو خبر معارض بعشرات بل بمئات الأخبار الأخری التی خصت جمیعها الصلاة بالآل من دون ذکر للزوجات ولا الذریة، والهدف من اختلاق هذه الأحادیث ونظائرها لا یخفی علی العاقل وسیأتی تبیان للسبب الحقیقی من وراء إیجاد هذه الأحادیث.

ثانیا: هل یجوز للمسلم أن یقول: (علی صلوات الله علیه)؟

اجتمعت کلمة الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین قبل شیعتهم فی جواز ان یصلی المؤمن علی غیر الأنبیاء والمرسلین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فجوزوا الصلاة علی سائر الأئمة


1- صحیح البخاری ج 7 ص157.

ص: 431

صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وعلی الصدیقة السیدة فاطمة بنت محمد صلوات الله وسلامه علیها، بل وجوزوا الصلاة علی غیرهم من الأولیاء والصلحاء، والأحادیث المنقولة عنهم والزیارات التی وردت بحقهم وبحق بعض الأولیاء والصلحاء کالعباس ابن أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، وکثیر من أولاد الأئمة وأصحابهم کسلمان المحمدی رضوان الله تعالی علیهم اجمعین وغیره، کل هذا وغیره خیر شاهد علی جواز ذلک.

أما باقی مذاهب المسلمین فتکاد تجمع علی عدم جواز ذلک، لان الصلاة بزعمهم کما یقول عبد الکریم الرافعی فی فتح العزیز: (قد صارت مخصوصة فی لسان السلف بالأنبیاء علیهم الصلاة والسلام کما أن قولنا عز وجل صار مخصوصا بالله تعالی جده وکما لا یقال محمد عز وجل وإن کان عزیزا جلیلا لا یقال أبو بکر وعلی صلوات الله علیهما وإن صح المعنی)(1).

وقال محیی الدین النووی فی روضة الطالبین: (قال الأئمة: وینبغی أن لا یقول: اللهم صل علیه، وإن ورد فی الحدیث، لان الصلاة صارت مخصوصة فی لسان السلف بالأنبیاء صلوات الله علیهم وسلامه. وکما أن قولنا. عز وجل. صار مخصوصا بالله تعالی. فکما لا یقال: محمد عز وجل وإن کان عزیزا جلیلا، لا یقال: أبو بکر، أو علی، صلی الله علیه، وإن صح المعنی)(2).

وقال الآلوسی فی تفسیره: (وقال القاضی عیاض: الذی ذهب إلیه المحققون وأمیل إلیه ما قاله مالک. وسفیان، واختاره غیر واحد من الفقهاء والمتکلمین أنه یجب تخصیص النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وسائر الأنبیاء علیهم الصلاة والسلام بالصلاة والتسلیم کما یختص الله سبحانه عند ذکره بالتقدیس والتنزیه ویذکر من


1- فتح العزیز لعبد الکریم الرافعی ج5 ص529 __ 530.
2- روضة الطالبین لمحیی الدین النووی ج 2ص 69 __70.

ص: 432

سواهم بالغفران والرضا)(1).

وقال المقریزی: (الرابع: أن الصلاة صارت فی لسان الأمة مخصوصة بالنبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم تذکر مع ذکر اسمه لا یسوغ ذلک لغیره وکما لا یقال محمد عز وجل ولا محمد سبحانه وتعالی لئلا یعطی رتبة الخالق فهکذا لا ینبغی أن تعطی غیر النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم رتبته فیقال: فلان صلی الله علیه وسلم)(2).

وخالف هذا الحکم بعض أئمتهم فذهب البعض إلی الکراهة وذهب آخر إلی الجواز لان الصلاة بمعنی الدعاء فتجوز لکل احد، قال الرافعی فی فتح العزیز: (وصرح __ الصیدلانی __ بنفی الکراهة فی العدة وقال أیضا الصلاة بمعنی الدعاء تجوز علی کل أحد أما بمعنی التعظیم والتکریم یختص به الأنبیاء علیهم السلام والمشهور ما سبق __ وهو عدم الجواز __)(3).

وقال الآلوسی: (وحمل البیهقی القول بالمنع علی ما إذا جعل ذلک تعظیما وتحیة وبالجواز علیها إذا کان دعاء وتبرکا، واختار بعض الحنابلة أن الصلاة علی الآل مشروعة تبعا وجائزة استقلالا وعلی الملائکة وأهل الطاعة عموما جائزة أیضا وعلی معین شخص أو جماعة مکروهة)(4).

ثالثا: سبب رفضهم للصلاة علی غیر الأنبیاء والمرسلین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین

وقد بین غیر واحد من المخالفین سبب حکمهم بعدم جواز الصلاة علی غیر


1- تفسیر الآلوسی ج 11 ص 6.
2- إمتاع الأسماع للمقریزی ج 10 ص 373 __ 374.
3- فتح العزیز لعبد الکریم الرافعی ج5 ص530.
4- تفسیر الآلوسی ج 22 ص 86.

ص: 433

الأنبیاء والمرسلین، لان الصلاة علی بعض الأولیاء والأئمة قد أصبح شعارا للشیعة الإمامیة ولکی یمنعوا أتباعهم من التشبه بشیعة أهل البیت منعوا علیهم ذلک ولم یجوزوه، قال الرافعی: (فقد ثبت نهی مقصود عن التشبه بأهل البدع وإظهار شعارهم والصلاة علی غیر الأنبیاء مما اشتهر بالفئة الملقبة بالرفض)(1).

وقال محیی الدین النووی: (وهل ذلک مکروه کراهة تنزیه، أم هو مجرد ترک أدب ؟ فیه وجهان. الصحیح الأشهر: أنه مکروه، لأنه شعار أهل البدع، وقد نهینا عن شعارهم. والمکروه: هو ما ورد فیه نهی مقصود)(2).

وقال ابن عابدین: (فهو أمر لم یکن معروفا فی الصدر الأول، وإنما حدثه الرافضة فی بعض الأئمة، والتشبه بأهل البدع منهی عنه فتجب مخالفتهم)(3).

وقال ابن کثیر الشانئ لکل ما یرفع من مقام أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین: (لا یجوز ذلک لان الصلاة علی غیر الأنبیاء قد صارت من شعار أهل الأهواء یصلون علی من یعتقدون فیهم فلا یقتدی بهم فی ذلک والله أعلم... وقد غلب فی هذا فی عبارة کثیر من النساخ للکتب أن یفرد علی رضی الله عنه بأن یقال علیه السلام من دون سائر الصحابة أو کرم الله وجهه وهذا وإن کان معناه صحیحا ولکن ینبغی أن یسوی بین الصحابة فی ذلک فإن هذا من باب التعظیم والتکریم فالشیخان وأمیر المؤمنین عثمان أولی بذلک منه)(4) أقول: بل أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وسائر الأئمة المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أولی من هؤلاء وأولی، ولو


1- المصدر السابق.
2- روضة الطالبین لمحیی الدین النووی ج 2ص 69 __70.
3- تکملة حاشیة رد المحتار لابن عابدین «علاء الدین» ج 1 ص 344.
4- تفسیر ابن کثیر ج 3 ص 524.

ص: 434

کان کلام هذا الشانئ صحیحا لضمهم النبی صلی الله علیه وآله وسلم فی الصلاة علیه وعلی اله الأطهار فلما لم یفعل ذلک علمنا ان مرتبتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین تفوق مرتبة من ذکرهم ابن کثیر بل تفوق مراتب العالمین جمیعا انسهم وجنهم علی رغم انف ابن کثیر وغیره من المتعصبین.

وقال الآلوسی: (ولو قیل بتحریمها لم یبعد سیما إذا جعل ذلک شعارا له وحده دون مساویه ومن هو خیر منه کما تفعل الرافضة بعلی کرم الله وجهه)(1).

وقال المقریزی: (إن الصلاة علی غیر النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قد صارت شعار أهل البدع ذکره النووی ومعنی ذلک أن الرافضة إذ ذکروا أئمتهم صلوا علیهم ولا یصلون علی غیرهم فاستحبوا مخالفتهم فی ذلک الشعار)(2).

ولرد هذه العصبیة البغیضة لا نزید فی القول علی ما سطره المحقق البحرانی قدس الله روحه فی الحدائق الناضرة حیث قال: (ومن أفحش تعصباتهم أنهم مع روایة هذه الأخبار(3) أجمعوا علی عدم جواز الصلاة علی غیره «صلی الله علیه وآله» وغیر الأنبیاء بل صرح جملة منهم بالمنع من ضم آله فی الصلاة إلیه کل ذلک عداوة وبغضا لهم «علیهم السلام» بل صرح بعضهم بالاعتراف بذلک وأنهم إنما ترکوها مراغمة للشیعة حیث إنهم یضمون أهل بیته إلیه «صلی الله علیه وآله» فی الصلاة علیه)(4).


1- تفسیر الآلوسی ج 22 ص 86.
2- إمتاع الأسماع للمقریزی ج10 ص373.
3- یقصد قدس الله روحه بالأخبار، أخبار تخصیص الصلاة بالآیة الشریفة بالنبی الأعظم وآله الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.
4- الحدائق الناضرة للمحقق البحرانی ج 8 ص 465 __ 466.

ص: 435

رابعا: حرموا الصلاة علی علی صلوات الله وسلامه علیه وصلوا علی أبی بکر وعمر وعلی الجواری

من الغریب ان نری المخالفین والمانعین من صلاة الشیعة الإمامیة أعزهم الله علی أئمتهم، وبعد ان وصفوهم کما عرفنا فیما سبق بأهل الأهواء واهل البدع، وألزموا علی أتباعهم مخالفتهم، نراهم فی کثیر من کتبهم یصلون علی أبی بکر وعمر ابن الخطاب وعائشة بنت أبی بکر، وفیما یأتی جملة من تلک الموارد:

فمنها ما فی کنز العمال قال: (من أهل حمص ذی ظلیم الالهانی قدم علی أبی بکر وقد کان النبی نعته له فعرف أبو بکر صلی الله علیه وسلم...)(1).

وقال الضحاک: (حدثنا محمد بن المثنی نا مسلم بن إبراهیم نا أشعث بن جابر عن الحسن قال ولی أبو بکر صلی الله علیه عشرین شهرا)(2).

قال الثعلبی فی تفسیر قوله سبحانه وتعالی: ((قُلْ لِلَّذِینَ آَمَنُوا یَغْفِرُوا لِلَّذِینَ لَا یَرْجُونَ أَیَّامَ اللَّهِ لِیَجْزِیَ قَوْمًا بِمَا کَانُوا یَکْسِبُونَ))(3): (أی لا یخافون وقائع الله ولا یبالون نقمه، قال ابن عباس ومقاتل: نزلت فی عمر بن الخطاب صلی الله علیه وسلم)(4).

وقال محمد بن سعد: (أبو جهم بن حذیفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عبید بن عویج بن عدی بن کعب وأمه بشیرة بنت عبد الله من بنی عدی بن کعب أسلم یوم فتح مکة ومات بعد مقتل عمر بن الخطاب صلی الله علیه وسلم)(5).


1- کنز العمال للمتقی الهندی ج 1 ص 330 __ 331.
2- الآحاد والمثانی للضحاک ج 1 ص 85.
3- الجاثیة الآیة رقم 14.
4- تفسیر الثعلبی ج 8 ص 359.
5- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 5 ص 450 __ 451.

ص: 436

وقال المزی: (العلاء بن عرار الخارفی الکوفی. روی عن: عبد الله بن عمر بن الخطاب صلی الله علیه)(1).

وقال المزی أیضا: (وقال الحسین بن محمد بن فهم: سمعت یحیی بن معین وذکر عنده حسن الجواری. قال: کنت بمصر فرأیت جاریة بیعت بألف دینار ما رأیت أحسن منها صلی الله علیها. فقلت یا أبا زکریا مثلک یقول هذا ؟ قال: نعم. صلی الله علیها وعلی کل ملیح)(2).

فسبحان الله العظیم! کیف یمنعون الصلاة علی علی وبقیة أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین مع ان الروایة صریحة فی دخولهم ضمن الصلاة علی النبی صلی الله علیه وآله وسلم ویصلون علی الجواری وعلی کل ملیح!!!.

بعض فضائل وفوائد الصلاة علی النبی وآله صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین

روی الشیخ الکلینی قدس الله روحه فی الکافی عن هشام بن سالم، عن الإمام أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (لا یزال الدعاء محجوبا حتی یصلی علی محمد و آل محمد)(3).

وعن محمد بن مسلم، عن الإمام أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه: (أن رجلا أتی النبی «صلی الله علیه وآله» فقال: یا رسول الله إنی أجعل لک ثلث صلواتی، لا، بل أجعل لک نصف صلواتی، لا، بل أجعلها کلها لک، فقال: رسول الله «صلی الله علیه وآله» إذا تکفی مؤونة الدنیا والآخرة)(4)، وعن أبی بصیر


1- تهذیب الکمال للمزی ج 22 ص 528.
2- تهذیب الکمال للمزی ج 31 ص 561.
3- الکافی للشیخ الکلینی ج 2 ص 491.
4- المصدر السابق.

ص: 437

قال: (سألت أبا عبد الله «علیه السلام»: ما معنی أجعل صلواتی کلها لک؟ فقال: یقدمه بین یدی کل حاجة فلا یسأل الله عز وجل شیئا حتی یبدأ بالنبی «صلی الله علیه وآله» فیصلی علیه ثم یسأل الله حوائجه)(1).

وعن أبی بصیر، عن الإمام أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه قال: (عن أبی بصیر عن أبی عبد الله علیه السلام قال: إذا ذکر النبی صلی الله علیه وآله فأکثروا الصلاة علیه فإنه من صلی علی النبی صلی الله علیه وآله صلاة واحدة صلی الله علیه ألف صلاة فی ألف صف من الملائکة ولم یبق شیء مما خلق الله إلا صلی علی ذلک العبد لصلاة الله علیه وصلاة ملائکته ولا یرغب عن هذا إلا جاهل مغرور وقد برئ الله منه ورسوله)(2).

وعن عاصم بن حمزة عن أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه قال: (الصلاة علی النبی صلی الله علیه وآله أمحق للخطایا من الماء للنار، والسلام علی النبی صلی الله علیه وآله أفضل من عتق رقاب، وحب رسول الله صلی الله علیه وآله أفضل من مهج الأنفس أو قال ضرب السیوف فی سبیل الله)(3).

وعن عبد الله بن سنان، عن الإمام أبی عبد الله صلوات الله وسلامه علیه سمعته یقول: (قال رسول الله صلی الله علیه وآله: ارفعوا أصواتکم بالصلاة علی فإنها تذهب بالنفاق)(4).

وعن عبد الله بن سنان، عن الإمام أبی عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه علیه، قال:


1- المصدر السابق.
2- ثواب الأعمال للشیخ الصدوق ص 154.
3- ثواب الأعمال للشیخ الصدوق ص 154.
4- الکافی للشیخ الکلینی ج 2 ص 493.

ص: 438

(قال رسول الله «صلی الله علیه وآله»: ذات یوم لعلی «علیه السلام»: ألا أبشرک؟ فقال: بلی بأبی أنت وأمی، فإنک لم تزل مبشرا بکل خیر. فقال: أخبرنی جبرئیل آنفا بالعجب. فقال له علی «علیه السلام»: وما الذی أخبرک یا رسول الله؟ قال: أخبرنی أن الرجل من أمتی إذا صلی علی وأتبع بالصلاة علی أهل بیتی، فتحت له أبواب السماء وصلت علیه الملائکة سبعین صلاة، وإن کان مذنبا خطأ، ثم تتحات عنه الذنوب کما یتحات الورق من الشجر، ویقول الله تبارک وتعالی: لبیک یا عبدی وسعدیک، ویقول الله لملائکته: یا ملائکتی، أنتم تصلون علیه سبعین صلاة، وأنا أصلی علیه سبعمائة صلاة. وإذا صلی علی ولم یتبع بالصلاة علی أهل بیتی، کان بینها وبین السماء سبعون حجابا، ویقول الله جل جلاله: لا لبیک ولا سعدیک، یا ملائکتی لا تصعدوا دعاءه إلا أن یلحق بنبیی عترته، فلا یزال محجوبا حتی یلحق بی أهل بیتی)(1).

وعن الإمام الرضا صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (من لم یقدر علی ما یکفر به ذنوبه فلیکثر من الصلاة علی محمد وآله فإنها تهدم الذنوب هدما وقال: الصلاة علی محمد وآله تعدل عند الله عز وجل التسبیح والتهلیل والتکبیر)(2)

إلی غیر ذلک من الأخبار وفی ما ذکرناه کفایة لأولی الأفکار، نسأل الله الثبات علی ولایتهم والحشر فی زمرتهم إنه القادر علی ما یشاء.


1- الأمالی للشیخ الصدوق ص 675 __ 676.
2- عیون أخبار الرضا صلوات الله وسلامه علیه للشیخ الصدوق ج 2 ص 265.

ص: 439

خاتمة الکتاب

تم بحمد الله سبحانه الانتهاء من شرح عبارة (أَنْ یَرْزُقَنِی طَلَبَ ثَأرِکَ مَعَ إِمَامٍ مَنْصُورٍ مِنْ أَهْلِ بَیْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّی اللَّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ) من هذه الزیارة الشریفة وبها ینتهی ما وفقنا الله سبحانه الی شرحه وإیضاحه من فقرات الزیارة الشریفة المشهورة والمعروفة باسم زیارة عاشوراء، راجین من الله سبحانه القبول والتجاوز عما فیه من خلل وسهو وخطأ، وان ینفعنی فیه ووالدی وجمیع من یهمنی أمره ویهمه أمری فی یوم لا ینفع فیه مال ولا بنون، وان یوفقنا لمثله ولما هو افضل منه آمین یا رب العالمین.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمین وصلی الله علی محمد وأهل بیته الطیبین الطاهرین واللعنة الدائمة علی أعدائهم أجمعین.

الشیخ وسام برهان البلداوی

من داخل حرم مولای الحسین الشهید صلوات الله وسلامه علیه

9 صفر الخیر 1432 للهجرة النبویة الشریفة

14 کانون الثانی 2011 میلادی

ص: 440

ص: 441

المحتویات

وَمِنْ أَشْیَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ وَأَوْلِیَائِهِمْ.. 5

وَمِنْ أَشْیَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ وَأَوْلِیَائِهِمْ.. 6

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة. 6

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة. 6

1: وَمِنْ... 6

2: أَشْیَاعِهِمْ.. 6

3: وَأَتْبَاعِهِمْ.. 8

4: وَأَوْلِیَائِهِمْ.. 10

المبحث الثالث: فی أدلة البراءة ممن ذکر فی هذه الفقرة 12

الدلیل الأول: تجب البراءة منهم بقطع النظر عن کل دلیل قرآنی أو روائی... 12

الدلیل الثانی: من یقف مع أعداء أولیاء الله فقد حارب الله سبحانه وتعالی... 13

الدلیل الثالث: کل إنسان مع من یهوی ویشابه ویوالی... 15

الدلیل الرابع: من کثّر سواد قوم کان منهم حتی وان لم یرض بأفعالهم.. 18

ص: 442

یَا أَبَا عَبْدِ اللهِ إِنِّی سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَکُمْ وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَکُمْ إِلَی یَوْمِ الْقِیَامَةِ  25

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة. 25

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه العبارة الشریفة. 27

1: یَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ. 27

2: إِنِّی سِلْمٌ.. 27

3: لِمَنْ سَالَمَکُمْ.. 29

4: وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَکُمْ.. 30

5: إِلَی یَوْمِ الْقِیَامَةِ. 32

المبحث الثالث: حرمة المؤمن الشیعی وعظمته. 33

عظمة المؤمن وکرامته عند الله سبحانه وتعالی وأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین... 35

وجوب نصرة المؤمن والسعی فی حوائجه ونصیحته. 37

وجوب موالاة أولیائهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومعاداة أعدائهم.. 39

وَلَعَنَ اللهُ آلَ زِیَادٍ. 45

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة. 45

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة. 46

1: وَلَعَنَ اللهُ... 46

2: آلَ زِیَادٍ. 46

ص: 443

المبحث الثالث: آل زیاد بین ضحالة النسب وعقدة الانتماء. 47

عقدة الحقارة والشعور بالنقص فی شخصیة زیاد بن أبیه. 48

المیزات الفریدة فی شخصیة زیاد بن أبیه. 49

استغلال معاویة لعقدة الحقارة والشعور بالنقص التی فی شخصیة زیاد. 52

استمرار عقدة النقص والحقارة حتی بعد إستلحاق معاویة إیّاه. 55

حکومة زیاد علی الکوفة إحدی أسباب حدوث فاجعة عاشوراء. 57

حکومة زیاد سبب لإیجاد حکومة ابنه عبید الله بن زیاد. 61

المبحث الرابع: لماذا استعمل أمیر المؤمنین زیاداً وهو یعلم أصله وعاقبته. 62

وَآلَ مَرْوَانَ.. 69

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة. 71

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة. 73

1: وَآلَ.. 73

2: مَرْوَانَ.. 73

المبحث الثالث: آل مروان من موقف العداء إلی مناصب الأمراء. 74

الحکم بن العاص وأذاه للنبی صلی الله علیه وآله وسلم علی ارض مکة والمدینة. 74

دور عثمان بن عفان فی صناعة آل مروان وإعلاء نجمهم.. 77

ص: 444

مروان بن الحکم الحاضر فی کل فتنة. 81

مواقف مروان قبل وبعد قتل الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه. 86

الدولة الأمویة کادت أن تندثر لولا أن مروان وآله أحیوها. 92

وَلَعَنَ اللهُ بَنِی أُمَیَّةَ قَاطِبَةً. 101

المبحث الأول: إثبات هذه الفقرة الشریفة. 101

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة. 104

1: وَلَعَنَ اللَّهُ. 104

2: بَنِی أُمَیَّةَ. 104

3: قَاطِبَةً. 104

المبحث الثالث: هل یشمل عموم اللعن لبنی أمیة المؤمن منهم؟. 105

المبحث الرابع: نظرة عابرة إلی شخصیة أمیة بن عبد شمس... 108

ص: 445

کان أمیة مضعوفا صاحب عهار وکان یسرق الحجیج... 108

أمیة یزوج ابنه من زوجته فی حیاته. 109

حسد أمیة لهاشم جد النبی صلی الله علیه وآله وسلم.. 111

المبحث الخامس: عثمان یؤسس لسنة بنی أمیة بدلا من سنة الشیخین.. 112

أولا: إلزامیة أقوال وأفعال النبی صلی الله علیه وآله وسلم.. 112

ثانیا: ان السنة النبویة قد استوعبت جمیع احتیاجات الحیاة. 113

ثالثا: لا یحق لأحد من الخلق ان یسن سنة أو یشرع حکما إلا بإذن الهی... 114

ظهور سنة جدیدة بعد استشهاد النبی صلی الله علیه وآله وسلم اسمها سنة الشیخین... 116

محاولات عثمان تغییر سنة الشیخین وبناء سنة جدیدة. 125

المبحث السادس: تشیید الأمویین لمذهب جدید اسمه المرجئة. 131

المبحث السابع: معلومات إضافیة حول بنی أمیة. 134

أولا: أبغض الأحیاء إلی النبی صلی الله علیه وآله وسلم بنو أمیة وبنو حنیفة وثقیف..... 135

ثانیا: اهلک الله بنی أمیة بعد إحراقهم زید بن علی بسبعة أیام. 135

ثالثا: لم یعط الله الملک لبنی أمیة وإنما اغتصبوه. 135

رابعا: بقاء وجودهم بالشام إلی حین خروج القائم صلوات الله وسلامه علیه. 136

خامسا: ان فی کثرة لعن بنی أمیة سببا من أسباب التقرب للإمام المهدی علیه السلام. 136

ص: 446

وَلَعَنَ اللهُ ابْنَ مَرْجَانَةَ. 141

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة. 141

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة. 142

وَلَعَنَ اللَّهُ ابْنَ مَرْجَانَةَ. 142

المبحث الثالث: ابن مرجانة تاریخ یندی له الجبین.. 143

أولا: ابن مرجانة السفیه السفاک للدماء. 145

ثانیا: تکذیب ابن مرجانة بأحادیث الحوض..... 146

ثالثا: ابن مرجانة ووحشیة الوقوف بوجه الثورة الحسینیة. 147

رابعا: ابن مرجانة یتقلب فی أحضان الظلمة. 153

خامسا: ابن مرجانة ضرب رأس الحسین بالقضیب ضربا اثر فیه. 154

سادسا: ابن مرجانة یبنی أربعة مساجد یسب بها أمیر المؤمنین... 156

سابعا: خبر مقتله وقصة الحیة التی کانت تدخل وتخرج فی رأسه. 156

وَلَعَنَ اللهُ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ.. 161

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة. 161

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة. 163

ص: 447

1: وَلَعَنَ اللَّهُ. 163

2: عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ.. 164

المبحث الثالث: عمر بن سعد من حین الثورة إلی زمن مقتله. 164

عمر بن سعد یکتب لیزید بأمر مسلم بن عقیل ینبهه ویحرضه. 165

عمر بن سعد یختار بلاد الری علی قتل ریحانة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.. 167

هل خرج عمر بن سعد لقتال الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه مکرها؟.. 169

زحف جیوش الضلالة ومحاصرة الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه. 172

الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه یتفاوض مع عمر بن سعد.. 176

عمر بن سعد لعنه الله یشارک فی القتال والسلب والنهب.... 185

عمر بن سعد یسبی النساء والأطفال إلی ابن مرجانة ثم إلی یزید.. 191

هل یمکن بعد کل ذلک القول بان عمر بن سعد ثقة؟.. 195

عمر بن سعد یلاقی مصیره علی ید المختار.. 202

وَلَعَنَ اللهُ شِمْراً 207

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة. 207

المبحث الثانی: بیان المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة. 209

1: وَلَعَنَ اللهُ... 209

ص: 448

2: شِمْراً 209

المبحث الثالث: شمر بن ذی الجوشن أموی الهوی خارجی الفعل.. 210

الملامح الشخصیة لشمر بن ذی الجوشن لعنه الله... 210

تخذیل الشمر لعنه الله للناس عن مسلم بن عقیل رضوان الله تعالی علیه.. 215

بعض جرائم الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله فی یوم عاشوراء. 217

أمن الشیعة کان الشمر لعنه الله أم من أهل السنة؟.. 230

هل اشترک الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله فی معرکة صفین؟.. 235

هل کان الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله شجاعا؟.. 240

هل کتب الشمر لعنه الله کتاب أمان للعباس وإخوته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین؟.. 242

هل اشترک أهل الشام فی حرب عاشوراء؟.. 244

هل کان الشمر لعنه الله من الخوارج؟.. 248

نهایة الشمر بن ذی الجوشن لعنه الله علی ید المختار الثقفی... 250

ص: 449

وَلَعَنَ اللهُ أُمَّةً أَسْرَجَتْ وَأَلْجَمَتْ وَتَنَقَّبَتْ وَتَهَیَّأَتْ لِقِتَالِکَ     255

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة. 255

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة. 259

1: وَلَعَنَ اللهُ... 259

2: أُمَّةً أَسْرَجَتْ.... 259

3: وَأَلْجَمَتْ.... 261

4: وَتَنَقَّبَتْ.... 261

5: وَتَهَیَّأَتْ.... 266

6: لِقِتَالِکَ..... 268

المبحث الثالث: لماذا لعنت هذه الأصناف مع أنها لم تباشر القتال؟. 270

القسم الأول: لو همّ المکلف بما یکون مشترکا ما بین الحلال والحرام من دون القصد إلی جهة الحرام فیه. 272

القسم الثانی: لو همّ المکلف بما هو محرم، أو همّ بما یکون مشترکا بین الحلال والحرام مع قصده ومنذ البدایة لجهة الحرام فیه، مع عدم إتیانه بمقدمة من مقدمات ذلک الفعل    272

القسم الثالث: لو هم المکلف بما هو محرم، أو هم بما یکون مشترکا بین الحلال والحرام مع قصده ومنذ البدایة لجهة الحرام فیه، ومع إتیانه بمقدمة من مقدمات ذلک الفعل    275

ص: 450

بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی لَقَدْ عَظُمَ مُصَابِی بِکَ..... 281

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة. 281

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة. 282

1: بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی... 282

2: لَقَدْ.. 284

3: عَظُمَ.. 286

4: مُصَابِی... 287

5: بِکَ..... 287

المبحث الثالث: تأملات حول هذه العبارة الشریفة. 288

أولا: لماذا هذا التأکید علی عظم المصاب والرزیة؟.. 288

ثانیا: التآثر بالمصیبة یجب ان یکون منسجما مع عظم المصاب.... 289

ثالثا: الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه عَبرة أم عِبرة؟.. 292

فَأَسْأَلُ اللهَ الَّذِی أَکْرَمَ مَقَامَکَ وَأَکْرَمَنِی بِکَ..... 298

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة. 298

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة. 299

1: فَأَسْأَلُ اللهَ... 299

2: الَّذِی أَکْرَمَ. 300

3: مَقَامَکَ..... 301

4: وَأَکْرَمَنِی بِکَ..... 301

ص: 451

المبحث الثالث: أنواع الکرامة الممنوحة للإمام الحسین علیه السلام. 302

أولا: المقامات التی أعطیت لسائر الأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین باستثناء مقام النبوة. 302

ثانیا: المقامات التی أعطیت للنبی الخاتم وباقی الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین... 303

ثالثا: المقامات التی اشترک فیها مع بعض المعصومین واختلف فیها مع البعض الآخر.. 304

رابعا: المقامات التی انفرد بها الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه عن باقی المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین... 305

1: برکة التربة الحسینیة وعظیم منفعتها. 307

2و3: فضل زیارته صلوات الله وسلامه علیه وکرامة زواره عند الله سبحانه وتعالی... 324

ص: 452

المبحث الرابع: إکرامنا بسید الشهداء علیه السلام. 359

أولا: إکرامنا بأصل نعمة الوجود بسببه صلوات الله وسلامه علیه وسبب بقیة المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین... 360

ثانیا: إکرامنا بما لا یحصی من النعم الدنیویة المحضة، أو التی لها عوائد أخرویة. 365

ثالثا: إکرامنا یوم القیامة بغفران الذنوب ورفع الدرجات بفضل سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه. 368

أَنْ یَرْزُقَنِی طَلَبَ ثَارِکَ مَعَ إِمَامٍ مَنْصُورٍ مِنْ أَهْلِ بَیْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّی اللهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ  373

المبحث الأول: إثبات صدور هذه الفقرة الشریفة. 373

المبحث الثانی: المعنی اللغوی لهذه الفقرة الشریفة. 378

1: أَنْ یَرْزُقَنِی... 378

2: طَلَبَ ثَارِکَ..... 379

3: مَعَ إِمَامٍ مَنْصُورٍ.. 380

4: مِنْ أَهْلِ بَیْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّی اللَّهُ عَلَیْهِ وآله. 381

المبحث الثالث: ثار الإمام الحسین علیه السلام أهمیته وبعض المسائل المتعلقة به. 386

أولا: هل یمکن لثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه أن یکون مهما؟ وما درجة أهمیته؟.. 386

ص: 453

ثانیا: لماذا التأکید علی ثار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه دون غیره من الأنبیاء الأوصیاء والأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین؟.. 388

ثالثا: ما معنی کون النصرة لطلب ثار الإمام الحسین رزقا من الله سبحانه وتعالی؟.. 390

رابعا: هل یشترط وجود الإمام المهدی صلوات الله وسلامه علیه فی مسألة أخذ الثار؟.. 392

خامسا: کیف یطلب المؤمن ان یرزق طلب الثار واغلب الظن انه سیموت قبله؟.. 394

المبحث الرابع: من هم أهل البیت المقصودون فی آیة التطهیر. 400

ألف: تحریر محل النزاع حول هذه الآیة المبارکة. 400

باء: استعمالات لفظ الأهل فی القرآن الکریم واللغة. 402

جیم: القرآن یجرد البعض من صفة الأهل مع أنهم موصوفون بها لغة وعرفا. 406

دال: هل للسنة النبویة المطهرة إمکانیة تخصیص عمومات القرآن الکریم؟.. 408

هاء: هل فسر النبی صلی الله علیه وآله وسلم آیة التطهیر، وهل خصصها بفئة معینة دون أخری؟.. 414

تطبیق القواعد السابقة علی هذه الروایات النبویة. 419

لماذا ندخل باقی أفراد الأئمة المعصومین ضمن أهل البیت مع ان حدیث الکساء لا یشملهم؟.. 422

المبحث الخامس: الصلاة علی النبی صلی الله علیه وآله وبعض ما یتعلق بها 424

أولا: تخصیص النبی صلی الله علیه وآله وسلم للصلاة علیه وتعلیمه الأمة کیفیة الصلاة علیه. 424

ثانیا: هل یجوز للمسلم أن یقول: (علی صلوات الله علیه)؟.. 427

ثالثا: سبب رفضهم للصلاة علی غیر الأنبیاء والمرسلین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین... 429

رابعا: حرموا الصلاة علی علی صلوات الله وسلامه علیه وصلوا علی أبی بکر وعمر وعلی الجواری... 431

بعض فضائل وفوائد الصلاة علی النبی وآله صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین... 432

خاتمة الکتاب.. 435

ص: 454

ص: 455

 إصدارات قسم الشؤون الفکریة والثقافیة فی العتبة الحسینیة المقدسة

تألیف

 اسم الکتاب

 ت

 السید محمد مهدی الخرسان

 السجود علی التربة الحسینیة

 1

 

 زیارة الإمام الحسین علیه السلام باللغة الانکلیزیة

 2

 

 زیارة الإمام الحسین علیه السلام باللغة الأردو

 3

 الشیخ علی الفتلاوی

 النوران ___ الزهراء والحوراء علیهما السلام __ الطبعة الأولی

 4

 الشیخ علی الفتلاوی

 هذه عقیدتی __ الطبعة الأولی

 5

 الشیخ علی الفتلاوی

 الإمام الحسین علیه السلام فی وجدان الفرد العراقی

 6

 الشیخ وسام البلداوی

 منقذ الإخوان من فتن وأخطار آخر الزمان

 7

 السید نبیل الحسنی

 الجمال فی عاشوراء

 8

 الشیخ وسام البلداوی

 ابکِ فإنک علی حق

 9

 الشیخ وسام البلداوی

 المجاب بردّ السلام

 10

 السید نبیل الحسنی

 ثقافة العیدیة

 11

 السید عبد الله شبر

 الأخلاق (تحقیق: شعبة التحقیق) جزآن

 12

 الشیخ جمیل الربیعی

 الزیارة تعهد والتزام ودعاء فی مشاهد المطهرین

 13

 لبیب السعدی

 من هو؟

 14 

ص: 456

 السید نبیل الحسنی

 الیحموم، أهو من خیل رسول الله أم خیل جبرائیل؟

 15

 الشیخ علی الفتلاوی

 المرأة فی حیاة الإمام الحسین علیه السلام

 16

 السید نبیل الحسنی

 أبو طالب علیه السلام ثالث من أسلم

 17

 السید محمدحسین الطباطبائی

 حیاة ما بعد الموت (مراجعة وتعلیق شعبة التحقیق)

 18

 السید یاسین الموسوی

 الحیرة فی عصر الغیبة الصغری

 19

 السید یاسین الموسوی

 الحیرة فی عصر الغیبة الکبری

 20

 الشیخ باقر شریف القرشی

 حیاة الإمام الحسین بن علی (علیهما السلام) ___ ثلاثة أجزاء

 21 __ 23

 الشیخ وسام البلداوی

 القول الحسن فی عدد زوجات الإمام الحسن علیه السلام

 24

 السید محمد علی الحلو

 الولایتان التکوینیة والتشریعیة عند الشیعة وأهل السنة

 25

 الشیخ حسن الشمری

 قبس من نور الإمام الحسین علیه السلام

 26

 السید نبیل الحسنی

 حقیقة الأثر الغیبی فی التربة الحسینیة

 27

 السید نبیل الحسنی

 موجز علم السیرة النبویة

 28

 الشیخ علی الفتلاوی

 رسالة فی فن الإلقاء والحوار والمناظرة

 29

 علاء محمد جواد الأعسم

 التعریف بمهنة الفهرسة والتصنیف وفق النظام العالمی (LC)

 30

 السید نبیل الحسنی

 الأنثروبولوجیا الاجتماعیة الثقافیة لمجتمع الکوفة عند الإمام الحسین علیه السلام

 31

 السید نبیل الحسنی

 الشیعة والسیرة النبویة بین التدوین والاضطهاد (دراسة)

 32

 الدکتور عبدالکاظم الیاسری

 الخطاب الحسینی فی معرکة الطف ___ دراسة لغویة وتحلیل

 33

 الشیخ وسام البلداوی

 رسالتان فی الإمام المهدی

 34

 الشیخ وسام البلداوی

 السفارة فی الغیبة الکبری

 35

 السید نبیل الحسنی

 حرکة التاریخ وسننه عند علی وفاطمة علیهما السلام (دراسة)

 36

 السید نبیل الحسنی

 دعاء الإمام الحسین علیه السلام فی یوم عاشوراء __ بین النظریة العلمیة والأثر الغیبی (دراسة) من جزءین

 37

 الشیخ علی الفتلاوی

 النوران الزهراء والحوراء علیهما السلام ___ الطبعة الثانیة

 38

 شعبة التحقیق

 زهیر بن القین

 39

 السید محمد علی الحلو

 تفسیر الإمام الحسین علیه السلام

 40 

ص: 457

 الأستاذ عباس الشیبانی

 منهل الظمآن فی أحکام تلاوة القرآن

 41

 السید عبد الرضا الشهرستانی

 السجود علی التربة الحسینیة

 42

 السید علی القصیر

 حیاة حبیب بن مظاهر الأسدی

 43

 الشیخ علی الکورانی العاملی

 الإمام الکاظم سید بغداد وحامیها وشفیعها

 44

 جمع وتحقیق: باسم الساعدی

 السقیفة وفدک، تصنیف: أبی بکر الجوهری

 45

 نظم وشرح:  حسین النصار

 موسوعة الألوف فی نظم تاریخ الطفوف __ ثلاثة أجزاء

 46

 السید محمد علی الحلو

 الظاهرة الحسینیة

 47

 السید عبد الکریم القزوینی

 الوثائق الرسمیة لثورة الإمام الحسین علیه السلام

 48

 السید محمد علی الحلو

 الأصول التمهیدیة فی المعارف المهدویة

 49

 الباحثة الاجتماعیة کفاح الحداد

 نساء الطفوف

 50

 الشیخ محمد السند

 الشعائر الحسینیة بین الأصالة والتجدید

 51

 السید نبیل الحسنی

 خدیجة بنت خویلد أُمّة جُمعت فی امرأة – 4 مجلد

 52

 الشیخ علی الفتلاوی

 السبط الشهید – البُعد العقائدی والأخلاقی فی خطب الإمام الحسین علیه السلام

 53

 السید عبد الستار الجابری

 تاریخ الشیعة السیاسی

 54

 السید مصطفی الخاتمی

 إذا شئت النجاة فزر حسیناً

 55

 عبد السادة محمد حداد

 مقالات فی الإمام الحسین علیه السلام

 56

 الدکتور عدی علی الحجّار

 الأسس المنهجیة فی تفسیر النص القرآنی

 57

 الشیخ وسام البلداوی

 فضائل أهل البیت علیهم السلام بین تحریف المدونین وتناقض مناهج المحدثین

 58

 حسن المظفر

 نصرة المظلوم

 59

 السید نبیل الحسنی

 موجز السیرة النبویة – طبعة ثانیة، مزیدة ومنقحة

 60

 الشیخ وسام البلداوی

 ابکِ فانک علی حق – طبعة ثانیة

 61

 السید نبیل الحسنی

 أبو طالب ثالث من أسلم – طبعة ثانیة، منقحة

 62

 السید نبیل الحسنی

 ثقافة العید والعیدیة – طبعة ثالثة

 63

 الشیخ یاسر الصالحی

 نفحات الهدایة – مستبصرون ببرکة الإمام الحسین علیه السلام

 64 

ص: 458

 السید نبیل الحسنی

 تکسیر الأصنام – بین تصریح النبی صلی الله علیه و آله و سلم وتعتیم البخاری

 65

 الشیخ علی الفتلاوی

 رسالة فی فن الإلقاء – طبعة ثانیة

 66

 محمد جواد مالک

 شیعة العراق وبناء الوطن

 67

 حسین النصراوی

 الملائکة فی التراث الإسلامی

 68

 السید عبد الوهاب الأسترآبادی

 شرح الفصول النصیریة – تحقیق: شعبة التحقیق

 69

 الشیخ محمد التنکابنی

 صلاة الجمعة– تحقیق: الشیخ محمد الباقری

 70

 د. علی کاظم المصلاوی

 الطفیات – المقولة والإجراء النقدی

 71

 الشیخ محمد حسین الیوسفی

 أسرار فضائل فاطمة الزهراء علیها السلام

 72

 السید نبیل الحسنی

 الجمال فی عاشوراء – طبعة ثانیة

 73

 السید نبیل الحسنی

 سبایا آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم

 74

 السید نبیل الحسنی

 الیحموم، -طبعة ثانیة، منقحة

 75

 السید نبیل الحسنی

 المولود فی بیت الله الحرام: علی بن أبی طالب علیه السلام أم حکیم بن حزام؟

 76

 السید نبیل الحسنی

 حقیقة الأثر الغیبی فی التربة الحسینیة – طبعة ثانیة

 77

 السید نبیل الحسنی

 ما أخفاه الرواة من لیلة المبیت علی فراش النبی صلی الله علیه وآله وسلم

 78

 صباح عباس حسن الساعدی

 علم الإمام بین الإطلاقیة والإشائیة علی ضوء الکتاب والسنة

 79

 الدکتور مهدی حسین التمیمی

 الإمام الحسین بن علی علیهما السلام أنموذج الصبر وشارة الفداء

 80

 ظافر عبیس الجیاشی

 شهید باخمری

 81

 الشیخ محمد البغدادی

 العباس بن علی علیهما السلام

 82

 الشیخ علی الفتلاوی

 خادم الإمام الحسین علیه السلام شریک الملائکة

 83

 الشیخ محمد البغدادی

 مسلم بن عقیل علیه السلام

 84

 السید محمدحسین الطباطبائی

 حیاة ما بعد الموت (مراجعة وتعلیق شعبة التحقیق) – الطبعة الثانیة

 85 

ص: 459

 الشیخ وسام البلداوی

 منقذ الإخوان من فتن وأخطار آخر الزمان – طبعة ثانیة

 86

 الشیخ وسام البلداوی

 المجاب برد السلام – طبعة ثانیة

 87

 ابن قولویه

 کامل الزیارات باللغة الانکلیزیة (Kamiluz Ziyaraat)

 88

 السید مصطفی القزوینی

 Islam Inquiries About Shi‘a

 89

 السید مصطفی القزوینی

 When Power and Piety Collide

 90

 السید مصطفی القزوینی

 Discovering Islam

 91

 د. صباح عباس عنوز

 دلالة الصورة الحسیة فی الشعر الحسینی

 92

 حاتم جاسم عزیز السعدی

 القیم التربویة فی فکر الإمام الحسین علیه السلام

 93

 الشیخ حسن الشمری الحائری

 قبس من نور الإمام الحسن علیه السلام

 94

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.